حتى اليوم لا تزال الدولة الإسرائيلية المتغطرسة
بديمقراطيتها؛ تؤمن بما يسمى عملية الفصل الحيزي وهي حالة تقيم فيها مجموعة سويا، في
منطقة جغرافية محددة، وبشكل منفصل عن سائر المجموعات السكانية، مجموعة من الناس الذين
تجمع بينهم خصائص مشتركة، كالدين، والأصل العرقي، وغيرها . ويستخدم الناس في هذه المناطق
لغة مشتركة، وعادات مشتركة وطقوسا مشتركة، وغير ذلك من الأمور الحياتية. وهو مما
تسبب في قيام حاجز نفسي بين أفراد المجتمع الإسرائيلي، ومن ثم فلا عجب أن لا تكون
الحادثة الأخيرة التي قتل فيها شاب من الفلاشا منذ أيام على يد شرطي أشكنازي هي
الاولى في سجل العنصرية الإسرائيلية بل جرت حوادث من قبل، ففي العاشر من يناير
2012 اقتحم نحو 3 آلاف إسرائيلي من أصل إثيوبي مقر الكنيست، احتجاجا على العنصرية ضدهم،
بعد الكشف عن رفض تجمعات لليهود البيض في جنوب إسرائيل بيع أو تأجير بيوت لليهود الإثيوبيين.
وقد رفع المتظاهرون شعارات قالوا فيها: "دمنا الأحمر
يصلح فقط للحروب"، و"وجوهنا سود ولكن قلوبنا بيضاء، وأنتم وجوهكم بيض ولكن
قلوبكم سوداء"، و"نتانياهو.. متى ستستنكر العنصرية؟"
وقال أحد المتظاهرين في ذلك الوقت: "أن تكون إثيوبيا
في إسرائيل يعني أن تكون منبوذا، ومستضعفا، وموضع شك". كما خرجت مظاهرة لليهود
الفلاشا احتجاجا على التمييز عام 2015 فى تل أبيب، احتجاجا على تداول فيديو لظابط جيش
يضرب مجندا إثيوبيا بطريقة مهينة، لكن سرعان ما فضت القوات الإسرائيلية المظاهرة
بالقوة وتم معالجة الامر بسرعة، على العكس من هذه المرة التي لم تهدأ الأمور
خلالها حتى الآن..
"الفلاشا " ما بين الإعتراف وعدمه
من ناحية الشكل فالمجتمع الإسرائيلي مجتمع متعدد سواء على
المستوى العرقي أو الأثني، إلا ان الواقع يُظهر لنا عكس ذلك فالفلاشا وهم المهاجرون
من إثيوبيا لا يتمتعون بنفس حقوق التعليم والوظائف في المجتمع الإسرائيلي. وقد
أبرز عدد صادر من مجلة تدعى"ميداع عال شفايون"، إلى ان هناك تمييز داخل
منظمة التربية والتعليم، فيما بين الطلاب من اصل شرقي وغربي، فأبناء الأشكناز
يذهبون لمدارس رفيعة المستوى وفيما عداهم إلى مدارس دون ذلك (1)، كما أظهرت صحيفة
يدعوت أحرونوت إلى واقعة رفض صاحبة نزل للأطفال أستقبال طفلين من يهود الفلاشا.
كما لا يقتصر التمييز على المؤسسة التعليمية فقط بل يمتد
إلى المؤسسة الدينية "حباد" في طبعون، حيث ان هناك فصل لمقاعد المهاجرين
الأثيوبيين في سالوم عن مقاعد المهاجرين السوفيت، وتجبر كذلك سلطات الإستيعاب
المهاجرين السوفيت على إرسال أبنائهم إلى المدارس الدينية.(2)
ومن ثم فلا عجب أن تنشأ العقلية اليهودية الغربية على
نبذ الآخر وكراهيته، وتتعدد تبعا لذلك الحالات العنصرية ومن ذلك الإعتداء على جندي
من أصل إثيوبي، وكذلك إلقاء أحد المراكز الطبية الإسرائيلية بدم تبرعت به نائبة من
أصل إثيوبي في الكنيست في القمامة.
ورغم ان الفلاشا يمثلون هجرات كثيرة جاءت فيما يسمى موجة
الهجرة الكبيرة الثانية التي كانت في سنوات التسعينات، وصل قرابة الـ100 ألف يهودى
إثيوبى لإسرائيل خلال قرابة 10 سنوات. ورغم تعدادهم الكبير إلا ان الحكومة الإسرائيلية
لا تعترف بهم فوفقا للمسؤول في الوكالة اليهودية يعقوب وينشتاين، الذي زار إثيوبيا
عام 1949، وطالب بالاستعجال بهجرة يهود إثيوبيا، فإن الحكومة الإسرائيلية في ذلك الوقت
عارضت هذا المطلب، بزعم أن اليهود المهاجرين يحملون أمراضا وراثية معدية، كما رفض معظم
رؤساء وزراء إسرائيل، وعلى رأسهم ديفيد بن غوريون وموشيه شاريت وليفي إشكول وغولدا
مائير، هجرة اليهود الإثيوبيين الجماعية إلى إسرائيل، ووصل الأمر، في بعض الأحيان،
إلى إبعاد من وصلوا إلى إسرائيل بالفعل خلال تلك الأعوام بحجة أنه لا ينطبق عليهم
"قانون العودة" وأنهم "نصارى". ووفقا لبعض الدراسات. ويعد أكبر تجمع للإسرائيليين من أصل
إثيوبي في الضفة الغربية المحتلة. كما يوجد تجمع لهم بالقرب من صفد في الجليل الأعلى
داخل الخط الأخضر، كما يتركز عدد من اليهود الإثيوبيين في مدينة عسقلان. وهناك
تنازع في الرأي بين اليهود أنفسهم في هل الفلاشا يهودا مع إختلاف لون جلودهم أم
أنهم ليسوا كذلك ومن ثم فهناك إنشقاق حول شرعية هؤلاء من الناحية التوراتية هل هم
يهود أم دخلاء على الشعب؟.
السحر الذي انقلب على الساحر
وليس عجبا أن نجد السحر ينقلب على الساحر. فقد لجأت
إسرائيل إلى أفريقيا كحل سياسي لمواجهة العرب ومصر من الجنوب، وقد بدا هذا واضحا عندما
قررت إسرائيل في عام 1973 استجلاب العديد من يهود الفلاشا "الأثيوبيين"؛
لمواجهة النمو الديموغرافي العربي (3)، وذلك عندما قرر حاخام الطائفة السفاردية
"الشرقية" (عوفاديا يوسف) اعتبار طائفة "بيتا يسرائيل" الأثيوبية،
طائفة يهودية؛ خلافاً للحاخام الأشكنازي (شلومو
غورين). وتم ذلك على فترات، وفق عمليات منظمة،
ففي: عام 1977 هاجر المئات.
- من عام 1977 وحتى عام 1983، استجلب 6000 أثيوبي.
- في عملية
"موشيه"، تم استجلاب 7000 أثيوبي.
- عملية سليمان" عام 1991، تم استجلاب 15000 أثيوبي؛
وارتفع عددهم سنة 2008 إلى 106900 مستجلب
"مهاجر".
ويبلغ الآن عدد اليهود من أصل إثيوبي 135500 وفق آخر تعداد
حكومي إسرائيلي رسمي لهم. ويعيشون في إسرائيل
بأحياء فقيرة ومهملة في مدينتي الخضيره والعفولة. وقد بدأت الوكالة اليهودية بتنظيم حملة لجمع التبرعات خاصة
في كنداوالولايات المتحدة لتمويل عملية تهجير يهود أثيوبيا.في أواخرالسبعينات، كانت
الوكالة اليهودية قد بعثت عملاءها لهذه الطائفة لحثهم على الهجرة نظرا لإحتياجها
إليهم في هذه المرحلة التاريخية. لكنم الآن يواجهون واقعًا صعبًا في مجالات: السكن،
والتعليم، والعمل، والدين، والهوية؛ ونمطًا جديدًا من العيش في مجتمع يعاملهم بعنصرية،
ويشك بيهوديتهم؛ فقد شكل اللون والمظهر أساسًا اعتمده العديد من يهود إسرائيل في معاملتهم؛
ما شكل ويشكل أهم مشاكل اندماجهم في المجتمع الإسرائيلي؛ بالإضافة إلى سياسة استيعابهم
من قبل الحكومة؛ حيث تم الاستيعاب على أساس جماعي؛ ما أدى إلى تبعيتهم للمؤسسات الرسمية،
وحرمهم فرصة التكيف مع المجتمع الإسرائيلي؛
خلافًا لسياسة استيعاب الجنسيات الأخرى.
الحكومة وموقفها من حوادث الفلاشا
وعندما قام الشرطى إسرائيلى فى غير وقت عمله بإطلاق النار
على مراهق إثيوبى مساء الأحد ما أدى لمصرعه، خرجت الشرطة الإسرائيلية فى بيان رسمى
وأشارت فيه إن الشرطى أطلق النار لفض مشاجرة دون تعمد قتل أحد. (4)
ثم عادت الشرطة لتفنيد تصريحاتها فيما بعد زاعمة أن الشرطى
تعرض لاعتداء من قبل يهود فلاشا، ما دفعه لإطلاق النار دفاعا عن النفس رغم نفى شهود
العيان رواية الشرطة والظابط، وقامت الشرطة فى ما بعد بوضع الظابط تحت الإقامة الجبرية
فى منزله. ما يعني أن هناك تخبطا في معاجلة الحكومة الإسرائيلية للأمر خاصة وان
الفلاشا خرجوا في مظاهرات غضب وتمرد، عبروا فيها عما يعتصرهم من ألم جراء عمليات
التمييز الممنهجة معهم، إذ خرج آلاف الفلاشا للشوارع ليغلقوا الطرقات، ويشتبكوا مع
رجال الشرطة بقنابل المولوتوف والحجارة، ما أسفر عن جرح 100 شرطى واعتقال أكثر من
100 متظاهر خلال تلك الليلة حسب تصريح المتحدث الرسمى للشرطة. ويبدو أن التعامل
اللحظي مع أزمات الفلاشا هو سيد الموقف عند الحكومة الإسرائيلية إذ تصدر التصريحات
بشكل وقتي وهي تنم عن وعود مستقبلية لا تتحقق البته فرئيس الحكومة (نتياهو): أعلن أثناء إحتجاجات، عن ضرورة استيعابه لأزمة اليهود الأفارقة من الإثيوبيين،
وأعلن أنه سيعقد اجتماعًا بخصوصها للخروج منها بأسرع وقت.
بينما قال زعيم المعارضة يتسحاق هيرتسوغ: "إن تعامل
الحكومة لا يليق بحجم الأزمة التي توقع تفاقهما"؛ أما وزير الأمن الداخلي (يتسحاق
أهارونوفيتش) فقد قال: إنه لا يمكن إلقاء اللوم على الشرطة وحدها، فيما يتعلق بطريقة
تعامل المجتمع الإسرائيلي مع أبناء طائفة اليهود الإثيوبيين.
كما اعتبر رئيس حزب"ميرتس" المعارض (ايلان جالؤون)
ما يتعرض له الفلاشا "دافعاً لتفشي العنصرية في إسرائيل؛ التي سعت جاهدة لاستقدامهم،
وأهملت استيعابهم"؛ مضيفًا أنه يتفهم احتجاجهم في تل أبيب والقدس، ويتهم الشرطة
بـ"استخدام قوة مفرطة ضد العرب والمتدينين الأصوليين أيضًا، ودون هذه الضجة لن
يلتفت لهم أحد في إسرائيل، ولن تتغير أحوالهم المعيشية؛ فهي لا تفهم إلا لغة القوة
في كثير من الأحيان".
وكان قد أكد من قبل الرئيس الإسرائيلي رويفين ريفلين تفهمه
لغضب اليهود الأثيوبيين، لكنه شدد في الوقت نفسه بالقول: "لابد أن نعلن بوضوح
أن الاحتجاج أداة حيوية في الديمقراطية، ولكن العنف ليس السبيل وليس الحل". وأضاف
قائلا بأن الاضطرابات "كشفت جرحا مفتوحا وينزف في قلب المجتمع الإسرائيلي، جرح
مجتمع يصرخ من الشعور بالتمييز والعنصرية والإهمال". وأضاف أنه "بين هؤلاء
الذين يتظاهرون في الشوارع بعض من أفضل أبنائنا وبناتنا.. ندين لهم بإجابات".
(5)
كما دعا الرئيس الإسرائيلي، رؤوفين ريفلين، إلى التهدئة
بنبرة لا تنم عن جلل الحدث حيث دعا في كلمته إلى التفكير بهدوء وأضاف "يجب أن
نسمح للتحقيق في وفاة سلمون أن يأخذ مجراه وأن نمنع حدوث حالة وفاة أخرى".
ويبدو من جملة تصريحات الساسة الإسرائيليين أنها لا تنم عن التوجه نحو تحقيق العدالة، ومواساة الضحايا وهو ما سوف يؤدي إن لم يكن اليوم، نحو مزيدا من التمزق داخل المجتمع الذي تحكمه القبضة الحديدية للإشكنازيم، الذين يعتبرون أنفسهم مصدر السياسة والتشريع في المجتمع، وما عداهم فمجرد حثالة ليس إلا.
الهوامش
1- عطا القيمري، مظاهر العقلية العنصرية في إسرائيل، فلسطين،
مجلة الدراسات الفلسطينية، المجلد 2، العدد 8، 1991،ص 313
2- سكاي نيوز، إحتجاجات واسعة للفلاشا في إسرائيل.. فمن هم؟،
سكاي نيوز عربية،4/7/2019
الرابط
متاح على:
3-
هجرة الإثيوبيين وعنصرية
دولة إسرائيل، وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية، الرابط متاح على:
http://info.wafa.ps/ar_page.aspx?id=9665
4-
أدهم السيد، 5أيام من
إحتجاجات يهود الفلاشا وعقود من التمييز العنصري في إسرائيل، مبتدا، 4/7/2019، الرابط
متاح على:
https://www.mobtada.com/details/853051
5-
دويتش فيله،صرخة اليهود
الإثيوبيين في إسرائيل فهل من آذان صاغية؟،5/5/2015
الرابط متاح على: