القبائل اليمنية: دول المدينة على النمط اليمني
"جمهوريون نهاراً و ملكيون
ليلاً" هكذا وصف مؤرخ حال القبائل اليمينة في الأعوام الأولى لنشأة الجمهورية
العربية اليمنية عام 1962 شمال اليمن، فكثيراً ما توصف القبائل اليمنية بالمرتزقة لتبدل تحالفاتها و ولاءاتها باستمرار، كما ينسب
إليها هشاشة الدولة اليمنية وضعف مؤسساتها، هذا الاتهام مدعوماً باتهامها عبر
التاريخ بالمحاولة المستمرة لإعاقة حكم القانون و إبتزاز أجهزة الدولة.
و هنا نحاول مناقشة عرض تاريخ علاقة القبيلة اليمنية
بالدولة و نناقش أبعاد هذه العلاقة مع
أجهزة الحكم و دوائر صنع القرار، وبالتحديد في حقبة صالح، و كذلك العلاقة مع الجيش
ثم ننتقل لإلقاء الضوء على تحديات تتعلق بقدرة القبائل على الاضطلاع بدور في بناء
الدولة اليمنية و تواجهه قدراتها على القيام بدورها الايجابي عبر التاريخ.
دول القبيلة و طبيعة المحتمع اليمني
على عكس
الاعتقاد الشائع يرى معظم المتابعون للشأن اليمني أن دور القبيلة يظهر في حالة ضعف
الدولة و ذلك كخيار ثاني بديل، يوفر بعض الأمن لأعضاؤه و إنفاذ حكم القانون من
خلال القانون العرفي و وساطات الشيوخ لحل النزاعات.
واليمن
مجتمع إقطاعي استطاع عبر عقود تكوين مؤسسات سياسية و اقتصادية استحواذية تضمن
استخلاص الثروات لصالح نخبة صغيرة، فمهما تغيرت طبيعة هذه الثروات من أراضي و
موارد مائية إلى ثروات النفط و الغاز، نجد أن تركيبة المجتمع اليمني ضمنت انتقالها
دائماً في يد حفنة قليلة سواءً تغيرت أسمائهم أو صفاتهم، فمن السادة و القضاه إلى
الرؤساء و الوزراء و المستشارين، بقيت الغاية ثابتة و الهدف لم يتغير.
وعبر
عقود كان المجتمع اليمني و عبر قبائله الأربعة الكبرى (حاشد، بكيل، العوالق، مدحج)
يتكون من الطبقات الآتية(1):
- السادة الزيديون، و
كانوا يعتبرون أنفسهم حكام إلهيين بحكم الانتماء للسلالة الهاشمية و كانت مناطق
تركزهم في أقصى الشمال و في حضرموت بالشرق و قد كونوا المملكة المتوكلية اليمنية و
كانت لهم السيادة المطلقة على معظم أجزاء اليمن الشمالي منذ عام 1918.
- القضاه و هم موظفون
بدرجة وزير اكتسبوا مكانتهم بحكم خدماتهم و الوظيفة التي كانوا يؤدونها للسادة
الحكام، و تحصيلهم للعلم و كانوا بمثابة
النخبة الإدارية باليمن.
- ثم يأتي رجال القبائل-
حوالي 80% من السكان- و هؤلاء وحدهم شكلوا فئات عديدة ضمن نفس الطبقة أهمهم أفراد
النخبة و هؤلاء استفادوا من تحالفهم مع أنظمة الحكم و القبائل الأخرى، فتحالف حاشد
و بكيل مثَلْ دعامة قوية للأمامة باليمن، و كانوا عموماً هم المسئولين عن حمل
السلاح و كانوا جزء من النظام الاقطاعي حيث تملكوا الأراضي الزراعية و قاموا بزراعتها بأنفسهم في حالة رجال القبائل الأقل
ثراءً.
- طبقة التجار و أصحاب
الحرف (الأخدام)، فقد احتلت التجارة مكانة متدنية، لكن تغير الوضع مع انتهاء حالة
العزلة التي فرضها الأئمة لقرون على اليمن الشمالي، و دخول طبقات القضاه و السادة
في مجال الصفقات التجارية.
- ثم تأتي طبقة العبيد و
مثلوا أكثر من نصف سكان اليمن و امتهنوا الأعمال اليدوية المتدنية و التسول، وقد
تغير وضعهم الاجتماعي مع ظهور مؤسسة الجيش و أجهزة الدولة الإدارية التي أتاحت لهم
فرص للإلتحاق و الترقي الاجتماعي.
جمهورية الشيوخ
بدا واضحاً منذ فشل الانقلاب الأول بقيادة
الضابط العراقي "جمال جميل"، و الإمام "عبدالله الوزير" عام1948 ، أن تدخل القبائل كان
حاسماً في عودة ابن الامام يحيي حميب الذي اغتيل في أعقاب هذا الانقلاب، فقد عاد
الإمام أحمد بن يحيي و اكتسح صنعاء و أعدم قادة الانقلاب، بفضل تحالف قبلي قوي، و
نفس الشيء تكرر لاحقاً مع انقلاب أحمد الثلايا عام1955 (2)، فقد أصبح واضحاً أن
قادة الجيش الذين دبروا هذه الانقلابات لم يعيروا اهتماماً واضحاً بتكوين تحالف
كبطانة حامية للنظام السياسي الوليد، أو على الأقل تحييد أقوى التحالفات المحتمل
تكتلها لصالح الطرف الآخر، فقد تأثر رجالات الجيش اليمني بحالة المساواة الوظيفية و
ذوبان الفوراق بين رجال القبائل و الطبقات الأخرى، حيث كانوا الوحيدين الذين لهم حق حمل السلاح، فقد
بات بإمكان هذه الطبقات ممارسة السلطة في التجمعات الحضرية و المدن بفعل التحاقهم
بالجهاز الإداري للدولة، لكن ظل رجال القبائل و نخبهم عامل حاسم لاستقرار أي نظام
سياسي، فهم يتحكمون في معظم جغرافيا شمال اليمن و مرتفعاتها المطلة على العاصمة صنعاء،
فيبدو الوضع مهدداً بعدم الاستقرار دائماً.
لذا
عندما قام "عبدالله السلال" و رفاقه بانقلاب 1962، كان مدركاً لهذا
الوضع فأعطى للقبائل صلاحيات و امتيازات موسعة، و كون العديد من المجالس القبلية،
لكنه لم يدرك أن أن التحالفات القبلية هشة و متغيرة و لا يمكن الاعتماد عليها
كركيزة أساسية و وحيدة للنظام السياسي، حيث تبقى فلسفة هذه القبائل و مشايخها
تحقيق المكاسب و تجنيب المجموعة للخسائر قدر الإمكان، فانقلب عليه هذا التحالف
الذي اخترق هيكل الجمهورية الوليدة و مؤسساتها و على رأسها الجيش، حيث استغل مشايخ
القبائل رحيل القوات المصرية عام 1967، و قاد الشيخ "الإرياني" انقلاباً
في نفس العام و كون نظام عرف بإسم "جمهورية المشايخ" و استمر حتى عام
1974، حيث ظهر أن النظام السياسي كان يتجه إلى الوراء و أنه كان إمامة بلا إمام،
فقد وصل نفوذ القبائل إلى ذروته حتى قام "الحمدي" بإنقلابه عام 1974، و
قد كان أكثر تصميماً على تحقيق حكم مركزي قوي و التخلص من نفوذ القوى القبلية و
الاقطاعية، و كان لينجح لو سمحت الأوضاع السياسية و الصراعات القطبية بين
الأمريكان و السوفيت و حلفائهم في المنطقة بتهيئة الأجواء لمثل هذا التطور لحل
الخلاف مع الجنوب و تمويل الجيش اليمني حينها بصفقات السلاح اللازمة للقضاء على
تمرد القبائل المستمر في المناطق الجبلية و الحدودية.(3)
وحدة أم إحتلال
كان
الوضع في جنوب اليمن مختلف لكنه لم يكن أفضل، حيث تغير البناء الاجتماعي بشكل كبير
بعد انتزاع الأراضي من الإقطاعيين، و هروب النخب التي تعاونت مع المحتل البريطاني
خارج البلاد، كما أن قادة الدولة الاشتراكية الوليدة حرصوا على تطهير الجيش من
كافة القيادات التي كانت على رأسه زمن الاحتلال، فأفقده ذلك الكفاءة و المهنية حيث
حلت قيادات أخرى مثلت مراكز نفوذ، لكن كان وضع الجيش في الجنوب مختلفاً عن الشمال
حيث كانت تدخلاته منذ الاستقلال حصيلة للتجاذبات السياسية بين القوى الأربعة
الكبرى التي كافحت لنيل الاستقلال عام 1967، و هي الحزب الشعبي الاشتراكي و أبناء
الجنوب العربي و حزب الاتحاد الوطني و الجبهة الوطنية، لكن هذه النزاعات الدموية
في أحيان كثيرة – مثل أحداث يناير 1986- مهدت الطريق لوحدة اليمن.(4)
فعلى عكس
اعتماد نظام علي عبدالله صالح على هيكل محكم من العلاقات القبلية و العائلية، بدا
أن الجنوب قد نظم هذه العلاقة و جعلها أكثر تنظيماً مع القبائل التي أصبحت مكوناً
ضمن الجيش لا جيش داخل الجيش. و مع ذلك أكتسحت جيوش الشمال جنوب اليمن بعد انهيار
اتفاق الأردن فبراير 1994 بعد أقل من 24
ساعة على إجراؤه(5)، و انتصرت عليه عسكرياُ وسياسياً، فقد اكنت النزاعات السياسية
داخل الجيش الجنوبي تفقده مصداقيته و تفرغه من الولاءات، حيث بدا أن قادة الجنوب
يدافعون عن مناصبهم كميلشيات، أما الشمال حارب بإستماته معتمدا على مشاعر الدين والأئمة
السلفيين و شعارات الوحدة.
سلطة الحكومة لا تمتد خارج صنعاء
بانتصار
الشمال بدا أن اليمن الموحد سيكون دولة محدودة (ِArrested state) في قدراتها وسلطاتها، فقد تحول شيوخ
القبائل من ممثلين للقبيلة لدى الدولة إلى ممثلين للدولة لدى القبيلة، وأصبحت
القبائل تمثل مجموعات ضغط (Veto
groups) تستطيع
عرقلة أي قرار أو سياسة تتخذها السلطة المركزية، كما أن السلطة نفسها شجعت على نمط
من العلاقات الاجتماعية و الاقتصادية الزبائنية، فخدمات الدولة تقتصر على القبائل
الموالية أو تلك التي تمثل تهديد محتمل لسلطتها- كحال آل الأحمر الذين كونوا
إمبراطورية اقتصادية في ظل حكم صالح- أي ثنائية من الرشوة و الابتزاز.
وبدا
أن نظام الحكم يتحول نحو إمامة حيث اعتمد صالح على شيوخ الدم وهم تحالف عصبي قبلي
يدعم النظام، وشيوخ الأرض وهم الاقطاعيون و ملاك الأراضي، حيث تحولت النخب القبلية
من جناح مسلح تستخدمه الفصائل السياسية، إلى فصيل سياسي محترف يدعم السلطة مقابل
عوائد. هذه الزبائنية و الاعتمادية التي كرس لها نظام الحكم ساهمت في قصور سلطة
الدولة في مناطق الريف و خارج المدن و في أطواقها، فلم تتطور مؤسسات الدولة بشكل
طبيعي في هذه المناطق، كما في زمن الإمامة.
استهلكت
هذه التجاذبات الوظيفة الأساسية للقبائل اليمنية و المتمثلة في كونها شبكة أمان
اجتماعي لأعضاؤها، فقد ترك شيوخ القبائل مناطقهم واستقروا في صنعاء، كما عملت
التطورات الاقتصادية والصراعات العميقة بفعل التنازع على القيادة والتي أشعلها
نظام صالح، عملت على إضعاف دور القبائل كمحيط اجتماعي هام، بفعل مجموعة من
التحديات التي أثرت على مجمل اليمن.
نظام سياسي رعوي و طبقة وسطى ضعيفة
اليمن مجتمع ريفي تمثل الأرياف حوالي 70% من
مساحته(6)، و هو ما يعني أن:
- أولاً: مع زيادة عدد
السكان تضرر الاقتصاد اليمني ذو القاعدة الزراعية، فقد تفتت الملكيات الزراعية وظهرت
مشاكل الري، حيث استغل النظام السياسي هذا الوضع و أعطى امتيازات الري و حفر
الآبار تمنح للقبائل الموالية و لشيوخ القبائل الذين يدعمون النظام ضمن شبكة رعوية
ضمنت توزيع عوائد الاقتصاد مثل أرباح النفط المكتشف بنفس الطريقة حتى أن مناطق
استخراجه في مأرب عانت من قصور غير مبرر في إمدادات الطاقة و الكهرباء، كذلك فرص
العمل و التعليم و غيرها من خدمات الدولة التي حرم منها هؤلاء الذين لا يدعمون
السلطة بشكل واضح أو ببساطة لا تستطيع الدولة الوصول إليهم حيث لا يمثلون أهمية
بالنسبة للنظام السياسي، كل ذلك أثر على وضع رجال القبائل الذين باتوا يحتاجون
للعمل في أزقة المدن، وللتعامل بالرشاوى مع من كانوا يحتقرونهم من قبل لتمرير
الخدمات.
- ثانياً: ضعف الطبقة
الوسطى في البلاد و التي تكونت من العاملين بمجال التعليم و الصحة، و هو ما جعل
البديل هو الالتحاق بصفوف الاجهزة الأمنية كبديل متاح للحصول على فرص العمل أو
الترقي الاجتماعي، في بلد عانى فيه 40% من القوة العاملة للبطالة(7)، كما بدا
أيضاً تغير معايير المجتمع التي اصبحت تتعلق بالقرب من السلطة و مراكمة الثروة، و
قلت أهمية معايير المجد و الشرف الذي تغنى به السادة و رجال القبائل، فجيلاً شاباً
جديداً من أبناء اليمن قد هاجر إلى السعودية أو المدن الحضرية داخل اليمن، بات غير
مكترثاً بالنسيج العضوي للقبيلة و لمشايخها، ففقد مشايخ القبائل السيطرة و لو
جزئياً على تصرفات أعضاء القبيلة و هو ما وضح في إلتحاق العديد منهم للتنظيمات
الإرهابية و غيرها، فاقتصرت وظائفهم على التهدئة.
الخاتمة
وجود القبيلة في اليمن يبدو بديلاً للدولة فقط في حالة ضعفها أو انهيارها، كما حدث منذ أزمة 2011 ثم الحرب الحالية، حيث توفر شبكة أمان اجتماعي و لو متواضعة لأفرادها، و قد بدا أن معظم القبال اليمنية ترغب في وضع محايد يضمن أكبر المكاسب و سلامة أعضاؤها، فعلى مر العصور تكتسب الزعامات القبلية شرعية وجودها من خلال تحقيق منافع لأفرادها و هو ما يتحقق بتجنب الصدام قدر الإمكان، أي أن سلطة و مؤسسات الدولة لن تواجه صعوبات بعد الحرب، إذا كانت صادقة و عازمة على توزيع الواجبات و المسئوليات على أوسع قاعدة ممكنة من طبقات المجتمع.
المراجع
(1) Helen Lackner, Understanding
the Yemeni Crisis: The transformation of tribal roles in recent decades,
working paper, Institute for Middle East and Islamic Studies, Durham
university, 2016, pp.4,5.
(2) Yemen profile – Timeline, BBC news, 24 April
2018, available: https://www.bbc.com/news/world-middle-east-14704951
تاريخ الدخول 10-6-2018
(3) Khaled FATTAH, A POLITICAL HISTORY OF CIVIL-MILITARY
RELATIONS IN YEMEN, Alternative Politics, Special Issue 1, 25-47, November
2010, pp. 31-35.
(4) Ibid, pp. 36-37.
(5) الوحدة
اليمنية و الحرب الأهلية 1994، موسوعة المقاتل، متاح على الرابط:
http://www.moqatel.com/openshare/Behoth/Siasia21/HarbYaman/sec23.doc_cvt.htm تاريخ الدخول 10-6-2018
(6) Helen Lackner, Op.Cit, p.7.