التمرد على الجغرافيا .. طموحات إثيوبيا البحريَّة وتداعياتها على استقرار القرن الإفريقي
مقدمة
تُمثل الجغرافيا، بأبعادها المُختلفة، أحد العوامل
المؤثرة في صياغة السياسة الخارجيَّة للدولة وتشكيل مواقفها تجاه دول الجوار. وتُعد
إثيوبيا نموذجًا واضحًا للدول التي يخضع سُلوكها وتفاعلاتها الخارجيَّة لاعتبارات
وإملاءات الجغرافيا السياسيَّة، فنتيجة لكونها دولةً داخليةً حبيسةً لا تطل حدودها
على أية سواحل أو واجهات بحريَّة، فإنَّ طموحها الإقليمي بلعب دورٍ فاعلٍ ومؤثرٍ
في منطقة القرن الإفريقي يُلائم وزنها التاريخي وقوتها الديمُغرافيَّة بات مُقيدًا
ومكتوفًا، ولذلك تعمل إثيوبيا بشكل حثيث على تعويض محبسها الجغرافي بامتلاك منفذٍ
بحري دائم، يؤمن اتصالها بالعالم الخارجي، ويُحقق مصالحها القوميَّة، ويُعزز دورها
كقوةٍ إقليميَّةٍ فاعلة، ومن ثمّ أصبح الوصول إلى المياه المفتوحة هدفًا استراتيجيًا
والشاغل الرئيس للحكومات الإثيوبيَّة المُتعاقبة.
وتشهد إثيوبيا، مُنذ وصول حكومة آبي أحمد إلى السُلطة
عام 2018، حراكًا سياسيًا مكثفًا فيما يتعلق بملف طموحات إثيوبيا البحريَّة، حيث
أكد "آبي أحمد" في خطاباته أمام البرلمان الإثيوبي، سعيًا منه إلى تعزيز
شعبيته وتجاوز الانقسامات السياسيَّة والعرقيَّة التي يشهدها المُجتمع الإثيوبي،
أنَّ بلاده لها الحق الطبيعي والقانوني في النفاذ إلى البحر أسوةً بدول القرن
الإفريقي الأخرى، وأعتبر أنَّ هذه المسألة تشكل أهميةً وجوديةً لإثيوبيا وشعبها،
وأنه ماضٍ في تحقيق ذلك بالوسائل السلميَّة، أو حتى باستخدام القوة إذا لزم الأمر.
وأسفرت مساعي أثيوبيا في هذا الاتجاه عن توقيع مذكرة
تفاهم، مطلع العام الجاري، مع سُلطات الحكم المحلي في إقليم "أرض الصومال"
الانفصالي، تسمح لها بالوصول
إلى عشرين كيلومترًا من سواحل أرض الصومال لمدة خمسين عامًا، وكان لهذه الخطوة الإثيوبيَّة
صدى واسعًا، وخلّفت ردود فعل إقليميَّة ودوليَّة متباينة، لما يُمكن أن تُفضي إليه
من توترٍ وتصعيدٍ مسلح في المنطقة، الأمر الذي أثار الكثير من الجدل حول تبعات هذه
التحركات الإثيوبيَّة وتداعياتها المُحتملة على الاستقرار والأمن في القرن
الإفريقي.
ارتباطًا بما تقدم، تسعى هذه الدراسة إلى تناول إشكالية
تأثير الطموحات البحريَّة لإثيوبيا وتداعياتها على استقرار المنطقة، وذلك من خلال
رصد أهم الدوافع التي تقف وراء استراتيجية الحكومة الإثيوبيَّة بالوصول إلى منفذٍ
بحري دائم، والكشف عن الأدوات والخيارات الاستراتيجيَّة المُتاحة أمام أديس أبابا
في إطار سعيها المستمر لتنويع خياراتها البحريَّة وامتلاك منفذ بحري يُتيح لها
الوصول المباشر إلى المياه المفتوحة، ومن ثمّ الوقوف على أهم العواقب والتداعيات
المُحتملة لطموحات إثيوبيا البحريَّة على الاستقرار والأمن في منطقة القرن
الإفريقي.
أولاً-
إثيوبيا بين موقعها الجغرافي الحبيس وطموحاتها البحريَّة
تقع إثيوبيا في شرق إفريقيا، وتغطي أراضيها مساحةً واسعة
قدرها 1,1مليون كم2، وتشترك في الحدود مع إريتريا من الشمال والشمال
الشرقي، وجيبوتي من الشرق، فيما تحدها الصومال من الشرق والجنوب الشرقي، وتجاورها
كينيا من الجنوب، والسودان وجنوب السودان من الغرب، ويعتمد الاقتصاد الإثيوبي في
معظمه على الزراعة، مع زيادة طفيفة في قطاع الصناعة خلال الآونة الأخيرة.(1)
وتُشكل إثيوبيا والدول المُجاورة لها ما يُعرف بالقرن الإفريقي، وهي دولة حبيسة،
فليس لها سواحل أو واجهات بحريَّة، إذ تحجزها عن الوصول إلى البحر الأحمر والمُحيط
الهندي دول الجوار الشرقي وهي إريتريا وجيبوتي والصومال.
ولقد شكّلت هذه المُعضلة الجغرافيَّة، الناجمة عن عدم
امتلاكها منافذ بحريَّة، هاجسًا تاريخيًا لإثيوبيا، وكوَّن لديها نزعةً إمبرياليَّةً
في سلوكها تجاه دول الجوار، سعيًا منها للخروج من عزلة الهضبة الحبشيَّة والسيطرة
على جانبي البحر الأحمر والأنشطة التجاريَّة فيه، ولقد تجلت مظاهر هذه النزعة في
الألقاب التي أسبغها ملوك إثيوبيا قديمًا على أنفسهم(2) والتي تعكس نزعتهم التوسعيَّة للسيطرة
خريطة (1)
موقع إثيوبيا في القرن الإفريقي ودول الجوار الجغرافي
بعد هزيمة إيطاليا في الحرب العالميَّة الثانية وانهيار
نفوذها السياسي والعسكري في القرن الإفريقي، تطلعت أديس أبابا إلى جارتها الشرقيَّة
"إريتريا" باعتبارها جزءًا من إمبراطوريتها التاريخيَّة، وقد تلاقت
أطماع إثيوبيا مع ترتيبات الأمم المُتحدة فيما يتعلق بالوضع السياسي لإريتريا بعد
الحرب، حيث أصدرت الجمعية العامة للأمم المُتحدة قرارًا بضم الدولتين في اتحادٍ
فيدرالي، مما أتاح لإثيوبيا أخيرًا تحقيق طموحاتها البحريَّة بمد حدودها إلى سواحل
البحر الأحمر، ومن ثمّ أصبح مينائي "عصب ومصوع" الواقعين على الأراضي
الإريترية المنفذ الرئيس لاتصالها بالعالم الخارجي. غير أنَّ الحكومة الإثيوبيَّة
ما لبثت أن ألغت هذا الاتحاد وأعلنت ضم إريتريا إلى أراضيها كجزءٍ من أقاليمها،
الأمر الذي قاد إلى تمردٍ مسلحٍ من قبل الجبهة الشعبيَّة لتحرير إريتريا التي نادت
بالاستقلال، واستمر النزاع قائمًا بين الجانبين حتى عام 1993 عندما نظّم
الإريتريون استفتاءً شعبيًا لتقرير مصيرهم، وجاءت نتيجته لصالح الاستقلال التام عن
إثيوبيا.
ومن جانبها، أعلنت حكومة أديس أبابا اعترافها بنتيجة
الاستفتاء بالرغم من التداعيات الخطيرة لهذه الخطوة والتي من أهمها تحول إثيوبيا
إلى دولةٍ حبيسةٍ، تلى ذلك توقيع إريتريا وإثيوبيا ترتيبات ثنائية، من بينها
السماح لـ 80% من التجارة الخارجيَّة لإثيوبيا بالمرور عبر الموانئ الإريترية،
والإعفاء من الضرائب الجمركيَّة على واردات البلدين(3) غير أنَّ تجدد
الحرب بين الجانبين عام 1998 قوَّض هذه الترتيبات ووضع حدًا لها.
وكان لفض الارتباط السياسي بين إثيوبيا وإريتريا (1993)،
ثم تجدد الصراع المُسلح بين البلدين (1998- 2000)، تداعياته الاستراتيجيَّة
الخطيرة، حيث عادت إثيوبيا مرةً أخرى إلى عقدتها الجغرافيَّة كدولةٍ حبيسةٍ،
وأصبحت تواجه عقبةً كبيرةً أمام فرص التنمية الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، مما فرض
عليها ضرورة الاعتماد على الموانئ الأجنبيَّة في تجارتها الخارجيَّة، وما يعنيه ذلك
من تغيرٍ في نموذج الأمن الإقليمي، وحسابات السياسية الإقليميَّة بين إثيوبيا ودول
الجوار في منطقة القرن الإفريقي.
وبصدد التغلب على أزمة الوصول إلى طرق التجارة البحريَّة،
اتجهت أنظار أديس أبابا إلى جيبوتي كبديل لموانئ إريتريا، إذ تعتمد إثيوبيا، منذ انتهاء
حربها مع إريتريا عام 2000، على ما يقرب من 95٪ من وارداتها وصادراتها على ميناء
جيبوتي، ومع مُضي
أكثر من عقدين على الشراكة بين الجانبين، ثبت أن هذه الشراكة مُستدامة للغاية، كما
قامت جيبوتي، بدعمٍ مالي من الشركاء، بتحديث موانئها وخدماتها لصالح جميع الأطراف.(4)
وفي أغسطس 2003، وقّعت إثيوبيا مع الحكومة المحليَّة في أرض الصومال اتفاقًا
ثنائيًا، أصبح نافذًا بحلول يوليو 2005، ويهدف إلى تحسين التعاون التجاري بين
الطرفين عبر طرق الشحن وإنشاء شبكة من الجمارك والموانئ، كما سمح الاتفاق لإثيوبيا
باستخدام ميناء «بربرة» شمال غرب الصومال، ووقّعت إثيوبيا اتفاقًا آخر مع السودان
للتعاون في مجال النقل والاتصالات والبحث في إمكانية بناء الطرق لربط مدنهما
الحدوديَّة، حيث تستخدم إثيوبيا ميناء بورتسودان للصادرات، وتبذل جهودًا مُضاعفة لاستخدام
الموانئ السودانيَّة في نقل وارداتها.(5) بالإضافة إلى ذلك، أبدت إثيوبيا اهتمامًا ملحوظًا بتطوير
موانئ أخرى على طول الساحل الشرقي لإفريقيا وانتزاع حِصَّة فيها.
من جملة العواقب الأخرى التي خلّفها انفصال إريتريا عن
إثيوبيا وتحول هذه الأخيرة إلى دولةٍ حبيسة، تفكك وانهيار القوة البحريَّة الإثيوبيَّة،
إذ اصبحت السفن التابعة للأسطول الإثيوبي في وضع غير عادي بعد فقدان مينائي مصوع
وعصب الإريتريين، ومع ذلك واصلت البحريَّة الإثيوبيَّة تسيير دوريات عرضية في
البحر الأحمر من موانئ اليمن، إلى أن قام اليمن بطرد هذه السفن من موانئه عام 1993م،
ومع فشل أديس أبابا في انتزاع عقد إيجار في جيبوتي، اضطرت إلى حل قواتها البحريَّة
بالكامل بحلول مُنتصف التسعينيَّات.(6)
وبالنتيجة، أدى فقدان إثيوبيا لمنافذها البحريَّة وتعذر
وصولها إلى المياه الدافئة، ومن ثم تفكك أسطولها البحري، إلى تراجع نفوذها ومكانتها
الإقليميَّة في شرق إفريقيا ومنطقة القرن الإفريقي بصورةٍ تُناقض ثقلها التاريخي
ووزنها الديمغرافي، إذ لم يعد يُنظر إلى أديس أبابا كفاعلٍ رئيسٍ في الترتيبات
الأمنيَّة والسياسيَّة المُتعلقة بالبحر الأحمر، ونذكر في هذا الشأن ما تعرض له
الدور الإثيوبي من تهميشٍ في سياق الجهود الدوليَّة والإقليميَّة التي دعت إليها
الأمم المُتحدة والمُنظمات الإقليميَّة للمُساعدة في مكافحة أعمال القرصنة وعمليات
السطو المسلح في خليج عدن والبحر الأحمر.
ثانيًا-
دوافع إثيوبيا المُتجددة للوصول إلى البحار المفتوحة
تقترن مساعي إثيوبيا وجهودها الدائبة للتمرد على واقعها
الجغرافي الحبيس بالوصول إلى المنافذ والموانئ البحريَّة بعدة دوافع ومصالح
متباينة، تعكس رغبتها الدائمة في إحياء طموحاتها البحريَّة، ونرصد فيما يلى أهم
هذه الدوافع.
