مفهوم رأس المال الاجتماعي من منظور روبرت بوتنام
يعتبر روبرت ديفيد بوتنام، أحد
علماء السياسة الأمريكيين، وهو أستاذ السياسة العامة في جناح بيتر وإيزابيل مالكين
في كلية جون ف. كينيدي للعلوم الحكومية بجامعة هارفارد. وطوّر بوتنام العديد من النظريات
والمفاهيم، منها نظرية اللعبة، ومفهوم رأس المال الاجتماعي، وبرغم أنه لم يكن
الأول في تقديمه لهذا المفهوم إلا أنه صاحب النصيب الأكبر في تطوير المفهوم
وتحليله، وقام بتطبيقه على الولايات المتحدة موضحا أن انهيار الحياة المدنية والاجتماعية
والترابطية منذ ستينيات القرن الماضي، إنما يعود سببه بالأساس لتراجع رأس المال
الاجتماعي، وهو ما عبر عنه في العديد من الكتابات.
أولاً- مأزق الفشل في التعاون الجماعي
بدأ روبرت بوتنام عرضه لمفهوم رأس
المال الاجتماعي باستعراض قصة قصيرة، تدور حول اثنين من المزارعين قررا التعاون
معا من أجل زيادة إنتاج المحصول لكل منهما ورفع جودته، ولكن يفشل هذا التعاون بسبب
فقدان الثقة بينهما فيقرر كل منهما العمل وحده مما يؤول في النهاية إلى خسارة كل
منهما لمحصوله.
ويستدل بهذه القصة كمدخل توضيحي، يؤكد فيه أن مأزق الفشل في التعاون الجماعي
هو مأزق مألوف ومستمر تعاني منه مختلف الأمم والمجتمعات، وضرب عدة أمثلة على ذلك
من أهمها:-
•
الآباء
في المجتمعات في كل مكان يريدون فرصًا تعليمية أفضل لأطفالهم، ولكن الجهود
التعاونية لتحسين المدارس ضعيفة.
•
يريد سكان الأحياء الفقيرة فى الولايات المتحدة الحصول على
شوارع أكثر أمانًا، ولكن عملهم الجماعى للسيطرة على الجريمة غالبا ما يفشل.
•
يحتاج
المزارعون الفقراء في العالم الثالث إلى أنظمة ري وخطط تسويقية أكثر فعالية، لكن
التعاون لتحقيق هذه الغايات هش.
•
الاحتباس
الحرارى العالمي يهدد سبل العيش، لكن العمل المشترك لمواجهة هذا الخطر المشترك
ضعيف.
وأكد هنا على أن الفشل فى التعاون من أجل تحقيق منفعة مشتركة لا يشير
بالضرورة إلى الجهل أو اللاعقلانية أو الحقد - كما أشار الفلاسفة منذ هوبز- فلم يكن المزارعين
في القصة السابقة أغبياء أو مختلين عقليا أو أشرار بل كانوا "عالقين"
في
فكرة عدم الثقة.
ثانياً-
مفهوم رأس المال الاجتماعي:-
للتغلب على معضلات العمل الجماعي
السابقة، اقترح علماء الاجتماع تشخيصًا لهذه المشكلة، وهو تشخيص يستند إلى
مفهوم "رأس المال الاجتماع"ي قياساً على مفاهيم رأس المال المادي ورأس
المال البشري.
ويشير مفهوم رأس المال الاجتماعي إلى "سمات التنظيم الاجتماعي، مثل الشبكات والأعراف والثقة، التي تؤدي إلي تسهيل
التنسيق والتعاون لتحقيق المنفعة المتبادلة". ويعزز رأس المال الاجتماعي فوائد الاستثمار في رأس المال المادي والبشري.
و هو مصطلح اجتماعي يدل على قيمة وفعالية العلاقات الاجتماعية ودور التعاون والثقة
في تحقيق الأهداف الاقتصادية. وبمفهوم عام، فإن الرأس مال الاجتماعي هو الركيزة الأساسية
للعلاقات الاجتماعية ويتكون من مجموع الفوائد التي يمكن تحقيقها من خلال التعاون ما
بين أفراد وجماعات مجتمع ما وتفاضلية التعامل معه.
ثالثاً-
الدروس المستفادة من التجربة الإيطالية
بداية من عام 1970، أنشأ الإيطاليون مجموعة من الحكومات الإقليمية، كانت
متطابقة تقريبًا من حيث الشكل، ومختلفة السياقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
أظهرت بعض هذه الحكومات الجديدة اخفاقا قويا، حيث كانت غير كفؤة وخاملة وفاسدة.
