إشكاليات الدين العام والضرائب والانفاق في ظل جائحة كوفيد-19
جائحة كوفيد-19 لم ينتج عنها فقط معاناة إنسانية يُرثي
لها، لكنة أيضًا أحدثت تغير في الفلسفة الاقتصادية التي هيمنت على عملية صنع
السياسات لأكثر من ثلاثة عقود من الزمان؛ حيث أن تجربة "الركود التضخمي" في سبعينيات
القرن العشرين، والارتفاعات الحادة في الديون العامة في ثمانينيات القرن العشرين،
أدت إلى استهداف الحكومات الإبقاء على العجز والديون العامة عند مستويات معتدلة،
لذا قامت الحكومات بالتخلي عن الزيادة في الضرائب لتمويل الإنفاق العام. ولذا أصبح
مفهومي "الضرائب والإنفاق" و "الاقتراض من أجل الإنفاق"
كعقيدة مرفوضة. ويؤكد على ذلك معضلة الدين العام قد ألهمت خبراء الاقتصاد بخطابات
تتسم بنبرة واحدة تتماشى مع القانون الاقتصادي لهيربت شتاين مستشار الرئيس
الأميركي ريتشارد نيكسون حينما قال "إذا كان هناك شيء لا يمكن أن يستمر إلى
الأبد، فسوف يتوقف" عندما استخدم تلك العبارة الدقيقة في عام 1986 لتحذير
الكونجرس من أن الديون الفيدرالية لا يمكن أن ترتفع بلا حدود. ويبدو أن حكومات
العالم عازمة على وضع قانون شتاين تحت الاختبار.
وقبل انتشار الوباء، كان منظور الاقتراض من أجل
الإنفاق" يفقد قبضته بالفعل، حيث أصبح رأي الخبراء أكثر تسامحاً مع الديون
وأكثر اهتماماً بالضرر الذي أحدثته تخفيضات الإنفاق العام في أعقاب الأزمة المالية
العالمية في عام 2008. ومع التداعيات الاقتصادية الناجمة عن كوفيد-19، فإن الحقائق
المعروفة حول المسؤولية المالية سوف تصبح مستحيلة التمسك بها،
على سبيل الذكر فمنذ شهر مارس الماضي، تواجه الحكومات عجزاً هائلاً للحد من انهيار
النشاط الاقتصادي، وحماية الدخول، والحفاظ على مصالح أرباب العمل والموظفين،
ونتيجة لهذا فإن أعباء الديون العامة ترتفع في كل مكان إلى مستويات لم يسبق لها
مثيل في أي وقت مضى. ووفقاً لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنميةOECD فإن
العديد من حكومات البلدان الأعضاء لديها سترتفع قيمة الديون لديها بمقدار يتراوح
من (20%) إلى (30%) من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام والعام المقبل. وطبقاً
لصندوق النقد الدولي فإن الاقتراض الضخم إلى جانب الانكماش الاقتصادي، من شأنه أن
يدفع الدين الأميركي إلى الارتفاع بما يزيد عن (30%) ليصل إلى (140%) من الناتج
المحلي الإجمالي، وإن توقعات الديون الطويلة الأجل في العديد من البلدان مروعة
ويقول صندوق النقد الدولي إن الدين العام العالمي سوف يبلغ أعلى مستوياته في
التاريخ، وهو مستوى أعلى حتى من الذروة التي بلغها بعد الحرب العالمية الثانية.
وعلى صعيد تداعيات
كوفيد-19 على السياسات الاقتصادية، فأصبحت كل حكومة قادرة على تحمل أعباء الديون
المرتفعة، بدلاً من محاولة خفض الديون إلى مستويات معتدلة. وبدلاً من ذلك، يمكنهم
زيادة ضريبة الدولة بشكل دائم، والبدء في خفض الدين، وفي كل الأحوال، الجمع بين
السياسات في التعامل مع أعباء الديون والضريبة لم يعد خياراً مطولا، فقد تضطر
الدولة الى التعايش مع دين عام أعلى بشكل دائم وضرائب أعلى بشكل دائم، وسيكون هو
الخيار الأفضل إذا لم تتعافى الاقتصادات وتعود لمستويات النمو الاقتصادي ما قبل
اوباء، والذي يبدو شبه مؤكد إذا كانت هناك موجة أخرى من العدوى تفرض جولة جديدة من
عمليات الإغلاق على الصعيد الوطني، وإن النقص الدائم في
الإيرادات الحكومية سيعني رفع الضرائب ليس لخفض نسب الدين، ولكن ببساطة لمنعها من
النمو بشكل أكبر.
ونظراً لمدي التأثير
السلبي لوباء فيروس كورونا، وخطر الوقوع في مستويات البطالة الجماعية، لذلك من
الصحيح أن تُترك المخاوف بشأن الدين العام ليوم آخر؛ حيث إن حساب مستوى آمن من
الدين العام أمر صعب لأن استدامة الدين تعتمد على أسعار الفائدة وسرعة النمو
الاقتصادي فعلى سبيل الذكر، إذا كانت أسعار الفائدة (2%)، وكان النمو الاقتصادي
(3%) فإن كل ما يتعين على الحكومات فعلة هو الانتظار، وما دامت لا تقترض المزيد
فإن الدين سوف يتضاءل تدريجياً إلى ولكن إذا ارتفعت أسعار الفائدة إلى ما يتجاوز
النمو الاقتصادي فإن حتى الديون الصغيرة قد تخرج عن نطاق السيطرة.
ويعلن بعض الخبراء
الاقتصاديون عن أملهم أو خوفهم من أن تتمكن الحكومات من إقناع بنوكها المركزية
بتضخيم الدين العام، ولكن هل تكافح البنوك المركزية لدفع التضخم إلى أعلى حتى تُخفض
من قيمة الدين العام، فقد فشلت العديد من إجراءات السياسة النقدية المتساهلة في
اليابان في كثير من الأحيان في تضخيم الدين العام. ومن المثير للإعجاب أيضًا، أن حصيلة الضرائب في اليابان، التي كانت أقل بكثير من
متوسط الدول الغنية، ارتفعت بشكل ملحوظ. فوفقا لمنظمة التعاون
الاقتصادي والتنمية، استحوذت طوكيو على (25,8%) من الناتج المحلي الإجمالي في
الضرائب المحددة على نطاق واسع في عام 2000، ووصلت قبل الوباء الذي تقارب إلى (31.4%)
من الناتج المحلي الإجمالي، وإذا كانت اليابان بمثابة جرس إنذار المستقبل لجميع
الاقتصادات الغنية، فتوقع أن يبقى الدين العام مرتفعًا وأن ترتفع الضرائب.
من الصعب للغاية أن نتخيل تخفيضات كبيرة في الموازنات العامة اليوم؛ ويرجع هذا جزئياً إلى أن الأضرار الناجمة عن التخفيضات الماضية أصبحت واضحة الآن، وأن المزيد من التخفيضات أكثر صعوبة؛ حيث أن الوباء ذاته يركز على تسليط الضوء السياسي على الخدمات العامة غير الكافية والقطاع العام غير المدفوع الأجر. كما يتعين على الحكومات تعليق أي قدر من الاهتمام بالديون العامة حتى يعيد النشاط الاقتصادي عافيته لجعل أسعار الفائدة أعلى من الصفر، وبمجرد تحقيق ذلك فقد يكون من المنطقي محاولة خفض الدين العام بعض الشيء، ويقوم الكاتب من خلال هذا المقال بالرد على أولئك الذين يؤمنون بقانون شتاين أن الدين العام لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، فيجب اتخاذ خطوات لإيقافه فإذا أصبح الدين العام بالفعل غير مستدام، فلابد دائمًا من إشارات التحذير.