استراتيجيات مكافحة الإرهاب: من المواجهة الأمنية إلى الحرب السياسية والإيديولوجية
مر ما يقرب من
عقدين من الزمان منذ بدأت الحرب على الإرهاب ذي الطابع الديني. وقد تمت صناعة
الظاهرة الإرهابية المعاصرة من خلال عملية "هندسة سياسية" محكومة برعاية
مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق زيبجينيو بريجنسكي الذي خطط لجر الإتحاد
السوفييتي إلى حرب في أفغانستان، ونظم مجهودا مع شركاء للولايات المتحدة في
السعودية وباكستان ومصر بقصد التعبئة لحرب مقدسة إسلامية ضد الكفار السوفييت في
أفغانستان، فنشأت طالبان ونشأت القاعدة. وعلى أساس قاعدة "الجهاد
الإسلامي" فقدت الحرب على السوفييت في أفغانستان أي هوية قومية وارتدت الهوية
الدينية، وهو ما جعل الجماعات المقاتلة في أفغانستان تعتبر نفسها أدوات للجهاد
الإسلامي في كل أنحاء العالم، وما أن وضعت الحرب ضد السوفييت أوزارها حتى انتشرت
الصراعات بين الجماعات المقاتلة، وراجت شعارات "الحرب على اليهود
والصليبيين" التي تبناها أسامة بن لادن. وكانت هذه الدعوة للحرب على اليهود
والصليبيين مدخلا سياسيا وأيديولوجيا لمرحلة جديدة من مراحل تطور الجماعات التي
أطلقت على نفسه إسم "الجماعات الجهادية". وما زلنا نعيش حتى الآن هذه
المرحلة التي طبعت في أذهان الناس صورة عنيفة وقاسية عن الإسلام على عكس طبيعة
الرحمة والتسامح التي تسكن في قلب العقيدة الإسلامية.
ومنذ قررت
الولايات المتحدة أن "الإرهاب العالمي" هو عدوها الرئيسي في بداية هذا
القرن تطورت استراتيجيات الحرب على الإرهاب تطورا كبيرا وراء التطور في
استراتيجيات الجماعات الجهادية ذاتها. فاستراتيجيات مكافحة الإرهاب تعدو وراء
استراتيجيات الجماعات الجهادية ولا تسبقها منذ الحرب الأمريكية على أفغانستان عام
2001. وما تزال هذه العلاقة بين استراتيجيات الولايات المتحدة وحلفائها في الحرب
على الإرهاب، وبين استراتيجيات الجماعات الجهادية قائمة حتى الآن، فاستراتيجيات
الحرب على الإرهاب تحاول "تتبع" استراتيجيات الجماعات الجهادية التي
تسبق في مجالات كثيرة خصوصا في أساليب التمويل والتسليح والتعبئة والتجنيد
والدعاية والإتصال. وسوف نلاحظ من خلال العرض التالي أن الجماعات الجهادية كانت هي
التي تمسك دائما بزمام المبادرة منذ بدأت عملياتها المبكرة ضد مركز التجارة
العالمي في نيويورك (1993) وتفجيرات السفارات الأمريكية في أفريقيا (1996) وضد
المدمرة كول قبالة الساحل اليمني (2000) حتى تفجيرات نيويورك في 11 سبتمبر 2001
وموجات التفجيرات المتتالية في الولايات المتحدة وبريطانيا وأسبانيا وبلجيكا
وفرنسا وألمانيا وروسيا وغيرها أن استراتيجيات مكافحة الإرهاب كانت في كل مرة
تتوقف لكي تعدل وضعها في محاولة للحاق باستراتيجيات الجماعات الجهادية.
