إقليم كتالونيا: بين سياسات مدريد وانهيار حلم الانفصال
استجاب الرئيس الكتالوني لشروط الحكومة المركزية في "مدريد"
بتشكيل حكومة برشلونة في 29 مايو/ أيار 2018بعيدًا عن دعاة الانفصال، أو
المسجونين، وذلك بعد قرار رفض "مدريد" التصديق على تشكيل حكومة برشلونة
في خطوة تصعيدية أخرى من قبل السلطات الإسبانية زادت من حالة الغضب المثارة داخل
الإقليم منذ إعلان الانفصال عن إسبانيا في أكتوبر/تشرين الأول 2017.
فبعد
أن أقرت مدريد مهام الرئيس الكتالوني "كيم تورا" الذي تم انتخابه من قبل
البرلمان الكتالوني في 14 مايو/ أيار 2018 رفضت تعيين أربع وزراء لوجودهم إما في السجن
أو المنفى بسبب محاولة الانفصال؛ وعليه تم تأجيل أداء اليمين الدستوري لحكومته،
مستنكرًا الممارسات التي تقوم بها مدريد. والجدير بالذكر ؛ أن "تورا"
أثناء أدائه اليمن الدستوري رفض تضمينه عبارة "الولاء لملك ودستور إسبانيا"(1).
ويمنع الدستور الإسباني انفصال أي
إقليم عن باقي البلاد، حيث يعد إقليم كتالونيا مركزًا للصناعة والسياحة ويمثل حوالي
خمس الاقتصاد الإسباني، وقاعدة إنتاجية لكبرى الشركات العالمية، كما أنه يضم أسرع مواني
الشحن نموا في أوروبا‘(2).
العواصم الأوروبية وتحدي الانفصال
تشهد العواصم الأوروبية حالة من عدم
الاستقرار نتيجة مواجهاتها عدد من التحديات والتهديدات على الصعيد الداخلي
والخارجي؛ تتجلى في تنامي النزعات الانفصالية من قبل بعض الجماعات الاثنية ذات
الهوية الثقافية والقومية الواحدة، بجانب خروج بعض الدول الأوروبية الكبرى من
التكتلات الإقليمية. انتهجت بعض الدول عدد من السياسات لتصدى لموجة الانفصال التي
طالت العديد من العواصم الأوروبية، حيث مثل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي
محفزًا قويًا للمطالبة بالاستقلال عن الدولة الأم.
فبرغم من تميز النظم الغربية بكونها تسير
على النهج الديمقراطي وتتمتع بقدرً كبير من حرية الرأي والتعبير، كما تأييد حق
الشعوب في تقرير المصير إلا إنها عارضت بشدة فكرة الانفصال لما لها من مآلات تكاد
تعصف بالوحدة الأوروبية، لذا يتوق الأوروبيون إلى خلق مصالح اقتصادية مشتركة
لتجاوز قضايا الهوية القومية التقليدية للتصدي إلى تنامي النزعات الانفصالية.
وعليه؛ يُقاوم الاتحاد الأوروبي أي محاولة
لتدعيم الفكر الانفصالي، فعلى سبيل المثال، عندما أعلنت كتالونيا الانفصال عن
الحكومة المركزية في أكتوبر/ تشرين الأول 2017، أعلن عن رفضه لقرار الانفصال، واستبعاد
أن تكون كتالونيا عضوًا كاملًا مع التهديد بسحب المشروعات الاقتصادية الكبرى من
الاقليم، وهذا في سياق رفضت الحكومة المركزية فكرة الانفصال واستبعادها إجراء أي
مُفاوضات مستقبلية بشأن الإقليم. وقد تنامت النزعة
الانفصالية في برشلونة منذ 2010 في ظل الأزمة الاقتصادية، مع تقليص المحكمة
الدستورية السلطات التي تم منحها للإقليم، ومنذ 2012 تزايدت المطالب بتنظيم استفتاء
لتقرير المصير والانفصال عن الحكومة المركزية في مدريد.
