إعادة التموضع .. فرص موسكو لتعظيم الدور في القمة الروسية الأفريقية "سوتشى 2019"
لطالما تخطت رؤية الرئيس الروسي فلاديمير
بوتين في المنطقة حدود سوريا التى استرعى مساراتها السياسية الكثير من انتباه
العالم. فمنذ أن تولى بوتين زمام السلطة، وضع ضمن أولوياته استعادة صورة روسيا كقوة
عظمى ومنافس قطبى فى هيكل النسق الدولى. وترتب عن هذا الهدف، من جملة أمور أخرى، فى
مقدمتها العودة إلى المناطق التي اعتادت أن تكون فيها موسكو فاعل رئيسى، خاصة
منطقة الشرق الأوسط وقارة أفريقيا التى أحتلتا أعلى القائمة على جدول أعمال السياسة
الخارجية الروسية. وهو ما إنعكس على إستضافتها للقمة الأولى "الروسية –
الأفريقية" خلال يومي23 – 24 أكتوبر 2019، برئاسة مشتركة بين الرئيس المصرى عبدالفتاح
السيسي الذي يتولى رئاسة الاتحاد الإفريقي والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وبحضور عدد
من قادة الدول الإفريقية وكبرى المنظمات الإفريقية، ومشاركة أكثر من 40 زعيم دولة أفريقية،
ومشاركة أكثر من 300 رجل أعمال من روسيا وإفريقيا وفي المنتدى الاقتصادي، ليؤسس
بذلك إلى عدد من الرسائل المتنوعة حول دوافع ومحددات ذلك الإنفتاح الروسى على
القارة الأفريقية.
إعادة
التموضع
فى
إطار إعادة ترسيم روسيا لاستراتيجيتها الدولية، فقد إحتلت إفريقيا المرتبة التاسعة
بين قائمة المناطق العشرة الأكثر أهمية بالنسبة للمصالح الروسِية وفقا لوثيقة السياسة
الخارجية التي صدرت في عام 2008م التي وقعها الرئيس السابق ديمتري ميدفيديف. في حين
أن وثيقة السياسة الخارجية للاتحاد الروسي التي وقعها الرئيس بوتين في 2015/2016م قد
نصت على أن روسيا ستتوسع في علاقاتها مع دول قارة إفريقيا في مختلف المجالات؛ سواء
على المستوى الثنائي، أو المتعدد؛ وذلك من خلال تحسين الحوار المتبادل، وتكثيف التعاون
الشامل؛ السياسي، والتجاري والاقتصادي، والعسكري الأمنى والفني، وغيرها العديد من
المجالات الإنسانية والمهنية المختلفة، بما يخدم المصالح المشتركة، فضلا عن المساهمة
في تسوية الصراعات والأزمات الإقليمية، كما أن تعزيز علاقات الشراكة مع الاتحاد الإفريقي
- الذى ترأسة مصر فى دورتة الحالية - هو بمثابة عنصر مهم في السياسة الروسِية إزاء
إفريقيا، إنطلاقا من عدد من الدوافع والأهداف، فى مقدمتها:
-
المشاركة في
احتواء خطر الجماعات والحركات الإرهابية فى أفريقيا مثل: "حركة بوكو حرام فى
نيجيريا، جيش الرب فى أوغندا، وغيرها.."، بما لا يهدد مصالحها في المنطقة،
وبما يصعب من انتقال العناصر الجهادية إلى قلب الدولة الروسية، أو مناطق الجوار
والنفوذ الخاصة بها.
-
استعادة
النفوذ الروسي في المنطقة، وإيجاد موطئ قدم لها في منطقة البحر الأحمر، في ظل
اشتداد التنافس الدولي والإقليمي على القارة وموانئها وممراتها البحرية.
-
الرغبة
الروسية في مزاحمة القوى الدولية لا سيما الولايات المتحدة على النفوذ في القارة
الأفريقية وخاصة فى منطقة القرن الإفريقي. فضلا عن كسر عزلتها الدولية
والدبلوماسية بإعادة ترسيم هيكل النسق الدولى نحو الثنائية والتعددية القطبية
-
المساهمة في
تأمين الملاحة البحرية في البحر الأحمر، والمشاركة في حماية مضيق باب المندب عبر
الإرتباط مع منطقة القرن الأفريقي، فضلاً عن محاذاة الأزمات الإقليمية في منطقة
الشرق الأوسط.
-
تعزيز
التعاون السياسي، والتفاعل مع دول أفريقيا، لضمان دعم روسيا بالقضايا والملفات ذات
الإهتمام، والتطابق في المواقف في المحافل الدولية التى تمتلك بها أفريقيا كتلة
تصويتية تفوق الـ50 صوت.
-
تنمية
العلاقات التجارية والاقتصادية، وتعزيز التجارة الثنائية والمتعددة مع دول قارة
أفريقيا في مختلف القطاعات.
-
فتح سوق
جديدة في أفريقيا لتصدير المنتجات والخدمات والتقنيات الروسِية مثل بناء محطات
الطاقة النووية، وبناء البنية التحتية، وتكرير النفط وخطوط أنابيب البترول، وإطلاق
الأقمار الصناعية.
-
الإستفادة
الروسية من العديد من الموارد الطبيعية، مثل النفط والغاز الطبيعي، والأراضي
الزراعية، والثروة الحيوانية، وكثير من المعادن واليورانيوم.
-
إستغلال استمرار
الصراعات والنزاعات الإقليمية في القارة بفتح أسواق جديدة لبيع السلاح الروسي، بما
يمنحها النفوذ فضلا عن المكاسب الاقتصادية، خاصة أن العقوبات الغربية تمثل عبئا
ثقيلا على اقتصادها.
رسائل
سوتشى
تحظى القمة "الروسية -
الأفريقية" بميزة نوعية تتخطى كونها الأولى من نوعها فى التاريخ الحديث للعلاقات
الروسية الأفريقية، لتُعيد صياغة عدد من الإستراتيجيات النوعية يمكن تلخيصهم فى
رسالتين شكلت كلاهما المضمون العام لقمة "سوتشى"، وذلك من خلال:
-
رسالة
روسية: شكلت القمة الروسية
الأفريقية رسالة هامة للمجتمع الدولى مفاداها إستعادة الكرملين النفوذ الذي تلاشى منذ
عام 1991 عقب انهيار الاتحاد السوفييتي الذي كان يدعم الحكومات والحركات اليسارية في
أنحاء القارة خلال فترة الحرب الباردة والإنفتاح المشترك على مختلف السياسات
والإيدولوجيات بأفريقيا، ومحاصرة منتديات التعاون الصيني-الإفريقي التي أتاحت لبكين
التحول إلى الشريك الأول للقارة الإفريقية وذلك من خلال حزمة من المشاريع
الاقتصادية والاستثمارية ذات الطابع الثنائى والمتعدد.
-
رسالة أفريقية: تمثلت رسالة القمة "الروسية الأفريقية" فى أن
أفريقيا قد أصبحت فاعلاً ذو ثقل فى العلاقات الدولية وفقا لأحدث نماذج التعاون
الدولى والمتمثلة فى المعادلة "55 + 1"، حيث أن هذه المعادلة أصبحت طابعا
للعديد من الدول الإقليمية والدولية الكبرى فى إطار ما يمكن أن يُطلق عليه بالشراكات
الدولية الكبرى، حيث كان أقدم التطبيقات لهذا النموذج هو القمة الفرنسية – الأفريقية
التي تنعقد بانتظام منذ أن افتتح الرئيس الفرنسي "جورج بومبيدو" أول قمة
منها في باريس في شهر نوفمبر عام 1973، ثم منتدى التعاون الصيني – الأفريقي (فوكاك)
الذي أنشئ عام 2000، والقمة الأفريقية - اليابانية "تيكاد"، والقمة الهندية
– الأفريقية التي عقدت أول قمة في نيودلهي عام 2008، والقمة الألمانية – الأفريقية،
والقمة التركية – الأفريقية "تيكا"، والقمة الإيرانية – الأفريقية، وغيرها.
ومن ثم فأصبح لدى قارة أفريقيا 10 شراكات أفريقية مع قوى إقليمية وقوى دولية كبرى مع
الولايات المتحدة الأمريكية ومع الاتحاد الأوروبى ومع اليابان ومع الصين والهند وكوريا
الجنوبية والبرازيل واستراليا والجامعة العربية وروسيا القوى العاشرة فى العلاقات الدولية.
مكاسب
مشتركة
استندت
القمة "الروسية – الأفريقية" على التأكيد على ثلاث محددات رئيسية تتمثل
فى: "تطوير العلاقات الاقتصادية، وإنشاء مشاريع مشتركة، والتعاون في المجالات
الإنسانية والاجتماعية". وهو ما إنتج عدد من المكاسب المشتركة لدى الجانبين
الروسى والأفريقي، تمثل أهمها فى :
-
مكاسب روسية : فقد
سعت روسيا إلى الاستفادة من الفرص الاقتصادية والتجارية والاستثمارية المتاحة بالقارة
الأفريقية لتعزيز نموها الاقتصادي مع إطلاق منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية
بجهود مصرية، وموازنة تصاعد اهتمام القوى الاقتصادية الكبرى بتلك القارة وعلى رأسها
الصين التي تسعى بشكل مستمر إلى تعزيز تواجدها التجاري والاستثماري بتلك القارة من
خلال منتدى التعاون الصيني الأفريقي "فوكاك"، ومبادرة الحزام والطريق، واليابان
التي عززت شراكتها مع الدول الأفريقية من خلال مؤتمر طوكيو الدولي للتنمية الأفريقية
"التيكاد".
