توازنات جديدة: التداعيات الإقليمية المحتملة للانسحاب الأمريكي من المنطقة
على مدى عقود عديدة، مثلت منطقة الشرق الأوسط أهمية إستراتيجية كبيرة بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، التي تحولت من قوة دولية تمتلك مصالح إستراتيجية محددة في المنطقة إلى فاعل إقليمي بامتياز يمثل رقما مهما في معظم الملفات إن لم يكن مجملها.
هذه الأهمية الإستراتيجية تعود إلى مصالح رئيسية ثلاث سعت واشنطن إلى الحفاظ عليها في الفترة الماضية: أولها، ضمان تدفق النفط إلى الدول الغربية باعتباره محورا مهما لا يمكن الاستعاضة عنه بسهولة في اقتصادات تلك الدول، حيث إن أي توتر في المنطقة يؤثر بشكل مباشر على أسعار النفط العالمية. وثانيها، الحفاظ على أمن إسرائيل باعتبارها الحليف الإستراتيجي الأول لواشنطن في المنطقة. وثالثها، الحيلولة دون ظهور أية قوة إقليمية تسعى إلى تهديد المصالح الأمريكية.
لكن خلال السنوات الأخيرة وبالتحديد مع وصول الرئيس باراك أوباما إلى البيت الأبيض في عام 2008، بدأت الولايات المتحدة في إجراء تغيير في أولويات سياستها الخارجية، وتوجيه إشارات متعددة بإمكانية انسحابها تدريجيا من بعض مناطق الأزمات، على غرار الانسحاب العسكري من العراق في عام 2011، ثم أفغانستان عام 2014. وبدون شك، فإن هذا التغيير لا يكمن في المصالح التي لا تتغير بسهولة، وإنما في السياسات أو بمعنى أدق الأدوات التي يتم من خلالها حماية تلك المصالح.
وقد جاءت الأزمة السورية، التي تصاعدت منذ اندلاع الثورة في مارس 2011، لتكشف بوضوح عن اتجاه واشنطن إلى تنفيذ سياساتها الجديدة، فبعد أن حددت إدارة الرئيس أوباما ما سمّته "خطوطا حمراء" حذرت نظام الرئيس السوري بشار الأسد من تجاوزها وتتعلق باستخدامه الأسلحة الكيماوية، تراجعت الإدارة عن تنفيذ تهديدها بتوجيه ضربات لقوات النظام عندما قام الأخير باستخدام تلك الأسلحة ضد المدنيين في أغسطس 2013، بعد أن تقدمت روسيا، حليف الأسد، بمبادرة لتفكيكها.
هذا التراجع الأمريكي فرض تداعيات إقليمية عديدة لم تصب في صالح واشنطن، لاسيما أنها لم تقتصر فقط على دفع النظام السوري إلى تصعيد مواجهاته العسكرية ضد قوى المعارضة المسلحة، ونجاحه، بمساعدة حلفائه خاصة إيران وحزب اللـه اللبناني، في تحقيق انتصارات نوعية على تلك القوى، وإنما امتدت أيضا إلى تصاعد التوتر في العلاقات مع حلفاء واشنطن في المنطقة، الذين قرءوا ذلك على أنه بداية لتخلي واشنطن عن وضع مصالح حلفاءها في الاعتبار عند إقدامها على إجراء أي تغيير في سياساتها، خاصة أن ذلك تزامن مع الإعلان عن توقيع اتفاق جنيف المرحلي بين إيران ومجموعة "5+1" حول الملف النووي، في 24 نوفمبر 2013، والذي سبقه إجراء محادثات مباشرة بين إيران والولايات المتحدة بوساطة عمانية بدأت في مارس 2013.
أولا- الانفتاح على قوى جديدة
من هنا ظهرت اتجاهات عديدة بدأت تشير إلى أن هذه التغيرات الملحوظة في السياسة الأمريكية في المنطقة تكشف عن توجّه جديد في واشنطن يدفع نحو الانسحاب تدريجيا من أزمات المنطقة، خاصة المستعصية على غرار القضية الفلسطينية والملف السوري، بهدف تركيز الاهتمام على انتقال الثقل الدولي إلى منطقة آسيا والباسيفيك، خاصة مع اتجاه الصين إلى تبني سياسة جديدة، بدت أولى مؤشراتها في إعلان بكين، في 23 نوفمبر 2013، عن توسيع منطقة الدفاع الجوي، لتضم بعض المناطق المتنازع عليها مع كل من اليابان وكوريا الجنوبية.
لكن تغيير الإستراتيجية الأمريكية باتجاه الانسحاب من المنطقة، لا يبدو مهمة سهلة بالنسبة لواشنطن، ومن هنا بدأ التفكير في التعاون مع بعض القوى الإقليمية التي يمكن الاعتماد عليها في تأمين ذلك الانسحاب دون تعرض المصالح الأمريكية لتهديدات جدية. وعلى ضوء ذلك، اتجهت واشنطن نحو تقليص حدة التوتر في العلاقات مع إيران، باعتبار أن الأخيرة تمثل رقما مهما في معظم الملفات الإقليمية، بفضل شبكة العلاقات التي أسستها في العقود الأخيرة مع الفاعلين الرئيسيين في دول الأزمات، على غرار حزب اللـه اللبناني وحركتي حماس والجهاد الإسلامي الفلسطينيتين.
وربما يفسر ذلك أسباب التوجه الأمريكي منذ بداية الفترة الرئاسية الأولى للرئيس أوباما نحو محاولة فتح قنوات تواصل مع إيران، من أجل التفاوض حول الملفات الخلافية القائمة بين الطرفين، وهو ما يبدو جليا في الرسائل العديدة التي وجهتها إدارة أوباما إلى المرشد علي خامنئي في الأعوام الأخيرة.
ورغم أن إيران لم تتجاوب بشكل ملحوظ مع تلك الدعوات الأمريكية المتتالية، فإنها مع تصاعد حدة الضغوط التي واجهتها بسبب العقوبات الدولية المفروضة عليها، فضلا عن تزايد احتمالات تعرضها لضربة عسكرية، بدأت في توجيه إشارات بأنها مهتمة بإجراء حوار مع واشنطن. وقد كانت "قناة التواصل" التي وفرتها سلطنة عمان منذ مارس 2013، هي الأنسب بالنسبة للطرفين، لثقتهما في قدرة مسقط على القيام بدور الوسيط المحايد.
وقد ظلت تلك المحادثات سرية، إلى أن وصل الرئيس حسن روحاني إلى رئاسة الجمهورية في يونيو 2013، حيث بدا أن ثمة اهتماما من جانب طهران لإعادة التفاوض مع الغرب حول الملف النووي وفقا لقواعد جديدة مختلفة عن تلك التي التزم بها وفد التفاوض خلال عهد الرئيس السابق أحمدي نجاد، ما أدى في النهاية إلى توقيع اتفاق جنيف المرحلي بين إيران ومجموعة "5+1" في 24 نوفمبر 2013.
ورغم فشل الطرفين في الوصول إلى تسوية شاملة للأزمة النووية في غضون الشهور الستة الأولى التي حددها اتفاق جنيف، ما دفعهما إلى التوافق على تمديد الاتفاق لأربعة شهور أخرى حتى نوفمبر 2014، فإن ذلك لا ينفي أن مجرد الوصول إلى اتفاق مرحلي أزال عقبات كثيرة في طريق الحوار الإيراني ـ الأمريكي ليس فقط حول الملف النووي بل أيضا حول الملفات الإقليمية المختلفة، وهو ما يبدو جليا في حرص الطرفين على إبداء رغبتهما في التعاون والتنسيق لمواجهة الأزمة الأمنية في العراق بعد نجاح تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) في السيطرة على مناطق عديدة في الشمال وتهديده بمواصلة التقدم حتى العاصمة بغداد.
اتجاه واشنطن إلى الانفتاح على طهران يشير فعليا إلى أنها بدأت تفكر جديا في الاستعانة بقوى لها دور رئيسي في المنطقة للتنسيق في الملفات الإقليمية المختلفة تمهيدا لانسحابها تدريجيا من مناطق الأزمات. لكن ذلك لا ينفي أن واشنطن حرصت في الوقت ذاته على طمأنة حلفاءها بعدم تأثير ذلك على العلاقات الإستراتيجية التي تربط الطرفين، وعلى توجيه رسالة بأن انسحابها لا يعني عزوفها عن حماية مصالحها الحيوية في المنطقة، بدليل إقدامها على شن ضربات عسكرية ضد مقاتلي "داعش" في شمال العراق، ربما تتسع تدريجيا لتمتد إلى سوريا.
ثانيا- تداعيات متعددة
لكن أي انسحاب أمريكي محتمل من المنطقة سوف يفرض تداعيات مهمة يمكن تناولها على النحو التالي:
1- تصاعد حدة الصراع بين القوى الإقليمية الرئيسية: إذ إن تلك القوى سوف تسعى إلى محاولة ملء الفراغ الإستراتيجي الناتج عن أي انسحاب أمريكي محتمل، ويمثل الصراع الإيراني- السعودي نموذجا لذلك، حيث تبدو معظم الملفات الإقليمية الرئيسية مرتبطة بتطورات هذا الصراع. ففي لبنان، ما زالت أزمة الفراغ الرئاسي دون حل بسبب تعنت طرفي الصراع، المستندين إلى قوى إقليمية. ورغم أن ثمة محاولات عديدة بذلت من أجل تقليص حدة التوتر بين الطرفين، خاصة بعد التوافق على تشكيل حكومة تمام سلام، بشكل كان يوحي بوجود توافق إقليمي بين إيران والسعودية لإنهاء أزمة الفراغ الرئاسي، فإن ارتباط تلك الأزمة بالصراع في سوريا، خاصة مع تحول حزب اللـه إلى طرف رئيسي فيه، أدى إلى عرقلة الجهود التي بذلت في هذا السياق، نتيجة وقوف كل من إيران والسعودية على طرفي نقيض في هذا الصراع. ففيما تقدم إيران مساعدات كبيرة، على المستويين المالي والتسليحي، لنظام الأسد، تسعى السعودية إلى مساعدة قوى المعارضة المعتدلة من أجل تمكينها من تحقيق مكاسب نوعية ضد قوات النظام والميليشيات المتعاونة معه بهدف إسقاطه في النهاية.
كذلك يبدو اليمن ساحة أخرى للصراع الإيراني ـ السعودي، حيث تحاول إيران ضمان موطئ قدم لها بالقرب من الحدود الجنوبية للسعودية ومن خطوط الملاحة العالمية، من خلال تقديم دعم غير مباشر للحوثيين وقادة الحراك الجنوبي الذين يحاولون الانفصال عن اليمن، بشكل يفرض تحديات قوية ليس فقط لليمن، التي وجهت اتهامات عديدة لإيران بالتدخل في شئونها الداخلية وبالمسئولية عن تصاعد حالة عدم الاستقرار في الداخل، بل للسعودية أيضا، التي سارعت إلى تقدم دعم قوى لحكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي من أجل مواجهة الضغوط التي تتعرض لها.
ومنذ عام 2006 تحول العراق إلى محور رئيسي في الصراع الإيراني ـ السعودي، في ظل الدعم الواضح الذي قدمته إيران لرئيس الوزراء السابق نوري المالكي، الذي تبنّى سياسة داخلية وإقليمية أثارت استياء واضحا من جانب الرياض وفرضت حالة مستمرة من التوتر والتصعيد بين الطرفين، خاصة فيما يتعلق بتعمده تهميش القوى السنية، وتقديم مساعدات قوية لنظام الأسد، الذي سعت السعودية إلى إسقاطه من خلال دعم قوى المعارضة المسلحة.
ورغم أن الإطاحة بالمالكي وتعيين حيدر العبادي خلفا له، في أغسطس 2014، أثارت تكهنات عديدة بإمكانية حدوث توافق إيراني ـ سعودي في العراق، ربما يكون بمثابة "البوابة الرئيسية" لتقليص حدة التوتر بين الطرفين في الملفات الإقليمية الأخرى، على غرار الملف اللبناني، وربما السوري، فإن تلك التكهنات ربما يكون مبالغا فيها، وسابقة لأوانها، بانتظار تبلور ملامح التشكيلة الحكومية التي ستكشف مدى قدرة العبادي على ضم كل القوى السياسية، بما فيها السنية، وتبني سياسة أكثر اعتدالا عن التي التزم بها المالكي، وهى مهام لا يبدو أنها ستكون سهلة.
2- استمرار الأزمة السورية دون حل: حيث لم تقدم الولايات المتحدة من المؤشرات ما يفيد رغبتها في تسوية تلك الأزمة خلال الفترة الماضية. ففضلا عن عدم قدرتها على مواجهة "الفيتو" الروسي ـ الصيني، الذي تم استخدامه أربعة مرات داخل مجلس الأمن للحيلولة دون صدور قرارات إدانة ضد النظام السوري، فقد عزفت واشنطن عن توجيه ضربة عسكرية ضد هذا النظام بعد اتهامه باستخدام الأسلحة الكيماوية في أغسطس 2013، وما زالت مترددة في مسألة تقديم دعم عسكري نوعي لقوى المعارضة، خشية وقوعه في أيدي الجماعات المتطرفة على غرار تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش). وقد أدى ذلك إلى تكريس حالة من "توازن الضعف" بين النظام السوري وقوى المعارضة كانت السبب في استمرار الأزمة حتى الآن دون حل، بسبب عدم قدرة أي من طرفي الصراع على حسمه لصالحه.
وهنا بدأت بعض الاتجاهات تشير إلى أن عزوف واشنطن عن التدخل بحسم في الصراع السوري يعود إلى اعتبارين: أولهما، الضغوط التي تمارسها إسرائيل ضد أي تدخل أمريكي حاسم في الأزمة قد يؤدي إلى إسقاط النظام السوري دون إجراء أي ترتيبات داخلية في سوريا تمنع سيطرة القوى المتطرفة عليها، وهو السيناريو الأكثر خطورة بالنسبة لتل أبيب التي تخشى من التداعيات السلبية التي يمكن أن يفرضها على أمنها ومصالحها، خاصة أنها ترى أن نظام الأسد هو "أفضل الخيارات السيئة" بالنسبة لها في الوقت الحالي.
وثانيها، رغبة واشنطن في استنزاف قدرات إيران في الصراع داخل سوريا، فرغم أنها حريصة على إجراء حوار مع طهران يتجاوز الملف النووي إلى الملفات الإقليمية الأخرى التي ربما تشهد تنسيقا بين الطرفين خلال المرحلة المقبلة، على غرار الملف العراقي، بما يخدم انسحابها المحتمل من مناطق الأزمات، فإنها تدرك في الوقت ذاته أهمية امتلاك أوراق ضغط قوية في مواجهة طهران، التي تسعى بدورها إلى استغلال دورها الرئيسي في بعض تلك الملفات من أجل مساومة واشنطن حول ملفها النووي، الذي يبدو أنه مقبل على مرحلة حاسمة خلال الأشهر القليلة المقبلة.
سعي واشنطن إلى توريط إيران بشكل أكبر في الصراع السوري، يعود إلى إدراكها أن هذا الصراع يبدو صفريا بالنسبة للأخيرة، التي لن تستطيع الاستعاضة عن الدور المهم الذي كان يمارسه النظام السوري في خدمة طموحاتها الإقليمية، إذ إنه يوفر الغطاء العربي لتمددها في الإقليم ويمثل "محور التواصل" مع حلفائها الآخرين، وهو ما دفعها إلى تقديم مساعدات غير محدودة للنظام السوري في وقت يواجه فيه اقتصادها تحديات ليست هينة بفعل العقوبات الدولية التي قلصت الاحتياطي النقدي الأجنبي الذي تملكه إيران، وفرضت قيودا شديدة على تعاملاتها المصرفية مع المستوردين الرئيسيين للنفط الإيراني.
3- تصاعد دور الفاعلين من غير الدول في المنطقة: وهو ما يمثل إحدى نتائج الأخطاء التي ارتكبتها السياسة الأمريكية في المنطقة. فقد فشلت تلك السياسة في تحويل العراق، بعد عام 2003، إلى نموذج ديمقراطي يمكن أن تسير على نهجه دول المنطقة، بل إنها أدت في النهاية، خاصة بعد الانسحاب العسكري عام 2011, إلى تحويل العراق لـ"دولة فاشلة" لم تنجح في مواجهة مقاتلي تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) الذين نجحوا في السيطرة على مدن رئيسية في شمال العراق بعد انهيار قوات الشرطة والجيش.
