استجابة الجيوش العربية لموجة الاحتجاجات الثورية: دراسة مقارنة بين مصر وسورية
شهدت المنطقة العربية احتجاجات شعبية واسعة النطاق منذ
أواخر عام 2010 أدت إلى الإطاحة بأنظمة سلطوية كما حدث في تونس ومصر وليبيا
واليمن، كما تزعزعت أركان أنظمة أخرى ولكن لم تسقط حتي وقت كتابة هذه الدراسة كما
حدث في سورية، وهي الأحداث التي باتت تعرف لاحقاً بالربيع العربي.(1)
حيث كانت البداية في تونس، ثم مصر التي وصفتها معظم الأدبيات السياسية بأنها تحولت
إلى أيقونة سياسية لباقي دول ثورات الربيع العربي.((2
وكما
الحال في معظم الدول التي تشهد حدوث احتجاجات شعبية واسعة النطاق، والتي يكون
هدفها إسقاط الحكومة أو حتى النظام بأكمله، عادة ما تلجأ القيادات السياسية -
كوسيلة لقمع المتظاهرين- إلى طلب مساندة الجيوش، وذلك بعد أن تتراجع قوات الأمن
أمام صمود المتظاهرين.وعليه
يصبح البقاء السياسي للحكام، مرهون بالإجابة على هذا التساؤل "هل سيطيع الجيش
الأوامر بالتصدي للمتظاهرين وإطلاق النار أم لا؟"، خاصة وأنه بحسب الأدبيات
المتعلقة بالعلاقات المدنية العسكرية فإن دعم الجيش للثورة أو على الأقل حياده
يمثل شرط ضروري لنجاح الفعل الثوري في إسقاط القيادة السياسية بالبلاد.
وعليه
تحاول هذه الدراسة تتبع ردود أفعال الجيوش العربية تجاه الاحتجاجات الشعبية مع
التركيز على دولتي مصر وسورية، بحيث يمتد النطاق الزمني لهذه الدراسةليشمل الفترة
من 25 يناير إلى 11 فبراير في الحالة المصرية، بينما سوف يتم التركيز على الفترة
من 15 مارس 2011 إلى نهاية عام 2012 في الحالة السورية حيث ترسخت الحرب الأهلية
السورية.
وقد افترضت معظم
الأدبيات المعنية بالعلاقات المدنية العسكرية في العالم العربي والشرق الأوسط،
وذلك قبل إندلاع أحداث الربيع العربي، أواخر عام 2010، أن الجيوش العربية تمثل
كيانات متجانسة وأجهزة قمعية متشابهة تندمج مصالحها مع مصالح قادة الدول المنحدرين
منها، وهو ما يعني أن موقف الأجهزة الأمنية والجيوش في هذه الدول بالوقوف بجانب
القادة السياسيين في حالة نشوب أزمات سياسية تهدد بقاء الأنظمة الحاكمة، وقد
ارجعوا استقرار الأنظمة الاستبدادية لفترات طويلة في الشرق الأوسط إلى دعم هذه
الأجهزة الأمنية.
وفي اختبار عملي لمواقف الأجهزة الأمنية وخاصة مواقف الجيوش، فقد اختلفت ردود فعل
الجيوش في البلدان العربية إزاء الأحداث رغم تشابه البيئة السلطوية، ففي تونس ومصر
انحاز الجيش لصف المتظاهرين، أما في اليمن وليبيا فقد انقسم الجيش إلى نصفين
واستطال الصراع، بينما في سورية فقد انحاز الجيش إلى النظام السياسي وقام بقمع
المتظاهرين بالقوة مما أدى إلى بدء مرحلة من الصراع المسلح الذي سيطر على كافة
أنحاء البلاد.
وعليه تتمثل مشكلة
الدراسة في تفسير اختلاف استجابة وردود أفعال الجيوش للثورات والانتفاضات الشعبية
في البلاد العربية وذلك بالتركيز على حالتي مصر وسورية، ومن هنا يصبح السؤال
البحثي الرئيسي الذي تحاول الدراسة الإجابة عنه الآتي: لماذا اختلف سلوك الجيش تجاه موجة الاحتجاجات الثورية التي شهدتها كلاً من
مصر وسورية؟ والتي اندلعت منذ الخامس والعشرين من يناير 2011 في مصر، والخامس عشر
من مارس 2011 في سورية.
إذن هناك حاجة لتفسير
اختلاف استجابة وردود أفعال الجيوش للثورات والانتفاضات الشعبية في البلاد العربية
وذلك بالتركيز على حالتي مصر وسورية، ومن هنا يصبح التساؤل الرئيسي هو لماذا اختلف سلوك الجيش تجاه موجة الاحتجاجات
الثورية التي شهدتها كلاً من مصر وسورية.
واستندت
الدراسة إلى فرضيتين؛ أنه كلما
كانت تركيبة الجيش تعكس أغلبية لجماعة معينة سواء دينية/ إثنية/ عرقية كلما زادت احتمالية
أن يقوم الجيش بقمع الاحتجاجات المطالبة بالإصلاح، وعلى العكس كلما كانت تركيبة
الجيش تمثل انعكاس للمجتمع الأوسع، كلما زادت احتمالية أن يكون الجيش أكثر تسامحاً
مع الاحتجاجات المطالبة بالإصلاح. والفرضية الثانية أنه كان
للعامل الخارجي تأثير كبير في حسابات ومواقف الجيش تجاه الاحتجاجات الثورية التي
شهدتها كل من دولتي الدراسة عام 2011.
وقد توصلت الدراسة إلى العديد من النتائج كما يلي:
1-
لا يوجد جيش بعيد عن السياسة، نظراً
لأن الجيش كمؤسسة يتعامل يوميًا مع شؤون الحرب والدفاع، وقضايا أخرى ذات صلةبالأمن
القومي، والتي تتراوح بين شؤون عسكرية بشكل خالص، ومسائل متعلقة بالاستقرار
السياسي والاقتصادي والاجتماعي في الدولة. وهذا الأمر ينطبق على الدول الديمقراطية
وغير الديمقراطية. وعليه، تضمنت جميع حالات العلاقات المدنية العسكرية في العالم العربي ومنطقة
الشرق الأوسطدور بارز للجيوش في العملية السياسية، فضلاً عن أن برامج تعزيز
الاحترافية العسكرية في السياق العربي لم تترجم في الواقع العملي إبعاد الجيوش عن المجال
السياسي، بل عززت هذه البرامج من تماسك المؤسسة نظراً لاقتصارها على الجوانب
التقنية العسكرية وغيرها من الأمور اللوجستية.
2- اختلفت ردود فعل الجيش في مصر وسورية تجاه الاحتجاجات الثورية التي
شهدتها دولتي الدراسة عام 2011م،فالجيش المصري لم يتدخل في المشهد السياسي سوى يوم
الثامن والعشرين من يناير عندما اتجهت دبابات الجيش المصريفي منظر هادئ وغير عصبي بهدف حماية منشاّت البلاد (3)، كما لم يتدخل الجيش لقمع
التظاهرات،وعندما أدركت قيادة الجيش أن الوضع الأمني والسياسي والاجتماعي بدأ يخرج
بالفعل عن نطاق السيطرة، اجتمع المجلس الأعلى للقوات المسلحة لأول مرة دون رئيسه،
وأصدر البيان رقم واحد، وعليه فالجيش قام بتسهيل مهمة جماهير المتظاهرين في تنحية
الرئيس مبارك، حيث مكنهم من الاستمرار في الضغط حتى سقط رأس النظام.
أما في الحالة السورية نجد أنه مع اندلاع الاحتجاجات
الشعبية في سورية، اختار الجيش السوري موقفاً واضحاً بدعم النظام والرئيس بشار
الأسد واستخدام القوة العسكرية ضد المتظاهرين واستخدمت الأسلحة الثقيلة والطائرات
ضد المدنيين والمعارضة المسلحة، إلى أن ظهر الجيش السوري الحر بعد ذلك بقيادة جنود منشقين عن الجيش
السوري بعد ما يقرب من ستة أشهر من بدء الاحتجاجات في 15 مارس 2011.
3-
جاء اختلاف استجابة الجيش في كل من
دولتي الدراسةنتيجة تفاعل العديد من العوامل تمثلت في عوامل تتعلق بكل من (الجيوش، طبيعة العلاقة بين
الجيش والنظام السياسي، الثورات والانتفاضات الشعبية، طبيعة النظام السياسي،
البيئة الخارجية)،
فيما يلي:
· طبقا لتحليل العوامل التي تتعلق بالجيوش،
توصلت الدراسة إلى أن هذه العوامل العسكرية في مجملها كانت في صالح انحياز الجيش
المصري للثورة الشعبية، وذلك على عكس الحالة السورية حيث دفعت العوامل العسكرية في
سورية بوحدات وأفرع الجيش السوري لتبني جانب النظام.
ففي الحالة المصرية، بتحليل المؤشرات
الفرعية الخاصة بقياس هذا المعيار، نجد أن معظمها تحقق بشكل إيجابي في الجيش
المصري بما يدعم قرار الجيش لصالح المتظاهرين، ففيما يتعلق بالتماسك الداخلي نجد
أن بعضها كان متحقق بشكل إيجابي في الجيش المصري بما يدعم تماسكه الداخلي مثل عدم
وجود انقسامات عرقية أو مذهبية أو على أساس الدين داخل الجيش، وعدم وجود انقسامات
بين أفرع الجيش المختلفة، ولكن هناك بعض العوامل التي تحققت بشكل أقل مثل وجود
انقسامات جيلية بين المشير طنطاوي والفريق عنان من جهة وباقي قادة الجيش وأفرعه من
جهة أخرى، وكذلك بين الضباط والجنود كنتيجة لحصول العساكر وصغار الضباط آنذاك على
حوافز ورواتب أقل مقارنة بكبار الضباط. أما في الحالة السورية فقد كان للانقسام
على أساس طائفي تأثير واضح على تكوين الجيش ووحداته، هذا بالإضافة إلى وجود الفرق
الخاصة التي أعطت النظام السوري مساحة للمناورة.
وفيما يتعلق بالتكوين الاجتماعي للمؤسسة،
استند الجيش في كل من مصر وسورية إلى التجنيد الإلزامي، وعليه ترى الدراسة أنه في
بعض الحالات تكون طريقة تجنيد الجيوش (إلزامي / احترافي) ليست عامل حاسم في حسابات
الجيوش عند اتخاذ قراراتها إبان الثورات والانتفاضات الشعبية، خاصة مع وجود وحدات
نخبوية موالية للنظام السياسي يغلب عليها طابع إثني / ديني معين، وكذلكفي حالة
وجود دعم عسكري خارجي يمكن الاستناد إليه عوضاً عن القوات المجندة تجنيد إلزامي،
وقد توفر الاستثنائين في الحالة السورية.
وفيما يتعلق بسلوك الجيش تجاه المجتمع في
السابق، في الحالة المصرية، نجد أن الجيش المصري، قبل ثورة 25 يناير،ليس له سجل
واضح فيما يتعلق بانتهاكات حقوق انسان أو أعمال قتل أو تعذيب، كما أن الثورة لم
تكن موجهة ضده بل ضد تجاوزات جهاز الشرطة مع المواطنين. ولكن على النقيض في سورية اضطلع الجيش بعمليات
قمع للمواطنين أبرزها أحداث حماة 1982.
وفيما يتعلق بدرجة مأسسة الجيش في كل من البلدين نجد أن
الجيش المصري تمتع بدرجة جيدة من المأسسة من حيث المعايير المهنية لتجنيد أعضائه
التي لا ترتبط بديانة أو طائفة أو طبقة بعينها، ورسوخ معايير الأقدمية والانضباط
العسكري، وعقيدة الجيش العسكرية التي توصلت الدراسة إلى أنها تتنافى مع ثقافة
الانقلابات العسكرية ، كما أنها دائما تتسق مع إرادة الجماهير وذلك حتى وقت اندلاع
ثورة 25 يناير 2011، هذا بالإضافة إلى القوانين الحاكمة التي تمنع أعضاء الجيش من
ممارسة أي نشاط سياسي.
بينما في الحالة السورية، فمنذ
استقلال الدولة السورية عام 1946 أصبح الجيش ينطبق عليه مؤشرات الجيش
العقائدي، فلم يكتف بمهمته وهي حماية البلاد ، ولكن لعب
دوراً كبيراً في الحياةالسياسية، ودائما ما كان
يهدف للتدخل في السياسة بشكل أعاق تطورالمؤسسات المدنية، كماحدث مع الانقلابات
العسكريةالمتتالية خلال الفترة (1949– 1970).((4 كما عمل حزب البعث عمل على الدمج بين الجيش
ومؤسسة الحكم وذلك من خلال أيدلوجيا تقوم على مبدأ الجيش العقائدي. وبعد وصول الرئيس حافظ الأسد للسلطة
سيطر
الضباط العلويين على كافة المناصب الحساسة في الجيش السوري
تقريباً، فضلاً عن الاعتماد على معايير الثقة والولاء بدلا من معايير الكفاءة لتولي المناصب الهامة وانتشار الفساد بشكل كبير
في الجيش السوري.
وإمعانا في تنفيذ ذلك تم استحداث الوحدات العسكرية الخاصة لتصبح
أداة في يد النظام السوري لتثبيت حكمه، وهو ما يعتبر استمراراً لنهج الانتداب الفرنسي ، الأمر الذي جعل الجيش
السوري بعيد عن المجتمع السوري، وشديد الارتباط بالنظام الحاكم. ليقتصر تطبيق
الاحترافية على عملية تحديث المعدات والتقنيات العسكرية دونما وجود أي معايير مهنية
تتعلق بالمصلحة القومية للوطن ككل.
· طبقا لتحليل طبيعة العلاقة بين
الجيش والنظام السياسي، نجد أن النظام السياسي عامل الجيش
بشكل جيد على المستويات المادية المختلفة، تضمن ذلك مستوى عالي من التسليح، ونسبة
إنفاق تصنف على أنها مرتفعة مقارنة بحجم الناتج المحلي، فضلاً عن السماح بممارسة
نشاط اقتصادي ضماناً لاستمرار ولاءها، وتعويضاً لها عن تراجع النفوذ السياسي في
دولتي الدراسة.
وبالرغم من ذلك فقد اختلفت استجابة
الجيش في دولتي الدراسة، وعليه يمكن القول بأنه في بعض الأحيان يكون للعوامل
المعنوية الثقل الأكبر في حسابات الجيوش لقراراتها أثناء الثورات والانتفاضات
الشعبيةوهي العوامل التي دفعت الجيش في مصر للتخلي عن الرئيس مبارك والانحياز
للثورة ، وذلك بالرغم من الامتيازات المادية التي تمتع بها الجيش حينئذ. وقد تمثلت
أبرز هذه العوامل المعنوية في رفض الجيش ما أطلق
عليه " قضية التوريث" والتي كان من بين أساليب الترويج لها يتضمن أنه سيكون أول رئيس مدني بمصر لا ينتمي
للمؤسسة العسكرية منذ 1952.(5) زيادة نفوذ طبقة رجال الأعمال
الجديدة في إطار ما أطلق عليه ظاهرة "تزاوج المال بالسلطة"، وكذلك
زيادة نفوذ الجهاز الأمني على حساب الاهتمام بالجيش كمؤسسة.
يضاف إلى
ذلك، أنه بحسب المعلومات المتاحة حتى وقت كتابة هذه الدراسة،لم يتلق الجيش
المصريأوامر واضحة بقمع تظاهرات ثورة 25 يناير 2011، وذلك على عكس الحالة السورية
حيث كانت الأوامر واضحة للجيش بالقمع منذ بداية فترةالانتفاضة السورية بل وصدرت
الأوامر بإعدام من يعصى الأوامر.
وفيما يتعلق بالعلاقة
بين كبار قيادات الجيش والنظام السياسي، توصلت الدراسة إلى أنه بالرغم من العلاقة
القوية التي جمعت بين كبار قيادات الجيش المصري مع
الرئيس مبارك لسنوات عدة، ولكن اقتصر حدود تأثير هذه العلاقة بأن جعلت رد فعل
الجيش تجاه النظام أقل قوة مما كان يمكن أن تكون عليه، وقد حاول الجيش حل المعضلة التي وجد
نفسه بها بشكل أكثر حكمة وواقعية،فلم يقم بإزاحة الرئيس مبارك بالقوة في ظل الحرج
المتعلق بكونه بطل عسكري خرج من صفوف الجيش كمؤسسة ويمثل أحد أبناء المؤسسة، كما أنه في ردود
أفعاله عمل على إصباغ شرعية للمتظاهرين سواء من خلال البيانات التي اعترف من
خلالها الجيش بمشروعية المطالب أو بنزول قياداته للميدان وسط المتظاهرين، هذا
إضافة إلى ما تم الإشارة له من رفض المشير المناصب التي عرضها عليه الرئيس مبارك، وصولاً إلى اجتماع المجلس الأعلى للقوات
المسلحة بدون رئيسه، وربما يوضح ما جاء في
بيان المجلس العسكري بتاريخ 11 فبراير
2011 م، ذلك حيث ذكر في البيان:
"ويتقدم المجلس الأعلى للقوات المسلحة بكل التحية والتقدير للسيد
الرئيس محمد حسني مبارك، على ما قدمه في مسيرة العمل الوطني حرباً وسلماً، وعلى
موقفه الوطني في تفضيل المصلحة العليا للوطن، وفي هذا الصدد، فإن المجلس الأعلى
للقوات المسلحة، يتوجه بكل التحية والإعزاز لأرواح الشهداء ، الذين ضحوا بأرواحهم
، فداء لحرية وأمن بلدهم، ولكل أفراد شعبنا العظيم".
أما
بالنسبة للحالة السورية، نجد أن بشار الأسد اعتمد على رجال أبيه في منصب وزير
الدفاع، لذلك نجد أن جميع من تولى وزارة الدفاع السورية حتى وقت اندلاع الاحتجاجات
الشعبية في سورية قد جاوزوا سن السبعين، وهو ما كان يعكس تخوف بشار من القدوم بشخصية جديدة
وغير عجوز يكون لها طموح سياسي أبعد من وزارة الدفاع فيحاول الانقلاب عليه.
·
طبقا لتحليل
العوامل المرتبطة بطبيعة الثورات والانتفاضات الشعبية، نجد أنه في الحالة
المصرية دعمت العوامل المرتبطة بطبيعة الثورة
بشكل كبير تأييد الجيش للثورة في مواجهة النظام السياسي، وذلك على عكس
الحالة السورية. ففيما يتعلق بحجم
وتكوين وطبيعة المظاهرات، نجد أن كلا من ثورة 25 يناير في مصر والاحتجاجات
الشعبية السورية منذ 15 مارس 2011 كانت واسعة النطاق من حيث حجمها، ومع ذلك اختلف
رد فعل الجيش في الحالتين، وعليه، ترى الدراسة أن العامل المتعلق بحجم
التظاهرات أقل أهمية من حيث تأثيره على قرارات الجيش بقمع التظاهرات وذلك مقارنة
بطبيعة المتظاهرين وخلفياتهم، فكلما كان المتظاهرون يعكسون المجتمع بفئاته
وانقساماته المختلفة، كلما زاد ميل الجيش للانحياز للثورة، وعلى الجانب الآخر كلما
كان المتظاهرون من خلفيات اجتماعية، سياسية، عرقية، طبقية معينة كلما زادت
احتمالية انحياز الجيش للنظام السياسي القائم وعليه تسهل مهمة قمع المتظاهرين.
كما
أنه بمقارنة موقف الجيش في دولتي الدراسة يتضح أن المعيار المتعلق بسلمية
المظاهرات من حيث طبيعتها يعد تأثيره أقل على قرارات الجيش بقمع التظاهرات إذا كان
تكوين الجيش يغلب عليه طابع ديني/طائفي/ إثني معين..، فبالرغم من سلمية
التظاهرات في بدايتها في كل من مصر وسورية، وبالرغم من أنه كان يمكن للجيش المصري
استخدام اشتباكات المتظاهرين مع قوات الشرطة كذريعة للاشتباك مع المتظاهرين
واستخدام العنف، غير أن الجيش نزل الشوارع يوم 28 فبراير دون الاحتكاك بالمتظاهرين،
وذلك على النقيض في سورية بالرغم من سلمية التظاهرات في بدايتها ومحاولة
المتظاهرين السوريين استمالة الجيش لصفهم غير أن الجيش السوري اختار استخدام العنف
منذ بداية الاحتجاجات وحتى مع اتساع نطاق الاحتجاجات استمر وتصاعد استخدام العنف
ليتضح أن معيار سلمية التظاهرات أمر ضروري ولكن ليس كافي لإقناع الجيش بالانحياز
للثورة السلمية.
وفيما
يتعلق بمعيار تقارب الجيش مع الثوار، فقد كانت مؤشراته إيجابية للغاية في
الحالة المصرية من حيث أن الجيشالمصري يحظى باحترام وتقدير عاليين
في الذاكرة الجمعية للشعب المصري. وذلك على نقيض الحالة السورية، فقد كانت معظم المؤشرات تؤكد على
تباعد الجيش عن المجتمع السوري بسبب غلبة الطابع الطائفي على تكوينه واضطلاعه
بأعمال قتل وعنف ضد فئات من المجتمع وأبرزها حادثة حماة ثمانينيات القرن
الماضي.
·
طبقا
لتحليل العوامل المرتبطةبطبيعة النظام السياسي، في الحالة
المصريةكانت البنية السلطوية في عهد الرئيس مبارك أكثر
انفتاحاً من النظام الحاكم في الحالة السورية، وعليه كانموقف الجيش
بالانحياز للثورة أسهل في الحالة المصرية عنه في الحالة السورية إذا ما كانت وحدات
وفرق الجيش السوري حاولت معارضة النظام السياسي، فضلاً عن خبرة النظام السياسي
وتمرسه في القمع والتي جاءت لصالح النظام السوري عنه في الحالة المصرية.
البيئة الخارجية
طبقاً
لتحليل العوامل المرتبطة بالبيئة الخارجية،نجد أن شبكة الحلفاء الخارجيين لكل
من مصر وسورية قد حسمت إلى حد بعيد خيارات الجيش سواء بالانحياز للمتظاهرين كما في
الحالة المصرية، أو بقمع التظاهرات ودعم النظام السياسي كما في الحالة السورية.
كما توصلت
الدراسة إلى صحة الفروض التي تبنتها فيما يلي:
· الفرضية الأولى:كلما كانت تركيبة الجيش تعكس أغلبية لجماعة معينة سواء دينية/ إثنية/ عرقية
كلما زادت احتمالية أن يقوم الجيش بقمع
الاحتجاجات المطالبة بالإصلاح، وعلى العكس كلما كانت تركيبة الجيش تعكس
المجتمع بفئاته المتنوعه، كلما زادت احتمالية أن يكون
الجيش أكثر تسامحاً مع الاحتجاجات المطالبة بالإصلاح.
ففي الحالة المصرية،عكست تركيبة الجيش إلى
حد بعيد التنوع السكاني الموجود بالدولة من حيث الطبقات الاجتماعية وتوزيع
الأقاليم الجغرافية وغيرها من العوامل ، ومما لا شك فيه أن تطبيق التجنيد الاجباري
قد ساهم بشكل كبير في تقوية هذه العلاقة بين الجيش والشعب، هذا بالإضافة إلى حالة
التجانس السكاني والثقافي الموجود بمصر بالطبع. وعلى النقيض في الحالة السورية حيث
أدت هيمنة الطائفة العلوية على الجيش السوري
خاصة منذ صعود حزب البعث إلى السلطة في سورية عام 1963 إلى إبعاد الجيش عن
المجتمع السوري وجعل ولاءه مرتبط بالسلطة الحاكمة. وعليه قام الجيش السوري بربط
مصيره بمصير السلطة السورية سواء في عهد الأسد الأب أو في عهد بشار الأسد.
· الفرضية الثانية:كان العامل الخارجي تأثير كبير في
حسابات ومواقف الجيش تجاه الاحتجاجات الثورية التي شهدتها كل من دولتي الدراسة عام
2011. توصلت الدراسة إلى أن العامل الخارجي دعم كثيراً قرار الجيش بالتخلي عن
مبارك، خاصة في ضوء تخلي الولايات المتحدة عن مبارك ومطالبتها له بالرحيل وبداية
عملية انتقال سلمي للسلطة، وفي ضوء تخوف قيادات الجيش من خروج الأمور عن السيطرة
وتعرض معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية للانهيار، كان على قيادات الجيش المصري
اتخاذ موقف حاسم في ضوء هذه المعطيات المتعلقة بالبيئة الخارجية.
وعلى
النقيض في الحالة السورية، أدى استمرار الدعم الخارجي الإيراني/ الروسي إلى فك
عُزلة نظام الأسد دولياً ودعم من موقفه داخلياً كثيراً، كما رفع من درجة ثقة الجيش
في النظام السياسي وقدرته على الخروج من الأزمة. ولكن فيما يتعلق بالمؤشر الخاص
بالعدوى الثورية، نجد أنه كان له تأثير إيجابي في الحالة المصرية، بينما لم يكن له
تأثير قوي في الحالة السورية، فقيام الجيش في مصر وسورية لم يٌغير من قناعات الجيش
السوري تجاه دعم النظام السياسي، وعليه يتضح أنه في بعض الحالات يكون العامل الخاص
بعدوى الثورات أقل أهمية في ظل وجود جيش يغلب عليه طابع ديني/ إثني/ طائفي
معين أو وجود حلفاء خارجيين لمساندة ودعم
النظام السياسي أو في ظل نظام سياسي منغلق يغلب يسيطر عليه طابع إيديولوجي معين.
توصيات
الدراسة:
· تعطي
أحداث الربيع العربي فرصة جيدة لجميع الدول العربية لمراجعة علاقاتها المدنية-
العسكرية بما يناسب طبيعة العلاقات المدنية العسكرية والتطور السياسي والتاريخي
بكل دولة وبما يحقق مصالحها الوطنية في نهاية المطاف، وتأتي أهمية هذه التوصية
خاصة في ضوء ما اتسم الربيع العربي بعلامة مميزة تمثلت في كيفية إدراك دور الجيوش العربية، حيث عادت
الجيوش العربية بشكل أو بآخر لتلعب دور مشابه للدور السياسي الذي لعبته فيما قبل
سبعينيات القرن الماضي، وذلك نظراً للتحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية
التي شهدتها الدول ما بعد الربيع العربي.
وعليه
توصي الدراسة ببدء الدول العربية كل على حدا برنامج احترافي يهدف إلى مراجعة
علاقاتها المدنية العسكرية يتعامل مع الجيش كمؤسسة وطنية ممثلة لجميع فئات المجتمع
بما يحقق للجيش قدر من الاستقلالية المهنية مع الخضوع في ذات الوقت لمؤسسات الحكم
المدني، فكما شكلت هزيمة يونيو 1967 نقطة انطلاق لبدء بعض الجيوش العربية تحديث
جيوشها، يجب أن تشكل أحداث الربيع العربي فرصة تاريخية شاملة لجميع الدول العربية
باختلاف درجة احترافية جيوشها للقيام بهذه المراجعة لأنه وكما ترى الدراسة ليست من
باب الرفاهية بل تؤثر مباشرة في صميم أمن واستقرار البلاد . فدروس الربيع العربي
تثبت بما لا يقطع مجالا للشك أن الدرجة المرتفعة من تسييس الجيوش قد يؤدي في نهاية
المطاف إلى تفكك وانهيار الدول.
ويتطلب
ذلك أن تقوم جميع الدول العربية بعملية إصلاح لمؤسساتها الأمنية تضع إجابة لتساؤل
مهم أين تقع جيوشها على مقياس الاحترافية بما يتضمنه من مفاهيم تطبيقيه من
استقلالية مهنية وشفافية واستناده على معايير الجدارة والاستحقاق وعدم تسييسه مع
خضوعه في الوقت ذاته لمؤسسات الحكم المدني ولما ينص عليه الدستور والقانون. وهو
الأمر الذي يتطلب وقت كاف فلا نتصور أن عملية إصلاح الجيوش العربية ستتحقق على
المدى الزمني القصير، ولكن عملية الإصلاح الشامل يرتبط بأطر رسمية وهو الجزء
الأيسر في أي عملية إصلاح، وتوافق وهو أمر ليس باليسير يحتاج لفتح حوار مجتمعي
يتمتع بمصداقية وشفافية يشترك فيه المواطنون بالأساس والمؤسسات الإعلامية ومؤسسات
المجتمع المدني وقيادات الدولة، وتغيير ثقافة وخاصة داخل المؤسسة بالإضافة لإرادة
سياسية حقيقية وهي التي إذا لم تتوافر فإنها قد تؤدي إلى تعثر عملية الإصلاح بل
وارتدادها.
· كان لخيار الجيش المصري بعدم دعم النظام
السياسي أثر كبير في حماية البلاد وتجنيبها السيناريو الليبي أو اليمني أوالسوري،
ولكن بمراجعة معظم الأدبيات التي تناولت دور الجيش في الثورة، نرى أنه لا أحد يعرف
على وجه الدقة ماجرى قبل قرارالرئيس مباركبالتنحّيحتى وقت كتابه هذه الدراسة، مما
يجعل أي تحليل في هذا الإطار ناقص وغير مكتمل بالنسبة لنا كباحثين على الأخص حتى
يمكننا الوقوف بشكل أدق على دور الجيش وموقفه من النظام في هذه اللحظات الأخيرة
الحاسمة لتاريخ مصر ومستقبلها.
· واجهت معظم الأدبيات المتعلقة بالعلاقات المدنية العسكرية في الشرق الأوسط قصور حقيقي في تحليلاتها فيما يتعلق بالتفاعلات اليومية للجيش مع المدنيين والتي ضرورية جداً في أي تحليل يتعلق باستجابة وطريقة ردود فعل الجيوش في مواجهة الأنظمة السياسية الحاكمة، فهذا الجانب لم ينال القدر الكافي من اهتمام الباحثين وخاصة الباحثين العرب، وهو ما توصي الدراسة بضرورة تداركه فيما بعد الربيع العربي لتقديم تحليل أوقع للبيئة السياسية العربية بتفاعلاتها.
المراجع
(1)
يقصد بمصطلح الربيع
العربي، التحولات السياسية والحركات الاحتجاجية التي شهدتها المنطقة العربية
والنظام الاقليمي منذ عام 2010، شاركت فيها كافة شرائح المجتمع المطالبة
بالديموقراطية لإحداث تغييرات جوهرية سياسية واقتصادية في طبيعة الأنظمة الحاكمة،
وقد تباينت واختلفت مسببات تلك الحالة من بلد لآخر، للمزيد حول هذا الموضوع أنظر: سهام فتحي
سليمان، الأزمة السورية في ظل تحول التوازنات الإقليمية والدولية2011-2013،
رسالة ماجستير، (غزة: جامعة الأزهر، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، 2015)، ص 10.
(2)
محمدقشقوش، العلاقات العسكرية -
المدنية: الإشكاليات "السبع" التي تواجه الجيوش في مرحلة ما بعد الثورات
العربية، مجلة السياسة الدولية، العدد 188، ابريل 2012، ص 152.
(3)
جلال أمين، ماذا حدث
للثورة المصرية؟ أسباب ثورة 25 يناير ودواعي الأمل والقلق وآفاق المستقبل، مرجع
سابق، ص 152، ص 160.
(4)
التقرير العربي السابع
للتنمية الثقافية بعنوان العرب بين مآسي الحاضر و أحلام التغيير : أربع سنوات من
مآسي الربيع العربي، منذرخدّام، "ربيع سورية" الشعب لا مع السلطة ولا مع
المعارضة، ص 87.
(5) عبد القادر شهيب، الساعات الأخيرة في حكم مبارك، (القاهرة:دار أخبار اليوم، الطبعة الأولى، 2011.، ص 99.