سياسات الهوية: هل تؤدي لانهيار الديمقراطية الغربية؟ (1-2)
"لن يتوقف الناس عن التفكير في أنفسهم ومجتمعاتهم من منظور
الهوية، لكن هويات الأشخاص ليست ثابتة ولا تُمنح بالضرورة بسبب الميلاد، ويمكن
استخدام الهوية للتمييز بينهم، كما يمكن استخدامها أيضاً لتوحيدهم، وهذا في
النهاية سيكون العلاج للسياسات الشعبوية المنتشرة في الوقت الحاضر". تلك هي
خاتمة المقال المنشورة للكاتب فرانسيس فوكوياما في مجلة الفورين أفيرز شهر سبتمبر
2018 تحت عنوان "ضد سياسة الهوية: القبلية الجديدة وأزمة الديمقراطية".
يحاول الكاتب
والمفكر الكبير فوكوياما تناول أزمة الديمقراطية الغربية التي تصاعدت بشكل لافت
للنظر في العقود الماضية، من أجل تقديم تشريح للموقف الراهن، إلى جانب تفسير
العوامل التي أدت لذلك، وكيف يمكن معالجة الأمر، وسيتم تناول المقال في جزئين،
وذلك لكبر حجم الأفكار التي يحتويها، التي لا يمكن عرضها في جزء واحد فقط.
بداية
الأزمة
يبدأ الكاتب باستعراض ملامح موجة التحول التي اجتاحت
السياسة العالمية منذ السبعينيات من القرن العشرين وحتى العقد الأول من القرن
الحالي، التي تمثلت في ارتفاع عدد الديمقراطيات الانتخابية من 35 إلى أكثر من 110،
وصاحب ذلك تضاعف إنتاج السلع والخدمات في العالم أربع مرات، وانخفاض في نسبة
الأفراد الذين يعيشون في الفقر المدقع من 42% من إجمالي سكان العالم عام 1993 إلى
18% عام 2008.
ويرى
أن تلك التغيرات سالفة الذكر لم يستفد منها الجميع، وبالتحديد في الديمقراطيات
المتقدمة، التي ازداد فيها حجم التفاوت الاقتصادي بشكل كبير، حيث تدفقت فوائد
النمو في المقام الأول إلى الأثرياء والمتعلمين، وفي البلدان النامية، وجد
القرويون الذين لم تكن لديهم كهرباء في السابق أنفسهم يعيشون في المدن الكبيرة،
ويشاهدون التليفزيون ويتصلون بالإنترنت، كما ظهرت شرائح جديدة من الطبقات المتوسطة
في الهند والصين، أصبحوا يعملوا في ذات المجالات التي عمل بها أصحاب الطبقات
الوسطى القديمة في العالم المتقدم.
وفي
خضم تلك التحولات، انتقل التصنيع من الولايات المتحدة وأوروبا إلى شرق آسيا وغيرها
من المناطق ذات العمالة المنخفضة التكاليف، واستُبدل الرجال بالنساء في سوق العمل
المرتبط بصناعات الخدمات، وحلت الألة محل العمال ذوو المهارات المنخفضة.
وفي
النهاية، أفرزت تلك التغييرات تباطؤ في حركة النظام العالمي نحو الانفتاح
والليبرالية، بما فتح الباب عليه ليتلقى أعنف الأزمات فجاءت الأزمة المالية العالمية
2008 وأزمة اليورو 2009 لتُبرز عمق التحولات، ففي كلتا الحالتين أنتجت السياسات
التي وضعتها النخبة حالات ركود هائلة، وارتفاع في معدلات البطالة، وانخفاض الدخول.
وبما أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي هما النموذجان الرائدان للديمقراطية
الليبرالية، فإن تلك الأزمات أضرت بسمعة ذلك النظام.
وكان من نتائج ما حدث، أن تراجعت الديمقراطية في
جميع مناطق العالم تقريباً، في نفس الوقت الذي قدمت فيه عدد من الدول السلطوية
كالصين وروسيا نموذجاً أكثر تماسكاً، وهو ما دفع عدد من الدول كالمجر وبولندا
وتركيا وتايلاند، التي بدت ديمقراطيات ليبرالية ناجحة خلال تسعينيات القرن الماضي
للانزلاق تجاه السلطوية.
ثم
جاء صعود الشعبوية في الانتخابات التي اُجريت عام 2016 في اثنين من أقوى
الديمقراطيات الليبرالية في العالم ليؤكد على التراجع بشكل أوضح، فقيام الناخبون
في المملكة المتحدة باختيار مغادرة الاتحاد الأوروبي، ثم وصول ترامب إلى الحكم في
أمريكا، قدما الحقيقة بزاوية أخرى.
