بين الضرورة الملحة والخيار .. التحولات الاقتصادية لدول الخليج
من المتوقع أن تتلاشي ثروات الدول الست لمجلس التعاون
الخليج العربي بحلول عام 2034، وذلك حسب أخر دراسة أصدرها صندوق النقد الدولي حول
مستقبل النفط والاستدامة المالية. وفي ظل تراجع أسعار النفط، لم يعد الاعتماد على
الذهب الأسود أمرًا مجديًا في إثراء خزائن دول الخليج، ما يعني ضرورة توسيع وتيرة
الاصلاحات الاقتصادية الحاسمة؛ إذ أنّه دون حدوث تلك الإصلاحات، فمن المرجح أن
تستهلك الدول الأغنى في الشرق الأوسط صافي ثرواتها المالية البالغة نحو تريليوني
دولار بحلول عام 2034، وتتحول من دول ثرية إلى دول ذات مديونيات عالية، وخاصة أنّ
نصيب عائدات النفط تشكل من 70% إلى 90% من اجمالي الايرادات العامة لدول الخليج. وفي
ظل اتجاه العالم نحو الاعتماد على الطاقة المتجددة، يدفع ذلك دول الخليج للبحث عن
استراتيجيات جديدة لدعم موازناتها، مثل اتباع سياسات تتضمن خفض الانفاق الحكومي،
وتفرض ضرائب على نطاق واسع لتغطية النفقات.
جدير بالذكر أنّ دول مجلس التعاون الخليجي استطاعت على
مدار عدة عقود، تحقيق نتائج اقتصادية قوية؛ حيث تعتمد تلك الدول على النفط كمصدر
رئيس للدخل وللتصدير؛ مما مكنها من زيادة معدلات التوظيف في
القطاع العام والإنفاق على البنية التحتية والصحة والتعليم. كما ساعد ذلك في رفع
مستويات المعيشة؛ حيث تمتلك دول الخليج ثروة مؤكدة من النفط الخام والغاز الطبيعي،
فهي تشكل قرابة ثلث الاحتياطات عالميًا، وتزود العالم بأكثر من 15% من الطلب
العالمي على النفط الخام، بقيادة المملكة العربية السعودية.
وفي هذا الصدد، يُذكر أنّ السعودية تُعد أكبر منتج للنفط
الخام في منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك) بمتوسط إنتاج يومي في الظروف
الطبيعية يبلغ نحو 10 ملايين برميل يوميًا، كما تعتبر أكبر مصدّر عالمي بمتوسط
يومي 7.5 ملايين برميل يوميًا، بينما تأتي الإمارات كثالث أكبر منتج للنفط الخام
في منظمة (أوبك) بعد السعودية والعراق، بمتوسط إنتاج يومي 3 ملايين برميل يوميًا
في الظروف الطبيعية.
وبالرغم من أن دول مجلس التعاون الخليجي اتخذت العديد من
الخطوات لتحقيق المزيد من التنوع الاقتصادي ويتضح ذلك في خطط التنمية الاقتصادية
لتلك الدول، لكن اقتصادات مجلس التعاون الخليجي لازالت تعتمد على الهيدروكربون؛
لذلك يعاني نموذج النمو الاقتصادي لتلك الدول من العديد من نقاط ضعف كثيرة.
تكمن أحد نقاط الضعف في أنّ النفط يمثل أكثر من 50% من
الإيرادات المالية لدول الخليج -ماعدا الإمارات التي تمثل عائدات النفط لديها نحو
35% من الإيرادات المالية- ونحو 70% من الصادرات، كما يتراوح نصيب النفط من الناتج
المحلي الإجمالي لدول الخليج بين 30% إلى 50%؛ مما أدي إلى حدوث اختلالات هيكلية
لاقتصادات تلك الدول نتيجة اعتمادها على مصدر رئيس واحد للدخل.
علاوة على ذلك، أدى التباطؤ في الاقتصادي العالمي الناتج
عن تفشي جائحة "كوفيد-19" في بداية عام 2020، وانخفاض أسعار خام برنت من
64 دولاراً للبرميل في بداية العام 2020 ليصل إلى أدني مستوياته إلى 23 دولاراً في
أبريل 2020، إلى انكماش النمو الاقتصادي لدول مجلس التعاون الخليجي بنحو 4.6% في
عام 2020، ما نتج عنه انكماش أداء القطاع غير النفطي بنحو 5.7% في نفس العام،
وحدوث انكماش للناتج المحلي الإجمالي لدول الخليج سواء في القطاعات النفطية أو
الغير النفطية كما هو موضح بالشكل أدناه.
وعليه، تراجعت الإيرادات النفطية لدول الخليج العربي؛ مما أدي ارتفاع عجز الموازنات لدول الخليج بمقدار 143 مليار دولار في عام 2020، ومن المتوقع أن يصل العجز إلى 80 مليار دولار خلال العام الجاري، ويرجع هذا الانخفاض في العجز عن عام 2020 نتيجة تحسن أسعار النفط العالمية. كما أدت الجائحة إلى تراجع النقد الأجنبي لتلك الدول ليصل إلى نحو 641 مليار دولار في نهاية شهر أكتوبر 2020، مقابل نحو 700 مليار دولار لشهر يناير 2020.
وبخلاف
جائحة "كورونا"، فإنّ السياسات الاقتصادية التي اتبعتها دول الخليج على
مدار العقود الماضية المتمثلة في الدعم المقدم للأفراد وسياسة الرفاهية لدي
الأفراد -خاصة في الكويت- جعل الانفاق الاستهلاكي للأفراد مربوطًا بما تقدمة
الدولة من دعم لأفرادها، بما أدي في النهاية إلى أنّ الطلب المحلي أصبح مرتبطًا
بما تنفقه الحكومات، وذلك يتطلب مستويات مرتفعة من أسعار النفط العالمي كما يتطلب
أسعارًا مرتفعة للنفط. بالإضافة إلى أن نشاط
القطاع الخاص في دول مجلس التعاون الخليجي مازال يعتمد بشدة على الاستهلاك
والمشاريع التي تقوم الحكومة بتمويلها ودعمها من خلال عائدات النفط والغاز، وفي
نفس السياق قد أوضح مسئولو صندوق النقد الدولي، قبل تفشي جائحة
"كوفيد-19"، أنه إذا لم تقوم دول الخليج العربي في حال بتطبيق إصلاحات
مالية واقتصادية، فمن المحتمل أن تستنفد ثروتها بحلول العام 2034.
أصبحت معضلة التنويع الاقتصادي لدول الخليج ضرورة حتمية
وليست خيارًا اقتصاديًا، فمن المتوقع أن يشهد الاقتصاد العالمي تغيرات جذرية في
السنوات القليلة القادمة؛ فالعديد من الدول تتجه نحو مصادر الطاقة المتجددة، مما
يؤثر بشكل واضح على الدول التي تعتمد في اقتصادها على النفط، وبالتالي، سعت حكومات
الدول النفطية إلى البدء بتنويع مصادر الدخل واستثمار مبالغ ضخمة في تطوير قطاع
صناعات الطاقة الثقيلة. وقد بدأت في الآونة الأخيرة زيادة استعمال الغاز كوقود قي
المحطات، والاهتمام بالتطور التكنولوجي للطاقات المستدامة، وبالفعل بدأت العديد من
الدول الصناعية وضع أطر تشريعية لتشجيع تقليص انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، ومن
المتوقع أن تنخفض العائدات من النفط بسبب تراجع الطلب العالمي على النفط ابتداء من
العام 2040 تقريبًا. كل ذلك يعني أنّ هناك توجه عالمي نحو الاعتماد على مصادر
الطاقة المتجددة والمستدامة، كما ارتفعت عدد مشروعات الطاقة المستدامة في عديد من
الدول حتى المنتجة للنفط مثل السعودية، والإمارات والنرويج، ويتزامن ذلك مع اهتمام
العديد من الحكومات بالتغييرات المناخية والبيئة النظيفة لتقليص انبعاثات ثاني
أكسيد الكربون.
ومن شأن ذلك التنويع أن يؤسس للاقتصاد غير النفطي، الذي سنشهده
عندما تبدأ عائدات النفط في التضاؤل، كما أنّه يقلل من التعرض للتقلبات وعدم
اليقين في سوق النفط العالمية، ويساعد على خلق وظائف في القطاع الخاص، ويزيد
الإنتاجية والنمو المستدام.
وبالفعل، تبنت دول الخليج عددًا من السياسات؛ لتنويع مصادر
الدخل وتقليل اعتمادها على النفط، وتحققت بيئة اقتصادية بها معدلات منخفضة للتضخم،
وتعزيز مناخ الأعمال، وتحرير التجارة والاستثمار الأجنبي المباشر، وتعميق القطاع
المالي، كما يجري تنفيذ خطط التنمية الوطنية بهدف تعزيز رأس المال البشري
للمواطنين، وتطوير الصناعات والخدمات جديدة.
وتجدر الإشارة إلى أن انخفاض أسعار النفط عام 2014،
وبداية حدوث عجز مالي لدول الخليج كان بمثابة جرس إنذار، مما ترتب علية ظهور عهد بداية
الإصلاحات الاقتصادية لتقليل اعتمادها على النفط، وعليه، تبنت جميع دول مجلس
التعاون الخليجي رؤى استراتيجية جديدة في تنفيذ إصلاحات هيكلية ومالية واسعة
النطاق، أبرزها دولتي السعودية والامارات.
