الهجمات الإرهابية في بريطانيا: المسلمون والمجتمع والتطرف (1-3)
تعرضت بريطانيا
خلال الأشهر الثلاثة من مارس إلى يونيو 2017 لثلاث هجمات إرهابية، إثنتين منها في
مناطق رئيسية في لندن ذات طابع سياسي (خارج مبنى البرلمان) أو ذات طابع سياحي
(كوبري لندن التاريخي)، وفي مانشستر بعد انتهاء حفل غنائي في وسط مانشستر حضره
أكثر من 21 ألف شخص معظمهم من صغار السن والأطفال. وخلفت هذه الإعتداءات 39 قتيلاً
و214 جريحاً منهم ما يقرب من20 حالة إصابة حرجة. وبذلك يكون عام 2017 حتى الآن هو
أسوأ أعوام الإعتداءات الإرهابية في لندن منذ عام 2005 الذي سجل أسوأ هجمات
إرهابية تعرضت له بريطانيا في تاريخها (يوم 7 يوليو 2005) على محطات قطارات
الأنفاق والباصات خلفت وراءها 52 قتيلاً و700 جريح. وقد وقع حادث لندن بريدج (كوبري
لندن) بعد نحو إسبوعين فقط من تفجير مانشستر رغم إعلان حالة استنفار أمني في أعقاب
حادث مانشستر. وقد أعلن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام مسؤوليته عن
هجمات 2017، بينما كان تنظيم القاعدة هو المسؤول عن هجمات يوليو 2005. وقد توعد
التنظيم في بياناته عن الهجمات بشن المزيد ضد بريطانيا في الداخل وضد مصالحها في
الخارج، وهو ما يعتبر تحدياً شديداً لاستراتيجية مكافحة الإرهاب في بريطانيا التي
كانت تقودها وزيرة الداخلية تريزا ماي رئيسة الحكومة الحالية. كذلك فإن خطورة هذا
التحدي تزداد بالنظر إلى أن منفذي الهجمات الإرهابية في بريطانيا، سواء تلك التي
وقعت عام 2005 أو التي وقعت 2017 هم من المواطنين البريطانيين المسلمين، المولودين
في بريطانيا أو الحاصلين على جنسيتها من أصول إسلامية أو عربية.
وسوف نحاول في
هذا المقال الإجابة عن أربعة أسئلة. السؤال الأول يتصل ببحث علاقة الجاليتين
العربية والإسلامية بالمجتمع الذي تعيش فيه داخل بريطانيا، والثاني يتصل بالعلاقة
بين الجاليتين العربية والإسلامية وبين التطرف والإرهاب، والثالث يتعلق بتطور
استراتيجية تنظيم الدولة الإسلامية وتكتيكاته على ضوء هزيمته المحتملة في العراق
وسورية، أما السؤال الرابع فإنه يتعلق بالتغيرات التي طرأت على استراتيجية مكافحة
الإرهاب في بريطانيا، ومدى قدرة هذه الإستراتيجية على الرد على التحديات التي
يفرضها تطور استراتيجيات الجماعات الجهادية.
أولا- علاقة
الجاليتين العربية والإسلامية بالمجتمع
يمثل الإسلام
ثاني أكبر ديانة في بريطانيا، إذا يبلغ عدد المسلمبن في انجلترا وويلز حالياً نحو
3 ملايين شخص، يمثلون ما يقرب من 5% من عدد السكان. ويتركز تواجد الجاليات العربية
والإسلامية في مناطق معينة، ولا ينتشرون بنسب متكافئة في كل أنحاء بريطانيا.
وتعتبر العاصمة لندن، والعاصمة الثانية برمنجهام، والمدن الكبرى مثل مانشستر
وليفربول وكارديف من أهم مراكز تجمع الجاليات العربية والإسلامية. كذلك يوجد العرب
والمسلمين بنسبة مرتفعة في مدن صغيرة مثل برادفورد القريبة من لندن وشيفلد إلى
الشمال من برمنجهام. وقد شهدت الجاليات العربية والإسلامية في بريطانيا نمواً
سريعاً خلال السنوات العشر الأخيرة إذ نمت بمعدلات تفوق معدلات النمو السكاني بشكل
عام، خصوصاً مع ثبات أو تراجع نسبة الزيادة بين السكان الأوروبيين (الإنجليز
وغيرهم).
وتأتي زيادة
أعداد الجاليات العربية والإسلامية من مصدرين رئيسيين، الأول هو الزيادة الطبيعية
للمواليد، مع تراجع نسب الوفيات. ويقدر أن معدل الزيادة الطبيعية بين السكان العرب
والمسلمين يبلغ ما يقرب من ضعف معدل الزيادة بين السكان الأوروبيين البيض في
بريطانيا. أما المصدر الثاني فهو الهجرة. وقد سجل تدفق المهاجرين العرب والمسلمين
إلى بريطانيا معدلات كبيرة في الفترة منذ بداية القرن الحالي. ولعبت التطورات السياسية
السلبية والفقر وعدم الاستقرار والحروب في منطقة الشرق الأوسط وأفغانستان دوراً
كبيراً في زيادة تدفق أعداد المهاجرين من هذه المنطقة إلى بريطانيا. ويقدر أن عدد
المهاجرين المسلمين والعرب الذين تدفقوا على بريطانيا منذ بداية القرن الحالي حتى
الآن ما يقرب من 700 ألف شخص، أي ما يعادل 23% من إجمالي عدد المواطنين
البريطانيين ذوي الأصول العربية والإسلامية. وربما يفسر ذلك موقف الحكومة
البريطانية المتشدد ضد استيعاب نسبة كبيرة من المهاجرين السوريين الفارين من جحيم
الحرب في سورية.
وعلى ذلك فإن
المواطنين البريطانيين ذوي الأصول العربية والإسلامية يمثلون مكوناً عضوياً مهماً
من مكونات المجتمع البريطاني، خصوصاً وأنهم يتوطنون في مناطق عظيمة التأثير على
الخريطة السياسية والإقتصادية والإجتماعية في بريطانيا. ولا يتوقف الأمر عند هذا
الحد، إذ أن الدراسات المستقبلية تشير إلى أن نسبة العرب والمسلمين سوف تزيد زيادة
كبيرة في السنوات العشر المقبلة وذلك بسبب ارتفاع نسبة صغار السن المقبلين على
الزواج بين البريطانيين من أصل عربي أو إسلامي. وتبلغ نسبة المواطنين البريطانيين
من أصول عربية وإسلامية في الشريحة العمرية تحت 25 سنة أكثر من 10% من المواطنين
داخل الشريحة نفسها بشكل عام. وهذا يعني في حقيقة الأمر ارتفاع نسبة المقبلين على
الزواج، ومن ثم ارتفاع أعداد المواليد الجدد بنسب تفوق ما هي عليها في الوقت
الحاضر. ونظراً لاستمرار الأوضاع المضطربة في منطقة الشرق الأوسط وأفغانستان فإن
تدفقات المهاجرين من المتوقع أن تستمر على حالها، بل إنها ربما تزيد إذا تعرضت
الحكومة لضغوط تستهدف تخفيف القيود المفروضة على الهجرة إلى بريطانيا.
ومن الطبيعي أن
تلقي هذه العوامل الديموجرافية بظلالها على الحالة السياسية والإجتماعية والثقافية
والإقتصادية في بريطانيا، وهو ما يزيد من أهمية سياسات الدمج الثقافي والاجتماعي
وغرس روح التعايش والتسامح بين مكونات المجتمع البريطاني. وتبذل الحكومة من خلال
النظام التعليمي والمناهج الدراسية جهداً كبيراً من أجل غرس وتعميق قيم التسامح
والتعددية والتنوع والقبول بالإختلاف داخل المجتمع البريطاني بين مكوناته
المختلفة. كذلك تلعب أجهزة الإعلام هي الأخرى دورا شديد الأهمية، خصوصاً فيما
يتعلق بتقديم صورة تعكس التنوع في المجتمع البريطاني، سواء في البرامج الإخبارية
والثقافية أو في مواد الدراما والمنوعات. ويوجد في بريطانيا مجلس أهلى يتولى
متابعة المساواة بين المكونات الإجتماعية المختلفة "مجلس التكافؤ
العرقي" (Racial Equality Council) ولا يقتصر
دور هذا المجلس على رصد وتقييم الحالة الإجتماعية للعلاقات بين المكونات المختلفة
للمجتمع بل إنه يقدم توصيات للحكومة يتم في الغالب تبنهياً وتحويلها إلى سياسات
وإجراءات.
ويمكن القول
بشكل عام إن المواطنين البريطانيين ذوي الأصول العربية والإسلامية يتمتعون بوضع
مساوي لغيرهم من الأعراق وأصحاب الديانات الأخرى، فلديهم مساجدهم التي يتعبدون
فيها بحرية ويمارسون شعائرهم الدينية بدون ضغوط، ولديهم حق اختيار المدارس
الملائمة لتعليم أولادهم، سواء كانت عربية أو إسلامية، ولديهم فرص متساوية للعمل والعلاج
والسكن والدراسة والسفر والمشاركة في النوادي الرياضية والإجتماعية. وهذا لا يعني
بالقطع أنهم يتمتعون بوضع مثالي مئة في المئة، فلا يخلو الأمر من منغصات هنا أو
مشاكل هناك، سواء بسبب خلافات فيما بين أبناء الجاليات أنفسهم أو بسبب تمييز في
المعاملات قد ينشأ بسبب ميول شخصية أو إدارية. ومن أهم أمثلة الخلافات الداخلية،
الصراعات داخل دور العبادة وفي خلال المناسبات الدينية حيث بدأ الأمر بانقسام
الجاليات الإسلامية إلى سنية وشيعية، ثم انقسمت الجاليات السنية بين نفوذ تيارين،
يقود أحدهما الوهابيون السعوديون والموالون لهم، ويقود الآخر أئمة الأزهر الشريف
الذين تشهد الجالية تراجعا شديدا لدورهم ونفوذهم، مع صعود نفوذ السلفيين
الوهابيين. وزاد الأمر تعقيداً بعد أن ظهر تيار جديد ينتمي إلى السلفية الجهادية،
والموالين للقاعدة وداعش ينافس من هم سواه. وعلى صعيد العلاقات مع الأجناس الأخرى
بمن فيهم الأوروبيين البيض فإن المواطنين من أصل عربي أو إسلامي قد يواجهون مظاهر
متعددة للتمييز قد تصل إلى حد الإهانة من أفراد عاديين، لكن من النادر أن يحدث مثل
ذلك على المستوى المؤسسي.
لكن علاقة
المواطنين البريطانيين من أصل عربي أو إسلامي بالمجتمع الذي يعيشون فيه تأثرت
تأثراً عميقاً منذ بداية القرن الحالي من انتشار الأفكار الجهادية، والتنظيمات
المتطرفة، ومنها التي تحولت فيما بعد إلى العمليات الإرهابية. إن ظهور هذه الأفكار
الدينية المتطرفة، التي تنحو إلى "التكفير" وتحول الكثير من معتنقيها
إلى معاداة المجتمع والإنضمام إلى التنظيمات الجهادية، والقيام بأعمال إرهابية ضد
المدنيين من أصحاب الديانات الأخرى، أو حتى شن حملات بدون تمييز ضد أبرياء في
تجمعات عامة، هو الذي قلب موازين العلاقة بين المواطنيين البريطانيين ذوي الأصول
العربية والإسلامية وبين المجتمع الذي يعيشون فيه والذي احتضن الكثير منهم بعد أن
هربوا من بلادهم الأصلية بسبب القهر السياسي والإجتماعي والإقتصادي، وانعدام فرص
الأمل في حياة أفضل. لقد تحولت العلاقة بين هؤلاء المواطنين وبين المجتمع الجديد
الذي لجأوا إليه إلى علاقة مهزوزة ومشروخة بسبب تداعيات الإرهاب. وكان من أخطر هذه
التداعيات زيادة مظاهر الكراهية العرقية والدينية ضد المسلمين وأصحاب السحنة الشرق
أوسطية بشكل عام. ولاحظت استطلاعات الرأي العام أن مظاهر الكراهية ضد المسلمين
تزيد بشكل خاص بعد كل عمل إرهابي، فكأن المسلمين الأبرياء يدفعون ثمن الحمقى
الإرهابيين بدون أي ذنب.