الجزائر على صفيح ساخن: حملة إقالات .. أهداف سياسية أم حرب على الفساد؟
شهدت
الجزائر خلال الأيام السابقة حملة ضد فساد المسئولين؛ حيث تمكنت القوات البحرية
التابعة للجيش الجزائري بتنسيق مع المخابرات الفرنسية والإسبانية كأحد ثمرات
التنسيق الأمني لمكافحة الإرهاب من الكشف عن أكبر قضية تهريب لكميات ضخمة من
الكوكايين في مايو/أيار الماضي. وأثارت هذه القضية جدلًا واسعًا لدى الرأي العام
الجزائري نظرًا لشبكة العلاقات الواسعة التي يتمتع بها رجل الأعمال "كمال
شيخي" الذي قام باستيراد صفقة اللحوم من البرازيل، والتي هُرب بداخلها ما
حجمه 701 كيلوجرام من الكوكايين، التي أُحبطت في عرض البحر في 26 مايو/ أيار
الماضي، وكشفت التحقيقات عن تورط مسئولين كبار في النظام الجزائري مع
"شيخي".
وفجرت
هذه القضية حالة الصراع المستتر بين قيادة أركان الجيش وقيادة الأمن الوطني؛ حيث ترتب
عليها إقالة "عبد المغني الهامل" قائد قوات الأمن الوطني وذلك استباقًا
للانتخابات الرئاسية التي ستشهدها الجزائر في 2019. وسنحاول في هذا التقرير دراسة
أبعاد القضية بغرض فهم الظروف والملابسات التي تطورت خلالها القضية بدءً من ضبط
المتورطين في القضية لمحاسبتهم على شبهات الفساد وصولًا إلى الإقالات الأمنية
والعسكرية الأخيرة التي كشفت عن حجم الصراع داخل أروقة النظام السياسي.
حرب على الفساد
تزامنت
الإقالات الأخيرة على مستوى جهاز الأمن العام مع قضية الفساد الكبرى التي تمثلت في
ضبط كمية ضخمة من الكوكايين(1). وعلى إثر هذه القضية انتشرت تأويلات
وشائعات على مستوى الشارع لتشبيك أضلاع مثلث قضية الكوكايين، وحملة الإقالات،
ورئاسيات 2019 وحاولت الحكومة الجزائرية على لسان وزير العدل طمأنة الشارع أنه لا
حصانة للفاسدين؛ حيث اتهم الوزير "الطيب لوح" مسئولين كبار بالتورط في
ملفات فساد؛ حيث تلقوا مزايا من المتهم الأول في القضية "شيخي" من خلال
نشاطه في العقارات واستيراد وتصدير اللحوم(2). جدير بالذكر أن
"شيخي" قد أقام إمبراطورية من شبكات المصالح التي قامت على الرشوة
واستغلال النفوذ، وكشفت مستندات القضية عن استغلال "شيخي" علاقاته
بمسئول الموارد البشرية بوزارة العدل للتدخل في التعيينات لدى دوائر النفوذ مثل
الدوائر لحماية أتباعه وتمكينهم.
كشفت
التحقيقات ان المتورطين في القضية لم يكونوا مهربين صغارًا؛ حيث قُدرت الشحنة ب40
مليون دولار، واكتست القضية أهميتها لأسباب تتعلق بتورط مسئولين وأبناء مسؤولين
كبار أبرزهم نجل رئيس الحكومة الأسبق، "عبد المجيد تبون". وتشير
بعض التفسيرات إلى أن القيادة السياسية في الجزائر جادة في التحقيق في القضية ليس
فقط بسبب صفقة الكوكايين ولكن أيضًا للإيقاع بما أطلقوا عليها "شبكة
شيخي" التي ضمت شخصيات عامة بارزة، من بينهم قضاة وأعضاء بالنيابة العامة وولاة
وأصحاب شركات تطوير عقاري وأبناء ساسة بارزين. وتلمح التقارير الإعلامية إلى إمكانية
تورط مدير الأمن الوطني "عبد الغني هامل" في القضية خاصة بعد الكشف عن
تورط سائقه الخاص، ومن بين من تشملهم أنباء التوقيف "عبدالقادر زوخ"
محافظ ولاية الجزائر العاصمة، التي تتركز بها أنشطة "شيخي". ونفى
"زوخ" أن يكون له صلة بالقضية أو متهمها الأول.
حملة الإقالات وأبعادها
السياسية
تميل
التحليلات إلى اعتبار الإقالات التي شهدتها المؤسسة العسكرية عادية وروتينية، ورغم
ذلك تبرز العديد من علامات الاستفهام أمام إقالات قائد الأمن الوطني اللواء
"هامل" وعلاقة الإقالة برئاسيات 2019. ورغم أن القضية الأخيرة متعلقة
بفساد المسئولين إلا أنها دخلت في مناورات الحكومة السياسية تمهيدًا لانتخابات
2019 الرئاسية.
كشفت
تصريحات اللواء "هامل" ضد المؤسسة العسكرية عن حالة صراع مستترة بين أركان
النظام الأساسية؛ حيث ألمح في كلماته إلى تورط أجهزة الجيش من الشرطة العسكرية
والقوات البحرية بارتكاب تجاوزات واختراقات في التحقيقات الأولية لولا يقظة أجهزة
القضاء التي أعادت الأوضاع إلى نصابها في قضية الكوكايين. وقال "هامل":
"إن من يحارب الفساد لا بد أن يكون نظيفًا"، وأشار إلى انه سيقدم للقضاء
ما بحوزته من أوراق وأدلة خاصة بالقضية(3).
تنم هذه
التصريحات عن حجم الصراع بينه (وهو أحد أبناء القوات المسلحة) وقادة الأركان
والأسلحة بالجيش الوطني وهو ما يعزيه البعض لصراع السلطة بينه وبين قائد الأركان
للجيش الوطني "قايد صالح" خاصة عند النظر إلى حالة التوافق التي يحظى
بها اللواء "هامل" في رئاسيات 2019 في حال عدم ترشح الرئيس "بوتفليقة"
لولاية خامسة. وفي هذا الإطار، يحاول "صالح" إبعاد كل من هم ليسوا على
خطه السياسي تمهيدًا للدفع به في رئاسيات 2019.
يرى
المحللين للأوضاع السياسية الجزائرية ان ما قام به اللواء "هامل" من انتقاد
حاد للمؤسسة العسكرية يمثل سابقة لم تحدث من قبل؛ حيث قام بكشف ما يحدث داخل
النظام السياسي، وهو بذلك ارتكب أكثر من خطأ؛ أولهم، أفشى صراعات داخلية كان عليه
إبقاؤها في السر، والثانية تتعلق بتستره على مستندات تخص قضايا فساد، والثالثة إعلانه
التشكك في نزاهة أجهزة المخابرات والشرطة العسكرية. وما كان ليمر ذلك بسهولة على الرئيس
"بوتفليقة"؛ حيث سارع بإيعاز من قائد الجيش إلى إقالة اللواء
"هامل". ورغم إقالة "هامل" إلا انه لا يمكن الجزم بانتهاء
دوره في النظام السياسي الجزائري.
صراع الأجنحة
على صعيدٍ آخر، هناك اتجاه يرى أن حملة الإقالات التي
شهدتها المؤسسات الأمنية ليست روتينية خاصة في توقيتها الذي يسبق مراحل الإعداد
للانتخابات الرئاسية في 2019. وتعتبر هذه التحليلات أن المؤسسة العسكرية في
الجزائر تحاول فرض رؤيتها لهندسة النظام السياسي في مرحلة ما بعد "بوتفليقة"،
بل ويذهب التفسير بعيدًا عن ذلك؛ حيث يعتبر أن إقالة "هامل" مثال واضح
لرفض قيادة الأركان الحديث عن بديل "بوتفليقة" خارج أسوار وزارة الدفاع
الوطني وهو ما يعكس رغبة المؤسسة العسكرية بفرض قائد أركان الجيش الوطني
"قايد صالح" على رئاسيات 2019 في حال عدم تقدم "بوتفليقة"
لولاية خامسة، أو على الأقل المشاركة في تسمية خليفة "بوتفليقة".
وتقر الاتجاهات
المعارضة لهذا التفسير بوجود صراعات داخل أجنحة النظام؛ حيث قالت حركة
"مواطنة" التي تضم عدة أحزاب وشخصيات سياسية معارضة في بيان لها:
"قد ظهر للعيان حرب الأجنحة داخل نفس النظام، وهو ما يكشف على جزء من الحقيقة
على الأقل، إلا أن الخطر سيظل قائمًا بشأن احتمال تصفية حسابات قد تطول أبرياء أو
مسؤولين ثانويين في القضية". من جهتها اعتبرت "حركة مجتمع السلم" (الذراع
السياسي لجماعة الإخوان المسلمين) أن حملات الإقالة تعكس حالة التنافس السياسي على
السلطة، وهو ما نتج عنه صراعات تهدد حياد المؤسسات وتبرزها في هيئة عصب متصارعة. واعتبر
حزب "التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية" المعارض أن ما يحدث ما هو إلا
تصفية حسابات في هرم السلطة. ورغم تمكن النظام في الجزائر من تمرير التغييرات
الأمنية والعسكرية إلا أن هناك تساؤلات تظهر أمام أعيننا خاصة تلك المتعلقة بمدى
تماسك النظام السياسي داخليًا واستعداده لخوض رئاسيات 2019 وتحمل سيناريوهاتها
المبهمة(4).
من المستفيد من حملة
الإقالات؟
تتجه
التحليلات إلى اعتبار رئيس الأركان "قايد صالح" هو المستفيد الأول"
من إبعاد "هامل"؛ حيث ضمن "صالح" عدم خروج ترتيبات الولاية
الخامسة عن أسوار وزارة الدفاع التي سيكون فيها الجيش الفاعل الأبرز. يتوافق ذلك
مع التفسير الذي يرى أن ما يمر به الجزائر ما هو إلا معركة نفوذ داخل النظام وحرب
لتكسير العظام من خلال التخلص ممن يمكن أن يمثلوا دورًا في مرحلة ما بعد
"بوتفليقة" في حال مغادرته السلطة. جدير بالذكر الإشارة إلى أن اللواء
"هامل" من المقربين من "بوتفليقة"؛ إذ ينتمي إلى المؤسسة
العسكرية والتي انتقل منها لقيادة حرس الحدود، والحرس الجمهوري، والأمن الوطني وقد
انتصر له الرئيس "بوتفليقة" عام 2014، حين تظاهر مئات الضباط في العاصمة
الجزائر للمطالبة بإقالته نتيجة سياساته المالية التقشفية معهم.
ختامًا؛ يمكن أن يمثل عام 2019 فصلًا
جديد في شكل "جزائر ما بعد العشرية السوداء" في حال لم يترشح الرئيس
"بوتفليقة" لولاية خامسة. وقد تشهد رئاسيات 2019 معارك لتكسير العظام
ليس فقط بين السلطة والمعارضة، ولكن أيضًا بين أجنحة داخل السلطة نفسها خاصة على
مستوى الحزب الحاكم والمؤسسة الأمنية والعسكرية، ويعد ما حدث بين قيادة الأركان والأمن
الوطني نموذجًا لذلك.
الهوامش
1.
الجزائر:
"فضيحة الكوكايين" تعقد الوضع السياسي قبل أشهر على الانتخابات الرئاسية
(27/6/2018)، فرانس 24
2. وزير العدل الجزائري: القضاء لن
يسمع إلا للقانون والضمير في قضية الكوكايين (3/7/2018)، القدس العربي
3.
Algeria suffers a long
hot summer of political scandal - again (29/6/2018), Middle East Eye