لم يكن إعلان الانفصال وليد اللحظة ولكنه
انبعث نتيجة عدد من المحددات التي امتزجت في بوتقة واحدة، فقد تداخلت قضية الهوية
مع التحديات الاقتصادية لتشكل دافعًا للانفصال، فقد عانى الاقليم من الركود
الاقتصادي الذي تعرضت له الحكومة المركزية(3).
وعلى الجانب الأخر تمثل
"كتالونيا" أهم الإقليم بالنسبة لمدريد نتيجة امتلاكها العديد من الثروات
الطبيعية، بالإضافة إلى أن برشلونة تتحكم في 70% من حركة النقل والمواصلات الخاصة
بتجارة مدريد، بالإضافة إلى أن 26% من صادرات مدريد قادمة من الإقليم، كما تنتج
45% من التكنولوجيا المصدرة علاوة على أن عملية الانفصال ستأثر سلبيًا على إجمالي
الناتج القومي لإسبانيا بنحو 19% ؛ حيث يبلغ إجمالي الناتج القومي للإقليم نحو 210
مليون يورو، ما يعني أن نصيب الفرد الواحد في كتالونيا نحو 27 ألف يورو سنويًا(4).
سياسة
"مدريد" تجاه قرار الانفصال
تمكنت
الدولة القومية الحديثة في التعامل مع الاختلافات والتباينات الاجتماعية لاستيعاب
جميع مواطنيها داخل إطار السيادة المركزية يكون فيها الولاء للدولة الوطنية وليست
للولاءات الفرعية، لذا شرعت بعد الدول في اتباع النظام الفيدرالي أو منح بعض
الأقاليم الحكم الذاتي أو فرض ما يعرف بالديمقراطية التوافقية لتقاسم السلطة،
اعترافًا بالتنوع داخل الدولة الوطنية، وفي هذا الإطار اعترفت بعض الدول بأكثر من
لغة رسمية للدولة دعمًا للاستقرار الاجتماعي والسياسي وتجنبًا، لتنامي حركات
الانفصال.
تنوعت السياسات الإسبانية في التعاطي مع حكومة
"كتالونيا" لإخماد الحركة والتغلب عليها جمعت بين السياسات ذات التأثير
الإيجابي والسلبي إلا إنها حتى الآن مازالت تأجج الصراع الداخلي ولم تستطيع
المساهمة في استعادة الاستقرار للإقليم.
(1) المواجهة الدستورية: رفضت حكومة مدريد قرار الاستفتاء على كافة الأصعدة، فقد أعلنت
المحكمة الدستورية تعليق التصويت على الاستفتاء واعتباره غير دستوري(5).
ورغم ذلك بلغت نسبة التصويت 43% من الناخبين المسجلين، كما وافق نحو 90% من
الناخبين على الانفصال، وعليه أعلن البرلمان الكتالوني انفصال الإقليم بالأغلبية. وكرد
فعلاً على ذلك قرر "مجلس الشيوخ" الإسباني تفعيل المادة (155) من الدستور التي تعرف باسم "الخيار النووي"
القاضية بنقل إدارة الإقليم إلى الحكومة المركزية، ليكون تحت السيطرة المباشرة
لها، كما ألغت المحكمة الدستورية في كتالونيا إعلان الاستقلال الذي تبناه برلمان الإقليم(6).
(2) المواجهة القانونية: بدأت الحكومة المركزية في التصدي لرموز الانفصال لذا فقد
أعلن "ماريانو راخوي" رئيس الوزراء الإسباني إقالة حكومة برشلونة، وحل البرلمان
الكتالوني مع تحديد موعد لإجراء الانتخابات برلمانية مبكرة في 21 كانون الأول/ديسمبر(7).
وفي خطوة لاحقة أصدرت المحكمة العليا الإسبانية مذكرة توقيف دولية في حق "كارلس
بوتشدمون" رئيس الإقليم وعدد من أعضاء الحكومة في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني، وعليه
قاموا بتسليم أنفسهم عقب يومين من صدور المذكرة للشرطة.
(3) استخدام العنف والقمع: بإعلان المحكمة الدستورية عدم دستورية الاستفتاء، بدأت
الاشتباكات بين الشرطة الإسبانية والناخبين لمنعهم من التصويت؛ حيث تعاملت بعنف
شديد تجاه الناخبين مقتحمة مراكز الاقتراع داخل المدارس والمباني العامة، كما
صادرت جميع الأدوات الخاصة بعملية التصويت، وأطلقت الرصاص المطاط على الناخبين،
فيما تعرضت بعض الناخبات للسحل على الأرض، الأمر الذي أسفر عن إصابة ما يقرب من
900 شخص. وفي المقابل اتهم "كارليس بويجديمونت" الرئيس الكتالوني
الحكومة المركزية باستخدامها العنف غير مبرر تجاه الناخبين لمقع عملية التصويت(8).
(4) الخطاب السياسي؛ وفقًا
للدستور الإسباني لا يمكن الاعتراف بانفصال أي جزء من الأقاليم الخاضعة لحكومة
مدريد، لذا فقد هاجم الملك "فيليب السادس" منظمي الاستفتاء القاضي
بانفصال برشلونة عن الحكومة المركزية، معتبرًا إنهم انتهكوا قيم الديمقراطية
وسيادة القانون، الأمر الذي انعكس بشكل سلبي على المجتمع الذي أضحى يعاني من
انقسام داخلي من المتوقع أن يأثر على الوضع الاقتصادي للإقليم وإسبانيا بشكل عام،
كما إنهم سيضعون الإقليم وحكومته خارج نطاق القانون داعيًا الحفاظ على الوحدة.(9)
ديناميكيات الصراع بين "مدريد"
و"برشلونة"
اتخذت
السلطات الكتالونية موقفًا حادًا من السياسات التصعيدية التي انتهجتها حكومة
مدريد؛ ظهرت تجلياتها في إعلان برشلونة إضراب عام يشمل قطاعات عمالية واسعة
النطاق، خاصةً في مجال النقل والمواصلات والتعليم والصحة للتصدي للعنف غير المبرر
الناجم عن السلطات الإسبانية. ساهم ذلك في وقف العمل في كافة الجامعات، وقطع 59
طريقًا أمام حركة السير ، كما أدى الإضراب إلى إلغاء ما يقرب من 150 قطارًا، ووقف
حركة مترو برشلونة في الفترة ما بين 9:30 و17:00، ووصل العمل في مينائي
"طراغونة" و"برشلونة" بأدنى طاقتهما، كما دعم العاملين في
مجال الصحة الإضراب بنسبة 75%(10).
وعلى
صعيدًا أخر بدأت تخرج مظاهرات حاشدة تنديدًا بعنف قوات الأمن تجاه الكتالونيين،
وعليه قررت النقابات الانضمام إلى الإضراب لمواجهة السياسات التصعيدية، وذلك بجانب
الأحزاب والجمعيات الداعمة لاستقلال(11).
ختامًا؛ أدى الاستفتاء وما تبعه من تداعيات إلى إثارة العديد من
الانقسامات الداخلية وأصبحت متجذرة في نسيج الكتالونيين، كما فقد الإقليم حكمه
الذاتي وأصبح خاضعًا تحت الحكومة المركزية مرة ثانية بعد ما شهده من مراحل
الاستقلال النسبي في سياق الحكم الذاتي.
وهنا تظهر إشكالية هامة وهو أن تعامل
الإقليم مع الحكومة المركزية رغم إنه حق شرعي بالنسبة لهم إلا إنه مخالفًا للدستور
الإسباني وعليه تبرز جدلية العلاقة بين الدولة والمجتمع وحقه في تقرير مصيره، وكيف
يتحقق التوازن فيما بينهم بما يتوافق مع مصالح الدولة دون الإضرار بالحقوق والحريات للمواطنين.
تعاني الكثير من الدول من حالات من
الصراع الداخلي التي أصبحت محفزًا للانفصال ولكن ماذا بعد الانفصال؟ وإن كان هدفه
في المقام الأول الحفاظ على الهوية والحقوق والحريات لبعض القوميات الأثنية.
وبالنظر إلى بعض النماذج التي استقلت مثل جنوب السودان سنجدها تعاني أيضًا من
اضطرابات داخل الدولة الوليدة، وحتى الآن لم تستقر بعد ويرجع ذلك في كثير من
النماذج إلى توازنات القوى الداخلية والانتماءات الفرعية فلم تعد هناك ولاءات
وطنية وعليه يتم التلاعب بهذه الانتماءات لتحفيز النعرات الانفصالية علاوة على
تسيسها وهنا يتجلى العامل الخارجي ودوره في تأجيج الصراع.
لذا فلابد على الدول القومية ذات سيادة كاملة من
أن تدير الصراع الداخلي بكفاءة وفعالية لإحلال السلام عبر إدارة التعددية ودمج
الأقليات في الحكم عبر الديمقراطية التوافقية لتقاسم السلطة، وفقًا للوزن النسبي
للجماعات داخل المجتمع لمنع احتكار فئة للسلطة.
ومن ناحية أخرى لابد من إعادة النظر في برامج الاصلاح الاقتصادي بما يتوافق مع مصالح المواطنين دون اتباع سياسات مجحفة تؤدي إلى تهاوي مركزية المجتمع بفقدانه الطبقة الوسطى. إعادة الحراك المجتمع عبر المنظمات المجتمع المدني والأحزاب لضمان المشاركة السياسية. وأخيرًا لا تمثل التعددية عبئًا على الدولة ولكن الإشكالية في إدارتها.
المراجع:
1)
" تأجيل أداء اليمين الدستورية لحكومة كتالونيا الجديدة"،
روسيا اليوم، 24/5/2018. الرابط
2)
"صحيفة: إسبانيا تبقي على سيطرتها على كتالونيا"، اسبوتينك
عربي، 20 مايو 2018. الرابط
3)
د. حامد التجاني علي، "العوامل الدافعة لحركات
الانفصال"، مجلة الديمقراطية، العدد 69، السنة 18، يناير 2018.
4)
باسم
راشد، "دوافع ومآلات النزعة الانفصالية في أوروبا"، السياسة الدولية،
العدد 211، المجلد 53، يناير 2018.
5)
"أزمة كتالونيا في
سطور"، هيئة الإذاعة البريطانية، 27 اكتوبر 2017. الرابط
6)
عمرو صلاح،
"الدرس الإسباني: لماذا فشلت كتالونيا في الحصول على استقلالها؟، مركز
المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 19 نوفمبر 2017. الرابط
7)
"رئيس الحكومة الإسبانية يزور إقليم كتالونيا للمرة الأولى بعد
تعليق الحكم الذاتي"، اسبوتنيك عربي، 12/11/2017. الرابط
8)
Caroline
Mortimer, " Catalan referendum: Local police officer
moved to tears as he protects protesters in Vielha", independent, 1
October 2017. Available at
9)
" الكتالونيون المؤيدون للاستقلال "يتحدون" العاهل
الاسباني"، هيئة الإذاعة البريطانية، 4 أكتوبر 2017. الرابط
10)
"إضراب عام في كتالونيا.. ومدريد تتهم سلطات الإقليم بتأجيج التمرد"،
روسيا اليوم، 3 أكتوبر 2017. الرابط
11) " إسبانيا: إضراب عام في كاتالونيا تنديدا بعنف رجال الأمن"، فرانس 24، 3/10/2017. الرابط