العصبية الحديثة والدولة العميقة في مصر
القضاء على الفساد في المجتمعات العربية مشكلة المشاكل، حتى إن توفرت الارادة السياسية لمحاربة الفساد، وحتى إن اشتغلت أدوات الرقابة على مؤسسات الدولة بكل جدية، فإن الظاهرة سوف تبقى لأننا لا نواجه الصنم الأكبر الذي تطوف من حوله كل صور الفساد. ونعني به العصبيات الحديثة التي استطاعت توليد القوة السياسية والمكانة الاجتماعية والثروة، وماتزال تعمل على إعادة إنتاج هذه القوة على حساب المواطنين الذين يملكون الطموح والكفاءة ولا يملكون العصبية. وفي هذا المقال نستهدف القاء الضوء على مفهوم العصبيات الحديثة، وعلاقته بمفهوم العصبية لدى ابن خلدون. وكيف يعطي هذا المفهوم الجديد معنى مختلف للدولة العميقة التي يكثر الحديث عنها دون تشخيص واضح.
مفهوم العصبية الخلدونية
العصبية عند ابن خلدون هي التناصر بين أفراد جماعة من الناس تربطهم رابطة الدم أو النسب أو التحالف أو الولاء. ويتصور ابن خلدون أن المجتمع يتكون من عدد من الجماعات المنغلقة المتعصبة لذاتها. وأن هذا التعصب يولد القوة، وعندما تحوز جماعة قوة أكبر من غيرها فإنها تتغلب على بقية الجماعات طوعا أو كرها، وتستطيع امتلاك السلطة والرئاسة.
يذهب ابن خلدون إلى أن العصبية تمثل أساس نشأة الدولة التي تمر بثلاثة أطوار، تتحول فيها من حالة البداوة الى الحضارة ثم الانحلال، ويفسر انحلال الدولة في هذه الدورة الحتمية بضعف العصبية في الطورين الثاني والثالث. ومن المعلوم للقارئ أن هذه الدورة كانت مناسبة لفهم دولة العصور الوسطى، ولكنها لم تعد فاعلة بعد أن اصبح للدولة الحديثة دستور وقوانين، ومؤسسات عسكرية ومدنية، لا تعترف بعصبية جماعة بعينها، وإنما تعتمد على عصبية وطنية جامعة.
مفهوم العصبية الحديثة
ومع ذلك فإن العصبية كمفهوم خلدوني، يبقى فاعلاً في فهم كثير من الظواهر الاجتماعية في العصر الحديث. فالعصبية على المستوى المحلي، تستدعي القيم البدوية القديمة الراسخة في العادات والتقاليد المحلية، وبها تتحقق المكانة الاجتماعية والقوة الاقتصادية والنفوذ السياسي داخل المجتمعات المحلية.
لكن هذه العصبية المحلية تبقى غير مؤثرة في مؤسسات الدولة الحديثة تأثيرا ملحوظا طالما ان النظام البيروقراطي قوي ويحقق أهدافه العامة ويحقق مصلحة الجميع، لكن عندما يختل النظام البيروقراطي للدولة، ويعجز عن تحقيق أهدافه في التقدم، تنخر العصبية كالسوس في عظم الدولة. ويتولد عن هذا الوضع المتخلف ظهور عصبيات جديدة لجماعات متحالفة داخل كل مؤسسة من مؤسسات الدولة مهمتها الأساسية تحقيق مصلحة الجماعة التي تنتمي إليها بطريق مشروع أو غير مشروع، وتعمل على الاستفادة القصوى من هذه المؤسسات.
وعليه، فإننا نقدم تعريفاً للعصبيات الحديثة: بأنها جماعة مصلحة يرتبط أعضاءها بعلاقات اجتماعية قرابية (دم أو نسب) أو علاقات اجتماعية اثنية (دينية، مذهبية، عرقية، لغوية) أو علاقات تحالف (سياسي أو اقتصادي). وتقوم الجماعة العصبية أياً كان نوع هذا الارتباط بغرس استعدادات مخصوصة في أعضاءها لتحقيق أهداف الجماعة الذاتية على حساب المصلحة العامة، مستغلة مؤسسات الدولة بكافة مستوياتها، مشكلة كيانا عميقا داخل هذه المؤسسات يصعب ملاحقته والتحكم فيه إلا بالمواجهة الحاسمة.
وتختلف العصبيات الحديثة باعتبارها جماعة مصلحة، في أمر جوهري عن جماعات الضغط المعروفة، كالجماعة النقابية أو جماعة الحزب السياسي أو جماعة رجال الأعمال، أو الروابط والاتحادات، الخ. هو أن الجماعات الأخيرة تمارس الضغط من أجل تحقيق مصالحها في اطار تفاوضي وقانوني دون تناقض مع المصلحة العامة، بينما العصبيات الحديثة تعمل من خلف الستار أو في المياه العميقة بعيدا عن سيطرة القانون، ومع ذلك فإن جماعات الضغط الرسمية يمكن أن تتحول إلى عصبيات حديثة إذا ضرب بالإطار القانوني عرض الحائط، وغابت المصلحة العامة.
العلاقة بين العصبية التقليدية والحديثة
العصبية بالمفهوم الخلدوني، تعني توليد القوة (الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية) للجماعة أو العائلة أو القبيلة، أو الحلف من أجل التغلب والرئاسة وحيازة السلطة، لا من أجل التعايش والتعاون والتسامح، وتستهدف الممارسات العصبية اخضاع الجماعات الأخرى لسلطان الجماعة المتغلبة، وعليه فإن المتعصب لابد أن تتوافر فيه قيم الشجاعة والاقدام والبسالة، اللازمة للصراع المسلح الذي يُمَكِّن الجماعة المتغلبة من شق طريقها نحو السلطة.
ولا تختلف العصبيات الحديثة: في أصولها عن العصبيات التقليدية القرابية أو الإثنية أو القائمة على التحالف السياسي والاقتصادي، ولكنها تختلف في طريقة توليد القوة (الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية)، فالعصبيات الحديثة لا تفعل ذلك بالطرق القديمة، ولا تقوم بممارسة العنف العصبي ضد الجماعات الأخرى، وإنما تحقق مصالحها بالتغلب على مؤسسات الدولة واستغلالها بالمخالفة الصريحة أو بالاحتيال على الدستور والقانون. وكلما أوغل الفساد في دروب النظام البيروقراطي للدولة كلما ظهرت عصبيات حداثية جديدة وقويت شوكتها، وفي مرحلة متطورة من مراحل الضعف، يمكن أن نسميها بمرحلة ما بعد الفساد، تنشأ بين العصبيات الحديثة قوانين شفاهية عرفية موازية، مهمتها تنظيم عملية الاستغلال وتوزيع الثروة والنفوذ فيما بينها بعيدا عن الصالح العام، وبذلك تكتمل أركان الدولة العميقة.
العصبية التقليدية في المجتمع الزراعي المصري
إذا عدنا إلى نشأة المجتمع المصري، فسوف نكتشف أن الشعب المصري استطاع ان يكتشف أسرار التحضر لأنه استطاع مبكراً تحويل العصبية التقليدية إلى عنصر بناء وتعايش وليس هدم وصراع لنفي الآخر من الوجود. كيف ذلك؟
اختلط المصريون عبر الحقب التاريخية بشعوب شتى بسبب الحروب والغزوات والهجرة والتجارة، فانصهرت في الدلتا والوادي عناصر زنجية قادمة من وسط وجنوب أفريقية، وأوروبية، وآسيوية، وعربية من الجزيرة العربية، أو أمازيغية قادمة من ليبيا وشمال افريقيا.
وقد أسهم الاشتغال بالزراعة والاستقرار على ضفتي النهر في تفكيك كيان القبيلة في وقت مبكر من عمر الحضارة المصرية، ليحل محلها كيان الأسرة أو العائلة الممتدة. لأن وظيفة المصري في مصر أصبحت الزراعة، وليس الرعي والبحث عن مصادر المياه والتغلب عليها. فالماء متوفر والأرض شاسعة. بمعنى أن الحاجة إلى العصبية البدوية التقليدية لم تعد ملحة بعد أن فقدت القبيلة وظيفتها في البحث والذود عن أماكن الرعي والمطر لضمان البقاء. الوضع يحتاج إلى قوة العمل ولا يحتاج إلى قوة القتال، وعليه لم يعد الفلاح المصري يفكر في الكيان الكلي للقبيلة التي ينتمي اليها، وانما أصبح يفكر في مصلحة العائلة الممتدة التي ينحدر مباشرة منها.