وسوف نحاول في
هذه الدراسة أن نبين كيف تطورت استراتيجيات مكافحة الإرهاب، وذلك من خلال بيان
العلاقة بين هذه الإستراتيجيات وبين المتغيرات التالية:
1- فهم طبيعة ظاهرة الإرهاب
2- أولويات الأهداف في الحرب على الإرهاب
3- الإنتقال إلى إسترتيجيات هجومية
أولاً- كيف يفهم الغرب طبيعة ظاهرة الإرهاب
يفسر صناع الإستراتيجية في الغرب ظاهرة الإرهاب انطلاقا
من أربع مقدمات رئيسية:
المقدمة
الأولى: تتمثل في أن الجماعات الجهادية تستهدف أولا "العدو البعيد"، باعتباره السند الرئيسي الذي بدون ستسقط الأنظمة العميلة والضالة في بلاد
المسلمين. وقد تم تحليل آلاف النصوص التي تم الإستحواذ عليها في مناطق العمليات
بواسطة قوات الولايات وحلفائها، وأظهر التحليل أن الجماعات الجهادية تعتبر أن بقاء
الأنظمة العميلة و الضالة عن سبيل الله في بلدان مثل مصر والسعودية (من وجهة نظر
جهادية) يعتمد أساسا على حماية الولايات الأمريكية والدول الغربية. ومن هذا
المنطلق فإن الحرب على الصليبيين هي بمثابة انتقام منهم بسبب تشجيعهم لتلك الأنظمة
العميلة والضالة.
المقدمة
الثانية: دار الإسلام ودار الحرب، وذلك اعتمادا على التقسيم الفقهي الذي أقامه بن تيمية
أثناء حروب التتار ضد المسلمين، والذي قسم فيه العالم إلى دارين، دار الإسلام وهي
دار السلام، ودار الحرب وهي ديار غير المسلمين، وفيها إستحل دماءهم وأعراضهم
وأموالهم وكل ما لهم. ويوفر هذا التقسيم الأساس الشرعي للجماعات الجهادية الذي
يبرر هجماتها الإرهابية على الولايات المتحدة وشركائها.
المقدمة
الثالثة: تتمثل في ضرورة القصاص من الصليبيين الذين دمروا دولة الخلافة الإسلامية بعد
الحرب العالمية الأولى واحتلوا ديار المسلمين وقسموها فيما بينهم كما لو كانت
غنائم حرب. وتجمع هذه المقدمة في طياتها مبررات تاريخية وسياسية وفقهية تعتمد
عليها الجماعات الجهادية في ممارسة الإرهاب على الولايات المتحدة والدول الغربية.
المقدمة
الرابعة: مقاومة محاولة تدمير الإسلام والمسلمين، فهناك اعتقاد جازم بين قيادات وفقهاء الجماعات الجهادية
بأن هدف اليهود والصليبيين النهائي هو تدمير الدين الإسلامي وتدمير المسلمين
أنفسهم، ومن ثم فإن قتالهم ضد الصليبيين واليهود هو لإنقاذ الدين، بمعنى إنه قتال
من أجل بقاء الإسلام وإعلاء كلمة المسلمين.
وقد استمرت هذه
المقدمات الأربع تحكم تقريبا كل أدبيات الجماعات الجهادية منذ نشأتها حتى مقتل
زعيم القاعدة أسامة بن لادن. لكن مجيء الزعيم الجديد للقاعدة أيمن الظواهري سجل
توسيع نطاق أعداء الجماعات الجهادية ليشمل طائفتين جديدتين من الناس هما المسلمين
الشيعة، والعرب والمسلمين العلمانيين. وتضمنت رسائل الظواهري نصوصا صريحة في هذا
الخصوص.
وانطلاقاً من
هذا الفهم لظاهرة الإرهاب فإن استراتيجيات الحرب على الإرهاب منذ العام 2001
تعاملت الولايات المتحدة وحلفاؤها مع ظاهرة الإرهاب على إنها "ظاهرة خارجية
وافدة" يجب منعها من الوصول إلى أراضي الدول الغربية وإضعاف احتمالات قدرتها
على تهديد مصالحها في الخارج، وكذلك تقليل قدرتها على تهديد حلفائها أو الإضرار
بمصالحهم، بما في ذلك الأنظمة الموالية لها في الدول الإسلامية. ويظهر تحليل
استراتيجيات الحرب على الإرهاب التي تبتها الولايات المتحدة ودول الإتحاد الأوروبي
خلال الفترة التالية لحرب أفغانستان وحتى العام 2016 أن صناع السياسة الغربيين
إهتموا أساسا بمنع حدوث هجمات إرهابية في بلدانهم وليس بالقضاء على الإرهاب.
وتبين تجربة
الحرب على تنظيم القاعدة إنه على الرغم من بناء تحالف دولي واسع النطاق ضد
القاعدة، والحرب في أفغانستان، ومقتل المئات من كوادرها العسكرية، وخسارة القاعدة
للمناطق التي كانت تسيطر عليها أو تحتمي فيها، والقبض على العشرات من قياداتها
وإيداعهم السجون، ومحاصرتها ماليا ثم مقتل زعيم القاعدة أسامة بن لادن نفسه، أن
الإستراتيجية الغربية التي تشترك فيها الولايات المتحدة مع دول حلف الأطلنطي لم
تؤد إلى القضاء على القاعدة. بل إن تنظيم القاعدة إستطاع أن يتكيف مع أوضاعه
الجديدة، واستمر في العمل وممارسة العمليات الإرهابية في أنحاء مختلفة من العالم
بما في ذلك الولايات المتحدة، وإن كان ذلك يتم الآن بكفاءة ووتيرة أقل عما كان
عليه الأمر من قبل.
وقد بنيت
استراتيجيات الحرب على الإرهاب خلال الفترة حتى 2015 على سبعة دعائم أساسية، وإن
كانت الإستراتيجيات بشكل عام إتخذت عناوين مختلفة أو اختلفت فيما بينها في تحديد
الأولويات. وتتمثل الدعائم السبعة لاستراتيجيات الحرب على الإرهاب خلال الفترة
المذكورة فيما يلي:
-
توجيه ضربات عسكرية مباشرة إلى المواقع التي تحتمي فيها الجماعات الإرهابية
(مراكز القيادة- معسكرات التدريب- مراكز التموين والذخيرة) وإضعاف قدراتها
القتالية ومنعها من شن عمليات ضد الولايات المتحدة والدول الحليفة
-
الرقابة على التسليح ومنع وصول الأسلحة إلى الجماعات الإرهابية
-
الرقابة على التمويل، ومحاصرة منابع التمويل وتتبع التحويلات ومحاولة
إجهاضها أو عدم وصولها إلى الأفراد والجماعات المشتبه في قيامهم بأعمال إرهابية
-
الرقابة على الإتصالات ومحاولة النفاذ إلى أنظمة الإتصال الداخلي في
الجماعات الإرهابية بقصد الحصول على المعلومات الكفيلة بإجهاض العمليات الإرهابية
قبل وقوعها
-
الرقابة على تجنيد الأفراد للإلتحاق بالمنظمات الجهاية، خصوصا مع تصاعد
نسبة العمليات الإرهابية التي يقوم بها مواطنون من داخل الدول الغربية
-
الرقابة على التنقلات وعلى حركة الأفراد المشتبه في صلتهم المباشرة
بالإرهاب وتبادل المعلومات بين الدول الحليفة ومؤسساتها المعنية فيما يتعلق بتنسيق
المجهود فيما بينها للحرب على الإرهاب
-
تدويل الحرب على الإرهاب من خلال الأمم المتحدة، وإنشاء لجنة خاصة بالحرب
على الإرهاب تتخذ قرارات ملزمة للدول الأعضاء في المنظمة الدولية.
وعلى ضوء هذا
الفهم لظاهرة الإرهاب فإن استراتيجيات مكافحة الإرهاب في طبعتها الأولى إهتمت
أساسا وقبل كل شيء بمنع وصول الإرهابيين إلى الدول الغربية، وإضعاف قدرتهم على
الوصول، وتتبع الأفراد والمنظمات الإرهابية تسليحا وتمويلا وإعدادا، والإستعداد
دائما للرد بسرعة وبكفاءة على الإرهابيين وتوفير سبل الحماية الكافية من المواطنين
في حال حدوث اعتداءات إرهابية. وقد عبرت استراتيجية مكافحة الإرهاب التي اعتمدها
المجلس الأوروبي عن ذلك بصورة جلية، إذ قامت هذه الإستراتيجية على أساس أربعة
مكونات رئيسية هي المنع (prevent) والحماية للمواطنين (protect) والرقابة والمتابعة والمطاردة للإرهابيين (pursue) والرد على الإعتداءات
الإرهابية (respond). وقد استمر
العمل على أساس هذه المقومات لمدة تصل إلى عقد ونصف من الزمان، لكنها تتعرض الآن
للمراجعة وذلك بقصد الإستفادة من الدروس في المرحلة الماضية، وللتعديل بما يتكيف
مع التطورات الراهنة في استراتيجيات الجماعات الإرهابية.
