دور الشركات متعددة الجنسيات في تغذية الانقسامات الأفريقية
دائماً ما كانت الموارد الطبيعية التي تمتلكها القارة
الأفريقية سببًا جوهريًا في نكبتها, بدءًا من الحقبة الاستعمارية التي شهدت
استنزافًا مباشرًا لموارد القارة, وصولًا إلى الألفية الثالثة التي أصبح فيها
الاستنزاف مقنن دوليًا, فحصول معظم الدول الأفريقية على استقلالها في خمسينيات
القرن الماضي لم يكن بمثابة نهاية للدور الخارجي المتحكم في شؤونها, ولكن ظل هذا التحكم
قائمًا عبر ممارسات الشركات عابرة القوميات التي لم يعد تأثيرها مقتصرًا على الجانب
الاقتصادي فحسب؛ لكنه انعكس بشكل واضح على
الجانب السياسي الخاص بدول القارة.
أولاً- محفزات التوجه نحو استغلال موارد القارة
تمثل القارة الأفريقية بيئة مناسبة لتهافت الفاعلين
من الدول وغير الدول؛ فنجدها تمتلك قرابة 30% من احتياطي الثروات المعدنية في
العالم, فهي الأولى عالميًا في إنتاج البلاتين والذهب والماس بنسب 4 .81%، و61%،
و23% على الترتيب, وهي أيضا المنتج الأول عالمياً لليورانيوم، بنسبة 4 .18%،
والكوبالت والمنجنيز والفانديوم والفوسفات بنحو 8 .40%، 2 .34%، 31%، 30% على
الترتيب, فيما تبلغ الاحتياطات النفطية لإفريقيا نحو 10% من الاحتياطي العالمي, وتتركز هذه الاحتياطيات في
نيجيريا، وليبيا، وغينيا الاستوائية(1), ورغم أن هذه الموارد من شأنها أن
تشكل دافعا ومحفزا نحو الانتقال لوضع أكثر تفاؤلًا بين البلدان المتقدمة, إلا أنها
في المقابل أُستغلت في تغذية الصراع وتنامي الانقسامات بين الفصائل الأفريقية
المختلفة.
ثانياً- تطور أدوات الشركات العالمية في أفريقيا
وقد
انقسم تعامل الشركات العالمية مع الموارد الإفريقية إلى مرحلتين؛ أولاهما "مرحلة
الصراعات" والتي تبلورت بشكل كبير خلال فترة الحرب الباردة, حيث لعبت تلك الشركات
دورًا بارزًا عبر تقديم الدعم والتمويل لأطراف تلك الصراعات في محاولة لتحقيق أكبر
قدر من المصالح التنافسية بين القطبين الدوليين حينذاك, أما المرحلة الثانية؛ فقد
بدأت خلال فترة الهدوء التي أعقبت تلك الصراعات, ولعل أبرز ما ميز تلك المرحلة
حدوث تغير في أدوات استغلال الموارد بتفعيل الأداة المالية عن طريق توسيع الفجوة المادية
بين العاملين بتلك الشركات مقارنة بأقرانهم بالمؤسسات الحكومية.(2)
ثالثاً- نماذج للصراعات الأفريقية بفعل تمويلات الشركات الأجنبية
تلعب الشركات متعددة الجنسيات دورا رئيسيا في سيادة
حالة من عدم الاستقرار المجتمعي والسياسي وخلق أزمات داخلية في الدول النامية, وقد
تعددت النماذج التي يستدل من خلالها على دور تلك الشركات في تغذية صراعات القارة.
دعم حركات التمرد الكونغولية
فقد
شهدت الكونغو عام 1998 حربا ضارية بين الحركات المتمردة وتصارعها مع بعضها البعض؛
في محاولة لكل منهم إلى بسط نفوذه على مصادر الموارد, وقد كانت الشركة الفرنسية "ألف
أكويتان" أحد أبرز المساهمين في تقديم الدعم المادي لكل عناصر التمرد في الكونغو, منتهجة لمبدأ تمويل الكل مقابل الحصول
على الموارد من الفصيل المنتصر, في مسعى منها للحصول على حق الامتياز بالمناطق
التي يسيطر عليها أى من الفصائل المتصارعة.(3)
وقد كشف تقرير للأمم المتحدة حول الاستغلال غير المشروع
للموارد الطبيعية بالكونغو عام 2002, عن الدور الخفي للشركات العالمية في استغلال
الأخشاب بمناطق الغابات بالكونغو ونقلها بواسطة شركة نقل TMK من شمال بحيرة كيفو وصولا إلى ميناء ممباسا لتصديره إلى أوروبا, وقد
أثبت التقرير استغلال شركة كنغولية وهى "Socebo" وفيها أنصبة لشركاء عالميين لعوائد تلك الصفقات من بيع
الأخشاب في تمويل تكاليف الحرب الكونغولية الثانية التي استمرت خلال الفترة من أغسطس
1998 وحتى يوليو 2003, والتي أعتبرت أكثر الحروب دموية في تاريخ أفريقيا بعدما
أسفرت عن مقتل قرابة 4ملايين شخص .
تورط شركات نفط عالمية في تمويل حروب
أهلية بأنجولا
كما نجد أيضًا بروز دور الشركات متعددة الجنسيات في
الإطاحة بالأنظمة غير الموالية لها خلال فترة الحرب الباردة, وهو ما حدث عندما
أمرت الحكومة الأمريكية إحدى الشركات النفطية بأنجولا في حجب مستحقاتها النفطية ,
بزعم أن الحركة الشعبية لتحرير انجولا المسيطرة على العاصمة مدعومة من الشيوعيين.
واستمرارًا لدور المهدد للشركات العالمية في انجولا , حيث نشر"الاتحاد البريطاني
لتقدم العلم" تقريرا ثبت فيه تورط عدد من شركات النفط الدولية العاملة في لواندا
من ضمنها شركة "شل" النفطية, في تقديم تمويل بمبلغ 900 مليون دولار لشن حرب
شرسة ضد أكبر أحزاب المعارضة الانجولية وهو "الاتحاد الوطني للاستقلال التام
لأنجولا", وقد اتسعت دائرة هذه الحرب لتتحول إلى حرب أهلية أسفرت عن مقتل
مئات الآلاف من المواطنين.
استراتيجية الشركات الأجنبية في إحداث الوقيعة بين الحكومة
والمعارضة بنيجريا
وفي نيجيريا؛ نجد تصاعد حدة المواجهة المسلحة بين
حركة دلتا النيجر, وقوات الأمن النيجيرية المكلفة بتأمين منابع النفط, بعد تعمد
الشركات النفطية العالمية في تلك المنطقة منها (شل, شيفرون, اجيب, توتال) بتخريب
محاصيلها الزراعية, وذلك في محاولة منها لتغذية الصراع بين الحركة والقوات
الحكومية من أجل إشغال الدولة في صراعات داخلية, في حين تبدأ تلك الشركات بوضع خطط
لبسط نفوذها والسيطرة على الآبار النفطية بتلك المنطقة .(4)
وساء من الأوضاع قيام شركة "شيفرون
النيجيرية" إحدى أفرع شركة "شيفرون تكساس" بإعادة مصب اسكرافوس إلى
قوات الحكومة تسهيلًا لهجماتها على الجماعات المحلية المعادية للشركة, ولم تكتف
الشركة بهذا الأمر لكنها بدأت في استغلال الخصومات المحلية لصالحها، عن طريق تخصيص
منافع برامج التنمية التي تبنتها لفصيل دون الآخر كما الحال مع جماعة "ايتسيكيرى"
المنافس التقليدي "للأيجاو".
دعم القرصنة بالصومال لبسط مزيد من النفوذ بالقرن الأفريقي
ومن المثير للدهشة أيضًا ما يتردد في الصومال بشأن
أعمال قرصنة, في حين يتواجد نحو ثلاثة شركات للأمن متعددة الجنسيات (احدهم فرنسية,
والأخرى كندية, وأقواهم أمريكية), وقد كشفت تقارير استخباراتية عن قيام تلك
الشركات بتسليح هؤلاء القراصنة وتزويدهم بأحدث أجهزة الاتصالات التي تمكنهم من
تتبع حركة السفن, فيما أفادت تلك التقارير بأن الولايات المتحدة هي صاحبة المصلحة
الأولى في تفاقم الأوضاع وتدهورها بالصومال لترويج سيطرتها على مضيق باب المندب,
وإخضاع منطقة القرن الأفريقي لسيطرتها.(5)
تهديدات الشركات العالمية للأوضاع الاجتماعية بالجزائر
تمارس الشركات متعددة الجنسيات أشكال مختلفة من
الاستعباد بحق العمال الأفارقة والتي غالبًا ما تؤدي الانتهاكات بحقهم إلى اختيار
طريقي الإضرابات والاحتجاجات لإيصال مطالبهم للسلطات المتخصصة, كما حدث عام 2012
بالجزائر حين احتج أكثر من 570 عامل بفروع شركة بريتش بتروليم, ما أدى لسيادة حالة
من التوتر والاضطراب في البلاد, وفي حالات أخرى تتعمد الشركات رفع أجور العمال
مقارنة بما هو سائد مما يكون له أثر سلبي على الوضع المالي حيث تضطر الحكومة إلى
زيادة الأجور كي تتماشى مع رواتب تلك الشركات, ما يؤدِ إلى اختلالات في الموازنة
العامة للدولة, أو سيادة الاضطرابات في حالة عدم اتخاذ إجراءات تستهدف سد الفجوة
بين الرواتب الحكومية ورواتب العاملين بتلك الشركات.(6)
مناوئة حركات التحرر الوطني
وفي سياق الحديث عن الدور المزعزع لتلك الشركات, فيجب
ألا ننسى دورها المناوئ لحركات التحرر الأفريقي, حينما قررت تلك الشركات عدم
التزامها بالقرارات الدولية المتعلقة بمقاطعة أنظمة الفصل العنصري في أفريقيا, حيث
أصدرت كل من شركتى شل, والنفط البريطانية العاملة في نيجيريا قرار بإرسال النفطَ
النيجيري إلى نظام الفصل العنصري بجنوب أفريقيا؛ ما من شأنه مخالفة قرار الحكومة
النيجيرية، وعلى الجانب الآخر فقد ساعدت الشركات متعددة الجنسيات نظام "إيان
سميث" بدعمه ماديًا وعن طريق مده بصفقات أسلحة متطورة نسبيًا حينذاك, ما ساهم
بدوره في تأجيل تشكيل حكومة من الأغلبية السوداء بزيمبابوي, ومد فترة ممارسة
سياسات الفصل العنصري. (7)
رابعاً- مستقبل القارة في ظل تنافسية الفاعلين من غير الدول على
مواردها
توجد سيناريوهات عدة تحكم مستقبل العلاقة بين
الشركات العالمية والدول الأفريقية؛ من ضمنها استمرار تلك الشركات في العمل دون
ضوابط حقيقة ودون تقنين لأوضاعها وممارستها ومن ثم اتجاهها نحو استنزاف الموارد
عبر تحالفها مع الحكومة الوطنية واستغلالها للانقسامات فيما بين فئات المجتمع
وتصعيدها لتلك الخلافات لإشغال الرأي العام والرقابة الحكومية واتجاهها نحو نزح
الموارد الأفريقية.
فيما يتجسد السيناريو الآخر في تشكيل حركات افريقية
وطنية لمناهضة دور تلك الشركات في استنزاف
موارد الدولة, والعمل على إيجاد شراكة اقتصادية أكثر تقنينًا تستند على المنفعة
المتبادلة من عوائد الموارد الأفريقية واستثمارها في القطاع التنموي, وهو ما حدث
بالفعل في تشاد, فبعد خلافات بين الحكومة التشادية والبنك الدولي على النسبة
المخصصة من عوائد النفط لدعم التنمية في ديسمبر 2005، وافقت الحكومة على إنفاق 70%
من العائدات النفطية على التنمية، والاحتفاظ بـ 30% للميزانية العامة.(8)
وسيناريو ثالث يتمثل في توجه الشركات الوطنية
الأفريقية نحو تفعيل مبدأ التنافسية مع الشركات متعددة الجنسيات على المستوى
الاقتصادي فحسب, وعدم إتاحة أي ثغرات لتلك الشركات للتدخل في الأمور السياسية أو
التحكم في الأوضاع المجتمعية, عن طريق التزام الحكومة الوطنية بتبني خطط تنموية
شاملة والعمل على تفعيل كافة السياسات الوطنية الهادفة لتحقيق اندماج وطني طوعي
بين مواطني الدولة الأفريقية.
وختامًا؛ فإن تصحيح مسار عمل الشركات متعددة الجنسيات في أفريقيا يقع على عاتق الحكومات الأفريقية بالدرجة الأولى حيث يتعين عليها تعبئة الجهود المحلية لفرض رقابة شعبية على أدوار تلك الشركات؛ هذا من جهة, ومن جهة أخرى على الحكومات الغربية تخصيص جزء من دعمها الموجه للقارة من أجل بناء قدرات المجتمع المدني الأفريقي لإعانة الحكومات الوطنية في مهمتها, فالاستفادة الايجابية من موارد القارة تتطلب حالة من التكامل بين الأطراف الدولية والمحلية وتأسيس نمط جديد من الشراكة يقوم على التكافؤ بين تلك الأطراف وتحقيق المكاسب للجميع.
المراجع
(1)شريفة جعدي,
أثر استثمارات الشركات متعددة الجنسيات على التنمية المحلية في الجنوب الشرقي
الجزائري (2006-2012)، المجلة الجزائرية للتنمية الاقتصادية، ديسمبر 2014م
(2)خالد حنفي
على, موقع أفريقيا في استراتيجية أمريكا الجديدة, السياسة الدولية, أكتوبر 2003.
(3)عماري
حسينة,الشركات متعددة الجنسيات والاستعمار الجديد,رسالة ماجيستير, كلية العلوم
الانسانية والاجتماعية, جامعة محمد خيضر,الجزائر,2015.
(4)د.راوية
توفيق, الشركات متعددة الجنسيات في افريقيا:شركات تنمية أم وكلاء الاستعمار الجديد,موقع
قراءات أفريقية, مارس2018, متاح على: http://www.qiraatafrican.com
(5)مهيرة عماد السباعي,
القضايا الأفريقية.. المنظور الاعلامى.. الأزمات والمعالجة, يناير 2018, متاح على:
https://books.google.com.eg
(6)Schneidman, Witney, Multinational Corporations
and Economic Development in Africa, Centre for Strategic and International
Studies, 25 July 2007,
(7) Honke, Jana and Thauer, Christian, Multinational
Corporations and Service provision in Sub-Saharan Africa, Governance, Vol. 27,
Issue 4, October 2014
(8) Idemudia, Uwafiokun, Rethinking the role of corporate social responsibility and Idemudia, Uwafiokun, oil companies and sustainable community development in the Niger Delta.