مسارات المحاسبة: اتجاهات معالجة قرار المحكمة الجنائية الدولية للحرب في غزة
أعلن المدعي العام للمحكمة الجنائية
الدولية كريم خان، إنه طلب إصدار أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي
بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، وثلاثة من قادة حماس هم رئيس
المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية ورئيس الحركة في غزة يحيى السنوار وقائد
الجناح العسكري للحركة محمد الضيف بتهمة ارتكاب جرائم حرب.
ولا تعني مذكرة الاعتقال التي تصدرها
المحكمة الجنائية الدولية إدانة. ولكنها إشارة قوية على أن المحكمة تأخذ الاتهامات
الموجهة ضد أي فرد على محمل الجد بما يكفي للتحقيق فيها، لضمان مثول الشخص فعليًا
أمام المحكمة، أو أنه لن يعرقل التحقيق أو إجراءات المحكمة، أو لمنعه من الاستمرار
في ارتكاب الجرائم التي تستند على تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب باعتباره
جريمة حرب، والتسبب عمدًا في معاناة شديدة أو إلحاق ضرر خطير بالجسم أو الصحة
والمعاملة القاسية والقتل العمد وتعمد توجيه هجمات ضد سكان مدنيين.
وتتدخل المحكمة الجنائية الدولية عندما
تكون الدول غير قادرة أو غير راغبة في المحاكمة على الجرائم المرتكبة على أراضيها
وأدت النزاعات حول قدرة الدولة أو استعدادها للمحاكمة إلى تأجيج النزاعات السابقة
بين المحكمة والدول. إلا أن المحكمة ليست لديها شرطة وتعتمد على الدول الأعضاء
لاعتقال المشتبه بهم، وهو الأمر الذي ثبت أنه يشكل عقبة رئيسية أمام تنفيذ
الملاحقات القضائية. كما تقوم الفرضية الأساسية للقانون الإنساني
الدولي هي أن جرائم الحرب التي يرتكبها أحد الطرفين لا تبرر أبدا جرائم الحرب التي
يرتكبها الطرف الآخر، وواجب الامتثال مطلق وليس متبادلًا.
استجابات متباينة
عبّر الرئيس الأمريكي جو بايدن عن رفضه تحرك الادعاء العام في
المحكمة الجنائية الدولية بهدف إصدار مذكرة اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي
بنيامين نتانياهو. وانتقد بايدن بشدة مبدأ
مساواة إسرائيل بحماس مجددًا التزام واشنطن بأمن إسرائيل. كذلك أعلن وزير الخارجية
الأمريكي أنتوني بلينكن رفض الولايات المتحدة القاطع تحرك المدعي العام الدولي ضد
إسرائيل ورئيس وزرائها ووزير دفاعها. وفي أول تصريح، لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قال إنّ قرار
المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بحقه أمر سخيف وإن هذه الخطوة تهدف إلى
استهداف إسرائيل بأكملها. ورفض نتنياهو مقارنة
المدعي العام في لاهاي بين إسرائيل الديمقراطية والقتلة من حماس.
وضمن السياق ذاته، أعلن وزير الخارجية
الإسرائيلي يسرائيل كاتس إن تل أبيب فتحت غرفة حرب خاصة لمواجهة تحرك المحكمة
الجنائية الدولية. وأضاف، في بيان، أنه يعتزم التحدث مع وزراء
خارجية الدول الكبرى حتى يعارضوا قرار المدعي العام ويعلنوا أنه حتى لو صدرت تلك الأوامر
فإنهم لا يعتزمون تطبيقها على قادة دولة إسرائيل.
كما ذكر موقع أكسيوس الإخباري الأميركي
أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو طلب من الرئيس الأميركي جو بايدن خلال
محادثة هاتفية الأحد مساعدته في منع إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرات توقيف
يمكن أن تستهدفه شخصيًا في إطار التحقيق بشأن ممارسات إسرائيل في غزة.
ولعل هذه التطورات دفعت الجانب الروسي
إلى انتقاد موقف بايدن وقال إنه من الغريب للغاية أن تبدو الولايات المتحدة مستعدة
لفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية التي سعى مدعيها العام إلى إصدار مذكرات
الاعتقال تلك، وتماشي مع هذا التوجه الموقف الصيني؛ حيث أعربت الخارجية الصينية عن
أملها في أن تكون المحكمة الجنائية الدولية موضوعية. وقال المتحدث باسمها وانغ
ونبين: "نأمل في أن تحافظ المحكمة الجنائية الدولية على موقعها الموضوعي وغير
المنحاز وتمارس صلاحياتها تماشيًا مع القانون، داعيًا في الوقت عينه إلى وضع حد
للعقاب الجماعي للشعب الفلسطيني.
على الجانب الآخر، طالبت حركة المقاومة الإسلامية (حماس)
المحكمة الجنائية الدولية بإلغاء كل مذكرات التوقيف الصادرة بحق قادة المقاومة
الفلسطينية لمخالفتها المواثيق والقرارات الأممية. واستنكرت حماس في بيان محاولات المدعي العام للمحكمة كريم خان مساواة
الضحية بالجلاد عبر طلبه إصدار أوامر توقيف بحق عدد من قادة المقاومة. كما اعتبرت أن
المطالبة بإصدار مذكرة اعتقال بحق نتانياهو وغالانت جاءت.. متأخرة سبعة أشهر.
ولعل الوضع هنا يختلف عن كون حماس وقيادات حماس مصنفين إرهابيين
في بعض الدول لأن هذه التصنيفات تظل قرارات فردية تخص كل دولة بدليل أن قيادات
حماس يزورون دول كثيرة لا تصنفهم إرهابيين، ولكن في حالة صدور قرار اتهام من
المحكمة الجنائية الدولية يصبح الأمر قانونيًا في معظم دول العالم وسيقيد حركة
قيادات حماس المشمولين بالقرار بشكل أكبر.
عقبات ومسارات
تنطوي مذكرات توقيف الجنائية الدولية على تبعات قوية، لعل
أبرزها تقييد حركة الأشخاص الصادرة بحقهم؛ إذ ستتردد في استقبالهم الدول الموقعة
على الاتفاقية الخاصة بالمحكمة (فيما يعرف قانونيا بأطراف نظام روما الأساسي)
والبالغ عددها 124 دولة. ومن شأن ذلك على المستوى
الدولي، أن يمعن في عزل إسرائيل، وأن يقلّص من المساحة التي يتحرك فيها المسؤولان
الإسرائيليان على الساحة الدولية، وأن يزيد الضغط على الإدارة الأمريكية لتضغط
بدورها على حليفتها الإسرائيلية من أجل إنهاء الحرب في غزة.
كما تزداد في هذا الإطار أهمية القرار
الذي جاء بالتزامن مع نشوب خلافات علنية غير مسبوقة بين
وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، ورئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، حول إدارة
قطاع غزة بعد الحرب؛ حيث انتقد
غالانت التأخر في الاتفاق على مستقبل غزة، إذ رأى بأن استمرار التردد قد يؤدي
مستقبلًا إلى احتلال عسكري للقطاع، الأمر الذي رفضه بشكل قاطع بسبب الخطر الذي
سيشكله ذلك على أمن إسرائيل حسب وصفه، علاوة على التكلفة المالية والعسكرية
والسياسية الباهظة لا طاقة لإسرائيل على تحملها. وأبدى غالانت رأيًا متناغمًا مع موقف واشنطن
إزاء الموضوع وفق ما جاء على لسان وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، الذي
قال إن على إسرائيل أن تقدم خطة واضحة لمرحلة ما بعد الحرب من حيث الحكم ومن حيث
الأمن، مشددًا رفض بلاده إعادة الاحتلال الإسرائيلي لغزة، ورفضها كذلك حكم حماس
للقطاع.
ومن ناحية أخرى، فإن الاتهامات ستكون
بمثابة تهديد ضمني بالمزيد. وبينما يفكر نتنياهو في توسيع العمليات العسكرية في
منطقة رفح، فلابد وأن يشعر بالقلق بشأن ما إذا كان المزيد من الوفيات بين المدنيين
من شأنه أن يدفع المحكمة الجنائية الدولية إلى تكثيف التحقيقات في الهجمات
الإسرائيلية العشوائية وغير المتناسبة على المدنيين.
وفيما يبدو إصرارًا على السير في الاتجاه
ذاته الذي قاد إلى تدخل المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، نقلت هيئة البث
الإسرائيلية عن مسؤول إسرائيلي أن مذكرات الاعتقال في لاهاي لن تؤثر على استمرار
الحرب، إلا أنه في حال قرر القضاة أن هناك أسبابًا معقولة للاعتقاد بأن نتنياهو
ووزير الدفاع يوآف غالانت يرتكبان جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في غزة فقد يؤدي
ذلك إلى زيادة التحديات القانونية، وهو ما يستدعي فرض حظر أسلحة في أماكن أخرى؛
حيث إن دولًا كثيرة لديها أحكام ضد بيع الأسلحة للدول التي قد تستخدمها بطرق تنتهك
القانون الإنساني الدولي.
وضمن هذا الإطار، لا توجد قيود على
الزعماء السياسيين أو الدبلوماسيين فيما يتعلق بمقابلة الأفراد الذين صدرت بحقهم
مذكرات اعتقال من الجنائية الدولية. لكن سياسيًا، قد ينظر لمثل هذا الأمر على أنه
شيء معيب، وفي الواقع، تباينت ردود الفعل الدولية بين مرحب ورافض شاجب للإعلان
الصادر عن الجنائية الدولية، وهو ما يعزز الانقسام في صفوف الدول.
في الختام: تعددت الاستجابات الداخلية
والإقليمية والدولية تجاه قرار المحكمة الجنائية الدولية، أن الانقسام سيكون
بمثابة إشكالية، رغم أن عددًا من الدول الأوروبية قالت إنها تحترم هذا القرار ومن
بينها فرنسا، ومن ثمة فهناك رغبة أوروبية بأنه يجب أن يأخذ عمل المحكمة الجنائية
الدولية مجراه فيما يتعلق بالمجازر التي ارتكبها نتانياهو بحق الفلسطينيين وكذلك
بحق الشعب الأعزل في غزة، إلا أن الولايات المتحدة تستخدم أدواتها في عرقلة أو منع
خروج هذا القرار، ومن ناحية أخرى فإن تأثير إصدار مذكرات التوقيف تلك على مجريات
العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة وجنوب لبنان، يمكن أن يؤدي إلى دفع إسرائيل
إلى الأخذ بعين الاعتبار لعدد من الإجراءات، لكن يبقى ذلك مقتصرًا على ما تم
ارتكابه ووضعه من إجراءات بعد صدور إعلان المحكمة الجنائية الدولية وليس قبل ذلك،
أي أنه لا يغير من واقع ما يتم التحقيق فيه من القضاء الدولي.