إنها عملية انتقال حضاري من القيم البدوية الصراعية إلى القيم الزراعية التعاونية التي تحض على البناء والتعايش مع مختلف الجماعات الاثنية الوافدة إلى مصر من أجل الشغل وخلق القيمة المضافة وتوليد الثروة. لذلك فإن الغالبية العظمى من المصريين لا يهتمون بأصولهم إن كانت امازيغية أو أوروبية أو افريقية، أو عربية، فيما عدا بعض القبائل العربية التي احتفظت- نسبيا- بكيانها القبلي في جنوب الوادي وشرق الدلتا والأطراف الحدودية.
صور من العصبيات الحديثة في المجتمع المصري
العصبيات الحديثة في المجتمع المصري لها تاريخ يعود إلى عصر محمد علي ويمتد حتى اللحظة الراهنة. تزيد وتنقص بحسب قوة الدولة وأجهزتها ومؤسساتها. تنكمش حين تقوى الدولة، وتتمدد في حالات الضعف بحيث تستعمر مؤسسات الدولة في مصر مشكلة كيانا عميقا يحول دون احداث التنمية العادلة الشاملة. ونتناول فيما يلي أهم ثلاث عصبيات حداثية.
عصبية التكنوقراط وأصحاب المهن عالية المكانة
دون لف أو دوران حول الحقائق، فإن عصبية توريث الوظائف والمهن العليا في مصر بلغت حداً خطيراً من التجاوز، فأصحاب الوظائف الرفيعة يعيدون انتاج أوضاعهم باستغلال مناصبهم في الحاق أبناءهم وأقاربهم بنفس السلم الوظيفي العسكري أو المدني الذي يسيطرون عليه، لدرجة أن أصبحت هذه العصبية حقا مكتسبا يتوغل في كافة أجهزة الدولة، فظهرت مطالبات باطلة في أروقة المصالح الحكومية كافة تنادي بحقوق أبناء العاملين في الحصول على وظائف في المؤسسات التي يعمل فيها آبائهم.
ونذهب إلى أن المعركة الحقيقية للقضاء على الدولة العميقة تبدأ من المواجهة الحاسمة لعصبية التكنوقراط وأصحاب المهن عالية المكانة. ومن المؤكد أن صانع القرار، سيخرج رابحاً من هذه المعركة لأن المستفيدين منها أصحاب الإنجاز والتفوق والإبداع، وحين تتاح لهذه الفئة المتميزة الفرص المستحقة فإنهم يستطيعون قيادة المؤسسات المختلفة قيادة رشيدة نحو التقدم.
ولو أن الهيئة البحثية التي صاغت استراتيجية مصر 2030 كانت واعية بخطورة هذه العصبية وتأثيرها البالغ على الهوية الوطنية ومبدأ المساواة في الحقوق والفرص التي يكفلها الدستور، لاعترفت هذه الهيئة بهذه المشكلة العميقة، ووجهت بإضافة معيار (عدالة الاختيار الحر للمهنة) إلى محور (المساواة في الحقوق والفرص). وذلك من أجل ضمان تطبيق نص المادة التاسعة من الدستور في كافة مؤسسات العمل. والقضاء على ظاهرة توريث – أو شراء- الوظائف والمهن النوعية ذات العائد والمكانة.
العصبية الاقتصادية
تشير العديد من الدراسات إلى أن الاقتصاد المصري يتحكم فيه مجموعة من العائلات الكبيرة، ولا مشكلة في ذلك، إذا كان توليد الثروة يقوم على معايير قانونية، وليس عن طريق الاحتيال واستغلال الفساد والمحسوبيات وشراء الذمم. لكن الثابت من قضايا الفساد التي أعلنت عنها هيئة الرقابة الادارية خلال العامين الماضيين أن العصبية الاقتصادية تعبث بالاقتصاد المصري. وقد اضطر رئيس الدولة إلى إسناد مشاريع اقتصادية كبيرة للقوات المسلحة، كحل مؤقت لمواجهة هذا الخلل. لكن على المدى المتوسط والبعيد لا يمكن ترك هذه العصبية ترتع في سوق بحجم السوق المصري الضخم.
وربما يتعجب القارئ من عدم تغير مناخ الاستثمار في مصر، وعدم قدرة الحكومة على اصدار قوانين للاستثمار فاعلة وناجزة حتى هذه اللحظة على الرغم من التوجيهات المستمرة الصادرة من رئيس الجمهورية في هذا الشأن. والاجابة ببساطة كما أشرنا في مقدمة المقال، أن العصبيات الحديثة تملك شبكة قوانين شفاهية عرفية فيما بينها. بحيث تستفيد العصبية الاقتصادية من العصبية البيروقراطية الموجودة داخل أجهزة الدولة من أجل تعويق قوانين الاستثمار الجديدة بطرق الاحتيال في الاجراءات والصياغات المطاطة التي تبقي على جوهر مشكلة الاستثمار دون حل. إن التواطؤ بين العصبيتين الاقتصادية والبيروقراطية يحول تاريخيا - منذ قوانين الانفتاح الاقتصادي في السبعينيات وحتى الان- دون فتح السوق على فاعلين جدد، حتى لا ينكشف المستور من الاحتكارات والعمولات وغيرها من الممارسات الفاسدة.
العصبية السياسية
لدينا أزمة في المجال السياسي بصفة عامة، وجزء من هذه الأزمة واضح من تكوين الأحزاب السياسية على أساس التحالف بين العصبيات الحديثة المذكورة، ما جعلها أحزابا بلا جماهير، ولعل القارئ المحلل لأزمة الكيانات السياسية المنضوية تحت لواء البرلمان، يكتشف دون عناء كيف أن هذه الكيانات ليس لها اتجاهات فكرية محددة، وأداء أعضاءها داخل البرلمان هرولة يمينا ويسارا دون أهداف وطنية واضحة، لأن مصالح أعضاءها ببساطة هي مصالح عصبيات حداثية تنطلق من الدولة العميقة التي تضم هذه العصبيات.
وهذا الوضع يحتاج تدخلا مباشرا من رئيس الدولة لدعم الأحزاب الجادة مهما تنوعت توجهاتها الفكرية. فالمصريون في حاجة إلى ممارسة الديمقراطية ممارسة حقيقية تجعلهم قادرين على فهم معناها كقيمة كبرى وضرورة لتقدم المجتمع واستقراره. ولن تتغير نسب المشاركة السياسية في الاستحقاقات الوطنية ما لم يحدث انتعاش حقيقي في الحياة الحزبية في مصر انتعاشا يخرج العملات الرديئة من السوق السياسية.
خاتمة
مما سبق يتضح للقارئ أن العصبيات الحديثة هي التي تؤسس الدولة العميقة في مصر، وتعمل على بقاءها واستمرارها باستغلال خلل وضعف الجهاز البيروقراطي للدولة، بحيث أصبحت هذه العصبيات موجودة في كل المجالات تقريبا، فالعصبيات الاقتصادية تحتكر الموارد وتتحكم في المصادر بطريقة تحول دون دخول منافسين جدد للمجال الاقتصادي ليظل منكفئا غير قادر على التوسع. والعصبيات السياسية لا تؤمن بفكرة تداول السلطة ولا يعنيها التحول الديمقراطي، ما يضعف الانتماء الوطني الجامع ويدفع المواطن نحو حالة من اللامبالاة السياسية أو الكف عن الممارسة السياسية. وعصبية التكنوقراط وأصحاب المهن عالية المكانة، تقتل طموحات الأفراد وتمنع الحراك العصامي داخل المجتمع.
وهذه العصبيات تستطيع التشبيك مع بعضها البعض عبر قواعد وقوانين عرفية شفاهية ملزمة، وتستغل كافة العلاقات القرابية أو العرقية أو الاثنية أو الاحتكارية الاقتصادية أو الاحتكارية السياسية من أجل ترسيخ الفساد وتحقيق مصالحها الذاتية بالمخالفة للدستور والقانون وبالتناقض مع المصلحة الوطنية.
وإذ نستدل من الخطاب السياسي لرئيس الدولة على وجود إرادة سياسية حقيقية لمواجهة الدولة العميقة، فإن انفاذ هذه الارادة سيكتب له النجاح بالمواجهة الحاسمة للعصبيات الحديثة التي تعد الصنم الأكبر الذي تطوف من حوله كل صور الفساد.