1- تعزيز
مكانتها ودورها الإقليمي في منطقة القرن الإفريقي
تتطلع إثيوبيا إلى تعزيز نفوذها ودورها كقوةٍ كبرى في مُحيطها الإقليمي، وهي تدرك أنَّ ذلك لن يتحقق إلا باكتساب موطئ قدم استراتيجي في البحر الأحمر يؤمن لها الدفاع عن مصالحها الاستراتيجيَّة في المنطقة، ويسمح لها بالانخراط في المُعادلة الأمنيَّة للبحر الأحمر، إذ تنظر أديس أبابا إلى منطقة شرق إفريقيا، بما في ذلك القرن الإفريقي وحوض النيل والبحيرات العُظمى، باعتبارها منطقة نفوذ إقليمي تسعى لإبراز هيمنتها فيها، رغبةً منها في توسيع نفوذها على الصعيد القاري لتُصبح أحد الأقطاب الكبرى للقارة الإفريقيَّة.(7) سيَّما وأنَّ لدى إثيوبيا المُقوِّمات التي تُعزز طموحها للاضطلاع بهذه المكانة مُقارنةً بدول الجوار، ويُمكن الاستدلال على هذه المُقوِّمات من خلال عددٍ من مؤشرات القوة الماديَّة (الملموسة) كالمساحة، وعدد السكان، والناتج المحلي الإجمالي (أنظر الجدول أدناه).
جدول
(1)
إثيوبيا ودول الجوار الجغرافي .. مقارنة من حيث
المساحة، عدد السكان، وإجمالي الناتج المحلي
2- تعزيز
المصالح السياسيَّة والاقتصاديَّة
تسعى الحكومة الإثيوبيَّة، بقيادة آبي أحمد، إلى تعزيز
شعبيتها وزيادة رصيدها السياسي لدى الشعب الإثيوبي من خلال قدرتها على تحقيق أحد
الأهداف الرئيسيَّة التي أعلنت عنها منذ سنوات، وهو الحصول على منفذٍ بحري دائم،
الأمر الذي من شأنه أن يُعزز من شعبية آبي أحمد ويوفر له القدرة على مواجهة
التحديات السياسيَّة والأمنيَّة التي تواجهها حكومته، في ظل الاضطرابات السياسيَّة
والعرقيَّة التي تشهدها إثيوبيا.(8) من ناحيةٍ أخرى، ترتبط مساعي
إثيوبيا لانتزاع منفذ بحري برغبتها في قيادة مُبادرة التكامل الإقليمي في القرن
الإفريقي، وما تتضمنه من مشروعاتٍ إقليميَّةٍ عديدة، لكي تُحقق أهدافًا
اقتصاديَّة، من أهمها ربط البنية التحتيَّة بين إثيوبيا ودول المنطقة كما هو الحال
في مشروع «لابست LAPSSET» الذي يربط بين دول كينيا وإثيوبيا وجنوب
السودان، بما يُعزز من النفوذ الإثيوبي في المنطقة.(9) وفي إطار سعيها
لجذب الاستثمارات المحليَّة والأجنبيَّة إلى قطاع التصنيع لديها، فإنه يتعين على
إثيوبيا أن تضمن للمستثمرين أنهم سيكونون قادرين على الوصول إلى الأسواق العالميَّة
بأسعار معقولة، وينطبق ذلك على الاستثمارات في القطاع الزراعي، إذ تُمثل الزراعة
ما يقرب من 38% من الناتج المحلي الإجمالي، و80% من فرص العمل، ونحو 90% من عائدات
النقد الأجنبي. (10) فضلاً عن ذلك، فإنَّ تنويع المنافذ البحريَّة،
سيُسهم بلا شك في تعزيز التنمية الاقتصاديَّة لإثيوبيا ويساعد على تخفيض رسوم
الموانئ البحريَّة.
3- دوافع
استراتيجيَّة
تكمن الدوافع الاستراتيجيَّة لإثيوبيا في الحصول على
منفذٍ بحري دائم في رغبتها بامتلاك قواعد بحريَّة بدعم من القوى الغربيَّة بالقرب
من مضيق باب المندب، بحجة تعزيز التجارة الإثيوبيَّة، إضافةً إلى حماية السفن
الإثيوبيَّة البالغ قوامها 11 سفينة والتي تتمركز في البحر الأحمر، بما يُتيح لها
تعزيز دورها الإقليمي في المُعادلة الأمنيَّة للبحر الأحمر، وتقديم نفسها كحليفٍ
مهمٍ في ضمان أمن واستقرار القرن الإفريقي
وحماية الملاحة الدوليَّة وطرق التجارة العالميَّة في المنطقة.(11) فضلاً
عن ذلك، يُمثل الضعف الإثيوبي في القوة البحريَّة عاملًا استراتيجيًا يحفزها على
ضرورة إنشاء قاعدة بحريَّة لمواجهة النفوذ المصري في البحر الأحمر في ضوء التنافس
بين الدولتين إقليميًا، وتحقيق قدرٍ من توازن القوى بين الجانبين.(12)
4- ضمان
استقرار سلاسل الإمداد بين إثيوبيا والعالم الخارجي
في ظل اعتمادها على ميناء رئيس لنفاذ تجارتها مع العالم
الخارجي، وهو ميناء جيبوتي الذي يستحوذ على نحو 95% من تجارتها الخارجيَّة، فقد أصبحت
إثيوبيا تتحسب للتهديدات التي قد تواجه تجارتها عبر هذا المنفذ(13)،
الذي يقع ضمن منطقة تموج بالتوتر وتصاعد
التهديدات، والتي من أبرزها تداعيات الحرب الروسيَّة الأوكرانيَّة والتي أدت إلى
ارتفاع تكاليف شحن الواردات، وهجمات الحوثيين على طرق التجارة الدوليَّة في البحر
الأحمر، بالإضافة التهديدات الناجمة عن مُحاولات قطع الطريق الرئيسي الذي يصل بين
العاصمة أديس أبابا وميناء جيبوتي خلال الصراع بين الحكومة الفيدرالية وإقليم
تيجراي. (14) وتدفع كل هذه التهديدات الحكومة الإثيوبية إلى تكثيف
جهودها لتأمين مصادر بديلة لميناء جيبوتي بما يضمن استقرار سلاسل الإمداد بين
إثيوبيا والعالم.
5- إعادة
بناء القوة البحريَّة الإثيوبيَّة
تتطلع إثيوبيا إلى حماية مصالحها الاقتصاديَّة والسياسيَّة
في منطقة البحر الأحمر التي تموج بالفوضى وعدم الاستقرار، ومع وجود العديد من
الرهانات الاقتصاديَّة في المنطقة وتضارب المصالح السياسيَّة، ترى إثيوبيا أنَّ
إعادة بناء قوتها البحريَّة سيعد وسيلةً لحماية سفنها التجاريَّة والدفاع عن
أصولها البحريَّة في المنطقة.(15) إضافةً إلى ذلك، يُمكن أن يُساعد بناء
أديس أبابا لقوةٍ بحريَّةٍ متطورة على حماية الحقول والمناطق النفطيَّة التي تم
الكشف عنها في سواحل الصومال وكينيا، فضلاً عن رغبة إثيوبيا في تعزيز وجودها
العسكري في مضيق باب المندب والالتحاق بقيادة القوات الدوليَّة المعنية بمحاربة
القرصنة البحريَّة.(16)وفي سياق جهودها الطامحة إلى بناء أسطولها
البحري، أبرمت إثيوبيا، في مارس 2019، اتفاقًا مع فرنسا، يقضي بتعزيز التعاون
العسكري بين البلدين ويهدف إلى مساعدة الحكومة الإثيوبيَّة على تطوير سلاحها
البحري كأحد مكونات قوتها العسكريَّة.
6- تنويع
الخيارات والمنافذ البحريَّة
تواصل إثيوبيا جهودها الرامية إلى نسج شبكة متنوعة من
المنافذ والموانئ البحريَّة، التي تضمن لها تحقيق التنمية الاقتصاديَّة وتعزيز فرص
التجارة الخارجيَّة، والأهم من ذلك تقليل اعتمادها على ميناء جيبوتي الذي تمر من
خلاله 95% من صادرات إثيوبيا ووارداتها، تحسبًا لأية تأثيرات أو تغيرات مُستقبليَّة
في مسار العلاقات بين البلدين.
ومما يُحرك رغبة إثيوبيا في تنويع منافذها البحريَّة،
أنه قد ثبت بالفعل أنَّ الاعتماد على ميناء جيبوتي وحده أمر مكلّف وغير مُستدامٍ،
كما أنه لم يعد كافيًا بسبب ارتفاع حجم الواردات الإثيوبيَّة، فضلاً عن استضافة جيبوتي
لعددٍ كبيرٍ من القواعد العسكريَّة الأجنبيَّة، الأمر الذي يُصعّب على إثيوبيا
الاستحواذ على ميناء جيبوتي، كما أنَّ النقل بين جيبوتي وبحر دار الإثيوبي يحتاج
إلى بناء سكك حديديَّة مكلفة، وأنَّ استعانة جيبوتي بمصادر خارجيَّة لخدمات
الموانئ قد يتسبب بدوره في زيادة التكاليف، كل هذه الأسباب تُحتم على إثيوبيا ضرورة
البحث عن بدائل أكثر ضمانًا تُتيح لها الوصول الآمن والدائم إلى البحر الأحمر.(17)
كما أنَّ الحكومة الإثيوبيَّة ترفض أن تُمارس عليها ضغوطًا إقليميَّةً أو دوليَّةً
لكونها دولةً حبيسة، كما أنها لا ترغب في تكرار تجربة إريتريا في مطلع الألفية
الجديدة حتى لا تكون مضطرةً لدفع المزيد من التكلفة لمرور تجارتها عبر الموانئ
البحريَّة في المنطقة.(18)
7- حماية
الأمن القومي الإثيوبي
لا شك أنَّ وصول إثيوبيا إلى المياه المفتوحة وإيجاد
موطئ قدم لها على ساحل البحر الأحمر سيُمثل أحد ضمانات أمنها القومي في منطقة تُعد
واحدة من أكثر مناطق العالم توترًا واجتذابًا للتنافس المحموم سواءً من جانب القوى
الكبرى أو الإقليميَّة. فمن ناحية، سيُشكل حصول أديس أبابا على منفذٍ بحري فرصةً
لإعادة بناء قوتها البحريَّة التي تفككت بعد استقلال إريتريا عنها في تسعينيَّات
القرن الماضي، وهي قوة لا يُمكن لدولةٍ طامحةٍ كإثيوبيا الوصول إلى قدراتها
الشاملة بدونها. ومن ناحيةٍ أخرى، فإنَّ حيازة أديس أبابا لموانئ بحريَّة مستقلة
من شأنه أن ينزع عنها مركب النقص الذي تعاني منه في إطار علاقاتها بالدول المُشاطئة
للبحر الأحمر، والتي تنظر إلى إثيوبيا باعتبارها
دولةً حبيسةً يجب إبعادها عن أية ترتيبات إقليميَّة تتعلق بأمن البحر الأحمر
وممراته، وليس من شك في أنَّ انخراط إثيوبيا في مثل هذه الترتيبات الأمنيَّة
سينعكس إيجابًا على أمنها القومي.
ثالثاً-
الأدوات والخيارات الاستراتيجيَّة لنفاذ إثيوبيا إلى المياه المفتوحة
مع وصول حكومة آبي أحمد إلى السُلطة في إثيوبيا، عام
2018، وضعت ملف الحصول على منفذٍ بحري على ساحل البحر الأحمر
نصب أعينها، وهو ما تجلى بوضوح في خطاب
رئيس الحكومة في أكثر من مُناسبة، الذي أكد على أنَّ هذه المسألة تضرب بجذورها في
عمق التاريخ والجغرافيا وأنها تشكل أهميةً وجوديةً لبلاده، في إطار سعيها للنهوض
بالاقتصاد الوطني وتعزيز مكانة إثيوبيا كقوةٍ إقليميَّة ولاعب أساسي في الشأن
الإفريقي وفي القرن الإفريقي على وجه الخصوص، مؤكدًا في الوقت ذاته أنَّ عدم حصول
بلاده على منفذٍ بحري سيُعرض أمنها القومي للخطر، ولذا فإنَّ كافة الوسائل تظل
مطروحةً لتحقيق هذا المسعى.
وفي هذا الإطار تبنت حكومة آبي أحمد مُنذ صعودها إلى السُلطة
ما يُعرف بدبلوماسية الموانئ Port
diplomacy، التي
تستهدف تجاوز مُعضلة إثيوبيا الجغرافيَّة كونها دولةً حبيسة من خلال انتزاع
امتيازات إقليميَّة تسمح لأديس أبابا باستخدام مُعظم الموانئ البحريَّة في المنطقة
وامتلاك حصص فيها.(19) ولقد أفضت جهود إثيوبيا في هذا السياق، إلى
توقيع مجموعة من الاتفاقيات الثنائيَّة بين أديس أبابا وعددٍ من دول الجوار الجغرافي،
في الفترة من مايو إلى يونيو 2018، ترمي إلى انتزاع حِصَّة لها في بعض الموانئ
البحريَّة التابعة لهذه الدول، وفيما يلي أهم هذه الاتفاقيات.(20)
1. الاتفاق الإثيوبي/ السوداني في مايو 2018، وتهدف من
خلاله أديس أبابا للوصول إلى ميناء بورتسودان على البحر الأحمر، والذي يخدم بشكل
أساسي منطقة الشمال الإثيوبي في تجارتها مع الشرق الأوسط وأوروبا وآسيا.
2. الاتفاق الإثيوبي/ الكيني في مايو 2018، ويهدف إلى
تسهيل حصول إثيوبيا على أراضٍ في جزيرة لامو كجزءٍ من مشروع لابست بتكلفة قدرها 24
مليار دولار.
3. الاتفاق الإثيوبي مع موانئ دبي العالميَّة في مايو 2018، وتمكنت
أديس أبابا بمقتضاه من الاستحواذ على حِصَّة نسبتها 19% في ميناء بربرة بإقليم أرض
الصومال، في حين تمتلك موانئ دبي حِصَّة نسبتها 51%، وحكومة أرض الصومال نسبة
قدرها 31%.
4. الاتفاق الإثيوبي مع الصومال في يونيو 2018، ويتضمن
الاستثمار الإثيوبي في أربع موانئ بحريَّة من أبرزها ميناء جرعد وهوبيو بهدف جذب
الاستثمارات الأجنبيَّة.
5. الاتفاق الإثيوبي مع جيبوتي عام 2018، لشراء حِصَّة
من ميناء جيبوتي، في مُقابل استحواذ الحكومة الجيبوتية على حِصص من بعض الشركات
الإثيوبيَّة، مثل شركة إثيوتيلكوم وشركة الكهرباء الإثيوبيَّة وشركة الخطوط الجويَّة
الإثيوبيَّة.
وتجدر الإشارة إلى أنَّ تلك الاتفاقيات المذكورة تبدو غير كافية من منظور إثيوبيا ولا تلبي طموحاتها البحريَّة أو تُبدد مخاوفها، فالتوترات السياسيَّة المُتجددة بين اقطاب القرن الإفريقي قد تلقي بظلالها على سريان هذه الاتفاقيات وتهدد بتقويضها مُستقبلاً في ظل التحولات التي تشهدها المنطقة والتغير في بنية التحالفات والتحالفات السياسيَّة المُضادة، ونُشير في هذا الصدد إلى الخلافات المُتجذرة بين إثيوبيا والسودان على خلفية أزمة سد النهضة الإثيوبي والنزاع الحدودي بينهما على منطقة القفشة، كما تشهد العلاقات الإثيوبيَّة الصوماليَّة بدورها تأزمًا بين الحين والآخر نتيجة الموروث التاريخي (حرب أوغادين 1977) وانخراط أديس أبابا في علاقات مع إقليم "أرض الصومال" الانفصالي وهو ما تعتبره مقديشو عملاً عدائيًا يُهدد سيادتها، يُضاف إلى ذلك مشكلات الحدود بين إثيوبيا وجارتها الجنوبيَّة "كينيا".
خريطة (2)
الموانئ المُرشحة لاستضافة قواعد بحريَّة إثيوبيَّة
ضمن خطط أديس أبابا الاستراتيجيَّة لتنويع منافذها البحريَّة
وتدفع هذه المخاوف، وغيرها، الحكومة الإثيوبيَّة إلى
ضرورة إيجاد بدائل استراتيجيَّة تمكنها من الوصول إلى المياه الدافئة وإيجاد موطئ
قدم لها على البحر الأحمر أو المُحيط الهندي، ولقد كشف رئيس الحكومة الإثيوبي، أبي
أحمد، عن أنه في إطار الجهود الحثيثة التي تبذلها أديس أبابا للوصول إلى منفذٍ
بحري، تبقى جميع الخيارات مُتاحة ومطروحة على الطاولة، بما في ذلك التفاوض،
والشراكة المُتبادلة، أو حتى اللجوء إلى القوة.
وتأتي إريتريا ضمن دائرة البدائل الاستراتيجيَّة أمام
إثيوبيا للولوج إلى البحر الأحمر، سيَّما بعد حدوث انفراجة في مسار العلاقات بين
البلدين تكللت بتوقيع اتفاق للسلام عام 2018. ولذلك تدفع إثيوبيا باتجاه تعزيز
التعاون مع حكومة أسمرة، والدخول معها في ترتيبات ثنائيَّة تسمح لأديس أبابا
باستخدام الموانئ الإريترية المُطلة على البحر الأحمر، ولاسيَّما ميناء عصب، الذي
كان حتى اندلاع الصراع المُسلح بين الدولتين عام 1998 يُمثل البوابة الرئيسية
لتجارة إثيوبيا مع الأسواق العالميَّة، وترى إثيوبيا أنَّ هذا المسعى يقره ويؤكده
القانون الدوليّ، إذ تنص المادة (125) من اتفاقية الأمم المُتحدة لقانون البحار
لعام 1982 على حق الدول غير الساحليَّة في الوصول إلى البحر ومنه لغرض مُمارسة
التجارة أو الوصول إلى أعالي البحار (المياه الدوليَّة) وحقها أيضًا في المرور عبر
أراضي دولة المرور العابر (وهي الدولة الساحليَّة التي تفصل دولة حبيسة عن البحر)
بكافة وسائل النقل، شريطة أن يتم ذلك وفقًا لاتفاقيات ثنائيَّة.
الصومال بدوره يُشكل خيارًا استراتيجيًا مهمًا أمام
حكومة أديس أبابا، وجاء التحرك الإثيوبي في هذا الاتجاه بحلول الأول من يناير 2024م،
عندما تم الإعلان عن توقيع مذكرة تفاهم بين أديس أبابا وسُلطات الحكم المحلي في
إقليم "أرض الصومال" الانفصالي، الذي أعلن استقلاله عن مقديشو من طرف
واحد عام 1991، وبحسب ما ورد في النصوص المُعلنة من المذكرة، وافقت سُلطات الإقليم
على السماح لإثيوبيا بالوصول إلى 20 كيلومترًا من سواحلها لمدة خمسين عامًا(21)،
كما سيتيح الاتفاق لإثيوبيا إمكانية استئجار قاعدة عسكريَّة بالقرب من ميناء بربرة
الواقع على خليج عدن، مما سيُمكن أديس أبابا من الوصول إلى ممرات الشحن في البحر
الأحمر عبر مضيق باب المندب بين جيبوتي واليمن.(22)
في مُقابل ذلك، تعترف الحكومة الإثيوبيَّة بأرض الصومال
كدولةٍ مُستقلة، وحصول حكومة الإقليم الصومالي على حِصَّة قدرها 20% من الخطوط
الجويَّة الإثيوبيَّة(23)، وكانت إثيوبيا، عام 2017، قد استحوذت على
أسهم في ميناء بربرة كجزء من اتفاقية استراتيجيَّة تضم موانئ دبي العالميَّة، وهي
شركة إماراتيَّة لإدارة الخدمات اللوجستية، وتهدف هذه الصفقة إلى توسيع ميناء
بربرة وتحويله إلى بوابة تجاريَّة مربحة قادرة على خدمة الاحتياجات الاقتصاديَّة لمواطني
إثيوبيا.(24)
أدى توقيع مذكرة التفاهم الإثيوبيَّة مع "أرض
الصومال" إلى توتير العلاقات بين إثيوبيا وحكومة الصومال، التي أعلنت رفضها
لمضمون الاتفاق باعتباره عملاً عدائيًا موجهًا ضدها ويستهدف التعدي على سيادة
الصومال ووحدة وسلامة أراضيه، وجاء رد الصومال متمثلاً في طرد السفير الإثيوبي
وتقديم شكوى إلى مجلس الأمن الدوليّ التابع للأمم المُتحدة. وبالرغم مما قد يثيره
الاتفاق من عواقب مُحتملة، إلا أنَّ اثيوبيا تبدو عازمةً على المُضي قدمًا في
تنفيذه، في إطار جهودها المُتسارعة والمُتصلة للوصول إلى البحر، ويتضح ذلك من
إرسالها مبعوث دبلوماسي إلى "أرض الصومال" في أغسطس 2024.
وضمن جهودها لوقف التصعيد وخفض التوتر في المنطقة، أعلنت
جيبوتي، على لسان وزير خارجيتها "محمود علي يوسف"، عزمها منح إثيوبيا حق
إدارة واستغلال حصري بنسبة 100% لأحد موانئها الواقعة في الشمال، وهو ممر جديد تم
الانتهاء من أعماله في منطقة تاجورة على ساحل البحر الأحمر(25)، إذ تخشى جيبوتي من تحول إثيوبيا إلى
الاعتماد على ميناء "بربرة" في إقليم أرض الصومال، ما قد يؤثر سلبًا على
اقتصادها الذي يعتمد بنسبةٍ كبيرةٍ على عوائد تجارة الترانزيت والقواعد العسكريَّة
للقوات الأجنبيَّة، ومن ثمّ تُحاول جيبوتي، من خلال هذه الخطوة، الحفاظ على مصادر
دخلها القومي وتجنُب خسائر اقتصاديَّة مُحققة.(26) ولا شك أنَّ هذا
العرض الجيبوتي يُمثل خيارًا استراتيجيًا آخر أمام حكومة أديس أبابا، لكن قبولها
أو رفضها له يظل رهنًا بمجموعةٍ مُعقدةٍ من الاعتبارات والسياقات الإقليميَّة التي
ستأخذها إثيوبيا بعين الاعتبار، وإن كانت طموحات إثيوبيا البحريَّة تتعدى الحصول
على منفذ تجاري، إلى امتلاك قاعدة بحريَّة تضمن لها وجودًا عسكريًا دائمًا على
ساحل خليج عدن والبحر الأحمر، وهو ما قد يُنذر برفض إثيوبيا للعرض الجيبوتي.
رابعًا-
التداعيات المُحتملة لطموحات إثيوبيا البحريَّة على استقرار القرن الإفريقي
تطرح طموحات إثيوبيا البحريَّة وتحركاتها النشطة للنفاذ
إلى المياه المفتوحة، والتي أسفرت عن توقيع مذكرة تفاهم- في يناير 2024- مع
الحكومة الانفصاليَّة في إقليم «أرض الصومال»، سؤالاً جوهريًا حول عواقب طموح
إثيوبيا البحري وتداعياته على الاستقرار والأمن في منطقة القرن الإفريقي.
فالتحركات الإثيوبيَّة الطامحة إلى إيجاد منفذٍ بحري
دائم يمكن أن تخلق تحديًا سياسيًا في القرن الإفريقي، في ضوء التنافس التاريخي بين
إثيوبيا وبعض القوى الإقليميَّة الأخرى كمصر، إلى جانب وجود العديد من القوى
الفاعلة التي تمتلك استثمارات ضخمة في المنطقة، مثل الصين وتركيا، كمستثمرين
رئيسيين في مجال الموانئ البحريَّة والبُنى التحتيَّة، مما يُسهم في تعقيد المشهد
الإقليمي خلال الفترة المُقبلة في ضوء تضارب المصالح الإقليميَّة والدوليَّة.(27)
ويظهر ذلك جليًا من خلال التحركات المصريَّة في أعقاب الاتفاق بين إثيوبيا وحكومة
أرض الصومال، حيث أعلنت القاهرة، التي تربطها بأديس أبابا خلافات عميقة بسبب سد
النهضة الإثيوبي والتنافس الإقليمي بين البدين في جنوب البحر الأحمر، عن توقيع
بروتوكول للتعاون العسكري مع حكومة مقديشو في أغسطس 2024، تلى ذلك وصول مُعدات ومُساعدات
عسكريَّة مصريَّة إلى الصومال، الأمر الذي اعتبرته إثيوبيا تقويضًا للأمن وخطوةً
نحو زعزعة الاستقرار في القرن الإفريقي. وفي السياق ذاته أيضًا، أبرمت حكومة
الصومال اتفاقًا دفاعيًا مع تركيا مدته عشر سنوات، يتيح لأنقره حماية السواحل
البحريَّة للصومال.
ومن المُحتمل أن يفاقم الاتفاق الإثيوبي مع إقليم أرض الصومال
التوتر ويدفع إلى مزيدٍ من التصعيد في المنطقة، ففي حال مضت إثيوبيا في تنفيذ
الاتفاق، قد يؤدي ذلك إلى تقويض المُفاوضات الجارية بين حكومة الصومال الفيدراليَّة
و«إقليم أرض الصومال» والتي تستهدف إيجاد حل سلمي للقضايا الخلافيَّة بين
الجانبين، كما سيشكل اعتراف إثيوبيا بأرض الصومال فرصة أمام حكومات أقاليم الصومال
الأخرى للدخول في ترتيبات أو اتفاقيات مُماثلة، مما سيُعزز من خلافات الصومال
الداخلية(28) ويزيد من حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني فيها.
وفي سعيها لاحتواء الخلاف الإثيوبي الصومالي، قادت تركيا
جهود الوساطة بين البلدين وأعلنت في ديسمبر الجاري (2024) عن توقيع اتفاق تاريخي بين
الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود، ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، يرمي إلى خفض
التصعيد وتعزيز فرص المصالحة بين الجانبين، من خلال اعتراف مقديشو بحق أديس أبابا
بالوصول الآمن إلى البحر بما يضمن أمن واستقرار الصومال، وتعهد الجانبان ببدء
مباحثات فنيَّة، برعاية أنقرة الطامحة إلى تعزيز نفوذها في القرن الإفريقي، في
موعد أقصاه نهاية فبراير 2025 والتوصل إلى اتفاق نهائي خلال أربعة أشهر، ومع ذلك
فإنَّ نجاح تلك المفاوضات سيعتمد على سلوك إثيوبيا ومدى رغبتها في نزع فتيل الأزمة،
والأهم من ذلك تراجعها عن خطوة الاعتراف بالحكومة الانفصالية في أرض الصومال.
من ناحيةٍ أخرى، يُمكن أن تؤدي الطموحات البحريَّة
لإثيوبيا، سيَّما بعد توقيع مذكرة التفاهم مع أرض الصومال، إلى تعزيز الفوضى
الإقليميَّة وتقويض الجهود المُشتركة الرامية إلى مواجهة الجماعات المُتطرفة،
وبخاصة حركة شباب المُجاهدين التي تنشط في الصومال ودول القرن الإفريقي.(29)
وتشكل القوات الإثيوبيَّة، المتمركزة في الأجزاء الجنوبيَّة الغربيَّة من الصومال،
جزءًا مهمًا من بعثة الاتحاد الإفريقي الانتقالية في الصومال (أتميس ATMIS)، المكلفة
بمساعدة حكومة مقديشو الفيدراليَّة على هزيمة حركة الشباب المسلحة واستعادة
الاستقرار الداخلي، إلا أنَّ تفاقم الخلافات بين الدولتين، دفع حكومة الصومال إلى
مطالبة أديس أبابا بسحب قواتها التابعة لبعثة حفظ السلام الإفريقيَّة بنهاية العام
2024، وجاء ذلك في إطار قرار مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقي انتهاء ولاية
البعثة الحالية في الصومال واستبدالها ببعثة جديدة «بعثة الاتحاد الإفريقي لدعم
الاستقرار في الصومالAUSSOM » والتي ستبدأ مهامها بحلول أول يناير 2025،
ومن المقرر أن تضم قائمة الدول المشاركة في البعثة الجديدة، إلى جانب مصر، عددًا
من دول شرق إفريقيا والقرن الإفريقي، مع استبعاد القوات الإثيوبيَّة بصورة نهائية،
وفق ما أعلن عنه وزير الدفاع الصومالي.
خلاصة
وخاتمة
في أعقاب استقلال إريتريا عن إثيوبيا عام 1993، فقدت هذه
الأخيرة منفذها الوحيد للوصول إلى البحر، فتحوَّلت على إثر ذلك إلى دولةٍ حبيسةٍ
تفتقر أراضيها إلى أي واجهة بحريَّة، وما استتبع ذلك من تفكيك أسطولها البحري
وتراجع نفوذها ومكانتها الإقليميَّة. ولذلك، تُكثف أديس أبابا جهودها الرامية إلى
تجاوز مُعضلتها الجغرافيَّة التي تُناقض رؤيتها الاستراتيجيَّة، والبحث عن بدائل
جديدة تمكنها من إحياء طموحها التاريخي بالوصول إلى البحار المفتوحة، بما يُساعدها
على تطوير تجارتها الدوليَّة وتقليل اعتمادها على الموانئ الأجنبيَّة، سيَّما
ميناء جيبوتي، تحسبًا لأية تحولات مُستقبليَّة في مسار العلاقات بين البلدين،
والأهم من ذلك استعادة قوتها البحريَّة ومكانتها كقوة فاعلة ومؤثرة فيما يتعلق
بالترتيبات السياسيَّة والأمنيَّة في القرن الإفريقي والبحر الأحمر.
وتحقيقًا لهذه الدوافع شرعت حكومة آبي أحمد، إثر وصولها
إلى سُدة السُلطة عام 2018، إلى اعتماد مجموعة من الأدوات والخيارات
الاستراتيجيَّة والتي من شأنها تعزيز مساعي إثيوبيا لامتلاك منفذ بحري، وكان من
جملة هذه الأدوات توقيع عددٍ من الاتفاقيات الثنائيَّة مع دول الجوار الجغرافي
تضمن لأديس أبابا حِصصًا في بعض
الموانئ البحريَّة المُمتدة على طول الساحل الشرقي لإفريقيا، إلا أنَّ ذلك لا يبدو
كافيًا بالنسبة لإثيوبيا، فكان لابد من تطوير بدائل جديدة، كان أهمها توقيع مذكرة
تفاهم مع حكومة إقليم "أرض الصومال" الانفصالي في الأول من يناير 2024،
ولقد كشفت هذه التحركات الإثيوبيَّة عن أطماع أديس أبابا في دول الجوار، وأثارت
الكثير من الشكوك وعدم اليقين إزاء السياسة الخارجيَّة لإثيوبيا، مما ينذر بتداعيات
وعواقب وخيمة من شأنها أن تزيد من حالة الفوضى والاضطرابات السياسيَّة والأمنيَّة في
القرن الإفريقي الذي تطبعه الانقسامات
والخلافات الحادة، الداخليَّة والبينيَّة على حدٍ سواء، وبالتالي يُمكن القول إنَّ
مُحاولات إثيوبيا للتوسع على حساب دول الجوار يُمكن أن تُفضي إلى زعزعة الاستقرار
الإقليمي ورفع منسوب التوتر في علاقات إثيوبيا بجيرانها، ومن ثمّ خلق حافز جديد يُمكن
أن يجر المنطقة برمتها إلى آتون الفوضى ويشعل حالةً من الفوضى وعدم الاستقرار
الأمني.
المراجع:
[1] Country profile– Ethiopia, Food and
Agriculture Organization of the United Nations, Rome, 2016, P. 1-4.
[2] زينب عبد العال سيد، موقع إثيوبيا وأثره على سلوكها السياسي
تجاه دول الجوار: دراسة في الجغرافيا السياسيَّة، المجلة الجغرافيَّة العربيَّة،
العدد (169)، يناير 2022، ص6، 7.
[3] ساهيد أديجوموبي، تاريخ إثيوبيا،
ترجمة: مصطفى مجدي الجمال، القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2018، ص198.
[4] Mohamed Farah Hersi, Ethiopia's Quest for Access to the Red Sea and
the Gulf of Aden, The Academy for Peace and Development, December 2023, P. 12.
[5]Tesfaye B.
Takele, And Tassew D. Tolcha, Optimal transit corridors for Ethiopia,
Journal of Transport and Supply Chain Management, Vol (15), 2021, P. 2.
[6] حمدي عبد الرحمن، لماذا
تسعى إثيوبيا إلى إعادة بناء قوتها البحريَّة؟، مركز
المُستقبل للأبحاث والدراسات المُتقدمة، دراسة منشورة بتاريخ 31 أغسطس، 2023، على
الرابط:
https://futureuae.com/ar-AE/Home/Index/2
[7] رأفت محمود محمد، التحركات الإثيوبيَّة نحو البحر
الأحمر.. الدوافع والتداعيات، مركز فاروس للاستشارات والدراسات الاستراتيجيَّة،
دراسة منشورة بتاريخ 17 ديسمبر 2023، على الرابط: https://pharostudies.com
[8] الدور الإثيوبي في "أرض الصومال"
والبحر الأحمر.. التداعيات والمخاطر وخيارات مصر لمواجهته، مركز المسار للدراسات
الإنسانيَّة، دراسة منشورة بتاريخ 19 فبراير 2024، على الرابط:
https://almasarstudies.com/ethiopia-smaliland
[9] عبير مجدي، كيف يُهدد طموح إثيوبيا البحري
الاستقرار في القرن الإفريقي؟، مركز رع للدراسات الاستراتيجيَّة، دراسة منشورة
بتاريخ 3 نوفمبر 2023، على الرابط: https://rcssegypt.com/15603
[10] Ken Opalo, Ethiopia
needs a reliable seaport and a navy, Published on: Nov 03, 2023, Available
on: https://www.africanistperspective.com/p/ethiopia-needs-a-reliable-seaport
[11] عبير مجدي، مرجع سابق.
[12] رأفت محمود محمد، مرجع سابق.
[13] المرجع نفسه.
[14] نشوى عبد النبي، صراع الموانئ في القرن
الإفريقي: مآلات الاتفاق بين إثيوبيا وأرض الصومال على “ميناء بربرة”، مركز ايجبشن
انتربرايز للسياسات والدراسات الاستراتيجيَّة، دراسة منشورة بتاريخ 8 مارس 2024،
على الرابط:
https://egyptianenterprise.com/2024/03
[15] حمدي عبد الرحمن، مرجع سابق.
[16] لماذا تسعى إثيوبيا إلى
بناء قوة بحريَّة رغم أنها دولة غير مُطلة على البحر؟، مركز مقديشو للبحوث
والدراسات، دراسة منشورة بتاريخ 17 مارس 2019، على الرابط: https://mogadishucenter.com
[17] إيمان الشعراوي، تهديدات
آبي أحمد.. هل تدقّ إثيوبيا الحبيسة طبول الحرب في موانئ القرن الإفريقي؟، موقع
مجلة قراءات إفريقيَّة، دراسة منشورة بتاريخ 26 أكتوبر 2023، على الرابط: https://qiraatafrican.com/15003
[18] أروى
حنيش، الطموح الإثيوبي البحري يهدد استقرار القرن الإفريقي، موقع عرب جورنال،
دراسة منشورة بتاريخ 24 سبتمبر 2024، على الرابط: https://arab-j.net/25730.
[19] زينب عبد العال سيد، مرجع
سابق، ص50.
[20] أحمد عسكر، لماذا تسعى إثيوبيا لامتلاك منفذ
بحري؟، مركز الأهرام للدراسات السياسيَّة والاستراتيجيَّة، دراسة منشورة بتاريخ 31
مارس 2023، على الرابط: https://acpss.ahram.org.eg/News/18849.aspx
[21] Stanislav Sturdik, Ethiopia-Somaliland Memorandum
of Understanding: Impact on Regional Security, security outlines, Published
on 29.4.2024, Available on: https://www.securityoutlines
[22] Liam Karr, Salafi-Jihadi Movement Update
Special edition: Ethiopia-Somaliland for deal alters Horn of Africa
Counter-Terrorism and Red Sea Geopolitics, Institute for the Study of War,
Published on Jan 4, 2024, Available on: https://www.understandingwar.org
[23] أحمد عسكر، قراءة أوليَّة في اتفاق إثيوبيا وأرض الصومال، مركز الأهرام للدراسات السياسيَّة
والاستراتيجيَّة، دراسة منشورة بتاريخ 5 يناير 2024، على الرابط: https://acpss.ahram.org.eg/News/21088.aspx
[24]Salim Said Salim, Op. Cit, P. 2.
[25] جيبوتي تعتزم عرض وصول
حصري لإثيوبيا إلى ميناء جديد لخفض التوترات في المنطقة، الموقع الإلكتروني لصحيفة
الشرق الأوسط، منشور بتاريخ 31 أغسطس 2024، على الرابط: https://aawsat.com
[26] سعيد
ندا، عرض حصري: جيبوتي تدخل على خط الصراع الإثيوبي الصومالي، موقع مجلة قراءات
إفريقيَّة، منشور بتاريخ 5 سبتمبر 2024، على الرابط: https://qiraatafrican.com/22754
[27] أحمد عسكر، قراءة أوليَّة في اتفاق إثيوبيا
وأرض الصومال، مرجع سابق.
[28] قاعدة عسكريَّة إثيوبيَّة على ساحل أرض
الصومال تنذر بأزمة في القرن الإفريقي، إصدارات منصة أسباب، العدد (49)،
يناير 2024، ص6.
[29] محمد الأمين بن عودة، إثيوبيا الحبيسة والتداعيات الاستراتيجيَّة لمساعي الوصول إلى المياه المفتوحة، مجلة الدراسات الإيرانيَّة، العدد (19)، أبريل 2024، ص126- 127.