يبدو أن الجمهورية الإسلامية أصبحت تتعايش على خلق
الأزمات في المنطقة والعالم من منطلق "أنها لم يعد لديها ما تخسره"، فلا
يبرح قائد القطار الإيراني "قائد الثورة الإسلامية" أن يخرج من نفق مظلم
حتى يدخل إلى الآخر، ويبدو أن المحطة الأخيرة لهذا القطار هي "صراع ناقلات
النفط"، والتي تعد أحدث تصعيد لإيران خلال الثلاثة أشهر الأخيرة من المواجهة
مع الغرب. والتي بدأت عندما دخلت العقوبات الأمريكية الجديدة الأكثر تشددًا حيز
التنفيذ الفعلي في بداية مايو الماضي.
فبعد الاتهامات التي وُجهت الفترة الماضية من قبل
الولايات المتحدة والغرب ودول الخليج ضد طهران بمسئوليتها عن عمليات التخريب
والتفجيرات التي حدثت لناقلات نفط قرب مضيق هرمز، قامت إيران بخلق أزمة جديدة
باحتجازها ناقلتي النفط "ستينا إمبيرو" التي ترفع العلم البريطاني،
و"مسدار" التي ترفع علم ليبيريا وتشغلها شركة "نوريولك"
البريطانية، وذلك يوم الجمعة 19 يوليو. هذا فضلًا عن احتجازها ناقلة نفط أخرى في
14 يوليو تُدعى "رياه" والتي ترفع علم بنما (1).
وتأتي هذه الأفعال التصعيدية من قبل طهران كرد فعل على
ما قامت به مشاة البحرية الملكية البريطانية باحتجاز ناقلة النفط الإيرانية
"جريس 1" قبالة إقليم جبل طارق التابع لبريطانيا في الرابع من يوليو،
حيث أعلنت سلطات مضيق جبل طارق أن الناقلة خرقت العقوبات الأوروبية بنقلها النفط
الإيراني إلى سوريا (2).
أزمة
المضيق وأسعار النفط
لا شك أن أي توترات جيوسياسية في منطقة هامة مثل مضيق هرمز سوف تؤثر على أسعار النفط، لاسيما مع الدور الحيوي للمضيق بالنسبة للإمدادات العالمية من النفط، فبحسب بيانات إدارة معلومات الطاقة الأمريكية فقد عبر يوميًا ما يقارب 20.7 مليون برميل خلال عام 2018 من إجمالي 99.9 مليون برميل تم استهلاكهم يوميًا من قبل العالم (كما يتضح من الشكل التالي)، مما يعني أن المضيق يساهم في نقل ما يقارب (خُمس) إمدادات النفط العالمية (أي ما يقارب ثلث الإمدادات النفطية التي يتم نقلها عبر البحار)، هذا فضلًا عن أن المضيق يساهم في نقل ربع إمدادات الغاز الطبيعي عبر العالم.
فبعد أن قامت قوات الحرس الثوري الإيراني باحتجاز ناقلة النفط "ستينا إمبيرو" التي ترفع العلم البريطاني، لزعمها أنها تقوم بتهريب المحروقات، ارتفعت أسعار النفط بما يقارب 2%؛ حيث ارتفع سعر خام برنت من 62.47 دولار للبرميل يوم الجمعة 19 يوليو إلى 64.01 دولار للبرميل يوم الثلاثاء 24 يوليو (كما يتضح من الشكل التالي). ويتضح من ذلك أن الارتفاع في أسعار النفط جراء هذه الأزمة محدودًا وفي نطاق ضيق على المدى القصير، ويرتبط بصورة أكبر بارتفاع تكاليف التأمين على السفن وتكاليف الشحن، نتيجة تخوف الشركات المالكة من أي مخاطر تتعرض لها تلك السفن في المضيق.