صعود
سياسة الهوية
يوضح فوكوياما أن تلك التطورات وإن كانت
مرتبطة بجزء منها بالتغيرات الاقتصادية والتكنولوجية للعولمة، لكنها مرتبطة أيضاً
بصعود سياسة الهوية، فطوال القرن العشرين، تركزت سياسات اليسار على العمال
والنقابات وبرامج الرعاية الاجتماعية وسياسات إعادة التوزيع، أما اليمين فكان
مهتماً بخفض حجم الحكومة وتعزيز القطاع الخاص.
والآن، في العديد من الديمقراطيات، أصبح
اليسار يُركز بشكل أقل على خلق مساواة اقتصادية واسعة، وبشكل أكبر على تعزيز مصالح
الجماعات المهمشة مثل الأقليات العرقية والمهاجرين واللاجئين والمثليين، كما أعاد
اليمين تحديد مهمته الأساسية كحامي للهوية الوطنية التقليدية، وهو ما يعني أن
سياسة الهوية أصبحت تُفسر الكثير مما يجري في الشئون العالمية.
وفي هذا الصدد، قام القادة السياسيون بتعبئة
أتباعهم حول فكرة أن كرامتهم تعرضت للإهانة ويجب استعادتها، رغم أن هذه الطعون هي
قبعة قديمة للنظم السلطوية، فتحدث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن مأساة انهيار
الاتحاد السوفيتي، وانتقد الولايات المتحدة وأوروبا لاستغلال ضعف روسيا خلال
التسعينيات لتوسيع حلف الناتو، وأيضاً استغل نفس الأمر الرئيس الصيني شي جين بينغ
الذي ألمح لما أسماه "قرن الإذلال" لبلده، وهي فترة الهيمنة الأجنبية
التي بدأت عام 1839.
وتحولت فكرة الاستياء من الإهانات لتصبح قوة
مؤثرة في الدول الديمقراطية، فنجد حركة "حياة السود مهمة" تندد بعمليات القتل
التي قامت بها الشرطة ضد الأمريكيين الأفارقة وحظيت بتغطية إعلامية واسعة، وذات
الأمر بالنسبة لحقوق المتحولين جنسياً، التي لاقت كثير من الاهتمام، برغم عدم
الاعتراف بها على نطاق واسع في السابق.
إذاً لم تعد سياسة الهوية ظاهرة ثانوية، بل
أصبحت مفهوماً رئيسياً يشرح الكثير مما يجري في السياسة الدولية، بما يفرض تحدياً
كبيراً على الديمقراطيات الليبرالية الحديثة. فالعولمة بما تزامن معها من تغيرات
في البنائين الاقتصادي والاجتماعي لتلك المجتمعات، خلقت مطالب من جانب الجماعات
المكونة لها للاعتراف بهم، أدت إلى حالة من الاحتقان بين مكونات البناء الاجتماعي،
أسفرت عن تفكك المجتمعات الديمقراطية إلى شرائح تستند إلى هويات أضيق، لن تؤدي في
النهاية لشيء سوى انهيار الدولة.
لماذا ظهرت الديمقراطية؟
يفترض معظم الاقتصاديين أن البشر مدفوعين
بالرغبة للحصول على الموارد المادية، ورغم أن هذا المفهوم للسلوك البشري له جذور
عميقة في الفكر السياسي الغربي، لكنه يغفل عن حقيقة أخرى أدركها الفلاسفة الكلاسيك
وهي الرغبة في صون الكرامة، التي اعتقد سقراط أنها تُشكل "جزءاً ثالثاً"
لا يتجزأ من النفس البشرية، وأطلق عليها أفلاطون في الجمهورية "ثيموس"
"thymos".
ويُميز فوكوياما بين شكلين من الثيموس، ما
أسماه "megalothymia" وتعني الرغبة في الحصول على الاعتراف
بأنك متفوق، والمثال على ذلك مجتمعات ما قبل الديمقراطية التي كانت قائمة على
التسلسل الهرمي، والإيمان بالتفوق المتأصل لطبقة معينة كالنبلاء والارستقراطيين،
وتُعد المشكلة الأساسية بها هي نظرتهم لباقي المجتمع على أنهم أقل شأناً، بما يولد
شعور قوي للناس بالاستياء، والرغبة في أن يُنظر إليهم على أنهم جيدون مثل الأخرين،
ذلك الشعور يُطلق عليه الكاتب "isothymia".
وصعود الديمقراطية كما يوضح ما هو إلا انتصار
الـ "isothymia" على الـ “megalothymia”: حيث تم
استبدال المجتمعات التي تعترف بحقوق عدد قليل من النخب بأخرى تعترف بأن الجميع
متساوون بطبيعتهم، وهو ما حدث خلال القرن العشرين، بدأت المجتمعات المُقسمة طبقياً
بالاعتراف بحقوق الناس العاديين.
فعلى مدار التاريخ السياسي للولايات المتحدة
كانت هناك مطالب بأن يوسع النظام السياسي دائرة الأفراد الذين تعترف بهم كبشر
كاملين، ومع ذلك لم تؤدي المساواة بموجب القانون إلى مساواة اقتصادية أو اجتماعية،
فازدادت التفاوتات في الدخل بشكل كبير خلال الثلاثين عاماً الماضية.
الشعبوية بديلاً
ساهمت
تلك التهديدات للوضع الاقتصادي في تفسير صعود النزعة الشعبوية في الولايات المتحدة
وخارجها. فلم تكن الطبقة العاملة الأمريكية - التي تم تعريفها على أنها أشخاص
لديهم تعليم ثانوي أو أقل- في وضع جيد طوال العقود الأخيرة، وهذا الأمر لم يقتصر
على الانخفاض في الدخول وخسارة الوظائف، بل أدى إلى حالة من الانهيار الاجتماعي
أيضاً.
ورغم أن ذلك لم يكن بالجديد على الأمريكيين
الأفارقة فإن الجديد انتقاله إلى الطبقة العاملة البيضاء، لذا كانت أحد أهم
الأسباب الرئيسية التي دفعت الكثيرون لانتخاب ترامب، هو خوفهم من فقدان وضعهم
الاجتماعي.
وفشلت
الأحزاب اليسارية المعاصرة في التحدث إلى الأشخاص الذين فقدوا أوضاعهم النسبية
نتيجة العولمة والتغير التكنولوجي. فخلال حقبة العولمة حولت معظم الأحزاب اليسارية
استراتيجيتها، وبدلاً من بناء التضامن حول الطبقة العاملة أو المُستغلين
اقتصادياً، بدأوا التركيز على مجموعات أصغر.
وفي
الستينات، ظهرت حركات اجتماعية جديدة في الديمقراطيات الغربية، وطالب نشطاء الحقوق
المدنية في الولايات المتحدة بأن تحقق البلاد وعد المساواة الذي جاء في إعلان
الاستقلال، ثم جاءت الحركة النسوية، التي سعت إلى معاملة متساوية للنساء، وعملت
الحركة البيئية على إعادة تشكيل المواقف تجاه الطبيعة.
ويُشير الكاتب إلى أن السنوات اللاحقة ستشهد تحركات
جديدة تُعزز حقوق المعاقين والأميركيين الأصليين والمهاجرين والمثليين من الرجال
والنساء، وكذلك الأشخاص المتحولين جنسياً. ومع تغير القوانين لتوفير مزيد من الفرص
وحماية قانونية أقوى للمهمشين، استمرت المجموعات في الاختلاف عن بعضها البعض في
سلوكها وأدائها وثروتها وتقاليدها وعاداتها.
وكان أمام كل مجموعة أن تختار أي من البديلين،
إما أن تطلب من المجتمع معاملة أعضائها بنفس الطريقة التي يُعامل بها أعضاء
الجماعات المهيمنة، أو أن يؤكد هوية منفصلة لأعضائها ويطالب باحترامهم على أنهم
مختلفون عن المجتمع السائد. وبمرور الوقت، كانت الاستراتيجية الأخيرة هي الأكثر
تفضيلاً.
وطالبت المجموعات المهمشة بشكل متزايد ليس فقط
بأن تعاملها القوانين والمؤسسات على أنها تتساوى مع الجماعات المسيطرة، بل أن
المجتمع الأوسع يدرك ويحتفل حتى بالفوارق الجوهرية التي تميزها. وأصبح مصطلح
"تعدد الثقافات" - الذي يشير أصلا إلى مجرد نوع من المجتمعات المتنوعة -
علامة على برنامج سياسي يقدر كل ثقافة منفصلة وكل تجربة تعيش على قدم المساواة، في
بعض الأحيان من خلال جذب اهتمام خاص لتلك التي كانت غير مرئية أو مقومة بأقل من
قيمتها في الماضي.
ودار هذا النوع من التعددية الثقافية في
البداية حول مجموعات ثقافية كبيرة، مثل الكنديين الناطقين بالفرنسية، أو المهاجرين
المسلمين، أو الأميركيين الأفارقة، ثم سرعان ما أصبح رؤية لمجتمع مقسم إلى العديد
من المجموعات الصغيرة ذات الخبرات المتميزة.