إدريس ديبي .. عودة الدبلوماسية الإسرائيلية في أفريقيا
رغم
تشديد العديد من الدول الأفريقية عبر خطاباتهم في المحافل الدولية المختلفة على
أولوية القضية الفلسطينية، ورفضهم التام لممارسات الاحتلال، بجانب تأكيدهم على
حقوق الشعب الفلسطيني في استرداد أراضيه المسلوبة، إلا أن الواقع جاء خلاف ذلك، ليعكس تهميشًا حقيقيًا للقضية
مقابل الحصول على مساعدات إسرائيلية، أو على الأقل كسب ود الولايات المتحدة
بالتقارب مع تل أبيب.
من هنا
يأتي الحديث عما وصفت بالزيارة المفاجأة للرئيس التشادي "إدريس ديبي"
إلى إسرائيل، يوم الأحد الموافق 25نوفمبر2018، التقى خلالها رئيس الوزراء الإسرائيلي
"بنيامين نتنياهو"، بعد مضي نحو أربعة عقود على قطع العلاقات بين
البلدين، ليعلن "ديبي" خلال الزيارة عن تطلع بلاده إلى الدخول في حقبة
جديدة من التعاون المشترك، وتجاوز فترة القطيعة الدبلوماسية بين الطرفين. في مؤشر
خطير لانضمام تشاد إلى قائمة الدول الأفريقية التي تراجعت عن موقفها المناصر للقضية الفلسطينية، لاسيما بعدما أشارت صحيفة "هآارتس"
الإسرائيلية إلى أن الزيارة تم الإعداد لها مسبقًا، ملمحة إلى المساعدات العسكرية
التي منحتها إسرائيل لتشاد مؤخرًا لمحاربة المتمردين. في تحول يعكس توالي نجاح
الاختراقات الإسرائيلية الدبلوماسية للقارة السمراء.
عودة دبلوماسية بعد عقود من القطيعة
استقبل
رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو"، الرئيس التشادي "إدريس
ديبي" في أول زيارة له منذ قطع العلاقات الدبلوماسية بين الجانبين عام 1973،
لينكشف عهد جديد من التعاون بين الجانبين، وفقًا لهما ستكون نقطة ارتكازه منصبة
على مكافحة الإرهاب، وإحداث مزيد من التعاون على المستويين العسكري والأمني. لعل
المفارقة العجيبة في هذا الصدد تتعلق بتصريحات الرئيس التشادي التي أعلن خلالها أن استئناف العلاقات الدبلوماسية مع تل أبيب لا
تعني التراجع عن دعم القضية الفلسطينية(1). ولكن كيف؟!
هل من
المنطقي أن تستأنف العلاقات في مختلف المجالات مع الكيان الصهيوني ، بحيث يكون
هناك أفق متعددة للتعاون، وتفاعلات ثنائية، إلى جانب زيارات متبادلة، ومصالح
مشتركة، وفي الوقت ذاته هناك تمسك بالقضية لفلسطينية، ومناهضة لسياسة الاحتلال
وانتهاكاته المستمرة لحقوق الفلسطينيين.
وفي
تقرير بثته القناة العاشرة الإسرائيلية أوردت فيه أن تلك الزيارة يتم التمهيد لها
منذ مايو 2016، بعدما أبدى الرئيس التشادي "ادريس ديبي" لمندوب إسرائيل
الدائم لدى اليونسكو، رغبته في إعادة العلاقات الدبلوماسية مع تل أبيب، وعزز من
ذلك استضافة "ديبي" خلال يوليو 2016 مدير وزارة الخارجية الإسرائيلية
السابق "دوري جولد"، وارتكزت مباحثاتهما حينها حول الرغبة في عودة
العلاقات الدبلوماسية، وبحث سبل وآليات تحسينها، حينها أعلن الجانب الإسرائيلي ترحيبه بتلك المبادرة ، حيث
أوضح"جولد" أن سبب قطع تشاد علاقتها مع إسرائيل عام 1973، جاء على خلفية
ضغط تعرضت له من ليبيا، وأن هذا الضغط زال بمجرد زوال نظام "القذافي"(2).
يعكس
برنامج الزيارة نجاحًا إسرائيليًا في اختراق جديد للدول الأفريقية، وهو ما جاء
نتاج لجهود مستميتة بذلتها حكومة "نتنياهو"، أسفرت عن تعزيز تل أبيب
تواصلها مع العديد من دول أفريقيا جنوب الصحراء، ولعل خصوصية زيارة الرئيس التشادي
تنبثق من كونها أول زيارة لرئيس تشادي منذ قيام دولة إسرائيل عام 1948، وجدير
بالذكر أن هناك العديد من المحفزات التي دفعت علاقات البلدين قدمًا، حيث تعتبر
تشاد أكثر الدول الأفريقية نشاطا في مجال مكافحة الإرهاب ونشاطات المجموعات
الجهادية، وبناءًا على ذلك تلقت منذ أقل من شهر مساعدات عسكرية أمريكية تبلغ
قيمتها حوالي 1.5 مليون دولار.
خصوصية
دولة تشاد
تمتلك تشاد أهمية إستراتيجية كبرى ، وهو ما دفع الحكومة
الإسرائيلية لتركيز اهتماماتها حول التقارب معها ، نظرا لامتلاكها احتياطات هائلة
من اليورانيوم، ما سيساهم في تعزيز نشاطاتها النووية، ومن ناحية أخرى تعتبر سوق
لبيع الأسلحة الإسرائيلية في ظل معركتها الحالية ضد الإرهاب، وكذلك دورها في قوات
حفظ السلام، فيما سيعزز التقارب مع تشاد من فرص التقارب بين الكيان الصهيوني
ودولتي النيجر ومالي. ومن جهة أخرى فإن موقعها الجغرافي منحها أهمية إستراتيجية
تؤهلها للعب دور كبير في تحقيق استقرار المنطقة، في حين تسعى تل أبيب لكسب ود تشاد
في المحافل الدولية وتجنيبها الوقوف مباشرة مع القضية الفلسطينية. بينما تسعى تل
أبيب إلى تقليص مدة ومسافة رحلاتها الجوية إلى أمريكا الجنوبية وهو ما لن يتم إلا
عن طريق استخدام المجال الجوي لكل من السودان وتشاد(3).
وعلى الجانب الآخر
تسعى تشاد للحصول على الخبرات الأمنية والعسكرية لضمان استقرار الأوضاع
الداخلية، في حين يسعى نظام "ديبي" المدان حقوقيًا إلى كسب ود كلا من
واشنطن وتل أبيب لضمان حماية استقراره. بينما يرى "ديبي" أنه بحكم
العلاقات الإسرائيلية ـ السودانية يمكن أن يكون ذلك محفزًا نحو التوسط الإسرائيلي
في المشكلات الحدودية بين السودان وتشاد.
انعكاسات
الزيارة بالنسبة لإسرائيل:
هناك مردودات ايجابية لزيارة الرئيس التشادي إلى إسرائيل
، لعل أبرزها نجاح تل أبيب في تفكيك الكتلة الأفريقية المؤيدة للقضية الفلسطينية،
ومن جهة أخرى تسعى إسرائيل إلى كسب القبول الأفريقي لها كعضو مراقب في الاتحاد الأفريقي
لاسيما في ظل تنامي العلاقات الإسرائيلية مع معظم الدول الأفريقية التي تحاول أيضا
الاستفادة من الخبرة الإسرائيلية في مجالات الزراعة والبنى التحتية والتكنولوجيا
المتقدمة. وبالنظر إلى دوافع التوجه الإسرائيلي
نجده منبثق بالأساس من تطورات محلية تتعلق بصراعات مستمرة بين النخب السياسية
والأمنية الإسرائيلية، وهو ما يستدل على نجاحه من الانتقال النوعي من التعاملات
السرية إلى الزيارات العلنية. في حين تسعى إسرائيل لاستغلال الأوضاع غير المستقرة
التي تعاني منها دول أفريقية عدة ، والتي أصبحت بمثابة بيئة خصبة وسوق حيوي لبيع
الصادرات الإسرائيلية من الأسلحة، ولعل خير مثال على ذلك علاقات تل أبيب مع النظام
العنصري، إلى جانب الوثائق السرية التي أثبتت تورطها في دعم الصراع المحتدم في
بوروندي بين الهوتو والتوتسي، من خلال تزويد العناصر المتقاتلة بالأسلحة والمؤن
العسكرية، وقيامها بعقد صفقات الماس الأفريقي المهرب من مناطق الصراع بشكل غير
شرعي(4).
محاولات
إسرائيلية للتقارب مع القارة السمراء
وضع "نتنياهو" خطط واسعة لزيادة التقارب مع
الدول الأفريقية تحت شعار "إسرائيل تعود إلى أفريقيا وأفريقيا تعود إلى
إسرائيل"، فمن ناحية تسعى الدول الأفريقية لكسب الخبرات الإسرائيلية التي
تهمها في المجالات المختلفة، في حين تسعى إسرائيل إلى توسيع علاقاتها الدبلوماسية
مع دول القارة، وإيجاد أسواق جديدة للمنتجات الإسرائيلية، وقد أعلن
"نتنياهو" في أكثر من مناسبة أنه يتطلع إلى كسر تأييد الكتلة الأفريقية
للقضية الفلسطينية في المحافل الدولية. ويرى محللون إسرائيليون إلى أن التقارب "الإسرائيلي
ــ الأفريقي" يرجع بالأساس إلى التغير في الموقف الأوروبي بشكل كبير، بحيث
أصبح مؤيد وبشدة لقيام دولة فلسطينية،
معارضًا بشكل علني لسياسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين ، وهو ما دفع تل أبيب للتوجه
ناحية أفريقيا، بعدما فرضت عقوبات على استيراد بضائع المستوطنين، وكذلك تجاهلها عن
اتخاذ موقف صارم إزاء جماعات مقاطعة إسرائيل(5).
وبالحديث عن النجاحات الإسرائيلية في التقارب من الدول
الأفريقية، نجد أبرز مثال على ذلك العلاقات مع توجو باعتبارها من أحرص الدول
الأفريقية على تعميق علاقاتها مع تل أبيب،
والتي تعود جذورها إلى عهد الرئيس السابق "نياسنغبي أياديما"، ووفقا
للإحصائيات تعتبر توجو الشريك التجاري الثاني لإسرائيل أفريقيًا بعد جنوب أفريقيا،
وبناءًا على تقارير رسمية ووثائق صادرة عام 2013، فقد حصلت توجو على دعم إسرائيلي
بقيمة 191 مليون دولار لشراء معدات أمنية، وإلى جانب توجو هناك العديد من الدول الأفريقية
التي تمتلك علاقات متميزة مع إسرائيل منها كينيا وتنزانيا ورواندا وأوغندا وكوت ديفوار
، وفي يوليو 2016، أعادت غينيا الاستوائية علاقاتها الدبلوماسية
مع إسرائيل بعد قطيعة بدأت منذ عام 1967(6) .
فإذا كان العالم العربي قد تمكن من توحيد الكتلتين العربية والأفريقية عقب حرب أكتوبر 1973 بقطع العلاقات مع الكيان الصهيوني، إلا أن إسرائيل استطاعت خلال العقدين الأخيرين إيجاد منافذ لها عبر القارة السمراء، وإحراز اختراقات داخل الكتلة الأفريقية، تكللت بعودة العلاقات الدبلوماسية مع غالبية الدول الأفريقية، ما يقتضي من الوطن العربي إعادة النظر في هذا التطور الخطير ، خوفًا من أن يولى عصر النفوذ العربي في أفريقيا.
المراجع:
(1)رئيس تشاد يزور إسرائيل في خطوة غير مسبوقة، ذا
تايم أوف اسرائيل،25/11/2018، متاح على الرابط:
(2)نتانياهو يؤكد خلال استقباله
رئيس تشاد عزمه زيارة المزيد من الدول العربية، فرنسا 24، 26/11/2018، متاح على
الرابط:
(3)تطبيع تشاد العلني مع إسرائيل يمهد الطريق لمالي
والنيجر، العرب اللندنية،26/11/2018، متاح على الرابط:
(4)ثلاثية تأملها دول إفريقية
من إسرائيل وأخرى يريدها نتنياهو، جريدة القدس العربي،27/11/2018، متاح على
الرابط:
(5)رئيس تشاد من إسرائيل: لن
ننسى القضية الفلسطينية، جريدة القدس العربي، بتاريخ26/11/2018، متاح على الرابط:
(6)سيدي
أحمد ولد الأمير، العلاقات الإسرائيلية-الإفريقية.. الخروج من السر إلى العلن، مركز
الجزيرة للدراسات،21/8/2017، متاح على الرابط: