تَصَدّر
هاشتاج "ترامب يُهين إردوغان" موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"،
بعد انتشار فيديو للرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال لقائه مع نظيره التركي، رجب
طيب إردوغان على هامش قمة العشرين باليابان ولاقى المقطع رواجًا واسعًا وردودَ
أفعالٍ غاضبة في تركيا؛ فخلال اللقاء، أهان الرئيس الأمريكي نظيره التركي، وبدا ترامب كأنه يسخر من إردوغان
والفريق المرافق له، قائلًا: "أنظر لهؤلاء الناس كم هم لُطَفَاء.. التعاملُ
معهم سهلٌ للغاية.. أنظر إليهم".
ووصف
ترامب إردوغان وفريقه بـ ""Central Casting وهى وكالة شهيرة في
هوليوود لاختيار المملثين، وتابع ترامب: "لا يوجد منتج هوليوودي يستطيع أن يُخْرِجُ
لنا أُنَاسًا بهذا الشكل". وهكذا، يتبدى كيف هو حال "الرجل المريض"
الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة، ولا يستطيع أن يرد صفعة "ترامب له، وهو الحال نفسه
الذي أودى بالخلافة العثمانية في سنواتها الأخيرة عندما كان يتم التعامل معها على
أنها "الرجل المريض". وعلى ما يبدو فإن ما يحدث حاليًا لإردوغان الذي
كان يمثل رأس حربة "العثمانيين الجدد" تجاوز مرحلة المرض العُضال
وتدهورت حالته إلى مرحلة النزع الأخير، حيث وصلت روحه إلى الحلقوم، ولا يقوى إلا
على النظر إلى مصيره المحتوم .. مصير أجداده الذي نستعرضه في هذا المقال.
أولًا- بداية حركات
الإسلام السياسي بعد انهيار الإمبرطورية العثمانية
بدأت
حركات الإسلام السياسي
بمفهومها الحديث في أعقاب انهيار الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية
الأولى وقيام مصطفى كمال أتاتورك بتأسيس جمهورية تركيا على النمط اﻷوروبي وإلغائه
لمفهوم الخلافة الاسلامية في الثالث من مارس 1924، وتعطيل العمل بالشريعة الإسلامية،
وقيامه أيضًا بحملة تصفية ضد كثير من الرموز الدينية. ويرى رفعت السعيد أن قيام
أتاتورك بإنهاء الخلافة ترك بصمات بالغة الأهمية في مصر، وعلى مفكريها وسياسييها،
فبعد أربعة أيام فقط من قرار أتاتورك بإلغاء الخلافة اجتمع بعض علماء الأزهر
وأصدروا بيانًا أعلنوا فيه بطلان ما قام به الكماليون – نسبة إلى كمال أتاتورك -
لأن الخليفة قد بويع من المسلمين ولا يمكن خلعه.
لكن موقع الخليفة الشاغر أسال لُعَابَ كثيرٍ من
الحكام المسلمين كل منهم ينشد المنصب لنفسه، ومن أمثلة هؤلاء الحكام الملك أمان
الله ملك الأفغان، والملك حسين بن علي ملك الحجاز، وكان هنا أيضًا الملك فؤاد
الأول ملك مصر الذي تحصن بالثقل الحضاري والثقافي لمصر وبأزهرها الشريف وسارع بالمطالبة
بالخلافة، وهنا تغير موقف بعض شيوخ الأزهر فنسوا بيعة الخليفة المخلوع واهتموا
بطموحات الملك فؤاد، وقرروا دعوة ممثلي جميع الأمم الإسلامية إلى مؤتمر يُعقد في
القاهرة برئاسة شيخ الأزهر، للبحث فيمن يجب أن تُسند إليه الخلافة، وحددوا شهر
شعبان من العام التالي لانعقاده، ودارت عجلة الإعداد لهذا المؤتمر مستمدة حماسها
من حماس الملك فؤاد وشغفه بأن يكون خليفةً للمسلمين.
ثانيًا- الشيخ رشيد رضا
ومحاولة إحياء الخلافة
وفي ربيع أول 1343- أكتوبر 1924 صدرت نشرة سُميت
"المؤتمر"، وأعلن أصحابها أن الهدف منها هو الدعوة لحضور المؤتمر
وإنجاحه وتحديد أهدافه، وفي صدر العدد الأول من هذه النشرة نُشر مقالٌ للشيخ رشيد
رضا يؤكد ضرورة عقد المؤتمر لأنه "أول مؤتمر إسلامي عام يشترك فيه علماء
الدين والدنيا من كل الأمم الإسلامية، خاصةً أن مهمته هي وضع قواعد للحكومة
الإسلامية المدنية التي يظهر فيها عُلو التشريع الإسلامي واختيار خليفة وإمام
للمسلمين"، لكن قوى عديدة تكاتفت لإفشال هذا المؤتمر، فالملوك تنافسوا على
موقع الخليفة، والدول التي كنت تحكمها الخلافة تسارعت إلى إعلان قيام كِيانات
وطنية، والقوى الاستعمارية سيطرت على عديدٍ منها، وكان هناك في مصر رئيس وزراء
شديد العداء للفكرة هو سعد زغلول، أما حلفاء الملك فؤاد في حزب الأحرار الدستوريين
فقد كانوا بسبب موقفهم الليبرالي خصومًا للفكرة، وكتبت جريدتهم (السياسة) "أن
الدستور ينص على أنه لا يجوز لملك أن يتولى مع مُلك مصر أمورَ دولةٍ أخرى بغيرِ
رضا البرلمان، ومن ثم يتعين ترك بحث هذه المسألة للسياسيين، وأن يَعْدِلَ علماءُ
الأزهر عن دعوتهم لهذا المؤتمر".
وفي صحيفة "السياسة" لسان حال حزب
"الأحرار الدستوريين" كتب "الشيخ علي عبد الرازق الذي كان ينتمي
للحزب نفسه مقالاً كشف فيه كل أوراق اللعبة، مؤكدًا "أن الحماس للخلافة ليس
حماسًا للإسلام، وإنما مساندة لمطامع الملك فؤاد"، كذلك شنت الصحفُ الوفدية
حملاتٍ ضارية على المؤتمر وعلى فكرة الخلافة ذاتها، وكان انعقاد المؤتمر في 13
مايو 1926 إشهارًا لوفاته.
ولم تزل
حتى عصرنا الحديث تستخدم فكرة الخلافة، برغم إصرار كبار الفقهاء على رفض الفكرة
وعلى رأسهم في العصر الحديث الإمام محمد عبده الذي قال "إن الإيمان بالله
يرفع الخضوع والاستعباد للرؤساء الذين استذلوا البشر بالسلطة الدينية، وهي دعوى
القداسة والوساطة عند الله، دعوى التشريع والقول على الله بدون إذن الله، فالمؤمن
لا يرضى أن يكون عبدًا لبشرٍ مثله"، ومع ذلك وحتى بعد أن اختفت دولة الخلافة
العثمانية ظل موضوع الخلافة محل جدل، بل وحاول البعض إقامتها تبعًا لذات الفكرة
التي أوحت لحاكم مدينة صغيرة أن يسمي نفسه أميرًا للمؤمنين.
وكان نشوء حركة القومية العربية على يد القوميين
العرب وجمال عبد الناصر وحزب البعث العربي الاشتراكي، حيث كان الانتماء للقومية
العربية وليس الانتماء لدين الإسلام هو المحور المركزي لهذا
التيار، وبدأت تدريجيًا نشوء دول عربية وإسلامية مستقلة يظهر فيها تفاوت في مدى
تطبيق الشريعة الإسلامية في رسم سياسة الدولة، وكان المنحى العام في تلك الفترة هو
نحو العلمانية، ولم يكن هذا المنحى مقبولاً لدى عديد من مواطني الدول العربية، وتم
استعمال القوة في نشر الأفكار القومية العربية والعلمانية في بعض الدول مثل مصر في
عهد جمال عبد الناصر والعراق في عهد حكم حزب البعث.
ثالثًا- وهم الخلافة
الضائعة والبحث عنه من سيد قطب إلى أردوغان
ولعلنا
نذكر محاولة "صالح سرية" للاستيلاء على السلطة في مصر ببضعة طلاب من
الكلية الفنية العسكرية، حيث لقن هؤلاء الطلاب في كتابه المسمى "رسالة
الإيمان" ان التآمر القومي والوطني مع الاستعمار الغربي والماسونية قد حطم
الخلافة العثمانية، وسار في ركابه أيضًا "شكري مصطفى" الذي تزعم تنظيم
"التكفير والهجرة"، وبعد محاولة اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر سنة
1954، طالب زعيم الإخوان المسلمين سيد قطب بإزاحة جمال عبد الناصر كقائد قومى عربى
ونعته بالمرتد، وأدى هذا إلى حملة قمع للحركة من قبل النظام، وبعد إعدام قطب سنة
1966، انقسم الإخوان حول تفسير أفكاره التى لخصها على الأخص فى كتابة "معالم
فى الطريق"، حيث تبنت القيادة التقليدية الجهاد السلمى، وانفصل المتشددون
المتطرفون وشنوا جهادًا عنيفًا لخلع الحكام المرتدين بنظرهم.
لكن وهم الخلافة يبقى، بل ويتحقق لأمير آخر في
أفغانستان هو "الملا عمر" ثم ينتقل إلى طامع آخر في لقب الخليفة هو أبو
بكر البغدادي زعيم إرهابيي تنظيم داعش، وتمثل جماعة الإخوان أحد أهم القوى
المعاصرة التي تنادي بفكرة الخلافة وضرورة بعثها، وقد أقامت تنظيمًا دوليًا على
نمط الخلافة المنشود كان يهدف إلى إعادة الخلافة الإسلامية إلى العثمانيين بتولية
رجب طيب أردوغان خلافة المسلمين، وهو الوهم الضائع الذي هوى بأردوغان والدولة
التركية في أغوارٍ سحيقة لا قاعَ لها.. لتبقى تركيا دولة بلا هوية.. فلا أتاتورك
استطاع أن يجعلها دولةً أوروبية تأخذ بالحداثة، ولا استطاع إردوغان والعثمانيون
الجدد أن يجعلها دولةً إسلامية بأن يُعيد إليها الخِلافةَ.
رابعًا- أردوغان يقدم
أوراقه لأوباما باعتباره خليفة المسلمين القادم
عندما
تولي باراك "حسين" أوباما الذي تم تصعيده ليشغل منصب رئيس الولايات
المتحدة الأمريكية في توقيتٍ مقصود ليقوم بترويض الإسلام بشكلٍ عام والإسلام
السياسي بشكل خاص بما يتفق مع مصالح بلاده، لم يكن مستغربًا أن يبدأ أوباما رئاسته
للولايات المتحدة بمخاطبة العالم الإسلامي من تحت قبة جامعة القاهرة ومن على أرض
أكبر دولة عربية وإسلامية، وهو الخطاب الذي تلاه الوصول لاتفاقات وتوافقات مع
الإسلام السياسي في المنطقة العربية من خلال مساندته في الحلول محل النظم
المتداعية في بعض البلدان العربية في مصر وتونس وليبيا وسوريا واليمن.
وقد حاول
أردوغان تقديم نفسه للولايات المتحدة الأمريكية على أنه يستطيع أن يقوم بالدور
الأكبر في ترويض الإسلام السياسي بما تمتلكه تركيا من تأثير ديني وعاطفي وتاريخي
على المنطقة العربية في ظل أن الخلافة العثمانية كانت آخر عهدٍ لهذه الدول
بالخِلافة الإسلامية، وفي ظل تواجد التنظيم الدولي لجماعة "الإخوان" بتركيا،
وقيادة أردوغان لحزب "العدالة والتنمية" الإخواني الذي كان يمثل أيقونة
النجاح للإسلاميين ويحاولون محاكاته في البلدان الأخرى التي يرنون لحكمها بعد
إزاحة الأنظمة الحاكمة لها بموجة ما يُسمى بثورات الربيع العربي، وهى الفرصة التي
واتت أردوغان والعثمانيين الجدد في إحياء فكرة الخلافة الإسلامية والوثوب إلى منصب
خليفة المسلمين المنتظر، وهو ما يحقق أحلامه في السيطرة على الدول العربية ليفتح
سوقًا واسعة لمنتجاته ونهب ثروات البلدان العربية.
وشهدت
العلاقات التركية المصرية ازدهارًا كبيرًا من هذا المنطلق أثناء حكم الإخوان، فقد التقى
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع الرئيس المعزول الراحل محمد مرسي في قمتيْن
الأولى بأنقرة فيما كانت الثانية بالقاهرة خلال العام 2012. وشهدت العلاقات بين البلديْن عقب انتخاب مرسي
في يونيو 2012 تطورًا سريعًا في فترة وجيزة لم تتجاوز العام الواحد حيث وضع الجانبان
أٌسس العلاقات الرسمية والاقتصادية لتكون لبنة أساسية يُبنى عليه عهدًا جديدًا من
العلاقات بين البلديْن.
خامسًا- التقارب
المصري-التركي أثناء حكم الإخواني محمد مرسي
وبرز
التقارب مع بدايات الثورة المصرية، عندما أعلن رئيس الوزراء التركي آنذاك رجب طيب أردوغان
في خطابه أمام البرلمان التركي 2 فبراير2011 دعم بلاده للثورة المصرية، ومطالبة
الرئيس الأسبق حسني مبارك بالاستجابة لمطالب الشعب برحيله عن الحكم، في أقوى دعم
للثورة المصرية في ذروتها.