ثانياً- أولويات
الأهداف في الحرب على الإرهاب
يمكن القول إن
استراتيجيات الحرب على الإرهاب لم تسجل إلا بعض النجاحات الباهتة في حماية مواطني
الدول الغربية من الإعتداءات الإرهابية منذ تفجيرات نيويورك عام 2001. وفي المقابل
فإن ظاهرة الإرهاب العالمي أصبحت أكثر اتساعا وأشد خطر إلى الدرجة التي أصبح فيها
البعض يعتقد أنه يجب التعايش معها بوصفها واحدة من حقائق الحياة اليومية العادية (new normal). ولم يقتصر
الأمر على زيادة خطر الإرهاب على مستوى العالم ونجاح الإرهابيين والمنظمات
الإرهابية في الوصول إلى أهدافها في الدول الغربية، بل إن تلك المنظمات والأفراد
المنتمين لها عن بعد إستطاعوا تطوير أساليب وتكتيكات جديدة في تنفيذ العمليات
الإرهابية. وكان التطور الأخطر هو نشوء جيل جديد من الجماعات الإرهابية والأفراد
من مواطني البلدان الغربية خصوصا من أبناء جاليات المسلمين من كل أنحاء العالم
سواء في أوروبا الغربية أو في الولايات المتحدة أو أستراليا. وبنشوء هذا الجيل من
التنظيمات والأفراد فإن خطر الإرهاب تحول من مجرد "خطر وافد" يقوم به
أفراد من الخارج إلى خطر متوطن (homegrown) يقوم به مواطنون من داخل الدول الغربية نفسها. ولا شك أن موجات
العائدين من المتطوعين في سورية والعراق الذين كانوا يقاتلون مع القاعدة (جبهة
النصرة) أو مع داعش يمثلون الآن خطرا داهما على الدول الغربية خصوصا في أوروبا
التي تعرضت بالفعل لموجات خطيرة من
الإعتداءات الإرهابية في السنوات الثلاث الأخيرة.
ويمكننا رصد التحولات التي
طرأت على بنية الظاهرة الإرهابية منذ
العام 2014 في الملامح التالية:
1- أدى خسارة تنظيم القاعدة لمراكز قيادته وأعداد كبيرة من
قياداته ومقتل زعيمة إلى تعزيز فكرة "الإنتقام" بين مقاتلي القاعدة،
والميل نحو تركيز العمليات الإرهابية بما يؤدي إلى توجيه ضربات مؤلمة للولايات
المتحدة ومصالحها في الداخل والخارج على أوسع نطاق ممكن. ومن ثم فقد استمرت أنشطة
الدعاية والتجنيد والتدريب والتوجيه بتنفيذ عمليات انتقامية، ومن ثم فإن العمليات
التي تقوم بها القاعدة لم تتوقف على الرغم من الخسائر التي حلت بها.
2- أدى إعلان أبوبكر البغدادي قيام دولة إسلامية في العراق
وبلاد الشام (داعش) وتوسيع نطاق الحرب في العراق وسورية ضد القوات العراقية
المدعومة من إيران والقوات الأمريكية إلى تكوين قطب جديد لجذب المتطوعين للقتال في
صفوف داعش من كل أنحاء العالم، بما في ذلك الجاليات الإسلامية في أوروبا والولايات
المتحدة وروسيا. وأسهمت ظاهرة داعش والإنتصارات التي حققها التنظيم في العام الأول
بعد سيطرته على الموصل ثاني أكبر مدن العراق في رفع مكانة الجهاد الإسلامي العالمي
حتى اعتبره بعض شباب الجاليات الإسلامية في الغرب طريقا للخلاص من التهميش وعدم
القدرة على الإندماج في المجتمعات الغربية التي يعيشون فيها.
3- بسبب التضييق والرقابة على تدفقات الأموال إلى التنظيمات
الإرهابية، إستطاعت هذه التنظيمات (بما فيها الموالية للقاعدة وداعش في كل أنحاء
العالم) أن تطور أساليب عمل جديدة لا تعتمد على احتياجات مالية ضخمة، لدرجة أن
عمليات تصنيع المتفجرات والدوائر الكهربائية للتفجير عن بعد أصبحت تتكلف مبالغا
يمكن توفيرها من مصاريف الجيب التي يحصل عليها الإرهابيون. وقد أظهرت عملية التفجير
التي وقعت في مانشستر على سبيل المثال إمكان تصنيع الدائرة الكهربائية للتفجير
باستخدام مواد محلية متاحة للبيع للجمهور بمبلغ يقرب من 20 جنيها استرلينيا! ومن
ثم فإن الجهود العالمية للرقابة على التمويل تكاد تكون قد فقدت قيمتها تقريبا بسبب
تلك التطورات. كذلك ابتكرت التنظيمات الإرهابية أسليبا جديدة للتمويل عن طريق
وسائط التواصل الإجتماعي تمكنها في معظم الأحوال من الحصول بسهولة على ما تحتاج
إليه من أموال.
4- وسعت التنظيمات الإرهابية من نطاق تجنيد وتدريب الأفراد
عن طريق وسائط التواصل الإجتماعي. ومن هنا نشأت ظاهرة الذئاب المنفردة (lone wolf) وهم
الأفراد الذين يتواصلون بصورة مباشرة ومنفردة مع غرف العمليات التابعة للمنظمات
الإرهابية ويتم تجنيدهم وتدريبهم وتوجيههم عملياتيا عن بعد لتنفيذ أعمال إرهابية
أساسية أو لوجيستية أو غيرها. ومن الصعب على الأجهزة الأمنية معرفة هؤلاء، ومن ثم
عدم إمكان تتبعهم ومطاردتهم.
5- إستطاع الموالون لتنظيم داعش على وجه الخصوص التوسع في
استخدام الأدوات التي يمكن وصفها بأنها ثنائية الإستعمال مثل سكاكين المطبخ،
وأدوات ومعدات تستخدم في الحياة العادية مثل السيارات والشاحنات كأسلحة لتنفيذ
عمليات إرهابية منذ العام 2016 وقد ظهرت تطبيقات من هذا النوع في عدد من الدول
الأوروبية في عامي 2016 و2017. وتنبع خطورة هذا التطور من أنه يؤدي إلى تعقيد وصف
وتعريف أدوات تنفيذ العمل الإرهابي، كما إنه أيضا قد يوسع كثيرا حدود دائرة
الإشتباه وهو ما قد يؤدي بها إلى فقدان وظيفتها.
6- على الرغم من التنافس بين المنظمات الإرهابية على كسب
النفوذ وتعلية المكانة، فإن هذه المنظمات راحت في الآونة الأخيرة تبحث عن الأرضية
المشتركة التي يمكنها أن تعمل فيها بيدا بيد. وتشير تقارير الرصد المعلوماتي إلى
أن إجراءات تنسيق عملياتي بين جيش فتح الشام (جبهة النصرة) وبين داعش تمت في مدينة
الرقة السورية في ربيع وأوائل صيف العام 2017، كما تشير أيضا ألى تنسيق بين
الجماعات المقاتلة التابعة للقاعدة وبين تنظيم داعش في ليبيا سواء في بنغازي أو في
طرابلس خلال 2017.
وقد أدركت
أجهزة مكافحة الإرهاب في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية أن العام 2015 من شأنه
أن يسجل تحولا مهما في استراتيجيات الحرب على الإرهاب بعد أن استطاع تنظيم داعش أن
يسيطر على الموصل في العراق (يونيو 2014) وأن يعلن زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي
قيام ما أسماه "دولة الخلافة الإسلامية". ومع اتساع نطاق الحرب في كل من
العراق وسورية، وزيادة التورط الأمريكي والدول الحليفة في تنفيذ ضربات ضد الجماعات
الإرهابية وعلى رأسها تنظيمات داعش والقاعدة، وما صاحب ذلك من زيادة أعداد الضحايا
من المدنيين وانتشار الخراب محل العمران، راجت في الدول الإسلامية وفي أوساط
جاليات المسلمين في الدول الغربية الدعوة إلى "الجهاد" ضد أعداء
الإسلام، وأصبح تنظيم داعش محركا رئيسيا من محركات انضمام الشباب المسلم إلى صفوف
الجماعات الجهادية.
وخلال السنوات
منذ 2015 وحتى 2017 بدأت الولايات المتحدة والدول الحليفة في مراجعة استراتيجيات
الحرب على الإرهاب، خصوصا بعد أن لاحت بوادر قوية تشير إلى أن تنظيم القاعدة
يستعيد قوته بسرعة في أفغانستان، وأن تنظيم داعش أصبحت له قدرة هائلة على التوسع
خارجيا ونجاح كل من داعش والنصرة في تجنيد العشرات من مواطني الدول الغربية للقتال
في صفوف الكتائب الموالية لأي منهما، وعودة بعض هؤلاء المقاتلين إلى دولهم الأم
وقيامهم بتنفيذ عمليات انتحارية مثلما حدث في باريس وبروكسيل ولندن وغيرها.
ثالثاً- الإنتقال
من الدفاع إلى الهجوم: الحرب السياسية على الإرهاب
منذ أن أصبح
مراجعة استراتيجيات الإرهاب حاجة ملحة في أجهزة مكافحة الإرهاب على المستوى
العالمي ظهرت العديد من الكتابات والدراسات التي عكفت على محاولة استخلاص الدروس
من فترة ال15 عاما الماضية. وتعتبر المراجعة التي أجرتها وكالة المخابرات المركزية
الأمريكية، وكذلك التي قامت بها أجهزة المخابرات في كل من بريطانيا وألمانيا
وروسيا من أهم الجهود التي بذلت ولا تزال في هذا الموضوع. وعلى الرغم من أن
الدعوات إلى مراجعة استراتيجيات مكافحة الإرهاب على جانبي المحيط الأطلنطي ظهرت
منذ أواخر العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، فإن تسجيل موجة عالية من الهجمات
الإرهابية على مدن متعددة في أوروبا والولايات المتحدة منذ ذلك الوقت حتى الآن
يشير إلى أن الأجهزة المعنية بمكافحة الإرهاب لم تتوصل بعد إلى قناعات نهائية فيما
يتعلق بالدروس المستخلصة من مراجعة الإستراتيجيات التي ما تزال تعمل بها حتى الآن.
وقد اعترف
المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية مايكل هايدن (Michael Hayden) في حوار مع صحيفة الجارديان البريطانية في مارس 2016 بأن نقطة
الضعف الرئيسية في عمل أجهزة المخابرات وأجهزة مكافحة الإرهاب تتمثل في
"الإنشغال بما يجري على الأرض فعلا والعمل على مكافحته بدون النظر
للمستقبل" ولخص هايدن استراتيجيات الحرب على الإرهاب المعمول بها في الغرب
عموما في ثلاث كلمات تبدأ كلها بحرف الf هي (find, fix and finish)، أي (إبحث، إمسك وخلص)! وتختصر بعض الأجهزة هذه الكلمات الثلاث
في واحدة فقط من كلمتين اثنتين هما (kill or
arrest!) أو (إقتله أو اسجنه). ومن
الملاحظ في الآونة الأخيرة أن أجهزة مكافحة الإرهاب في بريطانيا وفرنسا والفلبين
والولايات المتحدة وروسيا وفي مصر تتوسع في تنفيذ عمليات ضد الإرهابيين باستخدام
القتل أو التصفية الجسدية وهو ما حدث مؤخرا في هجوم الشانزليزيه في باريس وكوبري
لندن وكوبري ويستمنستر في لندن.
والحقيقة أن ما
أشار إليه هايدن من أن أجهزة مكافحة الإرهاب هي إنما تتعامل فقط مع ما يجري بدون
الإهتمام بالمستقبل يثير الإنطباع بأن أجهزة مكافحة الإرهاب تعمل مع تتعامل الشرطة
مع الجريمة. ويقيس ضباط الشرطة نجاحهم بعدد الجرائم التي يقومون بضبطها والمجرمين
الذين يتم القبض عليهم. وإذا ظل الأمر على هذا المنوال فإن ضباط الشرطة سيعتبرون
أن علة وجودهم وهي الجريمة يجب أن تبقى، وينطبق الحال تماما على أجهزة مكافحة
الإرهاب، فطالما كان وجود الإرهاب هو علة وجود هذه الأجهزة فلماذا إذن تنشغل هي
بالقضاء على الإرهاب؟!
ومع ذلك فإن البحث
عن استراتيجية لكسب الحرب على الإرهاب ما تزال مستمرة. ومن أهم التقارير التي صدرت
أخيرا في هذا السياق هو التقرير الذي أصدرته لجنة الأمن الوطني في مجلس النواب
الأمريكي بعنوان "A national security
strategy to win the war against Islamic Terror"
في سبتمبر 2016. وقال مايكل ماكول (Michael McCaul) رئيس
اللجنة في مقدمته للتقرير إن الحرب على الإرهاب "ستكون طويلة" كما إنها
ستكون اختبارا لقدرة الولايات المتحدة وإرادتها في الإنتصار على الإرهاب. وأوضح
التقرير أن مدة كسب الحرب ضد الإرهاب لا يجب أن تقاس بالسنين ولكن بالعقود (عشرات
السنين).
وطبقا للتقرير فإن الإستراتيجية المقترحة أعادت ترتيب
أولويات الحرب على الإرهاب على النحو التالي:
1- إحباط هجمات الإرهابيين وحماية المجتمعات الغربية
2- وقف أعمال التجنيد للإرهاب ومنع الحض على التطرف في
البلاد
3- منع الإرهابيين من الوصول إلى الولايات المتحدة
4- المضي بالحرب إلى قلب مواقع العدو
5- قطع الطرق على حركة الإرهابيين وقطع موارد تمويلهم
6- الحيلولة دون وصول الإرهابيين إلى أسلحة الدمار الشامل
7- منع الإرهابيين الذين يتم طردهم من العودة إلى أرض
القتال
8- منع تطور أو ظهور شبكات جديدة للملاذات الأمنية للجماعات
الإرهابية وأفرادها
9- كسب معركة الأفكار ضد المتطرفين
ويجب أن يكون واضحا لنا في بلادنا أن استراتيجيات مكافحة
الإرهاب التي يتم تطويرها في الغرب إنما تنشغل فقط بحماية أمن وسلامة المجتمعات
الغربية ومصالح الدول الغربية وفي الخارجي إضافة إلى أمن وسلامة مصالح حلفائها.
ويحدد تقرير مجلس النواب الأمريكي الهدف النهائي للحرب على الإرهاب بأنه يتمثل في
"حماية أرض الوطن من الإرهابيين وهجماتهم، وهزيمتهم والحيلولة بين المتطرفين
وبين العودة للظهور مرة أخرى" ولم ينشغل التقرير كثيرا بمكافحة الإرهاب في
مناطق أخرى من العالم، وأشار إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على إنها موطن
خطير من مواطن الإرهاب نظرا لسياسات الإستبعاد والتهميش والركود الإقتصادي وغياب
المشاركة السياسية الحقيقية، وهي العوامل التي تؤدي إلى صعود الحركات السياسية
المتطرفة والجماعات الإرهابية.
خاتمة
دخلت الحرب على
الإرهاب مرحلة جديدة مع ظهور جيل جديد من الجماعات الجهادية وتغير أساليب وأدوات
تنفيذ الهجمات الإرهاببة. وتجري منذ عام 2015 مراجعات على نطاق واسع لاستراتيجيات
مكافحة الإرهاب، خصوصا في الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية. وقد اعترف الرئيس
الأمريكي الحالي دونالد ترامب في كلمته التي ألقاها في مؤتمر الرياض (مايو 2017)
بالحاجة إلى تعديل استراتيجيات مكافحة الإرهاب على المستوى العالمي، والإنتقال
بالحرب على الإرهاب إلى المستوى الإيديولوجي. ويبدو الآن أن الدول المعنية بمكافحة
الإرهاب تتقارب مواقفها فيما يتعلق بضرورة "شن حرب سياسية شاملة" على
الإرهاب تحتل "الحرب الأيديولوجية" موقع القلب منها. فالحرب على الإرهاب
يمكن أن تستمر عقودا من الزمان، وظاهرة الإرهاب يمكن أن تتحول إلى مجرد ظاهرة
عادية من ظواهر الحياة العادية تفقد أهميتها بالنسبة للعامة ويقبلون التعايش معها
في حياتهم اليومية. مواجهة هذا السيناريو تتطلب ليس فقط تجفيف المنابع المالية
والعسكرية للإرهاب، ولكنها ستتطلب أولا وقبل كل شيء تجفيف المنابع الإيديولوجية
للإرهاب وحصاره سياسيا وتحويل المنظمات الإرهابية جماعات مكروهة إجتماعيا وسياسيا.
