المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

الثورة الرقمية وتحولات القوة الناعمة

الأربعاء 07/فبراير/2018 - 01:22 ص
المركز العربي للبحوث والدراسات
د. شريف درويش اللبان

تأكيداً لرؤية المركز العربي للبحوث والدراسات الخاصة بإدراك دور وتأثير القوى الناعمة في العالم المعاصر، والذي أفردنا ملف خاص في دورية "آفاق سياسية" التي تصدر عن المركز في العدد 30 نوفمبر 2017، والذي شارك به الدكتور شريف اللبان بدراسة تحت عنوان "الثورة الرقمية وتحولات القوة الناعمة: من شبكات للمعلومات إلى ساحات للإرهاب والتحريض والصراعات"

 واستمراراً لهذا الدور، أقيمت عصر الثلاثاء 6 فبراير 2018، ندوة عن «الثورة الرقمية وتحولات القوة الناعمة»، ضمن سلسة الندوات التي يعقدها معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الحالية، في قاعة الندوات الرئيسة بالمعرض، وأدار الندوة وتحدث فيها د. شريف درويش اللبان أستاذ الصحافة وتكنولوجيا الاتصال ووكيل كلية الإعلام جامعة القاهرة، وتحدث فيها أيضاً: د. جلال الجميعي أستاذ الكيمياء العضوية بجامعة حلوان والحاصل على جائزة النيل عام 2013، و د. شريف كامل شاهين أستاذ المكتبات والمعلومات ووكيل كلية الآداب جامعة القاهرة ومدير دار الكتب والوثائق القومية السابق، والكاتب الصحفي نبيل الطاروي. 

الثورة الرقمية وتحولات

وسوف نفرد هنا مساحة لدراسة الدكتور شريف اللبان الخبير بالمركز ومدير وحدة الدراسات الإعلامية، والتي جاءت تحت عنوان " الثورة الرقمية وتحولات القوة الناعمة: من شبكات للمعلومات إلى ساحات للإرهاب والتحريض والصراعات"، وإليكم نص الدراسة:

مقدمة

حاولت الولايات المتحدة الأمريكية أن تفرض قوتها الناعمة في أواخر عقد الثمانينيات من القرن الماضي بإقرار ما أسمته "النظام الإعلامي العالمي الجديد" New Word Communication Order، وكانت منظمة اليونسكو ساحة لحوارات مريرة حول التدفق العالمي للمعلومات. وتركزت عديد من النقاشات على أن وكالات الأنباء الرئيسة التي تسيطر عليها الدول الغربية تشوه ما يجري في الدول النامية، وأن وسائل الإعلام الغربية أصبحت ذات قوة متزايدة، وأن أقمار البث المباشر أصبحت تمثل تهديدًا أكبر لأن إشارتها تغطي عددًا من الدول بالترفيه والتسلية المتلفزة، حاملةً المعلومات والثقافة فيما وراء قوة الحكومات الوطنية في دول العالم الثالث (1).

ولا تستطيع آليات الرقابة والشوشرة أن توقف تدفق الاتصال عبر الحدود التي أصبحت مسامية. واقترحت دول العالم الثالث أن يكون ثمة نظام معلوماتي واتصالي عالمي جديد على أن تحدد اتفاقات دولية الجانب الاتصالي المتضمن في هذا النظام (2).

ونحن لسنا في حاجة لأن نقول إن أعداء حرية المعلومات Freedom of Information عارضوا بشدة فكرة النظام الاتصالي والمعلوماتي العالمي الجديد، مقتنعين بأن معظم المعارضة نابعة من الخوف من قِبَل هذه الأنظمة من وسائل الإعلام التي قد تكون المسمار الذي يُدَق في نعش النظم الديكتاتورية التي أوجدوها في بلادهم. وقد ناقش المعارضون، من بين أشياء أخرى، أن الاقتراح ليس سوى رغبة لتوسيع مفهوم الرقابة لتمتد على مستوى دولي بعد أن كانت على مستوى محلي، وهو الهدف الذي من خلاله يمكن أن تتحقق الاستمرارية للحكومات الفاسدة، ويتم إخفاء بؤس وفقر غالبية شعوبها (3).

وبعد فشل الولايات المتحدة في فرض قوتها الناعمة عن طريق إزالة كل العوائق أمام ثقافتها وإعلامها للدخول إلى كل دول العالم، فكرت في منحى آخر وهو الطريق السريع للمعلومات Super Information Highway، وذلك للعمل على توسيع مجال الاتصال في ثلاثة ميادين مهمة؛ وهى أن هذا الطريق يمدنا بوسائل إعلام جديدة ومزيد من الخيارات الاتصالية، والتي تعمل على زيادة البدائل المطروحة أمام الفرد، وهى البدائل التي تفصلنا عن الأسرة والمجتمع ومفهوم الدولة. كما أن هذا الطريق يتميز بأنه تفاعلي يربط الناس الذين قد لا يروْن بعضهم البعض إطلاقًا من خلال البريد الإلكتروني والصحف الإلكترونية والأدوات التفاعلية الأخرى، كما أن الطريق السريع للمعلومات يخلق وسائل ربط بعيدة للأنشطة الشخصية (4).

وجاءت الخطوة المهمة لتمكين الولايات المتحدة في فرض قوتها الناعمة مع نشوء شبكة الإنترنت وبدء الاستخدام الجماهيري لها في دول العالم المختلفة ومن بينها الدول النامية. وقد حثت الطبيعة المتفردة للإنترنت كوسيلة اتصال جديدة قادة العالم على تشكيل سياسة للتعامل مع هذه الشبكة، فقد عقدت الدول الصناعية السبع الصناعية الكبرى "المؤتمر الوزاري لمجتمع المعلومات" عام 1996. وقد تمت الموافقة في هذا المؤتمر على مجموعة من المبادئ، ومن بينها تشجيع المنافسة والاستثمار الخاص، وتحديد إطار عمل تنظيمي ملائم، وإتاحة الوصول المفتوح Open Access، للشبكات، وضمان الوصول العالمي للشبكة، ودعم المساواة في الفرص والتعددية في المحتوى (5).

وبخبثٍ شديد، وحتى لا تتم إثارة حفيظة النظم الديكتاتورية في عديد من دول العالم، لم يتم إلقاء الضوء على حرية التعبير بعبارات واضحة ومحددة في توصيات المؤتمر، رغم الضغوط التي مورست من جانب منظمات حقوق الإنسان والجماعات الأخرى العاملة في هذا المجال والتي حثت المؤتمرين على أن يكون هناك مثل هذا التأكيد، إلا أن الهدف النهائي للمؤتمر يعمل على تدعيم تعددية المحتوى، والتي يمكن إنجازها فقط من خلال تشجيع التعبير الحر في كل أنحاء العالم (6). وهكذا استطاعت الولايات المتحدة أن تعطي إشارة البدء في تغلغل وسيلتها الرئيسة والجديدة (الإنترنت) في ممارسة قوتها الناعمة في نسيج المجتمعات المختلفة عبر العالم.

الثورة الرقمية وتحولات

أولاً- الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي وصعود قوتهما الناعمة

بنهاية 2016 أصبح نصف سكان العالم تقريبًا من مستخدمي الإنترنت مع تزايد شبكات الهواتف المحمولة وهبوط الأسعار ولكن هذه الأعداد تظل متركزة في العالم المتقدم، في الوقت نفسه توقعت وكالة "زينيث" للتسويق الإعلامي أن 75 بالمئة من استخدام الإنترنت سيكون عن طريق الهاتف المحمول في 2017، وهو ما يزيد قليلاً عن العام الماضي مع تنامي عدد المستهلكين حول العالم الذين يصلون إلى الإنترنت عبر الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر اللوحي، حيث ازداد مستخدمو الانترنت في الصين، وهو البلد الذي يضم اكبر عدد مستخدمين لشبكة الإنترنت على الصعيد العالمي، ليتخطى 700 مليون شخص، مشكلاً أكثر من نصف إجمالي متصفحي الإنترنت في العالم (7).

على صعيد مختلف، تعقد غالبية وسائل الإعلام شراكات مع الجهات الوافدة حديثًا إلى مجال الإعلام لتعزيز انتشارها على محركات البحث ومواقع التواصل الاجتماعي، لكن الأرباح المالية لا تزال غير مضمونة، وليس النموذج الاقتصادي هو وحده الشائك بالنسبة إلى وسائل الإعلام في منصات الإنترنت، فالمسألة تطال أيضًا المحتويات وترتيبها الخارج عن سيطرة وسائل الإعلام والخاضع لمعادلات المحركات.

وأعلن كل من "فيسبوك" و"تويتر" وحوالى عشرين وسيلة إعلام، من بينها وكالة "فرانس برس" الانضمام إلى اتحاد يجمع الوسائل الإعلامية والمجموعات التكنولوجية يقضي الهدف منه بتحسين نوعية المعلومات المنشورة على الإنترنت، بما في ذلك على مواقع التوصل الاجتماعي، ويثير الدور المتنامي لشبكات التواصل الاجتماعي، مثل "فيسبوك"، قلقًا إزاء طرق نشر المعلومات وانتقائها، عند انتشار أخبار مزيفة أو خاطئة بسرعة البرق مثلاً.

ثانياً- الإدارة الأمريكية وتوظيف شبكات التواصل الاجتماعي والأدوات الإعلامية

تمثل الفلسفة الأميركية لدور شبكات التواصل الاجتماعي وأدوات الإعلام والاتّصال
الخلفية الفلسفية والفكرية لاستراتيجيات وسائل الاتّصال والإعلام التي تتبناها وزارة الخارجية الأميركية، وهى نفسها خلفية المدرسة الأميركية الكلاسيكية، التي صاغها المفكر وعالم الاتصال الكندي مارشال مكلوهان التي تقول: "إنّ شكل وطبيعة وسائل الاتّصال والإعلام في أيّ مجتمعٍ وأيّ عصرٍ هي التي تصوغ شكل التنظيم الاجتماعي والسياسي وليس العكس، وإنّ نشرَ وتعميم وسائل الاتّصال والإعلام في المجتمعات هو هدفٌ في حدّ ذاته، لأن أدوات ووسائل الاتّصال والإعلام تخلق شروطَ نموّ البيئة الليبرالية التّحرُّرية والديموقراطية في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

ومَنْ يتصفّح الموقع الإلكتروني الرقمي التابع لوزارة الخارجية الأميركية يجده حافلًا بالوثائق التي تؤكد هذا المنحى، وذلك من خلال تمويل الوزارة لمشروعات وصول شبكة الإنترنت إلى كلّ إنسان على وجه الأرض بكلفة شبه مجانية على المشترك والمُستخدِم، وتمويل مشروعات وتقنيات تكنولوجية مضادة للاحتواء والتّحكُّم لمنع الحكومات والأنظمة في مختلف دول العالم من السيطرة والرقابة على أنشطة المُستخدِمين، أو التّحكُّم بمستخدمي الشبكة، وربط وسائل التواصل الاجتماعي على الإنترنت بالهاتف المحمول لِجَعْلِهِ بعيدًا عن شبكات الاتّصالات المحلية الخاضعة لسيطرة الحكومات.

وتتبنى الإدارة الأميركية استراتيجية لنشر شبكة الإنترنت وتعزيز القوة السيبرانية
لتحقيق مجموعةٍ من الأهداف العامة، وخاصة شبكات التواصل الاجتماعي في العالم، وفي الساحات المعادية لها على وجه التحديد، نذكر منها (8):

§        عولمة البشرية وربطها بشبكة التكنولوجيا الأميركية في إطار تعزيز القوة السيبرانية، وهو المصطلح الذي استخدمه "جوزيف ناي" مُنَظِّر القوة الناعمة قائلًا: "إنّ هذه القوة ستكون الأخطر والأفعل في القرن الحادي والعشرين"، وهو ما عبَّرت عنه نصوص المجلة الإلكترونية لوزارة الخارجية الأميركية بالنص الآتي: "لقد وضَعْنا العالَم بين أصابع أيدي المُستخدِمين، فالمُستخدِم يتعرّف على العالّم من خلال لوحة الكيبورد Keyboard أو شاشة اللمس Touch في الهواتف الذكية، ما يؤدّي إلى برمجة الأفراد المُستخدِمين لهذه الشبكات على أنماط تفكيـر المدرسة الليبرالية الأميركية وسلوكياتها ومنظومة قيمها.