وفي 12
سبتمبر 2011، قام أردوغان بزيارة لمصر، والتي تُعد الأولى له عقب فوزه مجددًا في
الانتخابات البرلمانية التي أجريت يونيو 2011، وهو الوقت الذي بدأ فيه ظهور
"الإخوان" كقوة صاعدة على المسرح السياسي المصري، وبالطبع كانت هذه
الزيارة ليست لدعم مصر بقدر ما كانت لتقديم الدعم المعنوي للجماعة الصاعدة لسُدة
الحكم في مصر بما يتفق مع المشروع الأردوغاني والعثمانيين الجدد.
واصطحب
أردوغان في زيارته لمصر عديدًا من الوزراء والمستشارين والدبلوماسيين وما يزيد على
250 من رجال الأعمال والمستثمرين، بهدف تعزيز التعاون بين البلدين في مختلف
المجالات. وخلال
زيارة أردوغان الأولى لمصر، تم عقد المنتدى الاقتصادي المصري التركي، بمشاركة نحو
500 من رجال الأعمال من كلا البلدين، لبحث التعاون الاقتصادي في مختلف المجالات. وأعرب
رئيس الوزارء التركي عن رغبته فى زيادة حجم التبادل التجاري إلي 5 مليارات دولار
خلال عامين، مؤكدًا ضرورة أن يعمل الطرفان علي تحقيق هذا الهدف المنشود من خلال
إزالة كل العقبات التي تعترض طريق رجال الأعمال والمستثمرين.
ومنذ
انتخاب الرئيس المخلوع الراحل محمد مرسي في يونيو 2012 بدأت العلاقات التركية
المصرية بالتطور، وشهدت تحسنًا سريعًا في فترة وجيزة لم تتجاوز العام الواحد حيث
وضع الجانبان أٌسسًا للعلاقات الرسمية والاقتصادية لتكن لبنة أساسية يُبنى عليه
عهدًا جديدًا من العلاقات الرسمية وغير الرسمية بين دولة يحكمها جماعة
"الإخوان" الأم ودولة يحكمها التنظيم الدولي للإخوان، وأجرى الرئيس
الراحل في سبتمبر 2012 زيارة إلى تركيا والتقى أردوغان في أنقرة، كما دعمت تركيا
الاقتصاد لمصري بإيداع قرض بـ 2 مليار دولار. في البنك المركزي المصري في وقتٍ كان الاحتياطي النقدي الأجنبي
يشهد تراجعًا متزايدًا، وكان أردوغان يعلم بالطبع أن كل هذا الدعم سوف يسترده
أضعافًا مضاعفة بعد تحقيق مشروعه المزعوم الخاص بالخلافة الإسلامية.
كما زار
أردوغان مصر ثانيةً في نوفمبر 2012 بصُحبة عددٍ من رجال الأعمال الأتراك بهدف فتح
أبواب الاستثمار التركي في مصر وتعزيز الاقتصاد المصري، والتقى، خلال الزيارة،
مرسي وألقى كلمة تاريخية بجامعة القاهرة العريقة دشنت مرحلة جديدة من التعاون
الاستراتيجي بين الجانبين وتم توقيع 27 اتفاقية في العديد من المجالات.
وخلال
العام المالي 2012/2013، إبان حكم محمد مرسي، سجلت الاستثمارات التركية بمصر 4.5
بالمائة بقيمة 169.2 مليون دولار من إجمالي صافي الاستثمارات الأجنبية المباشرة
البالغة حينذاك نحو 3.753 مليار دولار. وفي
السنوات التالية، لعزل مرسي، تراجعت الاستثمارات التركية من حيث القيمة والنسبة
لإجمالي صافي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى مصر لتصل إلى 35.5 مليون دولار
من إجمالي 7.8 مليار دولار في العام المالي 2016/2017.
وكانت
دويلة قطر وحاكمها تميم بن حمد آل ثان
وشيخ الفتنة يوسف القرضاوي تمثل التابع الأمين لخطوات أردوغان في دعم مصر
"الإخوانية" ورئيسها الذي يتبع التنظيم الدولي للإخوان، وكان وهم
"الخلافة الإسلامية" يبدو من بعيد لهذه الأنظمة الثلاثة بعد وصول
الإخوان لحكم مصر، وبعد الحراك السياسي في تونس وصعود حركة "النهضة"
الإخوانية، وبعد ما حدث في ليبيا واليمن، والأكثر من ذلك محاولة مرسي توريط الجيش
المصري في الأزمة السورية للإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد حتى يصل
"الإخوان" إلى سدة الحكم في سوريا، لتكتمل تهيئة الأرض لإعلان الخلافة
المزعومة وتسمية أردوغان خليفةً للمسلمين لنهب خيرات بلاد العرب والمسلمين مثلما
فعل أجداده من سلاطين بني عثمان.
سادسًا- ثورة 30 يونيو
والإطاحة بمرسي والإخوان والانقلاب على أردوغان
ولم
يستمر حكم مرسي المنتمي لجماعة "الإخوان" إلا عامًا أسودًا واحدًا، حيث
أطاح به الشعب المصري في ثورة شعبية غير مسبوقة في 30 يونيو 2013، وهكذا كتبت ثورة
30 يونيو كلمة النهاية لأحلام أردوغان والعثمانيين الجدد وتابعه المخلص تميم بن
حمد، ولعل هذا ما يكشف سر العداء الشديد لمصر من قبل أردوغان وتميم، ولكل مَن نَاصَرَ
ثورة المصريين على جماعة "الإفك والضلال" وخاصةً المملكة العربية
السعودية والإمارات العربية المتحدة.
وتمثل
ليلة الخامس عشر من يوليو ٢٠١٦ تاريخًا فاصلاً بالنسبة للدولة التركية رئيسًا
وشعبًا وجيشًا وتجربةً، كان البعض يعوّل على نجاحها واستنساخها فى دول الربيع
العربى ولا سيما جماعات الإسلام السياسى، ببساطة لقد انفجرت بالونة أردوغان
الفارغة فى الجميع، ولم يكن هذا الانفجار مفاجئًا، وخاصةً للمتابعين للشأن التركى
المأزوم فى الفترة التى أعقبت انهيار قطع الدومينو الإخوانية فى تونس ومصر وسوريا
وليبيا والسودان.. أمصار وولايات الخلافة الأردوغانية المزعومة للخليفة الواهم رجب
بن طيب أردوغان!.
ليلة ١٥
يوليو 2016 كانت ليلةً سوداء داكنة فى تاريخ الجيش التركى والعسكرية التركية، لن
يمحو أثرها إلا رحيل أردوغان على يد هذا الجيش، لقد أُهينت هيبة العسكرية التركية
إهانةً بالغة لم تتلقاها منذ عصر الإمبراطورية التى حققها هذا الجيش بدمائه
وتضحياته، إياكم أن تتصوروا أن مَن حاولوا إزاحة أردوغان عن الحكم لإضراره بالهوية
التركية هم الإرهابيون، بل من تصدوا للجيش فى الشوارع والطرقات هم الإرهابيون
الحقيقيون الذين آواهم أردوغان من تنظيميْ "داعش" و"الإخوان"،
والذين يتلقون تدريباتهم العسكرية فى تركيا قبل الالتحاق بميادين القتال فى سوريا
والعراق وليبيا واليمن، وما فعله هؤلاء الإرهابيون هو ردٌ للجميل لحليفهم التركى
وخليفتهم المُنتظر، ولن ينسَ الجيش التركى إذلاله على يد هؤلاء الإرهابيين وزعيمهم،
بعد ما لطخ أردوغان الزى العسكرى التركى فى أوحال الإرهاب الذى إن حماه في صيف
العام 2016 فلن يحميه إلى الأبد.
وثمة
قواسم مشتركة بين ما حدث ليلة ١٥ يوليو وليلة ٢٠ ديسمبر عشية اغتيال السفير الروسي
في تركيا؛ فكلا الحدثيْن شاهدهما الملايين على الهواء فى جميع أنحاء العالم على
شاشات التليفزيون وشبكات التواصل الاجتماعى، وكلا الحدثيْن تم توظيف الإمكانات
التكنولوجية فيهما؛ ففى الانقلاب استُخدم تطبيق لتليفون "أبل"، وفى
الاغتيال استُخدمت كاميرا احترافية عالية الجودة لمصور تركى محترف يعمل لصالح
وكالة أنباء "أسوشيتدبرس" الأمريكية.
وما يربط
بين الحدثيْن فى عصر ما بعد الحداثة والتحليل السيميائى والأيقونى للعلامات والصور
والشعارات، هو الترويج أثناء الانقلاب وبعده لأيقونة الجنود الأتراك العُراة الذين
نزع الإرهابيون عنهم رداءهم العسكرى كرمز لإهانة الجيش التركى، وفى حادث الاغتيال
تم الترويج لأيقونة الحارس الذى يرفع يديه وصوته كعلامة للنصر بقتل من يحميه
ويحرسه، وهو المشهد الذى يبث الرعب والهلع فى كل بلدان العالم ممن يحرسونهم خشية
أن يكونوا موتورين اخترقت أدمغتهم بعض الأفكار المتطرفة بفعل تفاعلهم مع بعض هذه
الأفكار على شبكات التواصل الاجتماعى، أو تعاطفهم مع بعض دعايات الإخوان عن
الجرائم التى تحدث فى حلب أو غيرها، والأدهى من ذلك أن الشعار الذى أطلقه القاتل
التركى وهو رجل شرطة المفروض أنه رمز الدولة فى تأمين المواطنين والرعايا الأجانب
عندما هتف قائلاً: «لقد بايعنا النبى محمد على الجهاد»، ليظهر أن هذا الهتاف هو
جزء من مطلع نشيد من أناشيد جماعة "الإخوان" الإرهابية.
وما يربط
بين الحدثيْن كذلك، هو أنه إذا كان الانقلاب الذى حدث ليلة ١٥ يوليو 2016 قد فشل
إلا أنه أسقط الدولة التركية التى بدأت كل مؤشراتها السياسية والاقتصادية فى
التهاوى منذ ذلك الحين، كما أن ما حدث ليلة ٢٠ ديسمبر من العام نفسه قد أثبت بما
لا يدع مجالاً للشك مدى الروابط والعُرى الوثيقة التى تربط الدولة التركية بجماعات
وعصابات وإعلام الإرهاب، فقيام تركيا بتجميع المتطوعين من جميع أنحاء العالم
وتدريبهم على فنون القتال فى أنطاكيا ثم شحنهم لتنظيم "داعش" فى سوريا
والعراق، وتورط نظام أردوغان وأسرته وأقربائه فى التعامل مع تنظيم "داعش"
ومبادلة النفط بالأسلحة، وإيواء قيادات وأعضاء جماعة الإخوان الإرهابية، وإطلاق
منصات إعلامية للجماعة تروج للإرهاب، والتعاطف مع الإرهابيين فى سوريا والعراق
وليبيا، وأخونة القوات المسلحة التركية بتجنيد أعداد كبيرة من المنتمين لحزب
«العدالة والتنمية» الإخواني فى الجيش والشرطة.. كل هذا هو ما أودى بالدولة
التركية وجعلها فى مصاف الدول الإرهابية، وأدى بالشرطي الإخواني الموتور إلى تصفية
السفير الروسى رغم أن الإسلام الحنيف قد حثنا على أن نؤمن الرعايا الأجانب
والسفراء.
ما حدث
فى تركيا صيف العام 2016 سوف يتم تدريسه كنموذج للانقلابات العسكرية فى عصر
المعلومات؛ ما بين الممارسات الجيدة والممارسات الرديئة، سواء للرئيس والحكومة
المنتخبة أو العسكريين الانقلابيين. فمن المفارقات أن هذا الانقلاب قد تم التمهيد
له بتغريدتْين على موقع التدوينات المصغر «تويتر» لاثنيْن من أنصار جماعة فتح الله
جولين والمسماة "الكِيان الموازى".
سابعًا- الصراع على
السلطة بين فصيليْن دينييْن وضياع هوية الدولة العلمانية
ومن
الناحية المعلوماتية أيضًا، فإن الصراع على السلطة لم يكن بين العلمانية التى
يحميها الجيش التركى منذ حُكم مصطفى كمال أتاتورك وبين التراجع عن هذه العلمانية
من قِبل أردوغان وحزبه «العدالة والتنمية» الذى يُعد أحد المكونات المهمة للتنظيم
الدولى لجماعة الإخوان، بل كان الصراع فى الأساس بين فصيليْن يوظفان الدين لخدمة
مصالحهما فى السيطرة على مقاليد الحُكم فى البلاد، فصيل أردوغان الإخوانى وظهيره
الشعبى والمؤسساتى وفصيل فتح الله جولين الصوفى وظهيره العسكرى الذى تربى على
أفكاره.
الأمر
الثالث هو أنه من المستحيل ألا تكون الاستخبارات التركية والموساد والمخابرات
المركزية الأمريكية وحلف الناتو قد رصدت ما يتم التدبير له بليْل داخل جناح من
الجيش التركى، وبالتالى فإن ثمة معلومات أصبحت لدى أردوغان عن هذا الانقلاب قبل
وقوعه، مكنته من وضع سيناريو محكم للتعامل معه وإفشاله، بدءًا من الاختفاء عن
الأنظار فى إجازة غير محددة المكان، ولجوئه إلى استخدام تطبيق "فيس تايم"Face
Time على
أجهزة «آى فون» من شركة «أبل» الأمريكية، لمخاطبة الشعب التركى و«ميليشيات» حزب
«العدالة والتنمية» في
الشوارع، ومن خلال قناة تليفزيونية فضائية خاصة فى ظل سيطرة الانقلابيين على
التليفزيون الرسمى، علاوة على عودته الدراماتيكية وهبوط طائرته الرئاسية فى مطار
إسطنبول بعد تأمين المطار، بل وإلقاء كلمة للشعب من داخل المطار، وقيامه صبيحة
اليوم التالى بإرسال رسالة نصية إلى الشعب التركى يحثه على الحفاظ على الشرعية.
إن ما
حدث فى تركيا فى ليلتيْ ١٥ يوليو و٢٠ ديسمبر 2016 سيظل علامة فارقة فى تاريخ
الدولة العلمانية الحديثة التى استطاعت جماعة دينية متخلفة وإرهابية أن توردها
موارد الهلاك، إن ما حدث فى تركيا بداية انهيار الدولة وتصنيفها بجدارة ضمن الدول
الفاشلة والإرهابية، وما يحدث حاليًا في صيف العام 2019 من اعتقال لعديد من ضباط
الجيش التركي على خلفية ما حدث ضد أردوغان من ثلاثة أعوام يؤشر إلى أن المعركة بين
أردوغان والجيش التركي لم تنته فصولها بعد .. وانتظروا إنا منتظرون.
ثامنًا- بوابات وصول
أردوغان إلى السلطة وخروجه منها
وصل
أردوغان وحزبه "العدالة والتنمية" لسُدة الحكم في تركيا من بوابتيْن
أساسيتيْن .. البوابة الأولى هى بوابة "اسطنبول" العاصمة الثانية للبلاد
التي وصل إليها أردوغان ضمن انتخابات البلديات والتي اكتسحها أعضاء حزب
"العدالة والتنمية" وقدموا من خلالها الخدمات للمواطن التركي الذي آمن
بمقدرة هذا الحزب على التغيير والإصلاح، وكان فوز أردوغان ببلدية
"اسطنبول" مؤشرًا على أن هذا الرجل هو الحاكم القادم لتركيا، وأن حزبه
سيكون الحزب الحاكم لها في غضون سنوات قليلة.
والبوابة
الثانية التي دخل منها أردوغان وحزبه لحكم تركيا هى بوابة الاقتصاد من خلال جذب
رؤوس الأموال الأجنبية للاستثمار في تركيا، وزيادة نسبة التصنيع، وارتفاع قيمة
الليرة التركية بشكلٍ غير مسبوق، بما وضع تركيا ضمن أكبر عشر اقتصادات في العالم.
وعلاوة
على هاتيْن البوابتيْن، حرص أردوغان أن يفتح البوابتيْن الأمريكية والأوروبية على
مصراعيْهما من خلال علاقاتٍ متميزة مع الولايات المتحدة وحلف الأطلسي وتقديم نفسه
للولايات المتحدة على أنه الوحيد القادر على ممارسة دور إسرائيل في السيطرة على
العالم العربي وإخضاعه عبر استنهاض قوى الإسلام السياسي فيه، وتسويق وهم الخلافة
المزعومة لهم، ومن خلال مغازلة الاتحاد الأوروبي للانضمام إلى عضويته.
وفي ظل
نشوة الانتصار في تأسيس هذه البوابات الأربع التي نفذ من خلالها أردوغان وحزبه إلى
حكم تركيا، نسى أو تناسى أردوغان عَلْمَانية الدولة التركية التي أسسها مصطفى كمال
أتاتورك، فقد حاول أردوغان وحزبه رويدًا رويدًا نزع الهُوية العَلْمَانية للدولة
من خلال التأسيس لدولة ذات صبغة إخوانية تكون مقرًا للتنظيم الدولي للإخوان،
ويسيطر فيها حزبه الإخواني على مفاصل الدولة من خلال مواجهة فصيل ديني آخر (جولن
وأتباعه) في انقلاب عسكري بائس أذل فيه الجيش التركي ليخرجه من معادلة السياسة،
وقام بتعديل الدستور الذي جاء بمقتضاه ليصبح رئيسًا لوزراء تركيا، ليحول بموجب هذه
التعديلات تركيا من دولة برلمانية إلى دولة رئاسية ليصبح ديكتاتورًا يحكم تركيا
للأبد، كما أنه أخرج الجيش التركي عن دوره المنوط به بحماية عَلْمَانية الدولة.
والأدهى
من ذلك كله أنه استضاف آلافًا من أعضاء جماعة "الإخوان" الإرهابية بعد
ثورة 30 يونيو 2013، واستضاف قنوات إعلام "الإخوان" مثل قناتيْ
"الشرق" و"مكملين"، وقامت تركيا بتوفير الوظائف والإعانات
لأعضاء جماعة "الإخوان"، كما أغدقت المخابرات التركية مئات الملايين من
الليرات التركية على الإعلام الإخواني الذي يستهدف مصر ليلَ نهار، وهذا كله من
أموال دافع الضرائب التركي، كما كانت تركيا هى المقصد لكل مَن كان ينوي الانضمام
لتنظيم "داعش" الإرهابي، كما كانت "أنطاكيا" التركية هى معسكر
تدريب العناصر المنضمة حديثًا للتنظيم تمهيدًا لشحنها إلى مناطق القتال في سوريا
والعراق، وفي المقابل كانت تركيا تحصل على البترول من "داعش" بأبخس
الأثمان.
واليومَ
تُنبئ الأحداث جميعها أن سقوط أردوغان قادمٌ لا محالة في ظل أن كل أعمدة حكمه
والبوابات التي نفذ منها للوصول إليه آخذةً في التداعي والسقوط .. فمدينة
"اسطنبول" التي حكمها أردوغان ووصل من خلالها إلى حكم تركيا فقدها مرشح
حزبه لصالح مرشح المعارضة، ورغم إعادة الانتخابات مرةً أخرى بدعوى حزب
"العدالة والتنمية" ببطلانها، إلا أن النتيجة جاءت مدوية للمرة الثانية
حيث فاز بها مرشح المعارضة وبفارق أكبر من المرة الأولى، ليلقن الشعب التركي درسًا
قاسيًا لأردوغان وحزبه اللذيْن لم يصبحا صالحيْن لحكم البلاد، وفي أي استحقاقات
انتخابية قادمة ستكون فضيحة أردوغان مدوية لا محالة.
تاسعًا- الانهيار
القادم بفعل تردي الاقتصاد وتخبط السياسة الخارجية التركية
ولا شك
أيضًا أن الأداء الاقتصادي في ظل تخبط السياسة الخارجية التركية وخلق العداوات مع
الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ومصر ودول شرق المتوسط وهروب الاستثمارات
والأموال الساخنة من تركيا جعل الليرة التركية تهبط خلال العامين الماضييْن بنسبة
30%، كما هبطت الليرة مرةً أخرى فيما مضى من عام 2019 بنسبة 15% أخرى، ولا زال
أردوغان يتخبط بإقالة رئيس البنك المركزي التركي، ويعبث بالسياسة المالية دون
فائدة، وهو ما حول حياة المواطن التركي إلى جحيم، يتجاهل أردوغان وحزبه الحديث
عنه.
إن
الشارع التركي يغلي تحت وطأة الأوضاع الاقتصادية المتردية ومن مزاحمة
"الإخوان" لهم في بلادهم، ومن استهداف أردوغان لضباط الجيش التركي
واعتقال بعضهم بين الحين والحين، رغم ما للجيش التركي من دور بارز في تأسيس
الإمبراطورية التركية على مر الزمان، ورغم ما لهذا الجيش من مكانة في نفوس
الأتراك، علاوة على معارضة الجيش والشعب في آنٍ واحد من تفريغ تركيا من روحها
العَلمانية التي ارتضاها لها الزعيم التركي كمال أتاتورك، وبدلاً من ذلك يحرص
أردوغان على أن يرفع الآذان ويتلو القرآن في استعراضٍ غير مسبوق لمخاطبة عواطف
الناس بدلاً من أن يقدم لهم الوظائف والحياة الكريمة، ويجعل علاقته بربه مسألة
خاصة به لا علاقة للناس أو أمور الحكم بها، كما حرصت زوجته على ارتداء حجاب رغم أن
ثمة تقارير تذكر أرقامًا مفزعة للأزياء والاكسسوارات التي ترتديها زوجة الخليفة "المزعوم"
الذي كان من واجبه هو وزوجته وأسرته التي تحكم تركيا التقشف في ظل ما يعاني منه
المواطن التركي.
إن آخر
التقارير الواردة من تركيا، تقول إن النظام الحاكم وصل إلى نهاية الطريق المسدود؛
حيث بدأ في بيع بعض القصور التاريخية لتوفير سيولة من العملات الأجنبية في الخزانة
التركية، كما أنه بيعت في الأونة الأخيرة 100 من إجمالي 500 فيلا فاخرة للأجانب
تطل على مضيق البسفور، في الوقت الذي أصبحت تركيا مطالبة فيه في خلال العام الحالي
بسداد 120 مليار دولار ديونًا خارجية، هو ما يهدد البلاد بإعلان إفلاسها، وهو ما
ألجأ أردوغان إلى صديقه تميم بن حمد أمير قطر لإقالته من عثرته، ولكن ليس المسئول
أفضل حالاً من السائل.
إن سقوط أردغان وضياع حُلم "العثمانيين" الجدد أصبح على مرمى حجر بعد أن تداعى حكمه، وانهار اقتصاده، وتدنت قيمة عملته، وتفاقمت ديونه، وانفض عنه حلفاؤه، وإن غدًا لناظره قريب، وليعلمَ الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون.