قمة نواكشوط وانهيارات منظومة الأمن الإقليمي بمنطقة الساحل والصحراء
تمثل منطقة الساحل والصحراء فضاءً
أمنيًا أكثر خصوصية لبلدان شمال أفريقيا، وفي الوقت ذاته تعد مصدر اهتمام جُل
القوى العظمى، لاسيما في ظل التهديدات الأمنية المتصاعدة التي تواجهها تلك المنطقة
وما لذلك من تبعات سلبية تنعكس بشكل مباشر على مصالح الدول الأوروبية والولايات
المتحدة الحيوية، فجاءت سيطرة تنظيم "القاعدة" على غالبية الساحل الغربي
لتبرر أسباب توجه الدول الأوروبية لبلورة منظومة أمنية يتم بمقتضاها ضمان استقرار تلك
المنطقة والقضاء على جذور التطرف والإرهاب بها. ومن هنا جاء ملف الأمن الإقليمي
لمنطقة الساحل والصحراء ليتصدر نقاشات قمة نواكشوط التي اختتمت أعمالها الأسبوع
الماضي. مثيرًا تساؤلًا جوهريًا بشأن مدى فاعلية المبادرات الأوروبية التي طرحت
مسبقًا من أجل الوصول لهدفها بتحقيق أمن و استقرار المنطقة.
الأهمية الإستراتيجية للمنطقة
تحتل منطقة الساحل والصحراء مكانة استراتيجية
هامة وذلك لعاملين أساسيين، الأول جغرافيًا حيث تحتل دول الساحل والصحراء مساحة
شاسعة نظرا لامتداد تلك المنطقة من البحر الأحمر شرقًا، مرورًا بدول أفريقيا جنوب
الصحراء، ووصولًا إلى الدول المطلة على المحيط الأطلنطي غربًا، ومن ناحية أخرى
تتبلور أهمية دول الساحل والصحراء فيما تمتلكه من موارد ومقومات طبيعية، حيث تمتلك
تلك المنطقة احتياطات نفطية هائلة بجانب توافر معدلات كبيرة من المواد الخام، ما
جعلها محل اهتمام العديد من القوى العظمى كفرنسا والولايات المتحدة نظراً لارتباط مصالحهم
الاستراتيجية بتلك المنطقة. وقد ترتب على ذلك توجه الدول الكبرى نحو صوغ مخططات
لتقنين وجود قوى عسكرية لهم هناك، لاسيما في ظل التطورات الأخيرة من حيث هشاشة
الأوضاع الأمنية إلى جانب تنامي الجماعات الراديكالية.
قمة “نواكشوط": ملف أمن الساحل والصحراء يتصدر
المناقشات
اختتمت القمة الأفريقية الـ 31
فعاليتها يوم الأثنين الموافق 2يوليو/تموز2018 بالعاصمة الموريتانية نواكشوط، حيث
شهدت مشاركة نحو 42 قائد أفريقي، وبحضور الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون"
كضيف شرف، وتعتبر تلك القمة هي الأهم على مدار القمم الخمس الأخيرة نظرًا لتزامنها
مع تطورات إقليمية خطيرة ابتدءًا من تطورات الأوضاع داخل الأراضي الليبية وتنامي
حدة الانقسامات بين الفصائل المتنازعة، مرورًا بتصاعد أزمة صحراء المغرب، ووصولا
إلى محاولة اغتيال رئيس الوزراء الاثيوبي "أبي أحمد" وما حملته تلك
المحاولة من دلالات بشأن استمرار تحكم قوى خارجية بخيوط اللعب داخل القارة
السمراء. ومن هنا فقد تناولت القمة عدد من الملفات المحورية كان أبرزها الوضع في ليبيا،
والتطورات الأخيرة في جنوب السودان وكذلك أخطار الهجرة غير النظامية إلى أوروبا، إلى
جانب بحث أبرز التطورات الميدانية والخاصة بتصاعد موجة الإرهاب في مالي،خاصة بعد
اقتحام المقر الرئيسي لقوات "G5"، بينما تصدر المشهد الأمني في منطقة
الساحل أجندة المباحثات؛ حيث حذرت القمة من الإخفاقات المتوالية لمنظومة الأمن
الإقليمي بالاستشهاد بواقعتي مقتل 5جنود فرنسيين في مالي، واقتحام مقر قيادة القوة
المشتركة لمجموعة دول الساحل.
وفي هذا السياق أكد رئيس سيراليون
"جوليوس ماد بيو" في تقرير عرضه خلال مشاركته في القمة، قدم خلاله آليات
يمكن خلالها مواجهة التحديات الأمنية التي تواجه منطقة الساحل والصحراء، مستندًا
بالأساس على ضرورة تفعيل قيم الديمقراطية وتحقيق الممارسة الفاعلة للمواطنين
لحقوقهم السياسية. (1)
فحوى منظومة الأمن الإقليمي
شهدت منطقة الساحل الأفريقي تطورات أمنية هامة تجسّدت في
تفشي ظواهر خطيرة كالجريمة المنظمة،وانتشار الجماعات الإرهابية بل وتمركزها في
مواقع إستراتيجية هامة، وكان خير مثال على ذلك هيمنة تنظيم "القاعدة"
على الغالبية العظمى من دول الساحل، ما أدى بدوره إلى انتباه القوى العظمى لهذا
التطور، والسير باتجاه بلورة خطة لمواجهة تلك المهددات، ومن هنا بدأت الدول
الأوروبية والولايات المتحدة في تقديم المساعدات التقنية من اجل تطوير المؤسسات
الأمنية والشرطية إلى جانب اتجاهها نحو مواجهة الأزمات الداخلية لدول الساحل
والصحراء نظرًا لكون تلك المشكلات النواة الحقيقية لبزوغ التيارات الراديكالية،
فاتجهت نحو مزيد من تفعيل المشروطية عن طريق ربط المساعدات المالية بتفعيل قيم
الديمقراطية والمساواة بين المواطنين وصولًا إلى الرضاء الشعبي. فيما جاء التمرد
الذي حدث بمالي عام 2012، وأسفر عن سيطرة تنظيمي "أنصار الدين" و
"حركة الجهاد والتوحيد" التابعتين لتنظيم القاعدة بمالي ليكشف فشل
المنظومة الأمنية التي حرص الغرب على ربطها بقيم سياسية.
دلالات فشل منظومة الأمن
رغم حرص القوى العظمى في السيطرة على
الأوضاع الأمنية المتدهورة بمنطقة الساحل والصحراء، إلا أن الخطط التي وضعت لأجل
ذلك لم تكن بمستوى قوة التحديات الأمنية، ما أسفر في نهاية المطاف عن انهيار
المنظومة الأمنية الإقليمية لتلك المنطقة، ويمكن الاستدلال على ذلك من عدة وقائع
على النحو التالي:
1ـ محاولة اقتحام مقر قوة مجموعة دول
الساحل "G5":
تعتبر مالي أكثر دول الساحل والصحراء
تعرضًا لهجمات إرهابية على مدار الأسبوع الماضي، فقد نجحت قوات الأمن المالية في
إفشال محاولة اقتحام أفراد
منتمين لتنظيم متشدد، المقر العام لقيادة قوة مجموعة دول الساحل " G5" بمالي
يوم 29 يونيو/ حزيران 2018، بينما تمكن انتحاري من تفخيخ سيارة بالقرب من بوابة
المقر، ما أدى لسقوط عدد من القتلى والجرحى. وقد كانت تلك الواقعة على رأس نقاشات
قمة نواكشوط التي أكد خلالها القادة والزعماء على عزمهم الاستمرار في مكافحة
الجماعات الراديكالية بدعم من دول أوروبية والولايات المتحدة، وتعكس تلك المحاولة
تحول في هيكلية خطط الجماعات الإرهابية بل وتعكس الثقل المادي والعددي الذي أصبحت تراهن
عليه تلك الجماعات(2).
2ـ الهجوم على قوة "برخان" الفرنسية بمالي
تعتبر واقعة مقتل ستة جنود فرنسيين ضمن القوات الخاصة
المتمركزة في غاو بمالي 1يوليو /تموز 2018، تحول جديد في مسار التهديدات الأمنية،
ليرتفع بذلك أعداد القتلى في صفوف القوات الفرنسية إلى أكثر من 12 شخص منذ بدء عملية
"برخان" صيف العام 2014، فنجد تغير في إستراتيجية الجماعات المتطرفة
التي لم تعد خططها قائمة على استهداف تجمعات المواطنين الأبرياء فحسب، بل أصبحت
تكتيكاتها منصبة تجاه القضاء على عناصر القوى العسكرية الأوروبية وتدمير معداتهم،
كما حدث حينما استهدفت بعض من الجماعات الجهادية بغرب الساحل في 14أكتوبر/تشرين
أول 2017 طائرة من طراز "أنتونوف أن-26" ضمن قوات عملية
"برخان" الفرنسية وتحطمها في مطار "فيليكس هوفويت بويغني الدولي"
بكوت ديفوار وقتل أربعة من طاقم الطائرة وإصابة أربعة آخرين من الجنود الفرنسين، ما
ينذر بتهديد أمني جديد يضاف لجملة مهددات تلك المنطقة(3).
3ـ تنامي معدلات الجريمة المنظمة بالمنطقة:
تصاعدت على مدار السنوات الماضية معدلات الجريمة المنظمة بمنطقة
الساحل والصحراء ولكن كانت الكارثة الأكبر أن حكومات تلك الدول عجزت على مواجهة
تلك التهديدات بل أثبتت تقارير أمنية بأنه أصبحت هناك شراكات سرية ما بين مسؤلين
حكوميين وقيادين داخل التنظيمات الإرهابية، فأنتشرت ظواهر الإتجار بالبشر،
والمخدرات، والسلاح، إلى جانب تواطؤعدد من المسؤلين لاسيما في دولة مالي بعمليات اختطاف
نظرًا لإعلان الولايات المتحدة ودول أوروبية استعدادهم لدفع أي فدية لإنقاذ
رهائنها، وهو ما كان دافعًا لتنامي معدلات الجرائم المنظمة، تحوّلت عمليات الخطف
من أجل طلب الفدية إلى صناعة مربحة للغاية، الأمر الذي سمح لتنظيم القاعدة بأن
يصبح قوة سياسية وعسكرية كبيرة في منطقة الساحل والصحراء(4).
4ـ الفساد والأوضاع الغير مستقرة وتأثيرها
على مسار المنظومة الأمنية
لا تقتصر الأوضاع الأمنية في أي مكان على
مدى فعالية المؤسسات الأمنية والدفاعية فحسب، ولكن الأمر يشمل العديد من الأبعاد
الأخرى، لعل أبرزها تلك المتعلقة بمؤشرات الفساد، والبطالة، مستوى دخل الفرد، حرية
التعبير، حماية الأقليات، المساواة بين المواطنين في الفرص ... إلخ، ومن هنا
فعندما نبحث جذور الإرهاب والتطرف في منطقة ما، لابد أن نبحث في جذور تلك
المؤشرات. وبالتطبيق على منطقة الساحل والصحراء نجد انعدام شبه تام لمعظم تلك
المؤشرات، ويستدل على ذلك من المعلومات الواردة بتقرير منظمة الشفافية الدولية
لرصد مؤشرات انتشار الفساد والرشاوي لعام 2017، حيث أورد التقرير تصدر الدول
الأفريقية لاسيما دول الساحل والصحراء المكانة الأكثر سوءًا .
فيما اعتبر التقرير الصومال تليها جنوب السودان وليبيا وغينيا الدول الأكثر فسادا.
وعلى الجانب الآخر أوضحت صحيفة "الأوبرفر البريطانية" امتلاك دولة
الكونغو أكبر احتياطي دولي من الالماس والنحاس ومع ذلك؛ فنظرا لسياسات النظام
الحاكم السلطوية واستشراء الفساد في كافة مؤسسات الدولة، أصبحت تمتلك اكبر معدلات
للفقر العالمي(5).
وعلى الجانب الآخر كشفت صحيفة "نيويورك تايمز " في
إحدى تقاريرها حول الفساد بالقارة السمراء عن أعمال غسيل أموال يقوم بها مسؤولون
أفارقة كبار، إلى جانب تورطهم في صفقات مشبوهة تقضي ببيع المواد الخام، والهيمنة
على عوائدها لمصالحهم الخاصة، وذلك بالتحايل على القانون عن طريق الاعتماد على
تأسيس شركات ذات أسماء وهمية لتتصدر المشهد بينما هما من يخططون وينفذون تلك
الصفقات. بينما كشفت مؤشرات صادرة عن مؤسسات بحثية تابعة للاتحاد الأفريقي عن أن
60% من العمليات التجارية التي تتم في القارة الأفريقية غير قانونية، وفي أحيان
عدة يتم استثمار تلك العوائد في دعم الجماعات الراديكالية لتحقيق مصالح خاصة بشكل
غير مباشر كما في دعم عدد من الشركات النفطية في نيجريا للنزاعات بين حكومة الشمال
وعدد من الأقاليم النيجرية بهدف صرف اهتمام الحكومة عن مواجهة الفساد واشغالها
بمواجهة التوترات والمهددات الأمنية الصريحة(6).
آليات مواجهة المأزق
بالحديث عن المشكلات التي تواجه دول القارة الأفريقية
وبالأخص دول الساحل والصحراء فإنه يمكن القول أن الحل لن يكون خارج إطار الدول
الأفريقية ذاتها بحيث يكون قرارًا نابعًا من إرداة سياسية حقيقية، وهذا لا يمنع أن
تكون هناك تفاهمات أفريقية دولية حول آلية مواجهة تلك المهددات، ومن ثم يصبح
الحديث عن وضع آلية حقيقية ومناسبة لمواجهة الفساد
وبيروقراطية النظم الأفريقية الحاكمة إلى جانب العمل على تعزيز قيم المساواة
والديمقراطية كركيزة أساسية لمواجهة التهديدات الأمنية لاسيما تلك المتنامية في
منطقة الساحل والصحراء، فالفساد والديكتاتورية كما سبق وعرضنا هم ضمن المحفزات
الحقيقية لصعود التيارات الراديكالية،
وفيما يتعلق بالشق الخاص بالتحالفات الاقليمية والدولية فإنه يجب أن تستند تلك التحالفات
على مبدأ رئيسي يلزم تفعيله وهو التأكيد على سيادة الدولة، فبالنظر إلى التحالفات
الأمنية والعسكرية يتضح أن بنودها تتضمن نصوص فقط لكنها غير مطبقة واقعيًا، ومن
هنا ينبغي إعادة النظر في أبعاد التحالفات العسكرية الدولية الأفريقية إلى جانب
اجراء تقييمات مستمرة بشأن ادائها ومدى تحقيقها للأهداف المنشودة وذلك بغية إحداث
تفاعل بناء لإضعاف بل والقضاء على التنظيمات الجهادية كافة. ومن جهة أخر ى ينبغي
عقد تحالفات بين القوى القبلية باعتبارها مكون رئيسي من جهة ومؤسسات الدولة
الفاعلة من جهة أخرى، وذلك للقضاء على أي ثغرات يمكن أن يتم استغلالها من قبل أيًا
من الفصائل المتطرفة لمزيد من زعزعة امن المنطقة.
وختامًا؛ يظل محور القضاء على الخلافات ما بين دول الساحل والصحراء والعمل على ايجاد أكبر قدر من الثقة هو الحافز الرئيسي نحو مواجهة كل مهددات المنطقة وهو ما يتطلب التفاف حقيقي حول هدف واحد يرتهن بفترة زمنية محددة يرتبط مداها بشكل رئيسي بإعاد الإستقرار والقضاء على كافة المهددات الأمنية.
المصادر
(1) القمة الأفريقية تختتم على أمل تسوية أزمات، جريدة الحياة اللندنية، الرابط
(2) الهجمات
الإرهابية في مالي تخيم على ختام القمة الأفريقية، جريدة الشرق الأوسط, الرابط
(3)"ER-APV Accident
description, Aviation Safety Network,available
at:
(4)
الجريمة المنظمة والصراع في منطقة الساحل والصحراء، مركز كارنيجي للشرق الأوسط، الرابط
(5) الفساد يضرب 90% من دول أفريقيا، الأهرام
العربي،متاح على الرابط: