خرائط جديدة: التحالفات المحتملة في الحرب على "طالبان العرب"
ببعض التحفظ يمكن القول إن تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش) هو الطبعة العربية من تنظيم "حركة طالبان" الأفغانية، فهي وبجدارة طالبان العرب، سواءً من منظور التأسيس والمؤسسين الكبار، أو من منظور الأدوار المطلوبة والأهداف المرجوة.
لقد تأسست "طالبان" الأفغانية، في البداية، من أجل مواجهة الاتحاد السوفييتي السابق، وإجباره على الرحيل بكل ما يعنيه ذلك من تداعيات شديدة السلبية على تماسكه وقدرته على مواصلة التنافس مع الولايات المتحدة، وبهدف صنع البيئة المنافسة لتفريخ "إسلام إرهابي" يكون قادرًا على أن يقوم بدور "العدو البديل" للشيوعية العالمية التي توقعوا أن تتداعى بالتوازي مع السقوط المحتمل للاتحاد السوفييتي.
ولذلك عملوا في الاتجاهين معًا: اتجاه تدريب وتسليح وتمويل المجاهدين الأفغان للقتال ضد القوات السوفييتية في أفغانستان، واتجاه إطلاق المارد الإسلامي تحت راية الجهاد العقدي ضد ما أسموه بـ "الكفر والإلحاد الشيوعي".
وفي سبيل ذلك سمحوا لطالبان بممارسة شتى أنواع العنف والتطرف، وحتى المتاجرة بالمخدرات إلى أن وصل المشروع إلى ذروته [طالبان والقاعدة معًا] بخروج الاتحاد السوفييتي منكسراً من أفغانستان، ثم بتورط التنظيمين معًا في حادث الحادي عشر من سبتمبر 2001. وكان هذا الحادث هو ذريعة واشنطن لإطلاق حربها الجديدة تحت مسمى "الحرب على الإرهاب" التي قسَّم فيها الرئيس الأمريكي العالم إلى محورين: "محور الخير" المنخرط في هذه الحرب، و"محور الشر" الرافض للمشاركة وللانسياق في مخطط الحرب الأمريكية الجديدة.
كانت الأموال عربية بالأساس، وكانت التخريجات العقدية هي الأخرى عربية. فمفهوم "الجهاد العقدي" خرج من رحم المؤسسة السلفية الوهابية بكل طائفيتها وانغلاقها. وكان التخطيط والتدريب والتسليح مهمة المخابرات المركزية الأمريكية بالتعاون والتنسيق مع المخابرات السعودية، وغيرها من أجهزة المخابرات العربية والإقليمية الصديقة للولايات المتحدة.
وبالمثل تمامًا جاءت ولادة "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش) وأخواتها، مثل "جبهة النصرة" (القاعدة- فرع سوريا)، و"الجبهة الإسلامية"، وغيرها من المنظمات الإرهابية؛ من أجل القضاء على الدولة في سوريا، أو بالأحرى تفكيكها إلى مكوناتها الأوليَّة العرقية والطائفية؛ لتتماهى مع المشروع الأمريكي للشرق الأوسط الجديد القائم على أسس عرقية ودينية وطائفية، ولتتوازى مع ما يُدبَّر للعراق من مشروع للتقسيم منذ احتلاله أمريكيًّا.
وفكرة إطلاق "مشروع الدولة الدينية" هي عصب مشروع تأسيس "داعش" التي تجمع ما بين العراق والشام في دويلة دينية أخذ الإعلام الأمريكي، بل والخطاب السياسي الأمريكي، يختزلها عمدًا إلى اسم "الدولة الإسلامية" بدلًا من "الدولة الإسلامية في العراق والشام"؛ لتكون النظير الإسلامي لمشروع "الدولة اليهودية" الذي تطالب به حكومة بنيامين نتنياهو في فلسطين المحتلة، وتؤيده بقوة إدارة الرئيس باراك أوباما.
ولقد استخدمت "داعش" أسلوب طالبان نفسه في إثارة الحقد على الإسلام على نحو ما حدث من ترويج إعلامي متعمد لمشاهد ذبح الرهائن الغربيين الثلاثة. كما تم توفير المصادر المالية لـ "داعش" من خلال التمويل العربي والأمريكي المباشر، ثم من خلال السماح للتنظيم ببيع النفط السوري من محافظة الرقة، ثم في الموصل بالعراق. كما سُمِح بنهب فرع البنك المركزي العراقي في الموصل حتى أصبحت "داعش" من أغنى المنظمات. فتقديرات عوائد بيع "داعش" للنفط تبلغ يوميًّا نحو مليوني دولار، وكل يوم تعبر 210 شاحنات محملة بالنفط إلى الحدود العراقية، ومعظمها يتجه نحو تركيا.. المستفيد الأول من هذه الجريمة.
ولادة "داعش" لم تكن خفية على أحد طيلة ثلاث سنوات مضت، وبالتحديد بعد أشهر معدودة من تفجر الثورة السورية في مارس 2011، حيث جرى اختطاف الثورة الوطنية المطالبة بالحرية والعدالة والكرامة؛ لفرض مشروع إسقاط الدولة، وإقامة "دولة الخلافة". فقد لعبت تركيا وإسرائيل ودول عربية أدوارًا داعمة للمخطط، خاصة خدمات التدريب والاستشارة والعلاج في المستشفيات التركية والإسرائيلية.
أولًا: تحالف دولي مشكوك فيه
لم يتحرك الأمريكيون أو الحلفاء العرب والإقليميون ضد جرائم "داعش" في سوريا، ولم يتحرك الأمريكيون ضد "داعش" إلا بعد أن اجتاحت قوات "داعش" محافظات عراقية دون مقاومة تذكر من "القوات العراقية"، فيما عُرف بأنه "خيانة مدبرة". بل إن هجوم "داعش" جاء بمشاركة عشائر سنية عربية، الأمر الذي حظي بدعم سياسي وإعلامي من بعض الدول العربية؛ باعتبار أن ذلك يعد هزيمة لحكومة "نوري المالكي" الذي كان قد اتَّهم بعنف دولًا عربية خليجية بالتدخل في الشئون الداخلية العراقية، ودعم الطائفية على حساب الوحدة الوطنية للعراق.
وجاء التدخل الأمريكي عقب تجاوز قوات "داعش" ما يعتبر بـ "خطوط حمراء" أمريكية، وبالتحديد المصالح النفطية الأمريكية في شمال العراق في كردستان وكركوك، وتجاوزهم لحدود إقليم "كردستان العراق" الذي يعد "نواة" مشروع التقسيم الأمريكي للعراق. وبعد تورط "داعش" في ذبح رهينتين أمريكيتين وثالثة بريطانية، جاءت الدعوة الأمريكية لتشكيل "تحالف دولي- إقليمي" ضد "داعش"، بالرغم من أن الرئيس أوباما كان قد أعلن أنه "لا يملك إستراتيجية للحرب ضد داعش".
جرى تأسيس هذا التحالف في مؤتمر عقد في "جدة" السعودية بمشاركة أطراف دولية وإقليمية وعربية. مؤتمر جدة حول الإرهاب الذي حضره جون كيري وزير الخارجية الأمريكي، ووزراء خارجية دول عربية، كشف عن قرار باستبعاد إيران من المشاركة في الحرب على "داعش" بعدما تقرر تدريب حوالي 5 آلاف سوري في الأراضي السعودية؛ لتشكيل قوة معتدلة تحارب "داعش" والنظام السوري معًا.
إبعاد إيران تم على قاعدة أن الهدف الأهم يجب أن يكون إسقاط النظام السوري، وأن إيران هي الداعم الأهم لهذا النظام، لذلك كان إبعادها. كما ظهر تباعد الرؤى والأهداف بين القوى الدولية حول تشكيل التحالف وأهدافه.
لقد كان مؤتمر باريس -الذي نظمته فرنسا قبل أيام من انعقاد القمة الدولية في نيويورك، وحمل عنوان "المؤتمر الدولي بشأن الأمن والسلام"، وحضرته ست وعشرون دولة ضمت الدول الخمس دائمة العضوية بمجلس الأمن، وتسع دول عربية وأخرى أوروبية، إضافة إلى تركيا، وثلاث منظمات دولية بينها الجامعة العربية- مناسبة مهمة لكشف الأوراق قبيل الذهاب إلى نيويورك.
كانت إيران هي الغائب الأكبر، ورغم أن العراق وفرنسا كانتا مع دعوتها، إلا أن جون كيري أجهض كل هذه المحاولات. بيد أن روسيا استطاعت ملأ فراغ الغياب الإيراني والسوري، وظهر ذلك واضحًّا في البيان الختامي الذي أُعلِن في مؤتمر صحفي شارك فيه وزير الخارجية الفرنسي لوران فاييوس، ووزير الخارجية العراقي (الجديد) إبراهيم الجعفري.
ما نقل عن وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف داخل قاعة المؤتمر، الذي لم يستمر أكثر من أربع ساعات، وجد مكانه في البيان الختامي. لافروف أكد أنه "لا يتعين وجود معايير مزدوجة في التعامل مع الإرهاب، أكان اسمه "النصرة"، أو "داعش"، أو أي شيء آخر"، مضيفًا أن "سوريا وإيران هما حلفاء ضد "داعش""، وأنهما "حليفتان طبيعيتان في الحرب على "داعش"، ومشاركتهما يمكن أن تغذي أعمالنا".
وهاجم لافروف الولايات المتحدة من دون أن يسميها بقوله: "لا أحد يستطيع الادعاء أكثر من غيره أنه يصرف أي نوع من الإستراتيجيات يتعين اختياره، وتحتاج إليه المنطقة"، مشيرًا إلى ضرورة أن يأتي العمل ضد الإرهاب على الأسس القوية التي تقوم عليها الأمم المتحدة، وعلى أدواتها وآلياتها، فضلًا عن "أننا نواجه الأعداء أنفسهم في العراق وسوريا وأمكنة أخرى، ولذا فلا مجال لتغيير المعايير".
الإقصاء القسري أو الاختياري الذي حدث لإيران عن مؤتمري جدة وباريس، ومن ثَمَّ عن التحالف الدولي، يكشف عن أزمة عميقة بين واشنطن وطهران من ناحية، وبين الرياض وطهران من ناحية أخرى. وإذا كان ظاهر هذه الأزمة يقول إن إيران تحرص على أن تروج أنها من نأت بنفسها عن المشاركة في هذا التحالف، في حين أن واشنطن تؤكد أنها هي من استبعد إيران، فإن باطن الأزمة يقول، بل ويؤكد، أن واشنطن وطهران مختلفتان على تفاصيل الحرب على "داعش"، وبالذات دور النظام السوري في هذه الحرب، ومآلات مستقبل هذا النظام في حال تجاوز التحالف الدولي- الإقليمي لمشاركة النظام في هذه الحرب، وما هي التحالفات السياسية التي سوف تترتب على التحالف العسكري، وكيف ستنعكس على النظام في سوريا.
ليس هذا فقط، بل الأهم هو الربط الإيراني الشَرْطي بين مشاركتها في الحرب على "داعش"، وإحداث نقلة نوعية في ملف مفاوضاتها حول برنامجها النووي مع مجموعة دول "5+1" وبالذات في اتجاه إزالة العقوبات المفروضة على إيران، أو على الأقل الالتزام بـ "إستراتيجية تلازم المسارات" التي تريدها طهران بين عطائها في ملف الحرب على الإرهاب، وليونة الغرب في التعامل مع ملفها النووي.
كانت إيران هي من اتخذ موقف المبادأة في طلب التعاون مع الولايات المتحدة؛ لمحاربة الخطر الذي بات يتهدد العراق من جراء تمدد قوات "داعش" في محافظات عراقية عدة، والسيطرة على الموصل. هذه الطلبات جاءت على لسان كل من هاشمي رفسنجاني رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام، ومن بعده الرئيس حسن روحاني.
وبرهنت إيران على جديتها في التعاون مع الولايات المتحدة في الحرب ضد الإرهاب عبر مسارين: أولهما، الإسراع في تقديم الدعم العسكري للقوات الحكومية العراقية، والوقوف إلى جانب الميليشيات الكردية (البشمرجة)؛ للتصدي لتوغل "داعش" في مناطق كردية مهمة. وثانيهما، التعاون مع واشنطن في إبعاد نوري المالكي عن المنافسة على رئاسة الحكومة العراقية، ودعم رئيس الحكومة المرشح حيدر العبادي ضمن مساعي توحيد الصف العراقي، وتشكيل حكومة وحدة وطنية تكون قادرة على مواجهة الخطر الإرهابي.
لم يتوقف الأمر على ذلك فقط، بل هناك معلومات تؤكد أن إيران وروسيا كانتا معًا قناة تواصل غير مباشرة بين واشنطن ودمشق عندما أمدت الأقمار الصناعية الأمريكية قوات النظام السوري، عبر الوسيطين الإيراني والروسي، بإحداثيات مواقع مهمة لقوات "داعش" شمال شرق سوريا، نجحت القوات الجوية السورية في استخدامها لشن ضربات موجعة لتلك القوات.
ما الذي حدث بعد ذلك كي تبادر واشنطن على لسان وزير خارجيتها جون كيري بإعلان أن إيران لن تكون طرفًا مشاركًا في التحالف الدولي – الإقليمي الذي يجري تشكيله لشن الحرب على الإرهاب؟
بالفعل لم تُوجَّه الدعوة لإيران؛ كي تحضر الاجتماع المخصص لتشكيل هذا التحالف في "جدة" على مستوى وزراء خارجية الدول المشاركة، ولم تُوجَّه لها دعوة كذلك لحضور اجتماع باريس لتنسيق المواقف السياسية لشن الحرب ضد الإرهاب، الأمر الذي دفع الإيرانيين لإعلان خطاب سياسي بدا "متلعثمًا" يقول حينًا إن إيران هي من رفض المشاركة في هذا التحالف، وحينًا آخر ينتقد عدم توجيه الدعوة إلى إيران للمشاركة.
التلعثم ذاته كان أمريكيًّا أيضًا على نحو ما جاء على لسان ماري هارفي المتحدثة بلسان وزارة الخارجية الأمريكية يوم الجمعة 5/ 9/ 2014، عندما أكدت أن واشنطن "منفتحة للمشاركة مع إيران" كما فعلت في قضايا أخرى بالماضي، خاصة في أواخر 2001 بأفغانستان (تقصد الحرب على أفغانستان). لكن هارفي عادت بعد أقل من أسبوع في 11/ 9/ 2014 لتقول إن بلادها "لن تتعاون مع نظام الرئيس السوري بشار الأسد، أو تنسق مع إيران الداعمة له لقتال تنظيم "الدولة الإسلامية"" [تقصد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام] "داعش"، حيث دأب كبار المسؤولين الأمريكيين، وعلى رأسهم الرئيس أوباما، والإعلام الأمريكي على استخدام مصطلح أو اسم "الدولة الإسلامية" ولا يمكن أبداً تصور أن ذلك يحدث اعتباطيًّا.
التلعثم الإيراني كان أكثر وضوحًا بين من يؤكدون أن إيران هي من رفضت المشاركة في التحالف، وبين من يسعون إلى هذه المشاركة. خطاب الرفض الإيراني للمشاركة في التحالف الدولي- الإقليمي ضد "داعش"، والتأكيد على أن إيران هي صاحبة المبادأة في رفض المشاركة بهذا التحالف جاء على لسان المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية علي الخامنئي، الذي حرص في أول ظهور إعلامي له، لحظة خروجه من المشفى الذي أجري له فيه عملية جراحية، على توجيه انتقادات لاذعة للتحالف الأمريكي، ووصف عملية تشكيل هذا التحالف بأنها "عبثية وخاوية ومُوجَّهة"، مشيرًا إلى رفض بلاده لطلب واشنطن التعاون معها ضد "داعش"، موضحًا أسباب الرفض بأن "هدف الولايات المتحدة من مشروع محاربة "داعش" هو الوجود العسكري في المنطقة... هناك أدلة تثبت كذب وتناقض مزاعم المسؤولين الأمريكيين ومواقفهم وسلوكهم".
وأشار خامنئي إلى ما جاء على لسان وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، والمتحدثة باسم وزارته ماري هارفي بعدم دعوة إيران للمشاركة في تحالف الحرب على "داعش" بأن "ما يبعث على الفخر لنا أن تيأس الولايات المتحدة من إيران في الدعوة للمشاركة بعمل جماعي خطأ، ولا نعتبر فخرًا أسمى لنا من ذلك".
خامنئي كان حريصًا على كشف بعض ما جرى في كواليس التواصل الأمريكي مع إيران بخصوص الموضوع، وقال: "في الأيام الصعبة لهجوم "داعش" على العراق، دعا السفير الأمريكي في بغداد في طلب قدمه إلى سفيرنا لعقد اجتماع بين طهران وواشنطن للبحث والتنسيق بشأن قضية داعش""، وأضاف أن "سفيرنا في العراق نقل هذا الموضوع إلى الداخل، حيث لم يعارض بعض المسؤولين عقد مثل هذا الموضوع، إلا أنني عارضت، وقلت إننا لن نواكب الأمريكيين في هذه القضية؛ لأن لهم نيات وأيادٍ ملوثة، فكيف يمكن أن نتعاون معهم في مثل هذه الظروف".
وكشف خامنئي أن "وزير الخارجية الأمريكي قدَّم بنفسه طلبًا لوزير الخارجية الإيراني بأن تعالوا وتعاونوا معنا في قضية "داعش"، إلا أن ظريف رفض طلبه". وذكر أن الأمر تكرر أيضًا من مساعدة وزير الخارجية الأمريكية التي تترأس وفد التفاوض الأمريكي في المحادثات النووية التي قدمت طلبًا لنائب وزير الخارجية عباس عراقجي، لكن الطلب رفض أيضًا، مستخلصًا من ذلك رفض بلاده بالمطلق التعاون مع واشنطن في هذا الأمر.
اللافت هنا أن وزير الخارجية الأمريكي عندما وُوجِه إعلاميًّا بما ورد على لسان المرشد الأعلى، رد قائلاً: "ليس لدي فكرة عن أية عملية مشتركة استخلصوها من أية مناقشة، ربما تكون حدثت أم لا.. لا ننسق مع إيران وهذا أمر نهائي".
واضح التلعثم الأمريكي، لكن هذا لا ينفي كذلك التلعثم الإيراني. فهناك، وعلى العكس من موقف المرشد الأعلى، في إيران من يرغب في المشاركة في التحالف ضد الإرهاب؛ حرصًا على أن تكون إيران طرفًا في معادلات ما بعد الحرب، وألا يتم إقصاؤها عن التحالفات السياسية التي ستفرض نفسها حتمًا بعد الانتهاء من هذه الحرب، وربما -وهذا هو الأهم- ألا تتأسس هذه التحالفات على قاعدة العداء لإيران.
الموقف الإيراني الآخر الحريص على المشاركة في التحالف الدولي يقوده الرئيس روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف. فقد ندد ظريف في محاضرة له أمام مركز للدراسات في نيويورك، على هامش حضوره الدورة التاسعة والستين للجمعية العامة للأمم المتحدة، بعدم دعوة إيران إلى المؤتمر الدولي الذي عقد في باريس، وخُصِّص لمناقشة ملف تنظيم "داعش"، مؤكدًا أن بلاده "بإمكانها أن تلعب دورًا رئيسًا في الحرب ضد الجهاديين"، ومشيرًا إلى أن "تنظيم "داعش" لا يمكن دحره بالقصف الجوي".
واضح أن الطرفين يخفيان الأسباب الحقيقة للغياب الإيراني عن المشاركة في التحالف، وهي الأسباب التي لا تخرج عن ثلاثة تفسيرات: أولها، الخلاف الجذري بين واشنطن وطهران على دور نظام الرئيس بشار الأسد في الحرب على "داعش"، وذلك امتدادًا للخلاف بينهما حول دوره المستقبلي. فطهران ترى أن حربًا حقيقية ضد "داعش" وأخواتها يجب أن تكون في سوريا بصفة أساسية، وليس فقط في العراق؛ لأن رؤوس التنظيم موجودة في سوريا، وأن أية حرب جادة ضد الإرهاب في سوريا لا يمكن أن تنجح دون مشاركة النظام السوري. وهكذا تحول "العقبة السورية" دون مشاركة إيران.
التفسير الثاني يربط بين حرص إيران على تحقيق تقدم ملحوظ في ملفها النووي، وبين الدور الذي يمكن أن تقوم به في الحرب على الإرهاب ضمن ما تسميه بـ "إستراتيجية المسارات المتلازمة". هي تريد تنازلات غربية مقابل مشاركتها في الحرب. ففي لقاء مع رؤساء تحرير الصحف في نيويورك على هامش مشاركته في أعمال الدورة التاسعة والستين للجمعية العامة للأمم المتحدة، قال الرئيس الإيراني حسن روحاني إن "توصل بلاده والقوى العالمية لاتفاق نووي طويل الأمد ينهي العقوبات المفروضة على طهران، سيفتح الباب لتعاون أعمق من أجل السلام والاستقرار في المنطقة ومكافحة الإرهاب"، مشيرًا إلى أن "أمريكا لا يمكنها إنكار دور إيران في الحرب على الإرهاب".
أما التفسير الثالث فيُرجِع الغياب الإيراني إلى قرار من الدول العربية الداعمة أو الممولة للتحالف والمشاركة فيه، يرفض أن تكون إيران شريكًا في الحل، وهي المتهمة بصنع الأزمات في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
ثانيًا: معالم الخرائط السياسية الجديدة
الأمر الذي لا شك فيه أن أية تحالفات دولية أو إقليمية تتأسس على قاعدة الحرب ضد طرف أو أطراف ثلاثة تترك، من بين نتائجها وتداعياتها، تحالفات سياسية جديدة، تلعب فيها الدول المشاركة في هذه التحالفات أدوارًا تتوازى مع أوزانها وأدوارها في تلك الحرب. فما هي الخرائط السياسية المتوقعة بعد انتهاء الحرب الراهنة على "داعش"، أيًّا ما كان موعد انتهاء هذه الحرب؟ وهل ستنتهي الحرب بعد ثلاث سنوات كما يزعم الرئيس الأمريكي أم أكثر؟
هذا السؤال يسبقه حتمًا سؤال آخر هو: ما الدول المشاركة في التحالف، وما الدول الرافضة أو المرفوضة، وما الدول التي فضلت موقف الحياد؟ بمعنى: ما خريطة الصراع؟
على الرغم من أن الأزمة ما زالت تفاعلاتها في طور التشكُّل، إلا أننا نستطيع تحديد معالم أساسية:
أولًا: غياب التوافق العربي حول مشروع محدد المعالم والأهداف للحرب على الإرهاب. فجامعة الدول العربية نأت بنفسها عمليًّا عن هذه الأزمة، وإن كانت قد حرصت، كعادتها، على الوجود الشكلي. أما أدوار الدول العربية فهي متباينة بين دول مشاركة فعليًّا في الحرب، هي السعودية والإمارات والبحرين والأردن، ودول اكتفت بتقديم تسهيلات خاصة، مصر وقطر وربما الكويت، في حين حرصت باقي الدول العربية على أن تبقى بعيدة عنها.
ثانيًا: تباين المواقف الإقليمية وبالتحديد إيران وتركيا وإسرائيل. فإيران أُبعِدت أو استُبعِدت كما أشرنا، وتركيا اكتفت بأدوار محدودة لكنها، مع اقتراب الحرب من حدودها في مناطق الأكراد خاصة منطقة "عين العرب"، قد تتورط دون مشيئتها، لكن حدود التورط ما زالت غير محددة. فتركيا كانت، وما زالت، تدعم منظمات الإرهاب من منظور إسقاط نظام بشار الأسد، كما أعلن رئيس حكومتها أحمد داوود أوغلو. أما إسرائيل فهي سعيدة بالحرب، تراقب وتدعم، وتدرك أنها من سيجني الثمار، لكنها مُبعَدة بتفاهم أمريكي- إسرائيلي؛ كي لا تعرقل مشاركتها أدوار الدول العربية.
ثالثًا: الانقسام العالمي حول هذه الحرب بين محور تقوده الولايات المتحدة، وآخر تقوده روسيا ومعها إيران والصين. فروسيا ترفض هذه الحرب، وتعتبرها حربًا "خارج الشرعية الدولية". حتمًا لن تكون هناك إجابة واحدة ومحددة، لكن هناك إجابات متعددة باتساع الاحتمالات ودقة الموقف وخطورته، وهو ما حرص سيرجي لافروف أن يلفت إليه الانتباه في كلمته التي ألقاها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة.
كان لافروف حادًّا بقدر ما كان واضحًا وصريحًا في إدانته للسياسة الأمريكية؛ بسبب الغارات التي يشنها التحالف الذي تقوده واشنطن في سوريا، واصفًا هذه السياسة بـ "المتغطرسة"، مشيرًا إلى أن "واشنطن أعلنت بوضوح حقها في استخدام القوة من جانب واحد في أي مكان (من العالم)؛ بهدف الحفاظ على مصالحها"، ومضيفًا أن ذلك حدث في يوغسلافيا، وفي العراق، وفي أفغانستان، وفي ليبيا، والآن في سوريا. لكن الأهم هو ما أكده بأن روسيا "بعثت بإمدادات كبيرة من الأسلحة والمعدات العسكرية إلى العراق وسوريا وغيرها من دول الشرق الأوسط، وستواصل تقديم الدعم العسكري".
الرسالة التي حرص لافروف على توصيلها هي أن هناك حذرًا ومخاوف روسية، وكذلك إيرانية وربما صينية، من الحرب التي تشنها الولايات المتحدة وحلفاؤها العرب في سوريا؛ خشية أن تمتد هذه الحرب إلى النظام السوري. وهنا يمكن فهم التحول في موقف الوزير السعودي من حرص على التفاهم والوعي بدروس الماضي في معالجة قضايا الحاضر والمستقبل إلى مجابهة علنية وصريحة مع إيران في سوريا، ورفض مطلق لأي حل سياسي للأزمة السورية يكون الرئيس السوري بشار الأسد أحد أطرافه.
الحذر الإيراني- الروسي مبعثه إدراك بأن الأمريكيين وحلفاءهم لا يخوضون حربًا ضد الإرهاب، بل يخوضون حربًا من أجل مصالحهم، وأن الحرب التي يخوضونها في سوريا ضد "داعش" ليست من أجل القضاء على هذا التنظيم، ولكن من أجل تغيير موازين القوى داخل سوريا لصالح "جبهة ثوار سوريا"، و"الجبهة الإسلامية"، ومن يُسمَّون بالقوى المعتدلة، وكلهم حلفاء للسعودية وللأمريكيين. فالهدف هو تغيير موازين القوى لصالح حلفائهم، وضد النظام السوري وضد "داعش".
لكن ما هو أهم أن الولايات المتحدة والغرب عمومًا، ودولًا عربية لم تمول وتسلح وتدرب المنظمات الإرهابية على مدى ثلاث سنوات مضت، وعلى رأسها تنظيما "داعش" و"النصرة"، ولم تتستر على جرائمهما ضد الإنسانية التي تفوق كل تصور في سوريا والعراق، كي تقرر فجأة القضاء عليهما. فالولايات المتحدة، على وجه التهديد، تريد بهذه الحرب ضبط أداء "داعش"، وتريد إضعافها وليس التخلص منها. فهي تريدها لاعبًا في المعادلات الجديدة المنتظرة، وتريدها "موازنًا"قويًّا للنفوذ الإيراني في كل من العراق وسوريا، وتريدها أداة من أدوات إعادة التقسيم في المنطقة، عندما يحين وقت إطلاق شرارة البدء فيه، كما تريدها مظلة لـ "شرعنة" دعوة "الدولة اليهودية" التي تريدها إسرائيل وحكومتها وتدعمها واشنطن.