لكن الإنتقال
إلى هذا المستوى من الحرب هو أشد تعقيدا من مجرد المواجهة الأمنية أو محاولات فرض
الحصار على التمويل والتسليح والإنتقالات. ويتضمن هذا المستوى من المواجهة مع
الإرهاب الإرتقاء بأساليب المواجهة إلى توظيف قدرات ثقافية واجتماعية واقتصادية
وسياسية من أجل إقصاء تأثير الجماعات المتطرفة التي تمثل الوعاء الطبيعي الذي تنبت
فيه التنظيمات الإرهابية. ولن يكون هذا بالأمر الهين، خصوصا في الدول الإسلامية
التي تعاني من الكثير من نواحي القصور السياسي والإقتصادي والإجتماعي. ويمكن القول
باختصار إن الإستراتيجيات الأمنية في مواجهة الإرهاب لم تحقق إلا القليل من
النجاح، وأن استمرار العمل وفقا لهذه الإستراتيجيات من شأنه أن يحول الإرهاب إلى
ظاهرة يومية عادية تتعايش معها الناس وإن كانت تسبب نزيفا للمجتمع ككل. الحرب
السياسية الشاملة، وفي القلب منها الحرب الأيديولوجية على التطرف ستكون بلا شك هي
العنوان الجديد لاستراتيجيات الحرب على الإرهاب في القرن الواحد والعشرين.
يتبقى أن نشير
في ختام هذه الدراسة إلى قضيتين ستلعبان دورا شديد الخطورة في الحرب على الإرهاب
خلال السنوات المقبلة هما أولا، قضية استخدام الجماعات الإرهابية والمتطرفة بشكل
عام كأداة من أدوات السياسة الخارجية لبعض الدول، وثانيا، قضية تشابك خيوط الحرب
على الإرهاب مع خيوط الحرب الباردة الجديدة التي تكتسي ملامحا قوية يوما بعد يوم،
وغدا الإصطفاف فيها واضحا بين معسكرين أولهما يضم روسيا والصين وإيران وكوريا
الشمالية، وثانيهما يضم الولايات المتحدة وحلفاءها.
ويتعارض
استخدام الجماعات الإرهابية والمتطرفة كأداة من أدوات السياسة الخارجية مع أهداف
الحرب على الإرهاب، وبسبب ذلك فقد تختار دول بعينها أن تشن الحرب على جماعات دون
أخرى. وقد لاحظت قيادة العمليات العسكرية الروسية في سورية خلال شهري مايو ويونيو
2017 أن الطائرات المشاركة في الغارات الجوية الأمريكية تتجنب توجيه ضربات إلى
تجمعات تنظيم جبهة النصرة والتنظيمات المتحالفة معه، كما لاحظت القيادة أيضا أن
قوات التحالف الدولي كانت تقتح طرقا لتسهيل انسحاب مقاتلي داعش من مدينة الرقة
السورية، وتأمين هروب المقاتلين إلى حماة وإلى تدمر. وهذا يعني وجود شروخ في
استراتيجيات الحرب على الإرهاب عندما يتم استخدام الجماعات المتطرفة كأدوات لتحقيق
أدوات السياسة الخارجية لطرف من أطراف الأسرة الدولية الرسمية. ونحن نعلم تماما أن
نشأة تنظيمات مثل طالبان والقاعدة ارتبطت بتحقيق مصالح السياسة الخارجية للولايات
المتحدة ضد روسيا (الإتحاد السوفييتي سابقا) في أفغانستان. وهذا ما يمكن أن يطيل
أمد الحرب على الإرهاب.
أما التقاطع
الذي نشأ أخيرا بين اعتبارات الحرب على الإرهاب والحرب الباردة الجديدة فإنه ظهر
واضحا جدا في مؤتمر الرياض بشأن الحرب على الإرهاب وإلان قيام تحالف عالمي للحرب
على الإرهاب يستبعد روسيا والصين، في حين يضم دولا معروفة بتأييدها للإرهاب
عقائديا وماليا على الأقل مثل المملكة العربية السعودية طبقا للتحقيقات الرسمية
التي أجرتها الولايات المتحدة والدول التي تعرضت لأعمال أولتهديدات إرهابية. إن
الإرهاب بطبيعته هو خطر ذو طبيعة عالمية، ولذلك فإنه لا يجوز عند مقاومته اللجوء
إلى استراتيجيات من شأنها تعميق الإنقسام العالمي في ظل حرب باردة جديدة تهدد
العالم.
وفي النهاية
نقول إن تصميم استراتيجيات للحرب على الإرهاب في دول المنابع الإرهابية أو في
غيرها لا يجب أن يعتمد فقط على موارد القوة المادية أو المقومات الصلبة للحرب (hard power)، وإنما يجب
أن يعتمد بالقدر نفسه على الأقل على استخدام موارد القوة الناعمة (soft power) لتحقيق
الإنتصار النهائي على الإرهاب.