القانون العرفي ومجالس الصلح و"الطائفية"
تزايدت معدلات ومؤشرات العنف ذى الوجوه "الطائفية" فى مصر، ومعه عديد الشكاوى القبطية، من آحاد الناس، أو بعض من جموعهم على مستويات عديدة، حول بعض أشكال التمييز ضدهم، سواء من بعض الأجهزة الحكومية ورجال الإدارة أو الحكم المحلى الشعبى أو بعض أعضاء البرلمان عن الحزب الوطنى الديمقراطى الحاكم. وثمة شكايات أخرى مترعة بالألم والخوف من تسرب مشاعر وسلوكيات التمييز إلى المجال الاجتماعى، وخطورة تحوله إلى ظاهرة اجتماعية- ذات جذور فى الثقافة الدينية السلفية والسياسية وخطاباتها الفقهية والوعظية المسيطرة- التى تكرس المنطق التمييزى فى العلاقات بين المصريين، وتؤسس على أساس تأويل دينى وضعى. خطاب الشكاوى والألم القبطى الداخلى والمهجرى من بعض الأشكال التمييزية شاع أخيراً فى المشافهات اليومية للأقباط، وفى كتابات بعضهم، وبرز بقوة فى خطاب بعض رجال الأكليروس لاسيما بعض كبار الأساقفة والقمامصة والقسوس، وهو ما يشير إلى اختلالات فى سياسات الدولة والحكومة وبعض السلوكيات الدينية والاجتماعية التى تؤثر على التفاعلات فى المجال العام.
خطاب رصد ونقض ورفض التمييز على أساس دينى طرحناه باكراً مع آخرين ولم يقتصر على بعض نشطاء ومثقفى وأكليروس الأقباط المصريين – الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت حيث كان صوتهم محجوباً أو خافتاً لأسباب تتصل بتقديراتهم للعلاقة مع أجهزة الدولة – وإنما يربطه معنا بعض الباحثين والنشطاء بأنماط تمييزية أخرى على أساس النوع الاجتماعى – إزاء المرأة المصرية -، أو على أساس مذهبى / مذهبى، وسنى أكثرى، وشيعى أقلوى، وبين الأرثوذكس والبروتستانت. الأحرى القول إن هذا التمييز المذهبى ذو شيوع يتجاوز البعد الرسمى إلى امتدادات لا رسمية واجتماعية، وهى ظاهرة لم تكن شائعة فى مراحل تاريخية سابقة، وكانت كامنة ولا تثار إلا فى نطاق الجدل الفقهى أو اللاهوتى الذى يدور بين بعض المتخصصين ورجال الدين، أو فى بعض أنماط التنشئة الدينية والاجتماعية للأطفال والناشئة وفى حدود عامة وربما غائمة لاعتبارات تتصل بفكرة التكوين المذهبى داخل الدين الواحد.
من ناحية أخرى ساعد على التوترات المذهبية عموماً شيوع بعض النزاعات السياسية والدينية على المستوى الكونى – عولمة الأديان والمذاهب ونزاعاتها وبعض الجماعات الإرهابية والحرب ضدها – أو الإقليمى كنتاج لتمدد الدور الإقليمى الإيرانى فى قلب نزاعات وأزمات المنطقة، ودعم النظام الإيرانى لبعض الجماعات الإسلامية السياسية – حزب الله فى لبنان، وحماس والجهاد الإسلامى فى غزة .. إلخ-، بالإضافة إلى تمدد الخطابات الدينية السلفية والوهابية والسلفية الجهادية، وغيرها من خطابات جماعات إسلامية سياسية ومعها الإخوان المسلمين .... إلخ. بيئة سياسية واجتماعية متخمة بالخطابات الدينية / السياسية المتصارعة على روح المنطقة، والأهم تأثيراتها السلبية على بيئة التعايش الدينى / الدينى فى بلادنا، التى باتت محملة باحتقانات مستمرة وملتهبة كما يبدو من تكاثر وقائع الأزمات.
بعض التوجهات التمييزية "الطائفية" شكلت خطورة على أواصر الوحدة القومية المصرية، وتهديداً لمكونات الأمة الواحدة وفق المعانى الحداثية، التى جاءت كنتاج لحركة المصريين من أجل الاستقلال الوطنى، والتقدم تحت أعلام الدولة القومية الحديثة، والدستور والقانون الوضعى والمؤسسات السياسية، والمشاركة والمواطنة والمساواة والتعليم الحديث، والإصلاح الاجتماعى، والترجمة والبعثات إلى أوروبا والعالم الغربى، وحرية الصحافة ... إلخ. منظومة كلية – غالبها مستعار من الأطر المرجعية للحداثة والتحديث فى النماذج الأوروبية الغربية للتقدم – رادت مخيلة وعقل النخبة المثقفة والسياسية فى بلادنا، منذ محمد على وإسماعيل باشا ونوبار باشا وسعد زغلول باشا ومصطفى النحاس باشا ومكرم عبيد باشا وآخرين كثر، والحركة الوطنية الدستورية المعادية للاستعمار الغربى، والتى كانت تطالب بالاستقلال عن الاحتلال البريطانى، والمطالبة بالدستور الحديث ومن ثم الحريات العامة والشخصية وفصل السلطات والحكم والبرلمان الديمقراطى، والأهم أنها كانت تروم لتحقيق التقدم على النسق الأوروبى والغربى الليبرالى عموماً.
كانت الحركة الوطنية الدستورية تعبيراً عن صيرورة وإنضاج وتبلور لمفهوم الأمة المصرية الواحدة التى ترتفع عن مكوناتها الأولية وتتمحور حول المفهوم / الشعار مصر للمصريين، وليس على الرابط الدينى أو المذهبى أو السياسى أو الاجتماعى أو النوع الاجتماعى، أو المناطقى، أو العرقى أو اللغوى .... إلخ. كما يشيع فى المجتمعات المنقسمة دينياً ومذهبياً وعرقياً وقومياً ولغوياً فى المنطقة وبعض دول العالم.
كانت المواطنة والمساواة أمام الدستور والقوانين – فى إطار الحقوق والواجبات – هى أحد الأقانيم المحركة للتوجه الجمعى نحو التفاعل المشترك بين المصريين دونما تمييزات بينهم أيا كانت.
بثت السياسة الدينية الرسمية – وتأميم الدولة والنظام اليوليوى للدين وتوظيفاته السياسية فى مواجهة جماعة الإخوان المسلمين، وغيرها من الجماعات الدينية السياسية الأخرى -، بعض أشكال تسييس الدين واستثماره فى العمليات السياسية، مما أدى إلى نزاعات مع أطراف أخرى حول الدين وبه فى السياسة المصرية منذ 1952 وإلى نهاية العقد الأول من الألفية الثانية، ولا نعرف إلى متى سوف تستمر الأزمات والتوترات والاحتقانات بين الدولة والنظام التسلطى، وبين الجماعات الإسلامية السياسية، وبين هؤلاء جميعاً، وبين المكون المسيحى القبطى فى تركيبة الأمة والدولة الحديثة، خاصة فى ظل ظهور بعض المؤشرات على تحول خطير نحو "الطائفية" فى عديد شبكات العلاقات الاجتماعية والسياسية فى السنوات الأخيرة من العقد الأول للألفية الثانية.
أحد مؤشرات التحول فى العلاقات الاجتماعية / الدينية بين المصريين المسلمين والمسيحيين تتمثل فى ارتفاع معدلات العنف الدينى "الطائفى"، سواء اتخذ شكل وقائع مادية كالقتل – على قلة وقائعه – والضرب والجرح والحرق وتدمير بعض المساكن وتخريب بعض دور العبادة على ما تحفل به بعض الكتب، والصحف الورقية، ومواقع الإنترنت وتقارير بعض المنظمات الحقوقية المصرية، والدولية، وتحقيقات الشرطة والنيابة العامة، والملفات والأحكام القضائية، وتعليقات بعض الخبراء والمحللين المختصين بالشأن السياسى أو المتابعين لما بات يطلق عليه الملف القبطى.
أحد أبرز عناصر خطاب الشكايا ضد التمييز فى المراحل الأخيرة تمثل فى خطورة اللجوء إلى المجالس العرفية فى أعقاب النزاعات "الطائفية"، بديلاً عن أعمال قانون الدولة بصرامة وحيدة ونزاهة على المخالفين لأحكامه ومرتكبى الجرائم المرتبطة بالأزمات والسلوكيات "الطائفية".
سبق أن أشرنا إلى مخاطر هذا التوجه من بعض أجهزة الدولة والحزب الحاكم مراراً وتكراراً فى كتاباتنا منذ عقد التسعينيات فى القرن الماضى، لاسيما مؤلفنا "النص والرصاص: الإسلام السياسى والأقباط وأزمات الدولة الحديثة فى مصر"، دار النهار، بيروت 1998، و"الخوف والمتاهة: الإسلام والديمقراطية والعولمة، الحالة المصرية"، الطبعة الثانية، القاهرة، ميريت للدراسات والنشر، 2008، و"الدين والدولة و"الطائفية"، مساهمة فى نقد الخطاب المزدوج"، مؤسسة المصرى لدعم دراسات المواطنة وثقافة الحوار، القاهرة 2010. وفى كتب ودراسات ومقالات عديدة.
المجالس العرفية، هى أحد أشكال القضاء العرفى الذى شاع تاريخياً فى المراحل ما قبل الدولة الحديثة ونظامها القضائى، والقانونى – الموضوعى والإجرائى – الوضعى. كان يطلق على هذا النمط من القضاء التقليدى، مجالس العرب، التى تفض المنازعات بين الأهالى على أسس ومعايير القواعد العرفية الموروثة والتى تنظم العلاقات بين أعضاء العائلة أو العائلات الممتدة، أو القواعد القبلية أو العشائرية، وهو ما كان شائعاً ولا يزال بعضه سائداً فى الصعيد، وقبائل سيناء الشمالية والجنوبية، وقبائل سيوة، و"أولاد على" فى منطقة مطروح والحدود الغربية مع ليبيا.
القضاء العرفى يعتمد فى تشكيله على بعض الأعراف الشائعة التى ناطت ببعض ذوى المكانة والنفوذ من المشايخ أو الزعامات التقليدية فى إطار قبائلى أو عشائرى أو عائلى ممتد أو فى نطاق بعض أو غالب الحرف أو المهن ... إلخ، مهمة التصدى للمنازعات التى تثور بين أشخاص أو عائلات أو أسر، أو العاملين فى حرفة أو مهنة محددة، ويعتمد هؤلاء على وجود بعض القواعد العرفية الموروثة والتى تراكمت عبر الزمن بحيث شكلت عرفاً يسود داخل الأطر والتجمعات السابقة. القضاة العرفيون يطبقون القواعد أو السوابق فى الحالات المماثلة حيال انتهاك أحد الأشخاص أو عديدهم لها. بعض الأعراف كانت تعبيراً عن سلوكيات وعادات، تحولت إلى أعراف بمضى الزمن، ويتم إعمالها وتطبيقها فى المنازعات بحيث باتت ذات قوة معنوية واعتبارية إلزامية. بعض العادات تتحول بحكم التكرار، والتطبيق فى العلاقات القبلية والعشائرية والعائلية الممتدة إلى قانون عرفى.
القضاء العرفى قواعده شفاهية فى الغالب الأعم، وتطبقه مجالس عرفية، لا تتمتع بالمعايير والقواعد الخاصة باستقلال القضاء كما تعرفه التقاليد والمعايير الحديثة والمعاصرة لاستقلال القضاء.(1)
وكما يعرف فقهاء القانون وخبراء وباحثو الاجتماع القانونى بقى العرف كمصدر تاريخى واحتياطى جزءاً من مصادر القانون المدنى والتجارى، وظلت بعض القواعد العرفية مرتبطة ببعض المهن التجارية أو الحرف أو الأعمال، وتسرى على العلاقات فيما بينهم، بالإضافة إلى القانون الحديث والقضاء على اختلاف أنواعه ودرجاته.
أحياناً عندما لا يجد القاضى أحد النصوص فى القانون التجارى أو المدنى – على ندرة ذلك اليوم – يلجأ إلى القواعد العرفية السائدة فيما لا يخالف النصوص والقواعد والمبادئ العامة للقانون.
القواعد العرفية غالباً لا تسرى فى مجال القانون الجنائى – الموضوعى والإجرائى – لأن القاعدة الدستورية فى النظم المقارنة والمرتبطة بالعدالة الجنائية المعاصرة، تنص على أن لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، وهو ما ذهبت إليه الدساتير المصرية ومنها دستور 1971 على اختلاف تعديلاته الثلاث فى أعوام 1980، 2005، 2006.
المجالس العرفية والقانون العرفى ظلا مستمرين كأحد أشكال قواعد وآليات حل المنازعات بين أطراف المشكلات والمنازعات سواء داخل بعض المهن، أو الحرف، أو فى نطاق بعض العائلات أو الأسر فى الأرياف، أو بعض المدن المريفة فى إطار ثنائية قانونية وقضائية سادت بين النظم والقواعد والآليات الرسمية، واللارسمية. شكلت المجالس والقواعد العرفية أحد الأعطاب الماسة بسيادة القانون، والنزعة والأطر المؤسسية فى إطار الدولة الحديثة والمعاصرة، ومنطق الحداثة القانونى، وتشكل تراجعاً عن القيم السياسية والدستورية التى رادت تطور مصر الدستورى والقانونى العريق.
إن استمرارية هذا النمط من الأنساق القانونية الموازية لقانون الدولة وأجهزتها القضائية يرجع إلى عديد الأسباب نذكر منها تمثيلاً لا حصراً ما يلى:-
1-الفجوات بين بعض المنظومات القانونية الرسمية، وبين الواقع الاقتصادى والاجتماعى والدينى السائد فى البلاد.
2-بروز تناقضات بين المصالح الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية، وبين القوى الاجتماعية – والمهنية والحرفية ... إلخ -، التى تنظم القوانين بعض مصالحها المتعارضة، ثمة تعقيدات فى بعض منظومات القوانين وأطرها الإجرائية والموضوعية، فضلاً عن المدد الزمنية التى تستغرقها النزاعات وبعض استراتيجيات الدفاع التى تتعمد إطالة أمد النزاعات القضائية، وهو ما يجعل بعض أطراف المنازعات القانونية يلجأون إلى نظام التحكيم، الذى يتزايد اللجوء إليه على المستوى الداخلى، والدولى المعولم. وفى ذات المستوى يلجأ بعض الأطراف المتنازعة المخاطبين بأحكام القانون – كل فى نطاقه وفى إطار عمومية التطبيق- إلى اللجوء إلى القواعد والآليات العرفية لحل نزاعاتهم ومشكلاتهم كسباً للوقت، ولاعتبارات اقتصادية.
3-بطء إجراءات التقاضى على نحو يؤدى إلى تفاقم النزاعات بين الأشخاص أو الشركات على نحو يدفع ببعضهم إلى اللجوء إلى التحكيم سواء الرسمى، أو العرفى للهروب من بطء التقاضى ومن المدد الزمنية الطويلة التى يستغرقها الفصل فى المنازعات القانونية المعروضة على المحاكم.
4-تفاقم مشكلة عدم تنفيذ الأحكام القضائية بواسطة الأجهزة المنوطة بالتنفيذ القضائى، وهو ما يضع النظام القضائى، والمنظومة القانونية الكلية فى مأزق حقيقى، بل يؤدى إلى التشكيك فى مصداقية قانون الدولة، وأنظمة وأجهزة وآليات العدالة فى البلاد. من ناحية أخرى تؤدى ظاهرة عدم تنفيذ الأحكام القضائية إلى عدم استقرار المراكز القانونية المتنازعة، بكل آثار ذلك الاجتماعية والاقتصادية ومن ثم السياسية، لاسيما فى نطاق الشرعية السياسية والدستورية والقانونية للدولة الحديثة والحكومة، والأحرى النظام الحاكم وصفوته السياسية المسيطرة.
أحد أخطر مظاهر أزمات الدولة المصرية ونظامها التسلطى – منذ يوليو 1952 وحتى الآن – يتمثل فى تراجع دورها وانكماشه فى إطار سياسات الإصلاح الاقتصادى وبيع القطاع العام، واستمرارية الهيمنة الأمنية والسياسية، وتراجع هيبة القانون الحديث، هو لجوء بعض أجهزة الدولة إلى منطق وثقافة وقانون وقضاء الأعراف، بديلاً عن تطبيق قانون الدولة بضراوة وحسم وفعالية وحيدة ونزاهة وعدالة، إزاء كل خروج على القواعد القانونية أيا كان مصدرها وطبيعتها، عقابية أو إدارية أو مدنية أو تجارية ... إلخ.
تفاقمت الظاهرة السياسية والبيروقراطية / الأمنية سالفة السرد بامتياز خلال العقود الأخيرة من القرن الماضى – ولا تزال مستمرة حتى نهاية العقد الأول من الألفية الجديدة، وستستمر – لاسيما فى مجال مواجهة العنف ذى الوجود الدينية و"الطائفية" والحامل لمعايير تمييزية فى أعطافه.
يمكن لنا أن نحدد عديد الأسباب وراء لجوء بعضهم – أعضاء البرلمان، ورجال الشرطة، ورجال الدين وكبار العائلات – إلى الآليات والقواعد العرفية فى أعقاب كل حادثة "طائفية" تتم فى الأرياف أو بعض المدن المريفة، وذلك على سبيل التمثيل لا الحصر فيما يلى:
(أ) محاولة بعض رجال الدين والإدارة والشرطة احتواء المشكلات "الطائفية"، ووقف تمددها لتشمل أشخاصا وعائلات ... إلخ، ومناطق أخرى حول مكان وقوع الأزمة أو المشكلة "الطائفية"، سواء أكان سببها خلافا على أرض، أو ترميم كنيسة بعد الحصول على موافقة الجهات الرسمية المختصة، أو نزاعا حول المياه فى الجيرة الزراعية، أو توترات ومصادمات تتصل بالقيام بممارسة الشعائر الدينية القبطية فى منزل أو جمعية ... إلخ. وهذا النمط من التعامل مع العنف "الطائفى" فى منطقة ما، قرية أو مجموعة قرى أو حى أو مدينة، يهدف أساساً إلى إبعاد المساءلة الإدارية الوظيفية فى إدارة الأزمات عن عاتقهم من قبل رؤسائهم، مما يؤدى إلى اللجوء إلى "ذهنية وآلية الفهلوة" البيروقراطية التى تحاول بأية وسيلة الخروج من مأزق العنف والشحن والتوتر والاحتقان "الطائفى"، ولو على حساب هيبة وسيادة الدولة والحكومة والنظامين القانونى والقضائى، لاسيما فى ظل انتهاكات للدستور والقانون الجنائى تبدو جلية فى بعض الأحيان.(1)
(ب) اللجوء إلى المجالس العرفية يهدف إلى إنهاء النزاع ووقف تدهور الموقف "الطائفى"، ولكنه يشير أيضاً إلى سيادة منطق ضد الدولة وإعمال منطق وقيمة "الصلح خير" الشائعة فى تفكير بسطاء الناس. لا شك أن هذا المنطق يشير إلى تطابق أنماط تفكير العامة والبسطاء وبعض الموظفين العموميين، وذلك على حساب منطق وثقافة الدولة الحديثة وأجهزتها الإدارية والمحلية والأمنية، الذى يفترض تمايزه عن منطق ولغة آحاد الناس.
(ج) محاولة بعض رجال الإدارة والشرطة وأعضاء الحزب الحاكم، أو رجال الدين، أو كبار العائلات التستر على الواقع الإجرامى، والمجرمين الذين قاموا بارتكاب جرائم محددة منصوص عليها فى قانون العقوبات، بالإضافة إلى انتهاكات أخرى لقواعد منصوص عليها فى قوانين أخرى. إنها استراتيجية بيروقراطية فى محاولة حل عوارض المنازعات "الطائفية" لا جذورها أدت- ولا تزال- إلى إفلات جناة من الحساب والمحاكمة والمسئولية والعقاب العادل لمنع تكرار الأفعال الإجرامية المؤثمة التى قارفوها وتحقيق الردع العام والخاص.
إن ظاهرة اللجوء إلى المجالس العرفية فى نظر النزاعات والجرائم التى ترتكب تحت مظلة التسويغات والتبريرات الدينية / "الطائفية"، هى تعبير عن أزمة دولة وأجهزتها، فضلاً عن ضعف فعالية الهندسات القانونية والإدارية والسياسية الحديثة، وتراجعها لصالح تنامى حيوية وفعالية أبنية وهياكل القوة العرفية والتقليدية.
ثمة نتائج سلبية من وراء إحالة بعض رجال الإدارة والأمن والدين والعائلات لبعض المشكلات "الطائفية" لمجالس الصلح العرفية، ويمكن لنا رصدها تمثيلاً لا حصراً فيما يلى:
1-ستر المسئولية الجنائية والقانونية للجناة، ولأخطاء بعض رجال الإدارة أو الأمن، أو الفاعلين الأصليين أو شركائهم ومحرضيهم فى الموقف "الطائفى" والجرائم التى ترتكب فى سياقاته، وإفلاتهم من المحاكمة والعقاب والجزاءات الجنائية والإدارية.
2-إضعاف البعد المؤسسىللدولة المصرية الحديثة وأجهزتها، وعلى نحو أدى إلى دعم هياكل القوة المحلية (القب ائل، العشائر والعائلات الممتدة والأسر ذات النفوذ الحزبى والبيروقراطى لاسيما فى الأرياف)، وهو ما يشكل خصماً من تراث وتقاليد وثقافة الدولة المصرية الحديثة.
3-إفقاد القانون لوظائفه لاسيما فى مجال التغيير الاجتماعى والمساهمة الفعالة فى تحقيق الأمن الاجتماعى واستقرار العلاقات بين المخاطبين بأحكامه، خاصة إضعاف وظيفتى الردع العام والخاص المستهدفتين من وضع القانون الجنائى أو بعض الجزاءات الجنائية فى بعض القوانين الأخرى.
4-إضفاء بعض المسئولين – رجال الإدارة والدين وكبار العائلات والشرطة – مشروعية على عمليات الخروج على القانون، وذلك تحت دعاوى دينية أو بيروقراطية أو أمنية تبرر هذه العملية المضادة لقانون الدولة.
5-تيسير تحويل المنازعات العادية بين آحاد الناس،- على الملكية، أو البيع والشراء وعديد الشئون الأخرى – إلى نزاعات "طائفية" لحسمها وفق قانون الكثرة الدينية العددية، وتسهيل الهروب من المساءلة الجنائية.
6-تمدد التمييز الذى يمارسه بعض الموظفين العموميين- أيا كانت مواقعهم فى الإدارة والحكم المحلى والحكم المحلى الشعبى والشرطة ... إلخ –، وذلك ليغدو مثالاً يمارسه بعض الجمهور العادى – وغالباً من بعض المسلمين الغلاة – على البعض الآخر من المسيحيين، والأخطر، وذلك كى يغدو هذا النمط التمييزى ممارسة يومية عادية فى وقائع الحياة وعديد تفاصيلها.
7-تكريس فجوة التمييز وإشاعة إحساس شبه جمعى فى الوعى القبطى المسيحى بأنهم جماعة يمارس إزاءها التمييز. وأخطر ما فى هذا النمط من الممارسة وردود الأفعال والمشاعر إزاءها، أن تولد وتنتج أشكالاً من التعاضد والاندماج القبطى مؤسس على محض الانتماء الدينى، بما يساهم فى إشاعة مقولة الكتلة أو الجماعة القبطية المتماسكة، وهو تكريس بامتياز للطائفية والانقسام الرأسى داخل تركيبة الأمة الواحدة الموحدة.
8-ساهم هذا الاتجاه فى لجوء بعض المحاكم – فى قضية الكشح2، إلى إحلال منطق "الصلح خير " الشعبى التقليدى، واستبعاد منطق قانون وقضاء الدولة الحديثة.
إن بعض أحداث العنف "الطائفى" الدامية كشفت عن ممارسات بالغة الخطورة على تكامل وفعالية وهيبة الدولة المصرية وأجهزتها على اختلافها، ويمكن لنا رصد هذا المثال على سبيل التمثيل لا الحصر فيما يلى:
فى 10/12/2005 بكفر سلامة بمحافظة الشرقية حدثت مشاجرة بين مسيحى ومسلم مما أدى إلى وفاته، على أثر ذلك اجتمع سكرتير عام المحافظة ومأمور مركز منيا القمح وأمين عام الحزب الوطنى بالشرقية، وأصدروا قراراً بالغ الغرابة ذهب إلى:
أولاً: دفع دية لأهل القتيل المسلم نصف مليون جنيه، تفرض على كل مسيحيى القرية.
ثانياً: يخرج الجانى وأبناؤه من القرية إلى أى مكان آخر فى مصر.
ومن تفاصيل جلسة "المحكمة العرفية" السالفة الذكر، قيام الشرطة بالقبض على 11 قبطياً، بعضهم تعرضت منازلهم للحرق والتخريب مما اضطرت معه عائلات خمسة من المقبوض عليهم من المسيحيين إلى بيع منازلهم فى شمال شرق القاهرة، بعد أن تم إقناعهم – من بعض المسئولين – بأن يتنازلوا عن ممتلكاتهم فى مقابل إطلاق سراح أقاربهم المتهمين بالقتل".
المثير أن الفحوص الطبية – كما وردت فى بعض الكتب التوثيقية (2)– ونقلاً عن تقرير طبى فى شهر يونيه، بعد واقعة الوفاة بأكثر من ستة أشهر، أثبتت أن المتوفى كان يعانى من انسداد فى الشريان التاجى بنسبة 75%، كما أن الشريان التاجى الثانى والثالث بهما نسبة انسداد بلغت 60%، و90%، وذهب التقرير الطبى إلى أن "هناك تغييراً سابقاً لبعض الشرايين التاجية نتيجة للتصلب".
إنها إحدى الواقعات التى تشكل خرقاً لقانون الدولة وقضائها، ويمكن لنا أن نورد عليها الملاحظات التالية:-
1-اتجاه المجلس العرفى إلى تطبيق قانون الدية بديلاً عن قانون العقوبات يؤدى إلى تكريس المنطق الدينى على فلسفة ومنطق الدولة والقانون الوضعى الحديث الذى يطبق عليها وعلى "مواطنيها".
2-فرض المجلس العرفى مبدأ المسئولية الجنائية والمدنية الجماعية بديلاً عن قاعدة المسئولية الشخصية فى المبادئ والقواعد القانونية الحديثة والمعاصرة، الذى تسود فى إطاره قاعدة الجريمة شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بنص.
3-تغافل الحكم الذى أصدره "قضاة المجلس العرفى" جرائم حرق المنازل وإتلاف المزروعات وغيرها كما فى الواقعة سالفة الذكر، وتحديد المسئولية عنها، ومن ثم لم يعوضوا الضحايا والمجنى عليهم الأقباط حتى وفق منطق "القانون العرفى" و"القضاة العرفيين"! وذلك بذريعة أن الجناة كانوا فى حالة غضب وهو ما يشكل تسويغاً للجرائم السابقة وتستراً على الجناة.
4-طبق "قضاة المجلس العرفى"، عقوبة الطرد الجماعى للجانى وذويه إلى خارج قريتهم، بدعوى ارتكابه جريمة، وهو أمر يشكل خروجاً على منطق الدولة المعاصر، وحقوق المواطنة.
ممارسات المجالس العرفية التى تحولت إلى بدعة من بدع تراجع منطق وثقافة الدولة وذهنية الموظفين العموميين الساعية للتهرب من المسئولية الإدارية والسياسية – أيا كانت تخصصاتهم ومجالاتهم – لصالح تفكير ينزع نحو القيم والمنطق والقواعد التقليدية، وإلى تسييد بعض المعايير وعادات التفكير المهيمنة والمهجنة بين الأساس الدينى التأويلى والشعبى الشائع، وبين منطق وإرث ولغة "مجالس العرب العرفية"! إنها مؤشرات خطر على الدولة الحديثة، والاندماج القومى بين المصريين جميعاً أيا كانت انتماءاتهم الدينية والمذهبية والمناطقية والعرقية والجندرية. إننا فى واقع الحال إزاء منطق من داخل أجهزة الدولة ضد الدولة ذاتها!
ما العمل؟
يمكن اتخاذ مجموعة إجراءات نشير إلى بعضها فيما يلى:
1-مساءلة أية أطراف تلجأ إلى المجالس العرفية لمنع تطبيق القانون على الأشخاص الذين انتهكوا أحكامه. وضرورة اللجوء إلى وضع قانون يجرم ويؤثم اللجوء إلى مجالس الصلح العرفى لحل المنازعات "الطائفية" بهدف التستر على الجناة.
2-إعمال نص المادة الأولى من دستور 1971 وتعديلاته التى ذهبت إلى "أن جمهورية مصر العربية دولة نظامها ديمقراطى يقوم على أساس المواطنة"، والمادة (40) التى نصت على أن "المواطنين لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم فى ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة" والتطبيق الفعال للمادة 46 التى تنص على حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية دون قيد".
3-تفعيل المبادئ الدستورية حول المواطنة وعدم التمييز وحرية التدين والاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية وهو ما يعنى ضرورة تشكيل لجنة قومية متخصصة – من فقهاء قانون وقضاة وسياسيين وباحثين اجتماعيين – لفحص القوانين على اختلافها لرفع أية قيود تشكل نقضاً للمواطنة والمساواة بين المصريين، وذلك وفق فلسفة ورؤى وسياسات واستراتيجيات إصلاحية.
4-ضرورة إصدار قانون جديد للحريات الدينية بما فيها رفع خانة الديانة من الأوراق الثبوتية، ويجرم ويعاقب على أية ممارسات تمييزية تقع من قبل موظفى الدولة وتابعيها على بعض المواطنين على أساس الانتماء الدينى أو المذهبى، وكذلك فى القطاع الخاص.
5-إصدار قانون موحد لبناء وترميم وتقوية منشآت دور العبادة.
6-مراجعة المناهج والكتب المدرسية التاريخية وإعمال المناهج والمعايير الموضوعية فى الكتابة التاريخية بلا تحيز أو تشويه أو استبعاد للمرحلة القبطية التى تدرس تحت مسمى المرحلة البيزنطية، وتقديم المراحل التاريخية المختلفة وفق رؤية ومنطق تاريخى لا وفق الأهواء والتحيزات الذاتية لبعض واضعى مناهج تاريخ مصر والعالم فى التعليم العام المصرى.
7-إصلاح بنية وهياكل ومناهج وأساليب التعليم – فى كافة مراحله – للانتقال من الحفظ والاجترار للمقولات العامة، إلى العقل النقدى التفكيكى والتحليلى والنقدى، الذى يؤدى إلى بناء ملكات وقدرات للتلاميذ والطلاب فى التعامل مع الظواهر المجتمعية على اختلافها، ورصدها وتحليلها ونقدها، ويفتح المجال أمام إمكانيات التعامل معها.
8-تضمين مناهج التعليم منظومة حقوق الإنسان، وقيم وثقافة المواطنة، لاسيما حريات التدين والاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية وفق المنطق الحقوقى الوارد فى القانون الدولى لحقوق الإنسان، وذلك منذ مراحل التعليم الأولى ورياض الأطفال إلى مستوياته العليا، لتغدو جزءاً من تكوين وثقافة وقيم الطلاب والطالبات.
ثمة احتياج لكى نراجع أنفسنا، ونسائلها عما فعلناه من أخطاء فى حق وحدتنا القومية، حول الأمة والدولة المصرية الحديثتين، كى نستطيع أن ننهض من كبواتنا، ونخرج من المأزق التاريخى الذى نواجهه، ونحاول بجدية اللهاث وراء عالم معولم يتطور بسرعات هائلة بينما نحن نتردى إلى الوراء فى سجالاتنا واهتماماتنا وقضايانا، ولا نملك سوى الكلمات الصاخبة والطبل الأجوف إزاء مخاطر حقيقية ومؤثرة على حياتنا ومصائرنا.
الهوامش
(1) بعض قواعد القانون العرفى تم تدوينها بواسطة بعض أبناء مشايخ القبائل المتعلمين كما لدى بعض قبائل سيوة، أو من خلال بعض البحوث الأنثربولوجية الميدانية التى أجريت حول قبائل أولاد على، انظر فى ازدواجية النظام القانونى المصرى، نبيل عبد الفتاح، فى:
Baudouin Dupret, Maurits Berger, Laila el-Zawaini, Legal Pluralism in the Arab World, Chapter 13, Page 159 to 172, Kluwer Law International, The Hague, London, Boston, 1999.
(2) ثمة ميل لدى بعض الموظفين فى أجهزة الدولة البيروقراطية إلى تغليب المنطق والعقل الفهلوى وثقافته فى ذهنية وخبرات الموظفين العموميين والعمال فى مصر، وبعض هؤلاء يميلون إلى المراوغة والإضمار، والميل إلى معالجة ظواهر المشكلات والأزمات دونما تقصى عواملها الأساسية وتطوراتها، ومن ثم التصدى لها عند الجذور، وليس من خلال المعالجات الوقتية التى ترمى للتهرب من المساءلة. ثمة نمط سلوكى هروبى أو نعامى لدى بعض الموظفين العموميين يرمى إلى ستر المعلومات، أو إخفائها حتى لا توجه لهم اتهامات، أو دعاوى ترمى إلى مساءلتهم على بعض سلوكياتهم. هذا الاتجاه الهروبى، يرمى فى بعض المعالجات الأمنية والبيروقراطية إلى تطويق الأزمات، ومحاولة تهدئتها، وذلك لبعض الوقت حتى لا تستطيل المسئولية القانونية والسياسية على مواقفهم وتقديراتهم وقراراتهم أثناء معالجة المواقف الأمنية / الدينية المتوترة والمحتقنة والمتفجرة فى أحيان أخرى.
(3) انظر فى ذلك كتاب "جلسات الصلح العرفية والأقباط"، إعداد نادر شكرى، كتاب وطنى، ص 32، 33، القاهرة 2009. وهذا الفصل شكل غالبه مقدمة الكتاب آنف الذكر.