كيف نغلق أبواب التطرف: نحو استراتيجية لترسيخ القيم
من عدة شهور خلت، وفي أحد مؤتمرات الشباب التي تعقد بشكل دوري في المحافظات المصرية، وجَّه رئيس الدولة المختصين نحو إعداد صياغة استراتيجية شاملة لترسيخ القيم والمبادئ لمواجهة التطرف والإرهاب والفساد. هذا التوجيه جاء في وقت تسود فيها انطباعات وافكار وتحليلات حول وجود أزمة في النموذج الأخلاقي، يبالغ البعض في تقديرها بأنها بلغت درجة الانحلال. ومعظم الدراسات وثيقة الصلة تلقي باللائمة والمسئولية على مؤسسات التنشئة الاجتماعية (الأسرة، المؤسسة الدينية، المدرسة، الجامعة، وسائل الاعلام، مؤسسات رعاية الشباب). ونحاول في هذا المقال الإجابة على سؤالين: هل نحن في حاجة إلى استراتيجية جديدة لترسيخ القيم، وما أسس هذه الاستراتيجية؟ بالتركيز على نموذج القيم والأخلاق الدينية.
النموذج القيمي العام بناء دائم التغير
النموذج هو نمط أو طريقة عامة في التفكير والشعور والفعل أو السلوك الاجتماعي، في مجال معين من مجالات الحياة الإنسانية: الفن، الدين، السياسة، الاقتصاد، المجتمع، الأخلاق، التربية، العلم. ويظهر النموذج القيمي عندما تعتنق الجماعة عبر تاريخها المشترك نظاما من المعتقدات وتواجه ظروفاً حياتية مشتركة، ومن المعتقدات وظروف الحياة والمعيشة، تنبثق قيمة الأشياء، ويصبح لكل مكون من مكونات الحياة رمزيته ودلالته التي يتعلمها الأفراد من خلال اللغة. ثم تمارس القيم المنبثقة دورها في توجيه سلوك أفراد الجماعة وممارساتهم اليومية في كافة المجالات، وعليه، فإن النموذج القيمي الأخلاقي العام عبارة عن نماذج قيمية واخلاقية فرعية، كالنموذج القيمي الديني، السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي، الثقافي، العلمي، الجمالي، الخ.
ولنأخذ مثالاً حول تأسيس النموذج القيمي المصري. وكيف نشأ هذا النموذج من تفاعل المعتقدات وظروف الحياة والمعيشة عبر التاريخ القديم ثم الوسيط والحديث؟
كانت مصر قبل أن يعمرها البشر من آلاف السنين، وقبل انتهاء العصر المطير، عبارة عن مساحات شاسعة من الأحراش والمستنقعات، تسكنها مجموعات كبيرة من الحيوانات والطيور، توافرت لها مصادر مياه دائمة وهائلة، عبر النهر القادم من الجنوب، و المطر الغزير قبل التغير المناخي. هذه الطبيعة الفضفاضة، كما يذهب أرنولد توينبي في الجزء الأول من كتابه (مختصر دراسة التاريخ) جعلت المصري الأول منشغلاً بكل طاقته في إخضاع هذه البيئة لإرادته، فاختفت المستنقعات رويداً رويداً، وحل محلها نظام مستق من القنوات والحقول.
وأسهم الاشتغال بالزراعة والاستقرار على ضفتي النهر في تفكيك كيان القبيلة، ليحل محلها كيان الأسرة أو العائلة الممتدة. بعد أن تحولت حركة الجماعة المستوطنة من الحرب والترحال وحتمية التضامن لمواجهة الآخر، إلى حركة شغل في المكان، وخلق القيمة المضافة وتوليد الثروة، ما يستلزم قدراً كبيرا من التنظيم، وجهداً جماعياً خاليا إلى حد بعيد من الصراع. هنا يفقد الكيان الكلي – القبيلة- وظيفته، فكانت العائلة الممتدة أو العصبيات الدموية القريبة الأكثر ملائمة لهذا الوضع. وأنتجت هذه الحالة الاجتماعية المنشغلة بالسيطرة على البيئة، لغة للتواصل متناغمة ومتسقة مع التنوع البشري والايكولوجي. ومن هذه النقلة الحضارية الكبيرة ظهرت الملامح الأولى للدولة المركزية المصرية.
وعلى مستوى المعتقدات: فعلى الرغم من أن المصريين خسروا معارك كثيرة في ساحة القتال وهم يدافعون عن أرضهم، إلا أنهم لم يقبلوا الهزيمة الثقافية، متشبثين بلغتهم وعقائدهم وتقاليدهم، بدليل أن المصريين عبر التاريخ لم يغيروا لغتهم سوى مرة واحدة، من اللغة الهيروغليفية بصورتها القبطية إلى العربية بعد الفتح العربي بسنوات طويلة، كما أنهم لم يغيروا ديانتهم سوى مرتين، من العقائد المصرية القديمة إلى المسيحية، ثم حين تحول غالبية المصريين من المسيحية إلى الاسلام تحولا سلمياً لم تراق فيه الدماء. هذه التجربة التاريخية تركت بصماتها على النموذج القيمي والأخلاقي لدى المصريين، وشكلت الشخصية المصرية المعروفة بقيم التضامن والانتماء والتسامح مع الآخر، وغيرها من القيم الإنسانية المركزية.
فهل معنى ذلك أن هذا النموذج الأخلاقي والقيمي يتسم بالثبات، أم أنه بناء يستم بالدينامية والتغير؟ والإجابة الفورية أنه بناء متغير، لكن تغيره لا يتم بين يوم وليلة، وإنما عبر حقب زمنية طويلة. فقد تغير النموذج القيمي والأخلاقي، خلال العصور التاريخية الوسيطة والحديثة، (عصر الخلافة الأموية والعباسية والفاطمية، عصر الدويلات من الأيوبية حتى المملوكية، الحكم العثماني، تجربة محمد علي، الاستعمار البريطاني، المرحلة الاشتراكية، الانفتاح الساداتي، الاندماج والعولمة في عصر مبارك، ما بعد ثورة 25 يناير). ولكل مرحلة بصمة مختلفة على النموذج القيمي والأخلاقي، وهي بصمات فرضت نفسها من خارج المجتمع، ومعظمها تعارض مع النموذج القيمي والاخلاقي التقليدي، ما أدى في النهاية إلى تشوه النموذج وعدم فعاليته في توجيه السلوك الاجتماعي للمصريين. هذا الوضع يعطي الانطباع الدائم بوجود خلل قيمي أو انحلال أخلاقي. ومع التسليم بوجود أزمة تصبح الحاجة ملحة لإعادة تشكيل هذا النموذج. ما يجرنا إلى سؤال لازم: هل من المستحيل إزالة التشوه في النموذج وتوجيه مساره في الاتجاه الذي يحقق مصالح أكبر لأفراد المجتمع؟ والإجابة الفورية أيضاً أن المجتمع يستطيع تطوير نموذجه الأخلاقي والقيمي، من خلال مشروع تنموي متكامل عبر ترسيخ أسس وقواعد أخلاقية جديدة في القطاعات الاقتصادية والسياسية والدينية والاجتماعية والثقافية.
النموذج القيمي الديني بناء يحتاج إلى إعادة تشكيل
تنشأ القيم من تفاعل المعتقدات الدينية والوضعية مع ظروف الحياة والمعيشة، والقيم الدينية لا تشذ عن هذه القاعدة، وعليه فإن المؤسسة الدينية في مصر هي التي تقرر دون غيرها، إعادة التفكير في المعتقدات، بتأويل النصوص المنشئة لنسق المعتقدات الدينية، وتنمية المشاعر والعواطف الدينية تجاه قيم معينة دون أخرى، تأويلاً يراعي ظروف الحياة والواقع المتغير. فيحدث بناء على ذلك تحول في أنماط السلوك، أو بمعنى آخر تولد أنماطاً جديدة من السلوك الاجتماعي المحمل بالتأويل الجديد للمعتقد، وبالتعاطف الجديد مع القيم المستحدثة. وتحقيق هذه النقلة الحضارية يتطلب أن تكون المؤسسة الدينية في مصر، مستقلة، غير تقليدية بمعنى أنها تعتمد في ترسيخ نسق المعتقدات على المعرفة والبحث والدراسة، وألا تكون سهلة الاختراق.
والحق أن المؤسسات الدينية تميزت تاريخياً بشخصية اعتبارية لها قوة تأثير تتجاوز حدود المجتمع المصري، ولذلك فقد كانت وماتزال هدفا للاختراق، نتيجة الصراعات التي تشهدها المنطقة. ولا يخفى على القارئ أن الأزهر بصفة خاصة، يتعرض للاستهداف منذ مطلع السبعينيات، بغية تحجيم أو تشويه الدور الذي يقوم به، ومحاولة إزاحة مكانته في العالم الإسلامي من المكانة المركزية إلى الهامشية، والسعي إلى تحويله من مؤسسة رائدة ومبادرة إلى تابعة لنمط من المؤسسات الدينية خارج القطر المصري. كل ذلك حدث في فترات سابقة ولكنه لم ينخر في عظم الأزهر، بدليل الدور المتعاظم الذي يمارسه على المستوى الاقليمي والدولي بعد ثورة 30 يونيه. وإقرار العالم بأهمية الدور الذي تلعبه المؤسسات الدينية المصرية في مواجهة التطرف والإرهاب.
والغالبية العظمى من المصريين على ثقة بأن المؤسسات الدينية الرسمية في مصر، سوف تقاوم الجمود الذي أريد لها في فترة الاختراق. وعلى ثقة بأن هذه المؤسسات سوف تستعيد دورها وقدرتها على إعادة تشكيل المعتقدات والقيم الدينية، بما يحفظ ثوابت العقيدة مع مواكبة التطور والتغير الحاصل في الزمان والمكان.
هذه الاستراتيجية يمكن أن تقوم على خمسة أسس: (1) رسم اطار جديد لعلاقة النموذج القيمي الديني بالقيم الاقتصادية والسياسية (2) رسم إطار جديد لعلاقة النموذج بالقيم العقلية والجمالية والثقافية (3) استيعاب التحولات الكبيرة التي تصيب النظم الاجتماعية في عصر العولمة والحداثة السائلة. (4) ترسيخ مبدأ اتساق المعتقدات الدينية مع قيم التطور العلمي والتكنولوجي. (5) تقديم معرفة دينية لكل الأحداث التاريخية الكبرى، الحروب والثورات والصراعات التي يمر بها العالم.
ولأن القيم الدينية تمثل قيمة مركزية في حياة المصريين، فإن إعادة تشكيل النموذج القيمي الأخلاقي الديني، هو بالتأكيد مشروع حضاري كبير، وأعمق بكثير من إشكالية تجديد الخطاب الديني، والنجاح في مهمة إعادة التشكيل، يعني بالضرورة تغيراً تابعاً في كافة القيم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، كما يعني خلق حزم جديدة من السلوك الاجتماعي، يعيد المصريين مرة أخرى لمشهد تشكيل الحضارة الانسانية.
ونلفت انتباه القارئ إلى أن استراتيجية ترسيخ القيم لا تنهض فقط على إعادة تشكيل النموذج القيمي والأخلاقي الديني، فلا يمكن الحديث عن تغير في النموذج القيمي والأخلاقي العام في المجتمع المصري دون تجديد لكافة النماذج المكونة له (السياسية، الاجتماعية، الثقافية، الاقتصادية، ... إلخ) لأن كل هذه النماذج الفرعية تمارس أدوارا وتأثيرا على بعضها البعض.
ختاماً، فإن التوجيه الرئاسي الذي يحض المختصين على التفكير في وضع استراتيجية لترسيخ القيم، يعني أن الإرادة السياسية قد انعقدت، لإعادة تشكيل النموذج القيمي والأخلاقي العام في مصر، وهي مهمة صعبة، وعمل حضاري كبير، يحتاج تضافر كافة مؤسسات الدولة جنباً إلى جنب مؤسسات المجتمع المدني، وينتظر دراسات رصينة من كافة التخصصات، نأمل أن يتعاطى الجميع بالجدية اللازمة مع هذا التوجيه، والخوف كل الخوف أن نحصل من مؤسسات الدولة على استجابة احتفالية شكلية بيروقراطية لا تقدم ولا تؤخر.