وقد تحول هذا التنظيم إلى رقم مهم في الصراع داخل العراق وسوريا، بل إنه يسعى في الوقت الحالي إلى التسلل إلى مناطق أخرى تشهد حالة من عدم الاستقرار على غرار لبنان، بشكل دفع ميليشيات أخرى طائفية إلى المشاركة في الصراع ضده، على غرار حزب اللـه اللبناني، الذي كان له دور مهم في النجاحات الأخيرة التي حققها النظام السوري على قوى المعارضة المسلحة، إلى جانب كتائب "أبو الفضل العباس"، و"عصائب الحق".
لكن اللافت للنظر في هذا السياق، هو أن تصاعد دور تلك الميلشيات المسلحة، والذي كان أحد أسباب استمرار الأزمة السورية دون حل حتى الآن، يمكن أن ينتج تداعيات تمس مصالح وأمن الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، خاصة أن بعض تلك الميليشيات، لاسيما "داعش"، نجح، عبر آليات تجنيد عديدة، في اجتذاب أعداد ليست قليلة من مواطني تلك الدول، التي بدأ بعضها في التحذير من مخاطره المحتملة خلال الفترة الأخيرة.
ثالثا- غياب البديل
اللافت للانتباه في هذا السياق، هو تزايد الحديث عن إمكانية حلول قوى دولية أخرى محل الولايات المتحدة في المنطقة، على غرار روسيا والصين، اللتين تمارسان دورا مهما في دعم نظام الأسد، إلا أن ذلك يبدو احتمالا ضعيفا لاعتبارات عديدة أهمها عدم وجود مؤشرات تكشف عن رغبة موسكو وبكين في ممارسة دور أكبر في المنطقة، فالأولى ما زالت تعطي الأولوية لمواجهة التهديدات القريبة من حدودها، وهو ما يبدو جليا في تعاملها مع تطورات الأزمة الأوكرانية، في حين أن الثانية لا تسعى، على الأقل في الوقت الحالي، إلى الدخول في مواجهات أو صراعات إقليمية مع الولايات المتحدة، في منطقة الشرق الأوسط، لاسيما بعد اتجاهها إلى توسيع منطقة الدفاع الجوي، بشكل أدى إلى تصعيد حدة التوتر في العلاقات مع حلفاء واشنطن على غرار اليابان وكوريا الجنوبية.
ورغم أن الدولتين لهما مصالح إستراتيجية مهمة في المنطقة، فضلا عن أنهما مارسا دورا مهما في مساعدة النظام السوري على مواجهة الضغوط الدولية التي تعرض لها، وحرصا على الاحتفاظ بمستوى معين من العلاقات مع إيران رغم العقوبات الدولية المفروضة عليها بسبب أزمة برنامجها النووي، فإن ذلك لا ينفي إدراكهما أن ثمة حدودا أو سقفا للصراع مع الولايات المتحدة خاصة في منطقة الشرق الأوسط.
فعلى سبيل المثال، اضطرت الصين، بسبب سعيها إلى الحفاظ على علاقاتها الاقتصادية والإستراتيجية المهمة مع الولايات المتحدة، إلى تخفيض حجم وارداتها من النفط الإيراني، والبحث عن شركاء نفطيين آخرين في منطقة الخليج، بسبب العقوبات المفروضة على إيران. كما لم تحل بكين وموسكو دون فرض أربعة قرارات بعقوبات على إيران من داخل مجلس الأمن منذ عام 2006 وحتى عام 2010.
وهنا ربما يمكن القول: إن الأزمة السورية تمثل استثناء في هذا السياق، في ضوء الأهمية الإستراتيجية والاقتصادية التي تحظى بها سوريا لدى كل من روسيا والصين. لكن هذا الاستثناء لا يؤشر في الوقت ذاته إلى إمكانية دخول الطرفين في صراعات مفتوحة مع واشنطن في المنطقة، أو سعيهما إلى ملء الفراغ المحتمل الذي يمكن أن ينتج عن أي انسحاب أمريكي محتمل خلال المرحلة القادمة، والذي يبدو أنه سوف يعيد، في حالة حدوثه، رسم خريطة توازنات القوى الإقليمية في الشرق الأوسط، بكل ما يفرضه ذلك من تداعيات مهمة على أمن واستقرار دول المنطقة.
هذا المقال جزء من دراسة منشورة في العدد العاشر من مجلة أفاق سياسية