فعلي
صعيد المملكة العربية السعودية
قامت السعودية بتنفيذ رؤية 2030؛ حيث الانتقال من اقتصاد
ريعي إلى اقتصاد يتسم بالإنتاجية والتنافسية العالمية، فالمشروعات الكبرى
بالسعودية تجذب للمستثمرين مقارنة بدول المنطقة التي تتخذ نفس الإجراءات، كما
أصدرت المملكة في فبراير الماضي قرارًا بإيقاف تعاقد الجهات الحكومية مع أي شركة
أو مؤسسة تجارية أجنبية لها مقر إقليمي في المنطقة في غير المملكة ابتداء من العام
2024، ويشمل القرار الهيئات والمؤسسات والصناديق التابعة للحكومة أو أي من أجهزتها،
مع التأكيد على أنّ استثمارات الشركات العالمية غير المرتبطة بالتعاقدات الحكومية
لن تتأثر بالقرار.
ويُعد هذا القرار بمثابة تحفيزًا لأعمال الشركات
والمؤسسات الأجنبية، وبالفعل، سجلت المملكة أعلى مستوي للاستثمارات الاجنبية لعام
2020 منذ عام 2017؛ حيث بلغت الاستثمارات نحو 4.7 مليار دولار، كما يُعد ذلك
القرار لصالح توظيف المزيد من القوي العاملة السعودية خاصه في ظل تزايد القاعدة
الشبابية التي بدأت تشكل نحو 70% من السكان؛ سعيًا لخفض معدلات البطالة.
ومن بين أهم خطوات تنويع مصادر الدخل، طرحت السعودية حصة
من شركة "أرامكو" السعودية في نهاية 2019، لتجمع 110.4 مليار ريال
"29.44 مليار دولار" في أضخم اكتتاب في التاريخ، واستمرت المملكة في
اتباع استراتيجية الخصخصة لتعزيز دور القطاع الخاص في الاقتصاد السعودي؛ فمؤخرًا
أعلنت الحكومة السعودية عن توسيع برنامج الخصخصة الذي يأتي ضمن «رؤية المملكة
2030»؛ حيث تتطلع المملكة لجمع 55 مليار دولار من الخصخصة خلال الخمس سنوات
المقبلة.
كما سعي الأمير "محمد بن سلمان" في رؤية 2030،
لإيجاد فرصة لتعزيز القطاع السياحي وأبرزها الاهتمامات كانت تصب في السياحة
الثقافية والترفيهية وسياحة البحار والمغامرات؛ وتعمل السعودية على مشاريع سياحية
وترفيهية عملاقة بمليارات الدولارات، من أبرزها "نيوم"
و"القدية" و"أمالا" و، ومن المتوقع أن تدر تلك المشاريع متى
انتهت عوائد مجزية للاقتصاد السعودي، ما ينوع مصادر الدخل.
علاوة على ذلك، تسعي السعودية إلى توطين مبدأ التصنيع،
وعليه، تم وضع مستهدفات سنوية طموحة للقطاع الصناعي في مؤشرات الاقتصاد الكلي ضمن
برنامج تطوير الصناعة الوطنية والخدمات اللوجستية؛ لتشمل رفع نسبة مشاركة الصناعة
والتعدين في الناتج المحلي من 10% إلى 15% بحلول 2030 "من 272 مليار ريال في
2020 إلى ما يتجاوز 400 مليار في 2025 وصولا إلى أكثر من 600 مليار بحلول 2030.
وتمكن قطاعا الصناعة والتعدين منذ إطلاق برنامج تطوير
الصناعة الوطنية والخدمات اللوجستية، من جذب استثمارات من القطاع الخاص بأكثر من
200 مليار ريال، ومن المستهدف رفع إسهام الصناعة والثروة المعدنية في الصادرات
التي تبلغ 184 مليار ريال بنهاية 2019 بالوصول إلى 424 مليارا بحلول 2030.
وعلى
صعيد دولة الإمارات
على الرغم من ان دوله الامارات كانت من اقل الدول
المنتجة والمصدرة للنفط تأثرًا بانخفاض الاسعار العالمية للبترول في عالم ٢٠١٤ إلا
أن الحكومة الاماراتية قد بدأت بالفعل في اتخاذ إجراءات ووضع خطط تهدف الي التنوع
الاقتصادي لمصادر الدخل القومي والتخلي عن سياسه الاعتماد علي النفط كمورد اساسي
للدخل وذلك لتجنب الارتباط بتقلبات اسعار النفط لعالميه واتجهت إلى توسيع
استثماراتها الوطنية في عدد من القطاعات الأخرى منها البنى التحتية والتجارة
والسياحة والخدمات المالية والمصرفية والطاقة المتجددة فضلاً عن الصناعة التحويلية
والدقيقة وقد استطاعت بفضل ذلك أن توسع القواعد الإنتاجية في هذه القطاعات وأن
تجعل اقتصادها الوطني معتمداً عليها بشكل كبير سواء تعلق ذلك بتوليد الدخل وتحفيز
النمو الاقتصادي أو بتوليد فرص العمل الجديدة.
ومؤخراً قد اعلنت الامارات عن استراتيجيه التوطين
الصناعي لدعم التنوع الاقتصادي حيث تهدف إلى رفع مساهمة القطاع الصناعي في الناتج
المحلي للإمارات، خلال الأعوام العشرة المقبلة، من 133 مليار إلى 300 مليار درهم
إماراتي. وتهدف الاستراتيجية إلى رفع مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي
للإمارات، خلال الأعوام العشرة المقبلة، من 133 مليار إلى 300 مليار درهم إماراتي
بما يوفر العديد من الوظائف للمواطنين وقد استطاعت الدولة على مدى الفترات الماضية
تخفيض الاعتماد على النفط وتنويع مصادر اقتصادها. بالإضافة كذلك إلى صندوق أبو ظبي
السيادي، وهو من أكبر الصناديق السيادية في العالم حاليًا، الأمر الذي أدى إلى
استقرار التصنيف العالمي لدولة الإمارات". وقد استطاعت
الامارات تحقيق العديد من العوامل الجاذبة للاستثمار الاجنبي من اهمها اصلاح
البيئة التشريعية مما ادي في النهاية اليان اصبحت الامارات الاولي عربيا لمعدل
الاستثمار الاجنبي المباشر ليبلغ ٣٦٪ من اجمالي الاستثمارات الموجهة للمنطقة
العربية والثانية فيم نطقه غرب اسيا لعام ٢٠١٨ وارتفع معدل الاستثمار ليبلغ ١٩.٨
مليار دولار لعام ٢٠٢٠ مرتفعا بنسبه ٤٤.٢٪ عن عام ٢٠١٩.
ولكن على صعيد أخر هناك من دول الخليج لاتزال تواجه
العديد من التحديات في تنوع مصادر الدخل والتحرر من الاعتماد على الاقتصاد النفطي،
ألا وهي دولة الكويت
تواجه الكويت العديد من التحديات في تنوع مصادر الدخل،
ويرجع ذلك إلى تأخر البدء في عمليات الإصلاح الاقتصادي الهيكلي نتيجة التعثر في
تنفيذ مشاريع التنمية، واستمرارية هيمنة القطاع النفطي، وضعف دور القطاع الخاص في
التنمية؛ حيث لا تتعدي مشاركة هذا القطاع نحو 5.8% من الناتج المحلي الإجمالي، ووجود
خلل في الميزانية العامة للدولة، وضعف الاستثمار الأجنبي.
بالإضافة إلى ذلك، التوترات السياسية داخل الكويت بين
مجلس الأمة والحكومة، خاصة فيما يتعلق بإصدار قانون الدين العام لتمويل العجز
العام في الميزانية، يعيق الاقتصاد الكويتي؛ ومن المتوقع أن تحتاج الكويت الى
اقتراض ٢٤ مليار دولار عام ٢٠٢١، والا ستواجه فجوة تمويلية تبلغ حوالي ١٢% من
الناتج المحلي الاجمالي للعام المالي ٢٠٢١-٢٠٢٢.
كما أنّ هناك تخوفًا من تراجع انتاج النفط مستقبلًا، خاصة في ظل تباين النظرة تجاه اسعار النفط العالمية؛ حيث تعتبر الكويت من أكبر عشرة دول منتجة للنفط عالميا؛ وتستحوذ النفط على نحو 92% من صادرات الكويت. وعلى الرغم من أنّ الهيئة العامة للاستثمار الكويتية حافظت على المركز الرابع؛ إلا أنّ عمليات السحب الكبيرة ستؤدي إلى تآكل كبير في احتياطيات صناديق الثروة السيادية على المدى المتوسط لدول الخليج العربي؛ بما ما يقلل من الارتفاع إلى القوة المالية المستمدة من هذه الأصول، ويزيد من مخاطر الضعف الخارجية خاصة في دول عمان والكويت. وبالنسبة للكويت؛ فإنّ العجز المالي أدى إلى استنفاد جزء من صندوق الاحتياطي العام الأصغر، ما أدى إلى زيادة مخاطر السيولة، وذلك في ظل عدم إصدار قانون الدين العام بسبب الخلافات السياسية بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، كما أنّ المخزون الضخم من الأصول المحتفظ بها في صندوق الأجيال القادمة، يخضع حاليًا لسيولة في الميزانية العمومية للدولة النفطية.