§        ربط الأفراد والمجتمعات بشبكات التواصل الاجتماعي، التي هي أدوات "التكنولوجيا السياسية"Political Technology  وفق تعبير "إريك شميدت"، مدير شركة "جوجل" العالمية، فقد لعبت هذه التكنولوجيا السياسية دورًا في تحريك وتعبئة الاحتجاجات في إندونيسيا عام 1998 لإسقاط سوهارتو، وفي احتجاجات هونغ كونغ عام 2014 لاسقاط الوصاية الصينية على حكومتها، وفي أحداث ما سُمّي بالـ "الربيع العربي"، فمَنْ يقرأ كتاب "كيبورد وميدان" الذي أصدرته "المنظمة العربية لمعلومات حقوق الإنسان" عام 2012، يتأكّد من ثنائية التكنولوجيا والسياسة، فالكيبورد (لوحة المفاتيح) له دلالة على مفردة التكنولوجيا، والميدان له دلالة على التأثير والدور السياسي، ومن هنا ليس صدفة قول "أليك روس" المستشار التقني لوزارة الخارجية الأمريكية: "إنّ الإنترنت أصبح تشي جيفارا القرن الحادي والعشرين".

§        ضرب القيم المُحافِظة للمجتمعات عبر شبكات التواصل الاجتماعي وتطبيقات الهواتف الذكية، إذ أنها مُصمّمة لفتح قنوات الاتّصال والتواصل بين النساء والرجال: الاختلاط والصداقة الإلكترونية، وهو ما يغيّر من التصور المحافظ للقيم الدينية والاجتماعية وأنماط العلاقات بين الجنسين: الذكر والانثى؛ فمجرد أنْ تُفتح قنوات التواصل، ويخرج الناس إلى الشبكات الإلكترونية، تعتبر الخارجية الأميركية أنّ الليبرالية والقيم الأميركية في مرحلةِ توسُّعٍ، لأن المُستخدِم لهذه الوسائل سيصبح حتمًا في دائرة تأثير القوة الأمريكية الناعمة. 

§        استكشاف وبناء القيادات المستقبلية، والتّعرّف على الناشطين، ودعم شبكاتهم ومُنظَّماتِهم، بدليل تأسيس الخارجية الأميركية لتحالف المنظمات الشبابية، الذي يُديره "جادر كوهين" مدير لجنة التخطيط السياسي، كما ُيستدلُّ على ذلك، أيضًا، من خلال نشر موقع وزارة الخارجية الأميركية كتابٍ ودليلٍ إرشاديٍّ لتأسيس وتنمية "منظمات المجتمع المدني 0.2"، وغيره من الكتب والأدلة الإرشادية للغاية نفسها.

§        توحيد اتّجاهات المعرفة البشرية: فموسوعة "ويكيبيديا" العالمية تديرها الإدارة البريطانية - الأميركية، وهي مصممة لإعادة كتابة موسوعة ودائرة معارف عالمية، حيث يتردد عليها حوالي نصف مليار طالب وباحث حول العالم، فمحركات البحث العالمية اجتذبت الجمهور نحو المرجعيات المعرفية الشبكية، وفككت المرجعيات المعرفية التقليدية والتراثية عن طريق استقطاب الأفراد والناشطين من أيدي المرجعيات والمؤسسات التقليدية: القوى السياسية والأحزاب، العائلات والأُسر، المدارس والجامعات، الجمعيات والنوادي الثقافية، حيث جذبتهم نحو المنصات والشبكة العالمية الخاضعة للهيمنة الأميركية.

§        تعزيز فكرة العولمة الجغرافية والحدود المفتوحة، حيث تلعب خرائط "جوجل" الجغرافية Google Maps  دورًا ناعمًا في هذا المجال، باعتبارها أداة للتجسس من خلال جمع المعلومات وأرشفة الصور والخرائط، التي ينشرها مستخدمو شبكات التواصل الاجتماعي، وربطها بوكالة الأمن القومي الأميركي للمعلومات الجيومكانية National Geospatial-Intelligence Agency (NGA).

وتقوم وزارة الخارجية الأميركية بتوظيف شبكات التواصل الاجتماعي بشكلٍ فاعل،
ومَنْ يبحث في موقع وزارة الخارجية الأميركية عن كلمة "وسائل التواصل الاجتماعي"، يجد مئات النتائج حول برامج وأنشطة تتّصل بوسائل التواصل الاجتماعي ودورها في بناء "المجتمع المدني العالم. ومن المعلوم أنّ برنامج المجتمع المدني المُرمّز له بـ 0.2، هو أحد أهم أهداف الوزارة، وهو مشروع يُقصد منه باختصار تقليص نفوذ الكيانات والمجتمعات والتيارات الثقافية والفكرية والسياسية المُنافِسة لصالح تعزيز تيار المجتمع المدني المُعَوْلَم الموالي للولايات المتحدة وسياساتها وقيمها، حيث تستثمر وزارة الخارجية الأميركية مئات الملايين من الدولارات في تمويل برامج تقنية لدعم تقنيات التّملُّص من رقابة الحكومات على شبكات الإنترنت تحت عنوان: "الحق في الوصول إلى شبكة الإنترنت". ويكمن الهدف من وراء هذه البرامج والتقنيات هو بقاء الهيمنة الثقافية والاقتصادية والسياسية للإدارة الأميركية على جمهور المُستخدِمين الذي يزيد عن ملياري مُستخدِم حول العالَم.

ثالثاً- تحولات القوة الناعمة

(1) ثورات القوة الناعمة في الوطن العربي

وضع المفكر والباحث العربي اللبناني "علي حرب" بصمته الفكرية الجريئة، وهو يصدر مؤلفه الفكري في طبعته الثانية لسنة 2012 ، وذلك بعد الطبعة الأولى لسنة 2011، والمعنون بـ: "ثورات القوة الناعمة في العالم العربي، من المنظومة إلى الشبكة"، وقد قام بهذا العمل التحليلي لظاهرة مركبة سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وفكريًا، وهي "الثورة"، خصوصاً تلك التي عرفتها شعوب الدول العربية غربًا وشرقًا.

ويبرز عنوان هذا المؤلف، ليختزل موضوعه بشكل تركيبي؛ فالثورة الناعمة مصطلح جديد ارتبط تشكله بظهور ثورات الشعوب السلمية، حيث سمة اللاعنف هي الميزة الأساسية التي يختزلها المصطلح. والشق الثاني من العنوان "من المنظومة إلى الشبكة"، يختزل كيفية تحول الأفكار والقيم الوطنية في ظل تحولات الوسائط البشرية التواصلية الجديدة، فلقد تطرق الكاتب إلى طريقة التحول هذه في ظل ثورات الربيع العربي التي استطاعت أن تستثمر وسائل التكنولوجيا والتواصل الحديثة لكي تبني قيماً جديدة انفكَّت من المنظومات السلطوية التقليدية بما فيها أنظمة الحكم السياسية والدينية والتاريخية، لكي تتحرر في إطار قيم كونية مترابطة فيما بينها.

ويُشكل موضوع الثورة جوهر هذه الدراسة وكُنهها في علاقتها بعملية التحديث الفكري والاجتماعي والسياسي لمجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ولكي يتتبع المؤلف مسار هذا التحديث، عَمد إلى تقسيم بحثه إلى قسميْن أساسييْن. يتناول القسم الأول عملية تفكيك الديكتاتوريات والأصوليات العربية التي عشَّشت في مؤسسات الدولة والمجتمع المختلفة دون أن تستطيع الرقي بالفرد والمجتمع والدولة. لقد عرَّت ثورات الربيع هشاشة هذه الأنظمة الهجينة عبر عملية السقوط السريعة التي تعرضت لها إبان كسر حاجز الخوف الشعبي ثم استثمار الميادين الافتراضية و"الأتوسترادات" الإعلامية بتعبير الكاتبوالقسم الثاني يتطرق لمراحل الإرهاصات الأولى، لتشكل الديمقراطية في المجتمعات العربية أو ما يسمى بالانتقال الديمقراطي. وهنا كانت صدمة النخب السياسية والثقافية التقليدية غير القادرة على فهم وتتبع آليات عمل التحولات المجتمعية الحديثة التي أفرزت حركة التحرر داخل شعوب الربيع العربي. لقد تم تجاوز مفاهيم وميكانيزمات الثورات التقليدية من مفاهيم الجماهيرية إلى الشعبية ومن مفهوم القائد البطل إلى الفاعل المدني، ومن مفهوم القوة المسلحة إلى القوة السلمية، ومن مفهوم الطائفية إلى المواطنة التشاركية، إنها ثورات القوة الناعمة بتعبير علي حرب (9).

لقد اعتبر الكاتب هذه الثورات امتداداً للثورة الفرنسية وعصر النهضة والليبرالية في الوطن العربي، لأنها ليست ثورات أيديولوجية بل اجتماعية فكرية عفوية، حيث السمة المميزة لها هي ظهور الفاعل الرقمي الذي بدأ يصنع التاريخ ويغير الواقع فيما القوى التقليدية لم تستطع فهم تحول مجريات الأحداث، مما جعلها ترفض العولمة والتواصل الرقمي الجديد. إنها ساهمت في سقوط أقنعة الأنظمة العربية التقليدية والأيديولوجيات الآفلة والتيارات الأصولية وشعاراتها أمام ثورة العولمة والمعلومة وتحرر الفكر العربي. لذلك، فإن هذه الانتفاضات تعطي مصداقية لفوكوياما وليس لصمويل هنتينجتون، الأول نظر بعين الذاكرة الماضوية الموروثة لحركة الشعوب، في حين تنبّأ الثاني بانتصار الديمقراطية في زمن العولمة الليبرالية (10).

إلا أن القوة الناعمة التي تحدث عنها "علي حرب" في كتابه المهم لم تكن وليدة المنطقة العربية ولا هى مَن وجهتها هذه الوجهة، فقد كان هناك آخرون هم مَن يوجهون هذه القوة الناعمة ويوظفون آلياتها وأدواتها ووسائلها من "إنترنت" و"فيس بوك" و"تويتر"؛ فقد تسلل "جارد كوهينJared  Cohen قبل اندلاع ثورات الربيع العربي إلى عالمنا العربي. و"جارد كوهين" دبلوماسي أميركي من أصول يهودية، عُيّن في العام 2006 رئيساً لقسم التخطيط السياسي في وزارة الخارجية الأميركية، ومديرًا لتحالف المنظمات الشبابية بتوجيه من كوندوليزا رايس مستشارة الأمن القومي ووزيرة الخارجية الأميركية آنذاك.

وفي المجال العربي، يمكن تسليط الضوء على السيرة العملية لشخصية "كوهين" المحورية، التي لعبت دورًا مهمًّا في مجال التغلغل الثقافي والسياسي الأميركي في عقول الجيل العربي الشاب حيث تظهر تحركاتُه المنهجية الصلةَ الوثيقة، وعامل الارتباط بين شبكات التواصل الاجتماعي والحرب الناعمة على العالَمَيْن العربي والإسلامي، وخصوصًا على محور المقاومة. وقد ألقى "كوهين" في شهر أكتوبر من العام 2007 محاضرة في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى تحت عنـوان: "النساء والشباب والتغيير في الشرق الأوسط ومفهوم الديموقراطية الرقمية"، حيث تحدّث فيها حرفيًا عن استراتيجية الدبلوماسية الرقمية قائلًا: "الشباب والنساء في الشرق الأوسط أصبحوا ناضجين لاستقطاب التأثير الخارجي عبر بوابات التكنولوجيا التي تشمل الفضائيات التلفزيونية والهواتف المحمولة وشبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي".‏ كما كتب "كوهين" مع أستاذه الدكتور إريك شميدت Eric Schmidt مدير شركة "جوجل" Google كتاب: "العصر الرقمي"،  وكتب سابقاً "أطفال الجهاد Children of Jihad" كاشفًا بعضًا من عقيدة التكنولوجيا السياسية Political Technology  التي سيطرت على عقول النخبة الأميركية في الآونة الأخيرة (11).

واعتمد "كوهين" على بناء شبكة علاقات مع الناشطين الشباب، وقام بأدوار ميدانية، حيث زار سبعين بلدًا، معظمها في العالَمَيْن العربي والإسلامي، ووصل في بعضها إلى المخيمات الفلسطينية في عين الحلوة ومية ومية قرب مدينة صيدا (جنوب لبنان). ويحفل موقع "اتّحاد المنظمات الشبابية" الذي يديره "كوهين" بصُوَرٍ فوتوغرافية أُخذت له مع العشرات من الشباب والناشطين الفلسطينيّين والعرب، وهي لا تزال منشورة على صفحات موقع وزارة الخارجية الأميركية.

وأشرف "كوهين" في العام 2008 على خطة وضعتها وزارة الخارجية الأميركية تحت عنوان: "تحالف الحركات الشبابية"، حيث تركّز الخطة على كيفية استخدام المواقع الإلكترونية الاجتماعية مثل  "فيس بوك"  كأداة لتعزيز التنظيمات والنشاطات الشبابية ضد بعض الأنظمة، من أبرزها النظام الإسلامي في إيران. كما شارك "كوهين" في "مجموعة العمليات الإيرانية - السورية"، التي سُمّيت "إيسوج"  ISOG، وهي مجموعةُ عملٍ مشتركةٍ بين هيئات مسؤولة عن التخطيط والتنفيذ لأعمال سرّية ضد إيران بهدف تغيير نظام الحكم فيها.

وفي العام 2011، عام الثورات العربية، برز دوره من خلال اتّصالاته التنسيقية مع الناشط المصري "وائل غنيم" الذي كان يعمل مديرًا لفرع شركة "جوجل" Google في مصر والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث يُعدّ "وائل غنيم" من الذين ألهبوا احتجاجات الثورة المصرية في 25 يناير من عام 2011 من خلال نشاطه عبر صفحة "كلنا خالد سعيد"، ورسائله وخطاباته التلفزيونية، ومن أوائل الذين نزلوا إلى شوارع القاهرة (12).

(2)  شبكات التواصل الاجتماعي: القوة الناعمة للإرهابيين

توجد ثمة خمسة مغريات للتنظيمات الإرهابية والمتطرفة لاستخدام شبكات التواصل الاجتماعي: أولها البعد عن سيادة الدول، وثانيها إتاحتها للجميع وصعوبة السيطرة عليها من قِبَل الأجهزة الأمنية، وثالثها تقديمها خدمة الاتصال والتواصل السريع بين الأعضاء والمؤيدين بطرقٍ شتى، ورابعها توفير منصات إعلامية للدعاية لأنشطتها وأفكارها، وخامسها إمكانية النشر المكثف للصور والأفلام والوثائق التي تدعم الأفكار التي تروج لها (13).

وقد حرص تنظيم "داعش" على نشر كتيب إرشادي بين اتباعه لوضع قواعد استخدام شبكات التواصل الاجتماعي مثل "فيس بوك" و"تويتر"، مشدداً على أفراد الميليشيات عدم وضع معلومات وصفية عن أنفسهم في الحسابات المستخدمة. وكان التنظيم حريصًا على إشعال "البروباجندا" على صفحات شبكات التواصل الاجتماعي لتشجيع الآخرين على الانضمام إلى ميليشيات تنظيماته، وذلك بنشر صور تعرض أسلوب حياة مقاتلي التنظيم، وصور رءوس أعداء التنظيم المفصولة عن أجسادها، لكنه توصل إلى خطورة ذلك على المقاتلين، كما توصل التنظيم إلى أن استخدام حسابات على شبكات التواصل الاجتماعي يمد أجهزة الاستخبارات الغربية بمعلومات قيمة عن مواقع الميليشيات، ويكشف عن هويات المقاتلين مما يجعلهم هدفاً لطائرات الحلف الدولي المناهض للتنظيم المتطرف.

وشدد الكُتيب الإرشادي على المقاتلين عدم استخدام التطبيقات التي تكشف عن التوقيت وموقع إرسال الرسالة، واضعًا لمقاتلي التنظيم أساليب يتفادون بها تلك البيانات والتطبيقات التي تسهل من مهام الأجهزة الاستخبارية في الغرب، في حين منعت مجاهدين آخرين من استخدام شبكات التواصل الاجتماعي بشكل تام.(14)

وفي إطار حروب "الهاشتاج، نشر تنظيم "داعش" مقطع فيديو عبر موقع التواصل الإجتماعي "يوتيوب"، يدعو فيه المقاتلين إلى المشاركة في "هاشتاج" على شبكات التواصل الاجتماعي،تحت عنوان "# سيناء_عرين_الموحدين". ويهدف التنظيم من وراء ذلك جمع الجهاديين في المنطقة تحت هذا الهاشتاج، بهدف غزو سيناء. ومن الواضح أن القوات المسلحة المصرية قامت بإنشاء منطقة عازلة على الحدود بسيناء، بهدف تأمين سيناء من العمليات الإرهابية ومنع تسلل التكفيريين، عقب الحادث المروع الذي وقع بكمين “كرم القواديس” بالشيخ زويد بالعريش.

وقد وجه ريتشارد هانيجان الرئيس الجديد للاستخبارات البريطانية اتهامًا لعدد من شركات التقنية الأمريكية، العاملة في وادي السيليكون بولاية كاليفورنيا، بأنها أصبحت شبكات القيادة والتحكم المفضلة للإرهابيين، مشيرًا إلي أن شركات عملاقة، مثل موقعي التواصل الاجتماعي "فيس بوك" و"تويتر"، أصبحت شبكات قيادة وتحكم للإرهابيين والمجرمين. وأوضح هانيجان، أن عناصر"داعش" في العراق وسوريا، يستخدمون مواقع التواصل الاجتماعي لترهيب الناس، وإلهام الجهاديين المحتملين من كل أنحاء العالم للانضمام إليهم (15).

وأضاف أن تنظيم القاعدة وأفراده والإرهابيين، استخدموا الإنترنت من قبل كموقع لنشر المواد بصورة مجهولة، محذرًا من أن تنظيم الدولة والأفراد التابعين له، باتوا يستخدمون شبكات التواصل الاجتماعي بصورة مباشرة، لإيصال رسالة بلغة يفهمها أقرانهم من الإرهابيين. وناشد القطاع الخاص، بما في ذلك شركات التقنية الأمريكية العملاقة التي تسيطر على الشبكة العالمية، بضرورة مساعدة جهاز الاستخبارات البريطاني، للتغلب على هذا الأمر، بدعوى أن الأجهزة الاستخباراتية ليست قادرة على التغلب على هذه التحديات من دون دعم هذه الشركات.

كما نشرت صحيفة "ديلي تلجراف" Daily Telegraph فى إحدى افتتاحياتها مقالاً لـ "كون كوفلين" بعنوان "كيف ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في نشر سموم تنظيم داعش؟". وقال كاتب المقال إن "إدوارد سنودن" المتعاقد السابق في وكالة الاستخبارات الأمريكية مهد الطريق أمام ظهور نوع جديد من الدعاية للمتطرفين، مضيفًا وبطريقة استهزائية بأن على "سنودن" الذي يتمتع بملجأ آمن في روسيا وأن يكون فخورًا بنفسه، لأنه لم يكشف فقط عن كيفية تجسس الولايات المتحدة وحلفائها على أعدائها، بل علّم جيلًا كاملًا من المتطرفين أفضل طرق استخدام وتوظيف الإنترنت لنشر أفكاره.

الهوامش

 (1) شريف درويش اللبان، الإنترنت: التشريعات والأخلاقيات، (القاهرة: دار العالم العربي، 2011)، ص27.

(2) Irving Fang, A History of Mass Communication, Six Information Revolutions, (Boston: Focal Press, 1997),P.27.

(3) شريف درويش اللبان، الإنترنت: التشريعات والأخلاقيات، مرجع سابق، ص28.

(4) انظر:

-        شريف درويش اللبان، الصحافة الإلكترونية: دراسات في التفاعلية وتصميم المواقع، ط3، (القاهرة: الدار المصرية اللبنانية، 2005)، ص ص67-80.

-        Ibid.,190.

(5) Human Rights Watch, Silencing the Net: The Threat to Freedom of Expression On-Line, Vol.8,No.2,(G), Available at:

http://www.eipc.org/free-speech/intl/hrw-report-5-96.html

(6) شريف درويش اللبان، الإنترنت: التشريعات والأخلاقيات، مرجع سابق، ص35.

(7) مروة الأسدي، حوكمة الإنترنت والسيطرة على القوة الناعمة الصاعدة في العالم، شبكة النبأ المعلوماتية، 30 من نوفمبر 2016، متاح على:                                 http://annabaa.org/arabic/informatics/8855

(8) الإدارة الأمريكية ووتوظيف شبكات التواصل الاجتماعي، شبكة المعارف، متاح على:

https://www.almaaref.org/books/contentsimages/books/nadawat_fekriya/shabakat_altawasol_alegtemaii/page/lesson3.htm

(9) علي حرب، ثورات القوى الناعمة في العالم العربي: من المنظومة إلى الشبكة، ط2، (بيروت: الدار العربية للعلوم، 2012).

(10) المرجع السابق نفسه.

(11) الإدارة الأمريكية وتوظيف شبكات التواصل الاجتماعي، شبكة المعارف، مصدر سابق.

(12) المصدر السابق نفسه.

(13) داود الكثيري وصلاح سالم، التواصل الاجتماعي: القوة الناعمة للإرهابيين، صحيفة المدينة السعودية، 20 من أغسطس 2016، متاح على:                     http://www.al-madina.com/article/464654/

(14) شريف درويش اللبان، الاستراتيجية الإعلامية والثقافية لمواجهة تنظيم داعش، (القاهرة: الهيئة العراقية العامة لخدمات البث والإرسال "شبكة الإعلام العراقي"، الملتقى الإعلامي العراقي المصري، ورشة عمل بعنوان: داعش: العالم في مواجهة الإرهاب الدولي، الأحد 23 نوفمبر 2014)، ص ص 18-21.

(15) المرجع السابق نفسه.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