حراك الجزائر .. الأطراف الفاعلة، ومواقفها، والسيناريوهات المحتملة
أدرك الشعب الجزائري أهمية الحراك
السلمي الذي بدأ منذ ما يقارب شهرًا، وانتهى في 12 مارس/آذار 2019 بإعلان الرئيس
الجزائري "عبد العزيز بوتفليقة" بالتراجع عن الترشح لرئاسيات 2019، أو
ما يعرفه الجزائريون بالعُهدة الخامسة. وقد كانت العُهدة الرابعة محل جدلٍ طويل في
عام 2014 على وقع حالة الرئيس الصحية وقتها، ورغم ذلك استطاع النظام السياسي
بمؤسساته تمرير الترشح، وهو ما لم يتمكنوا منه في العُهدة الخامسة التي شهدت أكبر
حراك جماهيري في الجزائر منذ ما يُعرف بالعشرية السوداء التي عانى خلالها
الجزائريون من الاقتتال الأهلي الذي استمر حتى بدء مرحلة الوئام والسلم الأهلي
التي أطلقها "بوتفليقة" نفسه في عام 1999. لذلك، ترسخ في أذهان الأجيال
المتعاقبة من الشعب الجزائري أن وجود الرئيس "بوتفليقة" يُمثل صمام
أمانٍ لمكتسبات مرحلة السلم والوئام، وهو
ما حاول القائمون على الحكم ترويجه في العُهدة الخامسة ولكنه فشل للتغيب الفعلي
للرئيس "بوتفليقة" الذي لم يُمكنه مرضه حتى من إعلان ترشحه بنفسه أو أن يخاطب
شعبه بشكلٍ مباشر.
سنحاول
في هذا التقرير رصد المشهد السياسي الجزائري، والعوامل التي أثرت في الأزمة
الحالية كالاقتصاد، ومؤسسات الدولة كالجيش وأجهزة الأمن، وتأثير العامل الإقليمي
والدولي على تطورات الأزمة وسيناريوهاتها المحتملة بعد إعلان الرئيس
"بوتفليقة" تمديد عُهدته الرابعة والبدء في مرحلة انتقالية تبدأ بتعديل
الدستور، وتنتهي بإجراء انتخابات عامة.
خطاب بوتفليقة، وبدء العُهدة
الشعبية
يرى
المتفائلون بتطورات الحِراك الجزائري أن إعلان الرئيس "بوتفليقة" عدم
ترشحه لرئاسيات 2019 هو بداية حقيقية لانتهاء الحديث عن العُهدة الخامسة، بل
ويعتبرون أنه فرصة حقيقية لبدء الولاية الأولى للشعب الجزائري. ورغم هذه الحالة من
التفاؤل إلا أن الأمر بات معلقًا على من سيقوم بإدارة المرحلة الانتقالية التي ستضطلع
بالتعديلات الدستورية والانتخابات الرئاسية والنيابية بعدها.
وقد استمرت
حالة الحراك في الشارع لحوالي ثلاثة أسابيع، وكانت حركة الشارع تدعو إلى التصعيد
السلمي ضد القائمين على الحكم، وهو ما كان يخشاه الجزائريون سواءً على مستوى
المؤسسات أو الشعب؛ حيث لا زالت أحداث العشرية السوداء وما خلَّفته من دمار في
بنية الدولة ومقوماتها الأساسية عالقة في المخيلة الذهنية للمجتمع الجزائري. وفي
هذا السياق، تعتبر بعض التحليلات أن سيناريو الانجراف نحو العنف غير وارد في الحالة
الجزائرية؛ إذ تحرص المعارضة والسلطة على التوافق، وعدم ترك الأحداث لأي تطورات
غير محسوبة كما حدث في أوائل الثمانينيات. ويُفسر ذلك بدرجة كبيرة حرص مؤسسات
الدولة القوية كالجيش، وكذلك المجموعة الصغيرة المحيطة بالرئيس
"بوتفليقة" على التفاعل مع مطالبات الشارع بالعدول عن إجراءات السير نحو
العُهدة الخامسة.
يُذكر أن
بيان الرئيس "بوتفليقة" قد تضمن إجراءات سير المرحلة الانتقالية. وتعهد
"بوتفليقة" في بيان عدم الترشح بتنفيذ اصلاحات عميقة في كافة المجالات
سواءً تلك التي تتعلق بالبنية السياسية، أو المؤسساتية، أو الاقتصادية، أو
الاجتماعية، وذلك من خلال توسيع قاعدة المشاركة للمجتمع الجزائري بكافة تصنيفاته
وتعقيداته. وتضمنت قرارات "بوتفليقة" الأخيرة عدم الترشح للانتخابات
الرئاسية والاكتفاء بما قدمه للجزائر سواءً مجاهدًا في صفوف الثوار ضد الاستعمار
الفرنسي أو مسؤولًا حكوميًا منذ أن تدرج في مناصب حكومية حتى وصل لرئاسة الجمهورية
عام 1999. ولم يكتفِ "بوتفليقة" في بيانه بالتراجع عن العُهدة الخامسة،
ولكنه أعلن عن بدء مرحلة انتقالية تحت إشرافه، وهو ما يعني تمديد عهدته الرابعة
بعد قراره بتأجيل الانتخابات الرئاسة إلى أجلٍ غير مسمى.
وتعهد "بوتفليقة"
في بيانه بالعمل على إرساء أسس الجمهورية الجزائرية الجديدة التي ستعبر عن نداءات
الشارع الأخيرة وأهمها تعاقب الأجيال وتحقيق الاصلاح السياسي والتنمية المستدامة. وقرر
قبول استقال حكومة "أحمد أويحيى"، والتجهيز لندوة وطنية جامعة (مؤتمر
جامع) تتمتع بكافة السلطات والصلاحيات اللازمة لإعداد واعتماد أرضية النظام
السياسي الجديد، وتعديل الدستور، وتحديد تاريخ إجراء الانتخابات الرئاسية. وأكد
البيان ان هذه الهيئة ستمثل كافة أطياف المجتمع الجزائري، وسترأسها شخصية وطنية
تحظى بالقبول والاستقلالية والخبرة. ومن المقرر أن تُنهي الندوة الوطنية أعمالها
قبل نهاية عام 2019. وبالتوازي مع هذه الإجراءات، قرر "بوتفليقة" إنشاء
لجنة وطنية مستقلة للإشراف على تنظيم الانتخابات.
التصعيد الحذر .. مواقف
المعارضة، والشارع
تباينت ردود
الفعل داخل الشارع الجزائري بكافة اختلافاته حول العملية الانتقالية التي بدأها
الرئيس "بوتفليقة" بنفسه. ويرى خبراء أن هناك إشكالية دستورية وقانونية
تعتري هذه الإجراءات خاصة في تعارضها مع المادة (110) التي تعتبر تأجيل الانتخابات
الرئاسية قاصرًا على ظروف الحرب وهو ما لم يحدث(1).
على الناحية الأخرى، تُبرز الإجراءات التي أعلن عنها "بوتفليقة" عن شبه
تعطيل للدستور؛ حيث تجاوزت الإجراءات الدستور، وهو ما ظهر بقراره بالإعلان عن
تكليف الندوة الوطنية بالإشراف على عملية تعديل الدستور، وهو ما يعني أن الإجراءات
التي بدأها "بوتفليقة" بمثابة بدء مرحلة انتقالية تتجاوز البُنى
القانونية والسياسية الحالية بما فيها الدستور.
واعتبرت
جبهة التحرير الوطني الحاكمة أن الرئيس "بوتفليقة" لبّى في بيانه للشعب
الجزائري مطالب المتظاهرين بعد الترشح للعُهدة الخامسة. واعتبر بيان الجبهة أن الرئيس
"بوتفليقة" استمع إلى شعبه باتخاذه هذه الإجراءات. واتهم "علي بن
فليس" رئيس حزب "طلائع الحريات" ورئيس الحكومة الأسبق، من سماهم
"القوى غير الدستورية" المحيطة بالرئيس بمحاولة الاستمرار في احتكار
سلطات رئيس الدولة بتمديد العُهدة الرابعة خارج الأطر الدستورية والقانونية التي
استقرت عليها النصوص القانونية الجزائرية(2).
وعدَّ "عبد الله جاب الله" رئيس "جبهة العدالة والتنمية" المعارضة
أن القرارات التي أعلن عنها "بوتفليقة" مستهلكة داعيًا إلى عدم الالتفات
لوعود الاصلاح والاستمرار في الضغط السياسي من قِبل الشارع على القائمين على
الحكم. ودعا "كريم طابو" المنسق الوطني لحزب "الاتحاد الديمقراطي
والاجتماعي" لتنظيم مظاهرات مليونية لرفض مبادرة بوتفليقة، فيما يعني استمرار
التصعيد الاحتجاجي ضد النظام السياسي برمته وليس العُهدة الخامسة كما أُعلن في
بداية الاحتجاجات(3).
وفيما
يتعلق بموقف حركة مجتمع السلم (حمس) الإسلامية، يرى "عبد المجيد مناصرة"
نائب رئيس الحركة أن قرارات "بوتفليقة" ليس لها أي سندٍ دستوري خاصة مع
بروز سيناريوهات تمديد العُهدة الرابعة
لعامين على الأقل. وتعتبر حركة حمس أن الرئيس "بوتفليقة" ألغى بهذه
القرارات مهام اللجنة الوطنية للانتخابات المقرر انتهاء عملها بشكلٍ قانوني أواخر
2019. واعتبر "مناصرة" أن دائرة "بوتفليقة" استجابت للشارع،
ولكن على طريقتها الخاصة. ورغم معارضة حمس المبطنة للقرارات الأخيرة، ولكنها لم
تتخذ موقفًا حادًا من تطورات الأزمة السياسية في الجزائر. وأوعزت إلى رأي الشارع،
وموقفه من القرارات الأخيرة(4). الغريب
في هذا الموقف أن حركة حمس دعت منذ بداية الاحتجاجات إلى تمديد العُهدة الرابعة وتأجيل
رئاسيات 2019، وهو ما تعترض عليه في الوقت الحالي مما يفتح باب التساؤلات عن طموح
الحركة لاستغلال الحراك الجماهيري لتحقيق مكاسب سياسية.
وفي
تعليقه على تعيين وزير الداخلية نور الدين بدوي بمنصب رئيس الوزراء، استبعد
"مناصرة" أن يكون هناك حل أمني في الجزائر، مبيناً أن رئيس الوزراء
المُعين "ليس رجلاً أمنياً، إنما رجل إداري ومقبول نسبياً، وكانت هناك فكرة
لتعيينه قبل الحراك". ودعا مناصرة أن تبقى المظاهرات الشعبية في إطارها
السلمي ومحافظة على مدنيتها، "ويتوجب علينا أن نساير الحراك الشعبي في كل
مطالبه". وحول إمكانية ترشح أحد إخوة الرئيس الجزائري؛ سعيد أو ناصر
بوتفليقة، لمنصب الرئاسة، استبعد "مناصرة" ذلك قائلاً: إن "الحكم
العائلي مرفوض في الجزائر بشكل مطلق، حتى إنّ فكرة أن تحكم عائلة ما الجزائر
وتوارث الحكم هي غير موجودة تماماً".
السيناريوهات المحتملة
تتحكم 3 محددات رئيسة في رسم سيناريوهات مستقبل الجزائر في مرحلة ما بعد "بوتفليقة" هي:
· موقف المؤسسة العسكرية، والجهاز الأمني من استمرار
الحراك
·
شبح
العنف، والتخوف من تكرار العشرية السوداء
·
مدى قدرة
المعارضة على استمرار حالة الزخم في الشارع
وفي ضوء ذلك، يبرز 3 مسارات لتحديد مستقبل الجزائر في مرحلة ما بعد "بوتفليقة" وهم:
السيناريو الأول: التوافق بين رؤى
الجيش ومتصدري الحراك
يعتمد
هذا السيناريو على اتجاه المؤسسة العسكرية الجزائرية لإفساح المجال أمام اختيار
شخصية وطنية تحظى بالقبول المجتمعي خاصة لدى فئة الشباب، وذلك بهدف تفويت الفرصة
أمام الحركات والأحزاب التي تحمل أراءً متطرفة ضد النظام السياسي برمته، كما تضمن استمرار
منظومة الحكم دون تغييرات جذرية بعد بناء الثقة بين الشعب والسلطة، ومنع التدخلات
والإملاءات الخارجية خاصة من قبل فرنسا التي رغم تطورها الديمقراطي داخليًا لم
تنفك عن تاريخها الاستعماري، وذلك بما يضمن استقرار منطقة المغرب العربي وشمال
أفريقيا الذي تشكل الجزائر قلبه النابض بما لها من قوة جغرافية وديموغرافية. ويؤكد
هذا السيناريو بيان قائد الجيش الجزائري "قايد صالح" الذي حاول خلاله
التقرب للشعب الجزائري؛ حيث قال في بيانه الرابع الذي سبق قرارات
"بوتفليقة" بيومٍ واحد: "أن الجيش والشعب الجزائريين يتقاسمان
"ذات القيم" وتجمعهما "النظرة المستقبلية الواحدة"(5)، وهو ما
يعني بطريقةٍ أو بأخرى أن ثمّة دور بارز لعبه "قايد صالح" خلف الكواليس
لخروج بيان "بوتفليقة" الذي أتاح مساحة كافية من الوقت لترتيب عملية
الانتقال.
السيناريو الثاني: استمرار
الزخم الشعبي
يعتمد
هذا السيناريو على جوهر المواقف المعلنة من أغلب القوى السياسية الجزائرية التي
تعتبر أن قرارات "بوتفليقة" الأخيرة محاولة باهتة للالتفاف على مطالب
الحراك، وضمان انتقال سلس للسلطة. لذلك قد تعمل المعارضة للضغط على
"بوتفليقة" للتنحي تمامًا عن تحمل أعباء الحكم، وهو ما يعني إبعاد
الدائرة الضيقة المحيطة به، ومن ثم إتاحة المجال للحديث والتوافق عن مرحلة ما بعد
"بوتفليقة" سواءً ببدء مرحلة انتقالية برئاسة رئيس المحكمة العليا، او
تشكيل مجلس تمثيلي للقوى السياسية والجماهيرية لإدارة المرحلة الانتقالية، وفتح
حوار مباشر مع كافة أطياف الشعب السياسية والنقابية، وكذلك المؤسسات السيادية
كالجيش وقوى الأمن للتوافق على طبيعة وشكل البيئة السياسية فيما بعد
"بوتفليقة".
ويرتبط نجاح هذا السيناريو باستمرار حالة الزخم الشعبي
والتوافق بين مطالبات الشارع والقوى السياسية التمثيلية التي ستقود عملية التفاوض
مع النظام. وتتمثل مشكلة هذا السيناريو في اعتماده بشكلٍ رئيس على ضرورة أن يكون
هناك خاسر ومنتصر، وهو غير مفيد للجزائر ولا الجزائريين الذين لم يفرطوا سواءً
سلطة أو شعب في مكتسبات مرحلة الوئام والسلم الأهلي في عهد بوتفليقة. وبدا ذلك في
رفض الجزائريين على مواقع التواصل الاجتماعي لفكرة المظاهرات الليلية التي تم
اقتراحها في الأسبوع الثاني من الاحتجاجات، وذلك لارتباط هذا التكتيك بالمواجهة
المباشرة بين الأمن والمتظاهرين.
السيناريو الثالث: نجاح الندوة
الوطنية، وضمان الانتقال السلس
يُعول هذا السيناريو على انحسار
الاحتجاجات للبدء في مرحلة حوار مجتمعي حول طبيعة المرحلة المقبلة من خلال الاطر
السياسية والدستورية التي رسمها بيان "بوتفليقة" الأخير لا سيما أن اقتراح تمديد العُهدة الرابعة كان
مطروحًا في الأيام الأولى للاحتجاجات. وتقف الدائرة الصغيرة المحيطة بالرئيس
"بوتفليقة" عقبة أمام تطبيق هذا السيناريو؛ إذ يرفض الشعب الجزائري أن
يكون لهم أي دور في رسم سمات الفترة المقبلة من التاريخ الجزائري.
ختامًا؛ لا يُمكن التنبؤ بشكلٍ مطلق بتطورات الوضع السياسي (6) في الجزائر خلال الفترة المقبلة، ولكن ما يُمكن التأكيد عليه عدم انجرار الجزائريين (السلطة، والشعب) نحو أي شيء من شأنه تعكير حالة الوئام الأهلي التي تُعد من أهم مكتسبات حقبة "بوتفليقة"، وذلك لأسباب تتعلق بطبيعة تنشئة جيل الشباب الذي عاش أو سمع وتأثر بشكلٍ مباشر من حصاد العشرية السوداء إضافة إلى حالة عدم استقرار الجوار الجغرافي المحيط بالجزائر خاصة الوضع في ليبيا منذ انهيار الدولة في 2011، أو نشاط حركة بوكو حرام الإرهابية في مالي المتاخمة للحدود الجزائرية.
الهوامش
1- هل تأجيل بوتفليقة الانتخابات الجزائرية قرار دستوري؟،
مصراوي، على الرابط: https://goo.gl/dNgBii
2- ردود أفعال رافضة داخل المعارضة لقرار بوتفليقة إرجاء
الانتخابات وعدم الترشح، روسيا اليوم، على الرابط: https://goo.gl/tLp94t
3- المرجع السابق.
4- "حمس": قرارات بوتفليقة غير
دستورية وتثبته في الحكم سنتين، الخليج أونلاين، على الرابط: https://goo.gl/128cti
5- رئيس الأركان الجزائري: الجيش والشعب يتقاسمان "ذات
القيم"، فرانس 24، على الرابط: https://goo.gl/pLhaEA
6- مزيد من التقارير حول تطورات المشهد السياسي الجزائري؛ أنظر: محمود جمال عبد العال، الانتخابات الرئاسية في الجزائر .. الحسابات السياسية، وعُقدة الخلافة، المركز العربي للبحوث والدراسات السياسية، على الرابط: http://www.acrseg.org/41109، و محمود جمال عبد العال، الجزائر على صفيح ساخن: حملة إقالات .. أهداف سياسية أم حرب على الفساد؟، المركز العربي للبحوث والدراسات السياسية، على الرابط: http://www.acrseg.org/40818، وانظر أيضًا: محمود جمال عبد العال، مأزق الانقسامات: مستقبل الإخوان في الجزائر بعد المؤتمر السابع، المركز العربي للبحوث والدراسات السياسية، على الرابط: http://www.acrseg.org/40759