ضبابية المشهد أم نأي بالنفس...موقف الاتحاد الأوروبي من أزمة كورونا؟
منذ أن نشأ الاتحاد الأوروبي وبداية فكرته في خمسينيات القرن
الماضي كاتحاد للفحم والصلب مرورًا بالمراحل التاريخية التى مر بها ذلك الكيان وصولًا
إلي شكله الحالي والجميع يعلم المبادئ التى قام من أجلها هذا الاتحاد والتى تبني
علي أساس اعتماد مبدأ حرية الحركة للافراد والبضائع بكافة جوانب تلك الوحدة
السياسية والاقتصادية بل حتى الاجتماعية والثقافية منها، وظل الاتحاد الأوروبي على
مدار السنوات الماضية يعتبر مثالا يحتذي به للتضامن في شكل بنيان سياسي واقتصادي
وعسكري واحد.
ولكن مع دخول عام 2016 والحديث عن الاستفتاء البريطاني حول
الخروج من الاتحاد الأوروبي وبدأت تلوح في الأفق خطورة تلك الخطوة على مستقبل ذلك
الكيان الواحد، وتطور الأمر بظهور التناقضات المكونة لذلك الكيان في إطار المكونات
الاجتماعية للمجتمع الأوروبي نفسه فرأينا الحديث عن الاستقلال الاسكتلندي عن
بريطانيا العظمي، وقبل ذلك التعامل الأوروبي مع أزمة الهجرة غير الشرعية التي
اختلفت سياقاته السياسية وفقا لمصالح دوله ومدى قدرة كل دولة في اختطاف القرار
السياسي لصالحها.
ومع ظهور فيروس كورونا في الصين وتطور ذلك الفيروس وإنتشاره
بشكل كبير في إيطاليا كبداية لإنتقال هذا الفيروس إلى القارة الأوروبية، كشف ذلك عن أزمة جوهرية تمثلت في غياب التنسيق الأوروبي الواضح داخل كيان الاتحاد
في التعامل مع القضايا ذات الاهتمام المشترك.
قرارات أحادية
على الرغم من المزايا
المعروفة لدول الاتحاد الأوروبي كإلغاء التعريفات الجمركية بشتى صورها بين
دول الاتحاد وغياب الحمائية وغيرها، إلا أن فيروس الكورونا كشف عن هشاشة هذا
الكيان من الناحية السياسية والإقتصادية وأن مبدأ البحث عن المصلحة الوطنية لكل
دولة داخل الاتحاد هو المبدأ السائد وأن الشعارات السياسية والمبادئ الاقتصادية
تصلح في أوقات السلام لا أوقات الأزمات.
ومنذ أن اجتاح الفيروس القارة الأوروبية وبدأ الحديث بين قادة
الاتحاد في بروكسل حول ضرورة التنسيق الأوروبي الشامل لموجهة تلك الأزمة، ولكن على
الرغم من تلك الدعوات إلا أن الاحتضان الأوروبي لإيطاليا التي تعتبر ثالث أقوى
كتلة إقتصادية في الاتحاد كشف عن طريقة إدارة الدول الأوروبية للازمة على أساس
التجزأة والنأي بالنفس وعدم العمل ككيان واحد(1)، فقد أقدمت ألمانيا وفرنسا
على حظر المبيعات الخارجية لأقنعة الوجه، وتحديدًا تجاه إيطاليا التى انتشر فيها
الفيروس بشكل كبير ، أيضا اتخذت نفس هذا الموقف مع كلًا من النمسا وسويسرا عبر اصدارها قرار بإلغاء شحنات إرسال أقنعة
الوجه إليهم.
هذا على الرغم من أن فكرة الاعتماد
المتبادل هو أحد أركان العولمة الاقتصادية التي من المفترض أن الاتحاد الأوروبي
قائم على ذلك المبدأ، عبر ترابط شبكات إنتاج دوله معا
مما يجعل هناك صعوبة في فكرة التخصص والانعزالية في انتاج سلعة معينة وهو ما جعل
الدول أكثر اعتمادًا على بعضها البعض لأنه لا يمكن لأي دولة أن تسيطر على جميع
السلع والمكونات التي تحتاجها(2)، إلا أن المنحى الذي تتخذه الدول الأوروبية
في التعامل مع إيطاليا والنمسا وصربيا وسويسرا يتناقض مع تلك الفكرة.
فحديث
رئيسة المفوضية الأوروبية" أورسولا فون دير لاين" تؤكد على تحذريها من اتخاذ الدول
الأوروبية لتلك الانعزالية وعلى تأخر دول الاتحاد في اتخاذ قرارات سريعة لمواجهة
التحديات التى واجهة أزمة تفشي هذا الفيروس فكل دولة اتخذت اجراءات خاصة بها تخدم
مصالحها(3)، وهذا يعني المساس
بالاتفاقيات الأوروبية مثل إتفاقية الشنجن، وفيما يتعلق بالقرارات التى اتخذت بأنقاذ
الشركات الصغيرة من تبيعات الأزمة، رأينا كل دولة تتخذ مواقف خاصة لحماية اقتصادها
مما يؤكد أن التدابير الأوروبية القائمة في كيان الاتحاد الأوروبي لم تعد ذات جدوي
بين دول اعضائه.
مبدأ الحماية المشترك
يعتبر مبدأ الحماية المشترك أحد المبادئ الهامة التى توجد في
الميثاق المؤسس للاتحاد الأوروبي وتقوم فكرته على أساس التنسيق والاستجابة السريعة
لحالات الطوارئ التي تحدث نتيجة للكوارث الطبيعية أو الصناعية في أي بلد داخل كيان
الاتحاد، فعندما لا تتمكن دولة عضو في الاتحاد من التعامل مع الأزمة بمفردها
يمكنها طلب التعاون من الاتحاد(4)
ولكن بالنظر إلى موقف الدول الأوروبية من هذا المبدأ وتطبيقه
فعليا على أرض الواقع مع أزمة كورونا نجد أنها قد تخلت عن تقديم الدعم المباشر
لإيطاليا فحديث رئيس الوزراء الإيطالي " جوزيبي كونتي" حول موقف الاتحاد
الاقتصادي من
بلاده يبرهن على اتخاذ دول الاتحاد لمنحني واضح وصريح يبنى على أساس النأي
بالنفس وتغليب المصلحة، حيث قال"لقد طلبنا المساعدة من الأوروبيين، لكن
الجواب لم يكن فقط غلق الحدود، بل الترويج لأن المشكلة إيطالية، وعليه فإن الحل
يتوجب أن يكون إيطالياً أيضاً"(5) .
فعلى الرغم من أقدام المفوضية الأوروبية على تخصيص مبلغ 25
مليار دولار من ميزانية الاتحاد لدعم سبل مواجهة كورونا إلا أن توزيع هذه الأموال
لم يأتي بالتوازي مع حجم الضرر فقد حصلت دول كإسبانيا على 1.16 مليار دولار
وبولندا على 1.12 مليار دولار والمجر على 855 مليون دولار ولم تحصل إيطاليا إلا
على 853 مليون دولار بالرغم من أنها
الدولة الأولى بالرعاية من قبل الاتحاد.
ومما زاد من حدة الأمر أقدام الصين وروسيا على إرسال المعدات والمساعدات الطبية إلى
إيطاليا(6)،
فقد أرسلت الصين 1000 جهاز تنفس صناعي ومليوني قناع و20000 بدلة وقائية وامدادات
طبية إلى صربيا، مما دفع رئيسها إلى تقديم الشكر للصين على هذه المساعدات .
ومما يبرهن على تعطيل العمل بهذا المبدأ في الوقت الحالي أن العديد
من الدول اتخذت قرارات خاصة بدولها مثل
حظر الصادرات ، مما يعطل بشكل خطير سلسلة الإمداد بين دول الاتحاد، ولذلك أصرت المفوضية على ضرورة اتخاذ
دول الاتحاد منحي بعيد عن تلك الاحادية في القرارات وحثت على ضرورة التخلي عن مبدأ
اعتماد تنفيذ مثل هذه التدابير الوطنية وطلبت أن تتعاون من أجل تنفيذ نهج فعال على
مستوى الاتحاد يقوم على أساس التضامن بين
الدول الأعضاء(7) .
ضبابية المشهد
بات من الواضح أن الاتحاد الأوروبي يعاني من هشاشة إدارية وتخبط
في القرار السياسي الخاص بالاتحاد أجمع، فمع
تفشي الفيروس في الدول الأوروبية المؤثرة اقتصاديًا في الاتحاد بات علي ما يعرف بـ
" صندوق منطقة اليورو" أن يتقدم لاقراض الدول المتضررة ولكن نظير ذلك من
المتوقع أن تخضع الدول التي ستحصل على القروض من ذلك الصندوق لشرط تحقيق فائض
اقتصادي في ميزانياتها مستقبلًا(8) وهو الأمر الذي لا يمكن التأكيد
على حدوثة خاصة مع التوقعات الاقتصادية التى تنذر بفترة ركود اقتصادي كأحد نتائج
هذا الفيروس، فعدم تقييم المخاطر في قرار
دول الاتحاد عبرت عنه رئيسة المفوضية الأوروبية بقولها إن دول الاتحاد الأوروبي
ارتكبت خطأ في تقييمها لخطورة فيروس كورونا" ، فغالبية الدول الأوروبية كانت
تتوقع أن الفيروس لن يمتد ويصبح وباء عالمي وسينحصر في منطقة انتشاره بالصين
ولذلك اقترحت المفوضية أن يتم تفعيل مركز أوروبي متخصص لإدارة
الازمات مستقبلًا ، خاصة أن قادة ودبلوماسي الاتحاد الأوروبي لا يعرفون إلى الأن
النتائج الاقتصادية والصحية لهذا الفيروس على المجتمعات الأوروبية والدليل على ذلك
ما صرح به أحد دبلوماسي هولندا في الاتحاد الأوروبي أنه من السابق لاوانه الحديث
عن استخدام الاموال المخزنة في الاتحاد لدعم الدول المتضررة ، هذا على الرغم من أن
دول بلجيكا وفرنسا واليونان وإيطاليا وأيرلندا والبرتغال وإسبانيا وسلوفينيا تدعم
فكرة أصدار سندات الكورونا(9)،
هذا أن يشير إلى أنه إلى الأن لا يوجد قرار إداري موحد من داخل أروقة الاتحاد.
وختامًا، يمكن القول إن الأثار المترتبة على هذا الفيروس لن تظهر
مباشرة على دول الاتحاد الأوروبي ومستقبله ولن يحدث تغير اجتماعي وسياسي سريع، ولكن
التأثير الحقيقي سيكون حول كيفية إدراك الاتحاد لمثل هذه الازمات مستقبلًا وأن
يكون التعامل مع أي أزمة قائم على أساس من التعاون لا الانعزالية في القرار
السياسي خاصة أن الأتجاه الذي استندت علية أكبر دول الاتحاد الأوروبي إلى الأن
قائم على أساس الانعزالية في القرار مما يؤثر على كيانه خاصة أن هذا الوباء عالمي
لا يهدد فقط مجتمع بعينه بل هو ظاهرة عالمية له تداعيات سياسية واقتصادية
واجتماعية على مستقبل المجتمعات والشعوب.
وفي ذات السياق، هناك مخاوف من ان تستفيد التيارات الشعبوية من
تبيعات هذه الأزمة التى تعارض سياسات الاتحاد الأوروبي، فما أدل على تلك
الاستفادة من تصريح وزير الداخلية الايطالي السابق "ماثيو سالفيني" الذي قال "عندما
تنتصر إيطاليا على الوباء سنغلق حدودنا، لا سيما في وجه الدول التي أغلقت حدودها
في وجهنا، وشركاتها التي لم يكن لها سوى هم واحد… القفز على السوق الإيطالية لتحل
محل الشركات الإيطالية"(10).
ولذلك فأن الحل هو وضع حلول سريعة لتبيعات هذه الأزمة لتعزيز التضامن عبر عدد من السياسات الجديدة منها إيجاد سياسات صحية أوروبية مشتركة وهذا يؤثر بشكل كبير على مستقبل الاتحاد إلى جانب القضايا ذات الاهتمام المشترك .
المراجع
1.
SARAH WHEATON, How
coronavirus will test the European Union, Politico, at: https://politi.co/39levGr
2.
Abraham Newman, Henry Farrell, Will the
Coronavirus End Globalization as We Know It?, Foreign Affairs, at:
https://fam.ag/39qeaC5
3.
3.The EU Is
Abandoning Italy in Its Hour of Need, Foreign Policy, at: https://bit.ly/2UkDh5h
4.
.إميل أمين، أي اتحاد اوروبي بعد
"كورونا"، صحيفة الشرق الاوسط،عدد (15093)، 25 مارس 2020
5.فون دير لاين تنتقد
"أنانية" بعض الدول الأوروبية وتدعو للتضامن خلال محنة كورونا، ايرو
نيوز، متاح على الرابط التالي: https://bit.ly/3dBV1AP
6. Andreas
Kluth, Can
the European Union Survive the Coronavirus?, Bloomberg, at: https://bloom.bg/2UBe5Xa
7. European Coordinated Response on
Coronavirus: Questions and Answers, European Commission, at: https://bit.ly/2wrxuBP
8. Europe unable to reach deal on new
coronavirus aid as long-held tensions resurface, CNBC, at: https://cnb.cx/2WJwdR5
9. ESZTER ZALAN,EU
leaders at odds on virus-hit economy, EU observer ,at: https://bit.ly/2QOJMuW
10. إميل أمين،مرجع سابق.