بعيداً عن الولايات المتحدة الأمريكية: أسباب وآليات التحرك الأوروبي لبناء نظام دولي جديد
بدأت القوى الفاعلة في الاتحاد الأوروبي، الاستعداد
لبناء منظومة أمنية وسياسية قادرة على إيجاد قدر من الاستقلالية عن الولايات
المتحدة الأمريكية، التي وضعت أسس النظام الدولي منذ انتهاء الحرب العالمية
الثانية بالشراكة مع القوى الكبرى، لتتفرد منذ نهاية الحرب الباردة بقيادة النظام
الدولي، والآن جاء الرئيس دونالد ترامب، رافعا شعار "أمريكا أولا"، متخليا
عن التزامات واشنطن تجاه حلفائها، وهو ما دفعها إلى البحث عن بناء نظام جديد
يمكنها من العيش بدون ضغوطات واشنطن الجديدة.
أولاً- أسباب التحرك الأوربي لبناء نظام جديد
يتعرض النظام الدولي الذي استقر عليه العالم منذ
انتهاء الحرب العالمية الثانية في عام 1945، إلى محاولات تفكيك متواصلة من قبل قوى
صاعدة مثل روسيا والصين، مدفوعة بطموحات اقتصادية وسياسية وجيوسياسية، مقابل وجود
تراجع من قبل القوى القائدة وهي الولايات المتحدة الأمريكية التي بدأ رئيسها
الجديد ترامب استراتيجية جديدة أقرب إلى العزلة منها إلى الاندماج والدفاع عن
الحلفاء، مشاركتهم نفس الرؤى والاستراتيجيات.
وتعد ألمانيا ويشاركها هذا الرأي قوى أخرى مثل
إيطاليا، وإلى حد ما فرنسا، من أبرز القوى الأوروبية التي تريد البحث عن إطار جديد
للنظام الدولي أو على الأقل ضمان بقائهم في النظام الجديدة قيد التشكل وعدم خروجهم
من المعادلة كما جرى لتركيا في الحرب العالمية الأولى، وكما حدث مع اليابان في
الحرب العالمية الثانية، ومن أبرز الأسباب التي دفعت بعض القوى الأوروبية إلى
التحرك بحثا عن نظام دولي جديد:
(1)
التراجع الأمريكي:
رفع دونالد ترامب منذ مجيئه للسلطة شعار "أمريكا
أولا. اعتقد البعض أنه مجرد شعار انتخابي ولن يتحول إلى استراتيجية العزلة التي
اتبعتها الولايات المتحدة لفترات طويلة حتى انخراطها في الحرب العالمية الثانية،
بجانب دول الحلفاء، لكن ترامب بدأ في اتباع الكثير من آليات هذه السياسة، فبالنسبة إلى الشق
الأمني والعسكري، طالب دول حلف شمال الأطلنطي "ناتو" بالاعتماد على
نفسها وتحمل جزءا من أعمال الإنفاق العسكرية التي تتحمل معظمها الولايات المتحدة.
اعتبرت الكثير من دول الحلف خاصة الأوروبية الأمر
بمثابة تهديد لأمنها، وحتى في حال الالتزام بالشرط الأمريكي وهو رفع ميزانية
الانفاق العسكري لكل دولة بالحلف إلى 2% من إجمالي الدخل القومي للدولة، فإن استمرار
الحماية الأمريكية، لم يعد مضمونا، فحتى
واشنطن ما قبل ترامب لم تتدخل بالشكل الكافي لمنع التدخل العسكري الروسي في
أوكرانيا وضم جزيرة القرم إليها مما يعتبر
تهديدا مباشرا لأمن أوروبا.
ولم تهدد إدارة ترامب بتقليص الحماية العسكرية
فقط، وإنما لجأت إلى سياسات اقتصادية وبيئية تؤثر على حلفائها، من بينها الانسحاب
من اتفاقية باريس للمناخ، وفرض رسوم جمركية إضافية على ورادات الصلب بنسبة 25%
والألمونيوم بنسبة 10%، ستؤثر بشكل أساسي على دول الاتحاد الأوروبي، بل حذر ترامب
الاتحاد الأوروبي من "ضريبة كبيرة" على بضائعه لعدم تعامله بشكل جيد في
التجارة مع الولايات المتحدة.
كذلك
ساهمت إدارة ترامب في الإضرار بالرؤية
الأوروبية الأمريكية المشتركة للتعامل مع أزمات دولية وإقليمية، مثل الاتفاق
النووي مع إيران، الذي انسحب منه هذا الشهر، بعد أن ساعدت القوى الكبرى في التوصل
إليه، ولم يكتف بهذا بل فرض المزيد من العقوبات على طهران التي ستستهدف الشركات
الأوربية، مما يسبب لها خسائر فادحة، وتهديدها إن لم توقف تعاملاتها مع إيران.
(2)
زيادة النفوذ الروسي:
استطاعت روسيا زيادة تدخلاتها
العسكرية والسياسية والأمنية في القارة الأوربية، بشكل واضح وعلني، ظهر بشكل أكبر
في التدخل العسكري بأوكرانيا عام 2014 والمساعدة في انفصال إقليمي لوغانسك
ولونتسيك، وإعلان كل منهما جمهوريته المستقلة تمهيدا للانضمام لروسيا كما ضمت
جزيرة القرم، فقد جدد إيغور بلوتنيتسكي رئيس ما يسمى بجمهورية لوغانسك الشعبية
التأكيد على أن لوغانسك لن تعود إلى أوكرانيا، وإنما ستعود إلى روسيا على غرار
القرم.
لم يقف الأمر عند هذا الحد،
بل تدخلت موسكو في الاستحقاقات الانتخابية الحاسمة التي أجرتها أوروبا، مثل
الاتهامات الموجهة لها بالتدخل للتأثير على اختيارات البريطانيين وذلك في استفتاء
الخروج من الاتحاد الأوروبي في يونيو 2016، بخلاف تدخلاتها الإعلامية لدعم توجهات
اليمين المتطرف، وقد وجهت لها اتهامات بدعم ماري لوبان مرشحة اليمين المتطرف في
الانتخابات الفرنسية الأخيرة التي فاز فيها ماكرون عام 2017.
ولم تقف التدخلات الروسية في
أوروبا، عند هذا الحد، حيث اتهمت من قبل بريطانيا وشركائها، بمحاولة اغتيال العميل
الروسي المزدوج سيرجي سكريبال وابنته في لندن، في مارس 2018، بمادة كيميائية، وهو ما
ردت عليه معظم دول الاتحاد الأوروبي بجانب واشنطن وآخرون، بطرد الدبلوماسيين الروس،
لترد موسكو بالمثل وما زال التوتر قائما.
(3)
خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي:
مثل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، صدمة
كبيرة للأوربيين، فلندن قوة نووية وعسكرية واقتصادية ضاربة كان الاتحاد يعتمد
عليها بجانب الولايات المتحدة في حماية أمنه ومواجهة الاستفزازات الروسية، والآن
لم يعد لدى الاتحاد سوى قوة نووية وحيدة وهي فرنسا، التي لن تقدر بمفردها على
مواجهة أي صراع مستقبلا مع روسيا، وبخلاف ذلك مثل خروج المملكة من التكتل الأوربي
ضربة قاضية لمشروع الجماعة الأوروبية الموحدة، بما ينذر بخروج دول أخرى من الاتحاد
والبدء في تفكيكه، بما يجع الدول الأوربية هشة أمام روسيا في ظل تراجع أمريكي
وتشكك حول نوايا إدارته الحالية.
ثانياً- آليات التحرك الأوروبي:
"إن أوروبا لم يعد بوسعها الاعتماد كليا على
الولايات المتحدة وبريطانيا بعد انتخاب دونالد ترامب وتصويت البريطانيين لصالح
الخروج من الاتحاد الأوروبي، وعل أوروبا أن تناضل من أجل مصيرها"، بهذه
الكلمات وضعت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل رؤيتها لأوروبا وكيفية رسم
استراتيجيتها المقبلة من أجل البقاء في نظام جديد قيد التشكل وجب أن يكونوا أحد
بناته وراسميه وليس خاضعين لم سيتم التوافق عليه بين القوى الأخرى المتنافسة، لهذا
بدأ الاتحاد الأوروبي في التحرك ضمن مسارات سياسية وأمنية وعسكرية واقتصادية
لمواجهة هذا التغير وتمثل في:
(1) بناء قوة عسكرية موحدة:
وقع 23 عضوا
في الاتحاد الأوروبي، في نوفمبر 2017، على وثيقة للتعاون الدفاعي من أجل تعزيز
التكامل الأوروبي في المجال العسكري، تمهيدا لبناء جيش أوروبي موحد، فدول الاتحاد
صغيرة الحجم وضعيفة الإمكانيات العسكرية، وهو ما يتطلب تعاونهم سويا في ظل عدم
ضمان الحماية الأمريكية والبريطانية، وقد عبرت الممثلة العليا للسياسة الخارجية
للاتحاد فيديريكا موغيريني، عن هذا الأمر بوضوح أثنا التوقيع على الاتفاق قائلة
"إننا نعيش لحظة تاريخية للدفاع الأوروبي، فهذه الأداة الجديدة ستسمح بزيادة
تطوير قدراتنا العسكرية لتعزيز استقلاليتنا الإستراتيجية".
وقد أقلق
هذا الأمر الولايات المتحدة بشكل خاص، فهذا عمليا يعني القضاء على حلف شمال
الأطلنطي الذي يشكل الأوربيون معظم أعضائه، فحال تشكيلهم قوة عسكرية مستقلة لن
يعود للناتو أهمية كما كان من قبل، بما
يعني ضعف النفوذ الأمريكي في أوروبا الذي كان يكتسب ثقله من البعد الأمني والعسكري
الذي يوفره للقارة، لكن أوروبا ليس أمامها خيار في ظل وجود إدارة ترامب بالبيت
الأبيض، وبقاء بريطانيا خراج الاتحاد الأوروبي،مقابل زيادة التدخلات الروسية في
دول القارة.
(2) تعزيز العلاقات الاقتصادية بين دول الاتحاد
كانت
الدوافع والسياسات الاقتصادية من بين الأسباب التي دفعت بريطانيا إلى الخروج من
الاتحاد الأوروبي، لذا تبحث دول القارة المؤثرة خاصة فرنسا وألمانيا، على بناء
اتفاقات جديدة سواء فيما بينهم أو مع
الدول الأخرى، وذلك لمعالجة الخلل الناتج عن خروج بريطانيا، فالميزان التجاري بين
بريطانيا والاتحاد يميل لصالح الأخير، حيث يتمتع بفائض تجاري يقدر بـ 56 مليار
جنيه إسترليني، لذا سيتأثر نمو الاتحاد الأوروبي سلبًا بعد خروج بريطانيا من
الاتحاد، لهذا يتم التفاوض معها الآن على اتفاقات اقتصادية بديلة حتى لا يحدث خلل
كبير في اقتصادات دول الاتحاد.
وإلى
جانب ذلك تعمل دول الاتحاد على وضع اتفاقات جديدة بينهم كما جرى في الاتفاق
العسكري، فقد توصل وزراء مالية دول الاتحاد الأوروبي، يوم 25 مايو الجاري، لاتفاق
حول إصلاح القواعد المتعلقة برأسمال البنوك، لتعزيز الاستقرار المالي للاتحاد
الأوروبي لمواجهة الأزمات المالية كما جرى في أزمة 2008.
(3)
اتباع سياسات مستقلة عن الولايات المتحدة:
لم تقبل
دول الاتحاد السير في ركاب السياسات
الجديدة التي بدأ ترامب في تنفيذها، من بينها الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ،
حيث رفضت الانجرار لموقفه أو تعديل الاتفاق، فقد دفعت الظروف البيئية التي تهدد
أمن القارة إلى إنجاز الاتفاق بسبب الاحتباس الحراري الناتج عن زيادة نسبة ثاني
أكسيد الكربون بسبب بعض الصناعات الثقيلة والملوثة للبيئة مثل الفحم، الذي تستهلكه
واشنطن بشراهة.
وإلى
جانب ذلك خالفت أوروبا توجهات ترامب تجاه اللاجئين والعديد من قضايا الشرق الأوسط
مثل الاتفاق النووي مع إيران، حيث رفضت خطوة ترامب،ـ وأعلنت تمسكها بالاتفاق، بل
لجأت إلى آليات لحماية تجارتها مع إيران من العقوبات الأمريكية فمثلا بدأت
المفوضية الأوروبية يوم 18 مايو الجاري، إجراءات رسمية لتفعيل "قانون التعطيل"
لحد تأثير العقوبات الأميركية على الشركات الأوروبية التي تريد الاستثمار العاملة
في إيران، وهو تشريع أوروبي أقر عام 1996، ويسمح للشركات والمحاكم الأوروبية بعدم
الامتثال للقوانين بشأن العقوبات التي يتخذها بلد ثالث، كذلك يرفض التشريع تطبيق
أي حكم يصدر عن محاكم أجنبية على أساس هذه التشريعات داخل الاتحاد الأوروبي، وهذه
اول مرة تستخدم فيها أوروبا هذا القانون ضد الولايات المتحدة.
خاتمة:
يمكن القول إن الاتحاد
الأوروبي وعلى رأسه ألمانيا حالياً، لن يقدر على تجاوز نظام ما بعد الحرب العالمية
الثانية، الذي ضمن التفوق الأمريكي والتفرد بقيادة العالم منذ انتهاء الحرب
الباردة، وإنما يمكن له تحسين وضعه في النظام الحالي، وحجز موقع ضمن النظام الجديد
قيد التشكل، الذي تنبأ به ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الأمريكية والدبلوماسي
الأمريكي السابق، عام 2017، حيث أكد نهاية النظام العالمي الأحادي القطبية القائم
وبداية "عصر الفوضى"، الذي من المرجح أن تسوده التهديدات والتحولات
السريعة وغير المتوقعة.
المصادر:
1ـ دونيتسك ولوغانسك: لن نعود إلى أوكرانيا، روسيا
اليوم،11/11/2017 ، الرابط.
2ـ أوروبا تفعل آلية لحماية شركاتها من تأثيرات
العقوبات الأميركية على إيران، الشرق الأوسط، 19/5/2018، الرابط.
3ـ ميركل: لا تستطيع أوروبا
الاعتماد كليا على أمريكا أو بريطانيا، 29/5/2017، الرابط.
4ـ أوروبا تبحث عن حلول في
مواجهة سياسة ترامب "النزواتية"، دويتش فيلله، 17/5/2018، الرابط.
5ـ 23 بلدا عضوا في
الاتحاد الأوروبي يوقعون وثيقة للتعاون الدفاعي، فرانس 24/11/2017، الرابط.
6ـ آية عبدالعزيز، الخروج الآمن.. الاستراتيجية الأمنية والدفاعية المشتركة لدول الاتحاد الأوروبي بعد «البريكست»،24/11/2017، الرابط.