بينما حققت الحكومات الاخرى نجاحات ملحوظة، حيث قاموا بوضع العديد من البرامج
الاجتماعية الناجحة مثل برامج الرعاية النهارية المبتكرة ومراكز للتدريب على الوظائف،
وتشجيع الاستثمار والتنمية الاقتصادية، وجماعات الحفاظ على البيئة وعيادات للأسرة.
وكانت
أهم التفسيرات المطروحة لتبرير الاختلافات في جودة عمل هذه الحكومات، هو ما توقعه الكسيس
دي توكفيل، بأن التقاليد القوية
للمشاركة المدنية ( كإقبال الناخبين وقراء الصحف
والعضوية في الجمعيات الدينية والأوساط الأدبية والنوادي الاجتماعية والرياضية ) كانت من أهم السمات
المميزة للإقاليم الناجحة.
فكان من أبرز المناطق الناجحة في إيطاليا: منطقة إميليا وتوسكانا، وهي
المناطق التي ضمت العديد من المنظمات المجتمعية النشطة، وكان المواطنون في هذه المناطق
منشغلون بقضايا عامة وليس بموضوعات شخصية. ويتصرفون بمبدأ الثقة المتبادلة ،ومن ثم
يتصرفون بشكل عادل ويطيعون القانون. كما
كان القادة صادقون نسبياً وملتزمون بالمساواة. وكانت الشبكات الاجتماعية والسياسية
منظمة أفقياً، وليس هرمياً. مما عزز الروابط الاجتماعية التي ساهمت بشكل كبير في
نجاح هذه المناطق. فهذه "المجتمعات المدنية" قدرت مبدأ التضامن والمشاركة
المدنية والنزاهة. وحيثما توافرت تلك الظروف، نجد أن هناك نجاحا لمبدأ الديمقراطية.
في حين أن المناطق الأخرى مثل كالابريا وصقلية، والتي يمكن وصف سلوكها بــ
"السلوك العدائي"، مجتمعات غير مدنية، فنجد أن مفهوم المواطنة لم يكن
مكتملا في تلك المناطق، كما كانت المشاركة في الجمعيات الاجتماعية والثقافية ضئيلة،
و من وجهة نظر سكان هذه المناطق، الشؤون العامة لا تعنيهم في شيء وأنها مسؤولية الآخرين
من القادة. وبسبب ضعف الروابط الاجتماعية كانت العلاقة بين القادة والجماهير ضعيفة
وغير مسوؤولة. بالتالي كانت الحكومات التمثيلية هنا أقل فعالية مقارنة بالمجتمعات المدنية.
وهنا قدم بوتنام تفسيرا جيدا لإمكانية
عنصر رأس المال الاجتماعي أن يدعم قيام حكومة جيدة وتقدم اقتصادي:
أولاً، تعمل
شبكات المشاركة المدنية على دعم قواعد قوية من المعاملة بالمثل. بشكل عام: سأفعل هذا
من أجلك الآن، مع توقع أنك ستقوم بمساعدة شخص أخر أو أن تقوم بالمثل لي عند الحاجة،
إعمالا لمبدأ (رد الجميل)، أو ما سمي بـ "بنك الإحسان".
ثانياً، تعمل
شبكات المشاركة المدنية على تسهيل التنسيق والتواصل وتضخيم المعلومات بين الأفراد،
مما يقلل من دوافع الانتهازية وسوء التصرف.
رابعاً-
خصائص رأس المال الاجتماعي
1-
مخزون رأس المال الاجتماعي ذاتي التعزيز والتراكم. مما يعني أن التعاون الناجح
في أحد المساعي يبني العلاقات والثقة الأصول الاجتماعية التي تسهل التعاون في المستقبل
في مهام أخرى
2-
كما هو الحال مع رأس المال التقليدي، يميل أولئك الذين لديهم رأس مال اجتماعي
إلى جمع المزيد بشكل أكبر .
3-
ألبرت هيرشمان أطلق على رأس المال الاجتماعي «موردًا أخلاقيًا»: مورد يزداد كلما زاد المعروض
منه بدلا من أن ينخفضمن خلال استخدامه وأيضًا (على عكس رأس المال المادي) يصبح مستنفدًا
إذا لم يستخدم.
4-
على عكس رأس المال التقليدي ، فإن رأس المال الاجتماعي هو «منفعة عامة»: أي أنه
ليس ملكية خاصة لأولئك الذين يستفيدون منه.
5-
يتكون رأس المال الاجتماعي عادة من روابط وأعراف وثقة قابلة للتحويل من بيئة
اجتماعية إلى أخرى.
خامساً-
رأس المال الاجتماعي والتنمية الاقتصادية
أكد بوتنام أن رأس المال الاجتماعي من أهم العوامل
الرئيسية الفاعلة لتحقيق التنمية الاقتصادية، فقد أكدت الدراسات التى تم إجراءها
على الاقتصاديات سريعة النمو في شرق آسيا دائمًا على أهمية الشبكات الاجتماعية
الكثيفة، كما قدمت مفهوما جديدا في
هذا المجال، أطلق عليه «رأسمالية
الشبكات»Network Capitalism: وهو علامة تجارية جديدة تقوم على
العائلات المتشعبة أو المجتمعات العرقية شديدة الترابط والتي تعمل على تعزيز الثقة
والتعاون وتخفيض المعاملات
المالية وسرعة نقل المعلومات
والابتكار.
كما أشار إلى إمكانية تحويل رأس المال
الاجتماعي إلى رأس مال مالي، كما حدث
بالفعل في تجربة النمو
الاقتصادي في الصين خلال العقود الأخيرة، فقد كان كان
الاعتماد على الشبكات الاجتماعية /النفوذ (العلاقات الشخصية) لدعم العقود وتوجيه
المدخرات والاستثمار، أكبر مقارنة بالاعتماد على المؤسسات
الرسمية.
وفي نماذج أخرى غير آسيوية،
كان التأكيد على عنصر رأس المال الاجتماعي حاضراً، فجاء ذكره على سبيل المثال في اقتراحات
الرئيس الامريكي بيل كلينتون بشأن خطط التنمية الاقتصادية، والتدريب علي الوظائف ووكالات
الإرشاد الصناعي، فألقى الضوء على مفهوم رأس المال الاجتماعي قائلا: "لا ينبغي
الاعتماد الكلي على الخبرات التقنية ومهارات العمل فقط ، وإنما لابد من إنشاء روابط
جديدة مثمرة بين مختلف أجزاء المجتمع والمدارس وأصحاب العمل والعمال، دون إنشاء نظم
بيروقراطية جديدة مكلفة".
سادساً-
رأس المال الاجتماعي والاضطرابات الأمريكية
أوضح بوتنام في كتاباته عدة
مشكلات يعاني منها المجتمع الأمريكي، وحاول تقديم الحلول من خلال منظور رأس المال
الاجتماعي، وكانت أهم هذه المشكلات:
1- العزلة الاجتماعية والاقتصادية التي يعاني منها السود واللاتينيون في
الأحياء الفقيرة.
فأوضح أن المشكلات الرئيسية
التي تعاني منها هذه الأقليات، كالفقر والبطالة ونقص التعليم وسوء الحالة الصحية، تعود أهم أسبابها إلى أنهم
يفتقرون إلى "الروابط" بالمعنى الحرفي. فلا يتاح للباحثين عن عمل في الأحياء
الفقيرة مثلا إلا فرص ضئيلة للوصول إلى شبكات الوظيفية التقليدية.
كما ذكر عالما اقتصاديات العمل
آن كايس ولورنس كاتز أنه -بغض النظر عن العرق- فإنه من المرجح أن ينجح شباب المناطق
الفقيرة المضطهدين الذين يعيشون في أحياء تنعم بمستويات عالية من المشاركة المدنية
في استكمال تعليمهم والحصول على وظيفة وتجنب المخدرات والحد من الجريمة، بصور أكبر
من قرنائهم في الاحياء التي تضعف فيها المشاركة المدنية، فـ “رأس المال الاجتماعي يساعد
في تحديد هويتك ومن ثم تحديد مصيرك".
2- قضية التعليم
نجاح العملية التعليمية في المدارس
-وفقًا لجيمس كولمان- لا يُعزى بالأساس لما يحدث في الفصول الدراسية ولا إلى مواهب
الطلاب الفردية، بل يحتاج إلى تطوير المشاركة المجتمعية في العملية التعليمية، من
خلال زيادة مشاركة أولياء الأمور وأعضاء المجتمع في أنشطة المدارس.
3- تراجع الثقة المجتمعية
أكدت المسوح الوطنية لعدة عقود
على تراجع وانخفاض الثقة الاجتماعية في الولايات المتحدة على مدار أكثر من ربع قرن.
ويعود السبب الرئيسي في ذلك إلى تآكل طويل الأجل لرأس المال الاجتماعي ومشاركة المجتمع،
فيشير الخبير الاقتصادي جولييت شور إلى أن هذا الجيل أقل انخراطًا مع الآخر وبالتالي
فهو أقل استعدادًا للتعاون من أجل تحقيق الأهداف المشتركة.
ومن أهم أمثلة ذلك تزايد المقاعد
الفارغة فى الجمعيات الاجتماعية كالنوادي والجمعيات مقاعد الكنيسة، عما كانت عليه
في الفترات السابقة.
4-
مشكلة الأحزاب السياسية
أشار بوتنام هنا إلى ضعف
الأحزاب السياسية مؤخرا، والتي كانت فيما سبق مرتبطة إلى حد كبير بالشرايين المغذية
للحياة المجتمعية، فشبه الأحزاب السياسية بأنها أصبحت كالحلويات الزائفة من مستطلعي
الرأي والمستشارين الإعلاميين ورجال الأعمال السياسيين المستقلين. وتغير مفهوم الديمقراطية
فلم تعد السياسة العامة نتيجة مناقشات جماعية حول المصلحة العامة، وإنما هي بقايا إستراتيجية
الحملة. وبالتالي: يعتبر نهج رأس المال الاجتماعي، الذي يركز على الآثار غير المباشرة
للأعراف والشبكات المدنية، أمرا تصحيحيًا ضروريًا للغاية لحل هذه المشكلة.
سابعاً-
بعض الآثار السلبية لرأس المال الاجتماعي
على غرار رأس المال البشري والمادي،
يمكن استخدام رأس المال الاجتماعي في أغراض سيئة. ومن أهمها ترسيخ عدم المساواة الاجتماعية
كجزء من رأس المال الاجتماعي، فمن الممكن أن تعيق الأعراف والشبكات التي تخدم بعض المجموعات
مجموعات أخرى، إذا كانت هذه الأعراف عنصرية تمييزية بين طبقات المجتمع. وهو ما يجب
مكافحته من خلال توحيد الروابط والتأكيد على نبذ العنصرية والتفرقة بين أفراد
المجتمع.
وأكد بوتنام في الختام، أن إدراك
أهمية رأس المال الاجتماعي في الحفاظ على الحياة المجتمعية يتطلب جهدا لكيفية تعريف
هذا المجتمع، وتحديد من هو في داخل تعريف المجتمع، وبالتالي يستفيد من رأس المال الاجتماعي،
ومن هو في الخارج ومن ثم لا يستفيد.
ï الرؤية النقدية للباحثة:
أخيراً، يمكن القول بأن
بوتنام قدم إطاراً نظرياً جيدا لمفهوم رأس المال الاجتماعي، وربط المفهوم بعدة
قضايا في المجتمع، وطرحه كوصفة علاجية للعديد من المشكلات المجتمعية، إلا أن أهم أوجه
نقدي الشخصي للمقالة تمثلت فيما يلي:-
1-
رؤية الكاتب تميل للمثالية بشكل كبير، وتنحي عوامل مهمة من التحليل، فالسلوك
البشري والاجتماعي من الصعب تبسيطه بهذا الشكل.
2-
افتراض الديمومة في رأس المال الاجتماعي، فالواقع يثبت في العديد من الحالات
أن رأس المال الاجتماعي قابل للتآكل والانحسار، وليس دائم التجدد والاستمرار.
3-
غياب الحديث عن عناصر تعزيز رأس المال الاجتماعي، أو على النقيض عناصر تآكله
وكيفية مقاومتها.
4-
تجاهل عنصر "الدولة" في التحليل، برغم أنه من أهم عناصر التحليل
اللازمة، فسلوك الدول والحكومات يعد المحدد الرئيسي لمدى إمكانية خلق قنوات
التواصل والمشاركة المدنية والاجتماعية بين الأفراد، وهو ما يغيب بالطبع في النظم
التسلطية.
المراجـــــع:
Robert D. Putnam. “The Prosperous Community: Social Capital and Public Life”. The
American Prospect (13), 1993. PP 35-42.
Robert D. Putnam, Better
Together: Restoring the American Community, Simon Schuster, 2003.