فعلى سبيل المثال: فقد شهدت الأعوام الخمسة الماضية نموا ملحوظا في أنشطة الشركات
الروسية بعدد من الدول الأفريقية ومن بينها زيمبابوي وأنجولا والجابون وزامبيا وموزمبيق
وجنوب أفريقيا في العديد من المجالات من بينها التعدين والطاقة والنفط، ومن أبرز الشركات
الروسية العاملة في أفريقيا، "ألروسا" لإنتاج الألماس، وشركات كبرى تعمل
في مجال الطاقة مثل "روس نفط" و"لوك أويل" و"غازبروم"،
ومؤسسة "روس آتوم" وغيرها.
-
مكاسب أفريقية : استطاعت
الدول الأفريقية تعظيم المكاسب الثنائية مع روسيا لتشتمل مجالات التعاون فى كل من:
الزراعة والطاقة ونقل التكنولوجيا والعلوم والتعليم والابتكارات والبنية التحتية والتعدين،
والتكنولوجيا النووية والنقل. فعلى سبيل المثال: تُعد موسكو من أكبر الشركاء
التجاريين بالنسبة للقاهرة، وهو ما إنعكس على ثقل مشروع المنطقة الصناعية الروسية في
المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، والذى يُعد المشروع الأول لروسيا خارج أراضيها،
بجانب إتفاق الطرفين على صفقة تمويل وتوريد 1300 عربة قطار لتطوير قطاع السكك الحديدية
في مصر وبحث خطوات التصنيع المشترك لهذه النوعية من العربات، فضلا عن سبل تعزيز التعاون
والتنسيق المشترك بين مصر وروسيا في أسواق الدول الإفريقية. دون إغفال اتفاقية إنشاء
مشروع انتاج الطاقة النووية في مصر في منطقة الضبعة، والتى تم التوقيع عليها في 11
ديسمبر 2017 في القاهرة، وهو أكبر مشروع مشترك بين القاهرة وموسكو منذ مشروع السد العالي،
نظرا لما يحملة من أبعاداً اقتصادية ومالية واستثمارية فضلاً عن نقل التكنولوجيا المتقدمة
في هذا المجال الذي تحتاجه مصر في إطار إستراتيجيتها المتكاملة في مجال الطاقة
"2030"، مما يجعل من مصر مركزاً إقليمياً وعالمياً لإنتاج وتداول الطاقة
بكل مكوناتها ومصادرها المتجددة وغير المتجددة.
على
الجانب الأخر، ثمة مجالات نوعية تحظى بالتعاون الثنائى، أهمها ما يتعلق بتوسيع الاتصالات
بين الاجهزة الامنية لكل من روسيا ودول افريقيا في مجال مكافحة الارهاب والاجرام المنظم
وتجارة المخدرات وغسل الاموال والهجرة غير الشرعية والقرصنة. حيث يجري بشكل مستمر تأهيل
للكوادر العسكرية والامنية الوطنية الافريقية، في سبيل المثال خلال السنوات الخمس الماضية
تخرج من المؤسسات التعليمية العسكرية التابعة لوزارة الدفاع الروسية أكثر من 2.5 ألف
منتسب الخدمة العسكرية من البلدان الافريقية.
بالنهاية ،،
ثمة مقاربة نوعية أظهرتها العديد
من التقارير الإقتصادية مفاداها أنه برغم الأزمات المتلاحقة التي عصفت بالاقتصاد العالمي
خلال السنوات الماضية، فقد تضمنت قائمة الدول ذات الاقتصاديات الأسرع نموا في الفترة
الأخيرة 10 دول أفريقية على الأقل، كما ارتفع حجم الاستثمار الأجنبي المباشر في الدول
الأفريقية بأكثر من 5 أضعاف خلال الأعوام العشرة الأخيرة، وهي جميعها مؤشرات تؤكد غنى
أفريقيا بالموارد البشرية والطبيعية اللازمة لتحقيق التنمية المستدامة، مما يمهد الطريق
لتعزيز الشراكة الاقتصادية بين روسيا وأفريقيا.
ومن ثم، فقد تم الإعداد الجديد فى إطار المعادلة التعاونية "55+1" لمخرجات القمة "الروسية – الأفريقية" لتكون بمثابة منصة استراتيجية لتبادل الآراء بين الجانبين حول سبل تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية وتنويع كافة أشكال التعاون الروسى الأفريقى، والتوقيع على عدد من الاتفاقيات الهامة بين الجانبين فى المجالات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية، بالإضافة إلى ملف تطوير التعاون الثنائى فى مجالات العلوم والتعليم، وتبادل الآراء بين الشركات الرائدة والوزراء والخبراء الدوليين بشأن سبل تعزيز الشراكة بين روسيا وأفريقيا فى كافة المجالات واستخدام تطبيقات التكنولوجيا النووية السلمية فى التنمية. فضلا عن تبادل الآراء بشأن وضع خطوات تنسيقية متفق عليها في مجال مواجهة الارهاب والجريمة العابرة للقارات والتحديات والمخاطر الأخرى التي تهدد الامن الاقليمي والعالمي.