أما على المدى الطويل، فمن المتوقع أن تأثير هذه الأزمة
ومثيلاتها على أسعار النفط العالمية سوف تكون ضئيلة أو غير ذات نطاق عريض، ويرجع
ذلك إلى عدة أسباب:
أولًا: انخفاض الطلب العالمي على النفط خلال الأعوام القادمة،
فمع توقع حدوث انخفاض في معدلات النمو الاقتصادي العالمية لاسيما جراء الحرب
التجارية بين الولايات المتحدة والصين؛ حيث صرح صندوق النقد الدولي مؤخرًا بأنه
يتوقع نموًا عالميًا بنسبة 3.2 في المئة لهذه السنة و3.5 في المئة في 2020 (3)،
وكذلك تباطؤ اقتصاد الصين والذي يعد ثاني أكبر مستهلك للنفط في العالم، الأمر الذي
يعني أن الطلب على النفط سوف ينخفض بصورة كبيرة خلال السنوات القادمة، مما يقلل من
فرص ارتفاع أسعاره بصورة غير معتادة.
ثانيًا: على النقيض، فمن المتوقع أن يكون هناك زيادة في
المعروض من النفط خارج منظمة أوبك، فبحسب تصريحات "أوبك" فسوف يرتفع
المعروض النفطي من خارج أوبك إلى 2.05 مليون برميل يومياً، ويعني ذلك أن إجمالي
المعروض النفطي من دول خارج أوبك سوف يسجل 64.43 مليون برميل يومياً خلال عام
2019. أما ما يتعلق بعام 2020 فمن المتوقع أن ينمو المعروض النفطي من الدول غير
الأعضاء في أوبك بنحو 2.4 مليون برميل يومياً ليبلغ في المتوسط 66.87 مليون برميل
يومياً (4).
ولتفادي هذا الفائض في المعروض واحتمالات انهيار
الأسعار، وبما أنه من المتوقع أن الطلب العالمي على النفط لن يرتفع بأكثر من 1.4
مليون برميل يوميًا خلال عامي 2019 و2020، فقد قامت أوبك في نهاية شهر يونيو 2018
بعقد اتفاق مع مجموعة الدول المصدرة الحليفة لها يقضي بخفض سقف الإنتاج بمقدار 1.2
مليون برميل يوميًا، بما يشكل حوالي واحد في المئة من الإمدادات العالمية، وذلك
حتى مارس 2020 (5)،
الأمر الثالث الذي يدفعنا للقول بأن أسعار النفط العالمية لن تتأثر
بمثل هذه التوترات الجيوسياسية في مضيق هرمز هو تحقيق الولايات المتحدة الاكتفاء
الذاتي من النفط، حيث لم تعد تعتمد سوى على 10% من نفط الخليج، هذا فضلًا عن أنها
حققت العام الماضي (2018) تفوقًا على السعودية وروسيا في إنتاج النفط الخام. ويرجع
ذلك بالأساس إلى زيادة إنتاج منطقة حوض بيرميان الذي يقع في ولايتي تكساس ونيو
مكسيكو، ومنطقة باكن في ولايتي نورث داكوتا ومونتانا، وخليج المكسيك.
وبحسب بيانات إدارة معلومات الطاقة الأمريكية فقد بلغ
الإنتاج الأمريكي من النفط عام 2017 ما يقارب 9.4 مليون برميل يوميًا، في مقابل
10.96 مليون برميل يوميًا لعام 2018، و12.36 مليون برميل يوميًا لعام 2019. ومن
التوقع أن يصل الإنتاج عام 2020 إلى 13.26 مليون برميل يوميًا. هذا فضلًا عن أن
الولايات المتحدة أصبحت أيضا مصدرًا للنفط الخام للعديد من دول العالم، بعد أن رفع
الكونغرس في عام 2015 حظرًا دام 40 عاما على تصديره (6). مما يعني أن القرارات
التي تتخذها أوبك وحلفاؤها حول تخفيض الإنتاج لن تؤثر بصورة كبيرة على ارتفاع
الأسعار.
كل هذا يعني في النهاية أن زيادة الإنتاج العالمي من
النفط في مقابل توقعات بانخفاض الطلب عليه سيؤدي في النهاية إلى عدم ارتفاع
الأسعار سوى في مستويات محدودة وعلى المدى القصير كتأثير مباشر لأي توترات يشهدها
العالم خلال الفترة المقبلة.
ماذا
لو أغلقت إيران المضيق؟
في أوقات الأزمات يصبح من الصعب توقع ما هو قادم،
ولاسيما وأن الأزمة بين إيران والغرب مستمرة منذ عقود طويلة، لكن من غير المرجح –
حتى الآن – أن تقوم إيران بإغلاق مضيق هرمز، لاسيما وأنها لم تعلن أي نية عن ذلك،
وبالتالي يبدو أن "الحل الدبلوماسي" ما زال هو الحل الأمثل في الوقت
الحالي. كما أن إيران تدرك جيدًا أن إغلاق مضيق هرمز يعني نشوب حرب متعددة الأطراف
– ربما تكون عالمية -، لاسيما وأن وجود الأسطول الخامس الأمريكي في المياه
الإقليمية المقابلة للبحرين يعني أن الولايات المتحدة يمكن أن تتحرك في أي لحظة
إذا ما حاولت طهران إغلاق المضيق، هذا فضلًا عن أن الرئيس الأمريكي ترامب قد أعلن
في مايو الماضي أنهم سيرسلون مجموعة حاملات طائرات وقاذفات وبطاريات صواريخ
باتريوت لمواجهة ما اسماه "مؤشرات واضحة على أن إيران وعملائها يستعدون
لمواجهة القوات الأمريكية في المنطقة". كما أن الحكومة البريطانية قد أعلنت مؤخرًا عن وجود خطط
لتشكيل قوة بقيادة أوروبية لحماية الملاحة في منطقة الخليج (7).
ومن ناحية أخرى، فإن إيران تدرك أن إغلاق المضيق سوف
يؤثر بصورة واضحة على الاقتصادات الصديقة لها، فإذا كانت الولايات المتحدة تتمتع
بالاكتفاء الذاتي من الطاقة، ولا تعتمد على المضيق سوى في 10% من النفط الذي
تحتاجه، إلا أن اقتصادات دول مثل روسيا والصين واليابان وكوريا الجنوبية تعتمد
اعتمادًا كبيرًا على نفط الخليج، وبالتالي فإن إغلاق المضيق يعني أن طهران على
استعداد للتخلي عن هذه الدول الصديقة، وهذا مستبعد بالطبع، لاسيما في ظل الدعم
الذي تقدمه لها هذه البلدان في مقابل العقوبات الأمريكية.
هل يمكن تجاوز المضيق؟
من
الصحيح أننا نتوقع أن "الحل الدبلوماسي" سوف يكون سيد الحلول خلال
الفترة القادمة، لاسيما في ظل قدوم رئيس وزراء جديد لبريطانيا هو "بوريس
جونسون" والذي يرث تركة صعبة للغاية تتمثل في ضعف الاقتصاد البريطاني وأزمة
البريكست، وبالتالي فلن يبحث الرجل عن مشاكل جديدة خارج بلاده. كما أنه وبحسب
تصريحات رسمية صادرة عن مكتب خامنئي فقد أرسلت بريطانيا وسيطًا للتفاوض حول
الإفراج عن الناقلة "ستينا إمبيرو" (8). لكننا حالة افتراض أن إيران
قامت بإغلاق المضيق، فهل يمكن تجاوز المضيق إلى ما سواه؟
يبدو أن الإجابة على هذا السؤال ستكون بالنفي؛ فبحسب بيانات إدارة معلومات الطاقة الأمريكية، فإن المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة هما الدولتان الوحيدتان اللتان تمتلكان خطوط أنابيب قادرة على شحن النفط خارج الخليج العربي، وبحسب عام 2018 فإن القدرة الاستيعابية لهذه الخطوط الثلاثة (كما هو موضح في الجدول) تصل إلى 6.8 مليون برميل يوميًا، إلا أنه لا يتم نقل سوى 3 مليون برميل يوميًا عبر تلك الخطوط، مما يعني أن هناك فائض في القدرة يصل إلى 3.8 مليون برميل يوميًا (9).
لكننا
إذا قارنا هذا الرقم الأخير (3.8 مليون برميل يوميًا)، بما يتم نقله من النفط
يوميًا عبر مضيق هرمز والذي يصل إلى 21 مليون برميل من النفط يوميًا (بحسب بيانات
2018)، فسوف يتضح أنه سيكون هناك نقص في امدادات النفط بما يقارب 17.2 مليون برميل
يوميًا، أي ستقل الإمدادات بما يمثل
أربعة أضعاف عن الإمدادات المعتادة عبر المضيق. الأمر الذي يعني أنه في حال قيام
طهران بإغلاق المضيق فسوف ترتفع أسعار النفط بصورة كبيرة، هذا فضلًا عن احتمالات
نشوب حرب عسكرية في المنطقة. وهذا ما يدفعنا إلى استبعاد إغلاق المضيق.
يبدو أن إيران تحاول إشعال الأزمات في المنطقة والعالم،
فبدلًا من أن تقوم بتصدير "الثورة الإسلامية" تقوم بتصدير
"الأزمات"، وكأنه الخيار المتاح أمامها حاليًا، فمع انسحاب الولايات
المتحدة من الاتفاق النووي في الثامن من مايو 2018، وتنفيذ المزيد من العقوبات
الاقتصادية عليها، لاسيما فيما يتعلق بتصدير النفط، فإنها تسعى لتصدير مزيد من
الأزمات للمنطقة والعالم. هذا فضلًا عن أنها تريد التأكيد للداخل الإيراني ولحلفائها
أنها دولة "ممانعة" وتستطيع أن ترد على ما قامت به مشاة البحرية الملكية
البريطانية باحتجاز ناقلتها "جريس 1".
وبالتالي ففي النهاية، إذا لم يحدث وأغلقت طهران مضيق هرمز – ومن المستبعد أن تغلقه–، فإن أسعار النفط العالمية على المستوى البعيد لن تتأثر بصورة كبيرة جراء ما يحدث من توترات في المنطقة؛ إذ يبدو أن سوق النفط العالمي قد تعود أو ربما – سئم – من هذه التوترات المستمرة، هذا فضلًا عن التوقعات بتراجع الطلب العالمي على النفط في ظل مخاوف الركود الاقتصادي العالمي وزيادة المعروض النفطي خلال السنوات القادمة.
الهوامش:
1. إيران تحتجز ناقلة نفط بريطانية في مضيق هرمز، 19 يوليو
2019، سكاي نيوز العربية، متاح على:
https://cutt.us/ReSPt
2. احتجاز ناقلة نفط إيراني متجهة لسوريا في جبل طارق، 4
يوليو 2019، العين الإخبارية، متاح على:
https://al-ain.com/article/tanker-carrying-iranian-oil-syria-gibraltar
4. «أوبك» تتوقع تراجع الطلب على نفطها في
2020... وتلمح إلى فائض، 12 يوليو 2019، الشرق الأوسط، متاح على:
5. «أوبك» تميل لتمديد اتفاق خفض إنتاج النفط 9
أشهر، 01 يوليو 2019، الشرق الأوسط، متاح على:
7. بريطانيا تعلن عن خطط لتشكيل قوة بقيادة أوروبية لحماية
الملاحة في الخليج، بي بي سي العربية، 22 يوليو 2019، متاح على:
http://www.bbc.com/arabic/world-49075570
8. مدير مكتب خامنئي: بريطانيا أرسلت وسيطا إلى طهران
للإفراج عن ناقلتها، 24 يوليو 2019، روسيا اليوم، متاح على:
https://cutt.us/2GKeI
9.
The Strait of
Hormuz is the world's most important oil transit chokepoint, june 20, 2019,
U.S. Energy Information Administration (EIA), available at: