آليات المواجهة: الأمازيغية والعنف الهوياتي في الجزائر
الأربعاء 17/فبراير/2016 - 11:07 ص
عبير شليغم
مع وجود خطوات غير مسبوقة في المشروع التمهيدي لتعديل الدستور الجزائري، ربما أهمها الحديث عن ترقية الأمازيغية إلى لغة رسمية، كان من المهم التعرض لأزمة الأمازيغية والعنف الهوياتي؛ حيث ظهرت القضية الأمازيغية إلى الوجود أول مرة أواخر الستينيات من القرن الماضي، وذلك في سياق التحولات الجذرية التي عرفتها البلدان المغاربية في القرن العشرين، ونشوء الدولة الحديثة في المنطقة نتيجة التدخل الاستعماري، مع ما رافق ذلك من تحوّلات عميقة على مختلف المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وهو ما أدى إلى بروز سؤال الهوية أول مرة في المنطقة كتعبير عن المخاض العسير لتلك التحوّلات.
في هذه الظروف ولِدت القضية الأمازيغية كردّة فعل على الخطاب الهوياتي المتبنَّى من طرف دولة الاستقلال في البلدان المغاربية، حيث نسبة مهمة من الناطقين باللغات الأمازيغية، وخاصة في المغرب والجزائر.
هكذا بدأت القضية التي ستأخذ في ما بعد أبعادًا وامتدادات أكبر ابتداءً من ثمانينيات القرن العشرين، حيث سيتزايد عدد المهتمين بها بشكل كبير وملحوظ، وستتحوّل من قضية ثقافية إلى قضية ذات أبعاد سياسية، مع ارتفاع الأصوات المنادية بالاعتراف السياسي بالقضية، ودسترة اللغة والثقافة الأمازيغية ضمن دساتير ديمقراطية.
مع مجيء عقد التسعينيات والتزايد الكبير في عدد الجمعيات والناشطين في مجال القضية الأمازيغية، وتحت تأثير الحوادث التي عرفتها القضية في الجزائر أوائل الثمانينيات، وخصوصًا ما تلا حوادث الربيع الأمازيغي (تافسُّوت بالأمازيغية) الدموية في منطقة القبائل شمال الجزائر سنة 1980، إضافة إلى اضمحلال الخطاب الوحدوي للحركات الوطنية المغاربية، وفشل مسلسل الوحدة المغاربية في ما عُرف باتحاد المغرب العربي في أواخر الثمانينيات، ستعرف هذه القضية تغييرات كبيرة على مستوى الخطاب المتداول، حيث ستبرز أول مرة إرهاصات نزعة قومية جديدة تبدأ التشكّل ببطء طوال عقد التسعينيات، وتحاول إعادة قراءة القضية من منظور قومي مختلف تمامًا عن المنظور الثقافي السابق الذي كان يرمي إلى التعريف بالقضية، وتقديم اللغة والثقافة الأمازيغية كجزء – جزء فقط ضمن أجزاء أخرى – من واقع الهوية التعددية لمجتمعات شمال أفريقيا المتميّزة بالميزتين الرئيستين: التعدد والانصهار، أو ما كان يُعرف عنه حينها بفكرة الوحدة في التعدد، أي انصهار المكوِّنات الثقافية المتعددة في إطار واحد يشكّل هوية الإنسان في المنطقة، عبر صيرورة تاريخية طويلة امتدت آلافًا من السنين.
في هذه الظروف ولِدت القضية الأمازيغية كردّة فعل على الخطاب الهوياتي المتبنَّى من طرف دولة الاستقلال في البلدان المغاربية، حيث نسبة مهمة من الناطقين باللغات الأمازيغية، وخاصة في المغرب والجزائر.
هكذا بدأت القضية التي ستأخذ في ما بعد أبعادًا وامتدادات أكبر ابتداءً من ثمانينيات القرن العشرين، حيث سيتزايد عدد المهتمين بها بشكل كبير وملحوظ، وستتحوّل من قضية ثقافية إلى قضية ذات أبعاد سياسية، مع ارتفاع الأصوات المنادية بالاعتراف السياسي بالقضية، ودسترة اللغة والثقافة الأمازيغية ضمن دساتير ديمقراطية.
مع مجيء عقد التسعينيات والتزايد الكبير في عدد الجمعيات والناشطين في مجال القضية الأمازيغية، وتحت تأثير الحوادث التي عرفتها القضية في الجزائر أوائل الثمانينيات، وخصوصًا ما تلا حوادث الربيع الأمازيغي (تافسُّوت بالأمازيغية) الدموية في منطقة القبائل شمال الجزائر سنة 1980، إضافة إلى اضمحلال الخطاب الوحدوي للحركات الوطنية المغاربية، وفشل مسلسل الوحدة المغاربية في ما عُرف باتحاد المغرب العربي في أواخر الثمانينيات، ستعرف هذه القضية تغييرات كبيرة على مستوى الخطاب المتداول، حيث ستبرز أول مرة إرهاصات نزعة قومية جديدة تبدأ التشكّل ببطء طوال عقد التسعينيات، وتحاول إعادة قراءة القضية من منظور قومي مختلف تمامًا عن المنظور الثقافي السابق الذي كان يرمي إلى التعريف بالقضية، وتقديم اللغة والثقافة الأمازيغية كجزء – جزء فقط ضمن أجزاء أخرى – من واقع الهوية التعددية لمجتمعات شمال أفريقيا المتميّزة بالميزتين الرئيستين: التعدد والانصهار، أو ما كان يُعرف عنه حينها بفكرة الوحدة في التعدد، أي انصهار المكوِّنات الثقافية المتعددة في إطار واحد يشكّل هوية الإنسان في المنطقة، عبر صيرورة تاريخية طويلة امتدت آلافًا من السنين.
جعلت سياسات التهميش الكثير من الأمازيغ يشعرون بأن الأمازيغية والحضور الأمازيغي الثقافي والاجتماعي والسياسي مستهدف
أولاً- نشأة وأسباب تطور المسألة الأمازيغية في الجزائر
يعتبر البحث في الأصول التاريخية للأمازيغ أو البربر أمرا صعبًا نظرا للاختلافات العديدة حول نسبهم، وهذا الاختلاف يمس تباين في التسمية وحتى في الأصول، بناءا على ذلك؛ سنتطرق للاختلاف في التسمية من أمازيغ وبربر، مرورا بأصلهم.
1. الأمازيغ أو البربر ... التسمية والأصول:
ذهبت المصادر الكلاسيكية القديمة من يونانية ولاتينية إلى أن اسم "أمازيغ" قديم جدا، وكان معروفا حتى في العهد الفينيقي، وورد بصيغ متعددة منها مازيس "Mazax" ، ونتيجة صعوبة نطق الكلمة واختلاف أصول الأصوات بين اللغات خاصة الإغريقية واللاتينية تغيرت الكلمة فأصبحت »أمازي «، مما جعل الكاتب الروماني "فيلينوس" يقول في هذا الموضوع: يتعذّر على حناجر البربر أن تستطيع النطق بأسماء قبائلهم ومدنهم(1)، كما نجد في الأخبار المتفرقة أن "مازيس" كان يطلق على شعب قوي أقلق الرومان كثيرا بثوراته، حيث تذكر بعض المصادر البيزنطية أنه كان أيضا يطلق على أهل أفريقية، وقد أشار إلى ذلك المؤرّخ شارل أندري جوليان الذي قال: "وقد أطلق الاسم على قبائل عديدة قبيل الاحتلال الروماني"(2).
انطلاقا من ذلك؛ فكلمة أمازيغ جمع لـ "إيمازيغنن" ومؤنثه "تمازيغت" وجمع المؤنث "تمازغيين" ويحمل هذا اللفظ في اللغة الأمازيغية معنى الإنسان الحر النبيل أو ابن البلد وصاحب الأرض، وتعني صيغة الفعل منه غزا أو أغار، ويجعلها بعضهم نسبة لأبيهم الأول "مازيغ"، وهذا ما ذهب إليه ابن خلدون في تحديد نسب الأمازيغ بقوله "والحق الذي لا ينبغي التعويل على غيره في شأنهم أنهم من ولد كنعان بن حام بن نوح وأن اسم أبيهم أمازيغ".
بيد أن؛ اللهجات ذات الأصول الأمازيغية تختلف في نطق هذا اللفظ فهو عند طوارق مالي "أيموهاغ" بقلب الزاى هاء، وعند طوارق منحنى نهر النيجر الغربي "إيموشاغ"، أما في أغاديس بالنيجر فينطقونه "إيماجيغن"، والمقصود بجميع هذه التصحيفات إنما هو "أمازيغ"(3).
في مقابل ذلك؛ وإذا نظرنا إلى كلمة "أمازيغ" من منظور عربي، فنرى أن معظم القواميس العربية القديمة والحديثة لا تشير إلى هذه الكلمة، ولا إلى مشتقاتها مثل: مزغ أو أمزغ أو مازغ، والكلمة التي تذكرها المعاجم وتؤدي إلى نفس المفهوم تقريبا هي: مزر، أو أن الاسم الحقيقي للأمازيغ هو "مازر"، وجمعه أمازر والمزير يعني الشديد القلب، وهذا التغيير في حرف الغين إلى راء ربما يعود ذلك إلى مسألة التبادل بين الصوتين الغاء والراء(4).
أما فيما يتعلق بمصطلح البربر، فقد انتشرت منذ قديم الأزل وحتى اليوم مجموعة من القبائل البدوية الصحرواية تسمى "قبائل البربر" وقد أطلق الرومان عليها هذا الاسم العنصري الاستعلائي "برباروس"، (Barbarus)الذي كانت تطلقه على الشعوب الخارجة عن نطاق وسيطرة الحضارة الرومانية تحقيرا واستخفافا، وذلك لكون هذه القبائل استعصت على الحكم الروماني وقاومته بشراسة فلم تخضع له ولم تدخل في طاعته كباقي الأمم، وهو الاسم الذي ظل يلازمهم حتى اليوم، خاصة أن المسلمين الفاتحين انتقلوا به من المعنى الروماني السلبي إلى معنى أكثر إيجابية يرتبط بنطقهم للغة الأمازيغية التي يتحدثون بها والتي تحوي رطانة أعجمية غير مفهومة لدى العرب(5).
وكلمة البربر أو البرابرة أصلها لاتيني ويعني المتوحشين أو الهمجيين، ويظهر أن أول إطلاق له على السكان الأصليين لهذه المنطقة كان من قبل الرومان في غزواتهم المعروفة لبلدان حوض البحر الأبيض المتوسط فيقصدون بها سكان الشمال الأفريقي ممن لا ينتمون إلى حضارتهم، أما البربر أنفسهم فلم يستخدموا هذا الاسم للدلالة على جنسهم، بل كانوا يميزون أنفسهم بالقبيلة التي ينتمون إليها(6).
-أصول الأمازيغ أو البربر
يعيش الأمازيغ في شمال أفريقيا في المنطقة الممتدة من غرب مصر القديمة إلى جزر الكناري، ومن حدود جنوب البحر الأبيض المتوسط إلى أعماق الصحراء الكبرى في النيجر ومالي، ومع حلول الإسلام في أفريقيا استعرب الكثير منهم بتبنيهم اللغة العربية، باستثناء أمازيغ جزر الكناري فهم يتكلمون اللغة الإسبانية.
ويتحدث الأمازيغ لهجات تختلف من منطقة إلى أخرى. وينتشرون في دول لم تعترف كلها بحقوقهم، غير أنهم أصبحوا أكثر نشاطا في المطالبة بما يعتبرونه حقوقهم السياسية والثقافية(7).
علاوة على ذلك؛ فالبربر في الجزائر ينقسمون إلى عدة مجموعات منفصلة جغرافياً: القبائل في بلاد القبائل (شرق العاصمة)، الشاوية في منطقة الأوراس (جنوب شرق العاصمة)، المزاب (المجموعة الأمازيغية الوحيدة ذات المذهب الإباضي) في منطقة غرداية (500 كلم جنوب العاصمة)، الطوارق (أقصى جنوب البلاد)، الشناوة في منطقة شرشال (90 كلم غرب العاصمة)، وهناك مجموعة بربرية أخرى قرب مدينة ندرومة على الحدود مع المغرب، وتتميز لغتها أو لهجتها الأمازيغية بقربها الكبير من الشلحية وهم أمازيغية الشلوح (بربر) في المغرب(8).
2. المسألة الأمازيغية بين التحديات الداخلية والدور الفرنسي:
تنوعت الأسباب التي كانت وراء تأجيج وتصعيد المسألة الأمازيغية من ظروف البيئة الداخلية المتجسدة في تهميش وإقصاء القبائل فضلا عن دور القوى الإقليمية والدولية التي سعت ولا تزال تسعى على تحريك وتصعيد الأزمة، نتعرض لذلك فيما يلي:
يعتبر البحث في الأصول التاريخية للأمازيغ أو البربر أمرا صعبًا نظرا للاختلافات العديدة حول نسبهم، وهذا الاختلاف يمس تباين في التسمية وحتى في الأصول، بناءا على ذلك؛ سنتطرق للاختلاف في التسمية من أمازيغ وبربر، مرورا بأصلهم.
1. الأمازيغ أو البربر ... التسمية والأصول:
ذهبت المصادر الكلاسيكية القديمة من يونانية ولاتينية إلى أن اسم "أمازيغ" قديم جدا، وكان معروفا حتى في العهد الفينيقي، وورد بصيغ متعددة منها مازيس "Mazax" ، ونتيجة صعوبة نطق الكلمة واختلاف أصول الأصوات بين اللغات خاصة الإغريقية واللاتينية تغيرت الكلمة فأصبحت »أمازي «، مما جعل الكاتب الروماني "فيلينوس" يقول في هذا الموضوع: يتعذّر على حناجر البربر أن تستطيع النطق بأسماء قبائلهم ومدنهم(1)، كما نجد في الأخبار المتفرقة أن "مازيس" كان يطلق على شعب قوي أقلق الرومان كثيرا بثوراته، حيث تذكر بعض المصادر البيزنطية أنه كان أيضا يطلق على أهل أفريقية، وقد أشار إلى ذلك المؤرّخ شارل أندري جوليان الذي قال: "وقد أطلق الاسم على قبائل عديدة قبيل الاحتلال الروماني"(2).
انطلاقا من ذلك؛ فكلمة أمازيغ جمع لـ "إيمازيغنن" ومؤنثه "تمازيغت" وجمع المؤنث "تمازغيين" ويحمل هذا اللفظ في اللغة الأمازيغية معنى الإنسان الحر النبيل أو ابن البلد وصاحب الأرض، وتعني صيغة الفعل منه غزا أو أغار، ويجعلها بعضهم نسبة لأبيهم الأول "مازيغ"، وهذا ما ذهب إليه ابن خلدون في تحديد نسب الأمازيغ بقوله "والحق الذي لا ينبغي التعويل على غيره في شأنهم أنهم من ولد كنعان بن حام بن نوح وأن اسم أبيهم أمازيغ".
بيد أن؛ اللهجات ذات الأصول الأمازيغية تختلف في نطق هذا اللفظ فهو عند طوارق مالي "أيموهاغ" بقلب الزاى هاء، وعند طوارق منحنى نهر النيجر الغربي "إيموشاغ"، أما في أغاديس بالنيجر فينطقونه "إيماجيغن"، والمقصود بجميع هذه التصحيفات إنما هو "أمازيغ"(3).
في مقابل ذلك؛ وإذا نظرنا إلى كلمة "أمازيغ" من منظور عربي، فنرى أن معظم القواميس العربية القديمة والحديثة لا تشير إلى هذه الكلمة، ولا إلى مشتقاتها مثل: مزغ أو أمزغ أو مازغ، والكلمة التي تذكرها المعاجم وتؤدي إلى نفس المفهوم تقريبا هي: مزر، أو أن الاسم الحقيقي للأمازيغ هو "مازر"، وجمعه أمازر والمزير يعني الشديد القلب، وهذا التغيير في حرف الغين إلى راء ربما يعود ذلك إلى مسألة التبادل بين الصوتين الغاء والراء(4).
أما فيما يتعلق بمصطلح البربر، فقد انتشرت منذ قديم الأزل وحتى اليوم مجموعة من القبائل البدوية الصحرواية تسمى "قبائل البربر" وقد أطلق الرومان عليها هذا الاسم العنصري الاستعلائي "برباروس"، (Barbarus)الذي كانت تطلقه على الشعوب الخارجة عن نطاق وسيطرة الحضارة الرومانية تحقيرا واستخفافا، وذلك لكون هذه القبائل استعصت على الحكم الروماني وقاومته بشراسة فلم تخضع له ولم تدخل في طاعته كباقي الأمم، وهو الاسم الذي ظل يلازمهم حتى اليوم، خاصة أن المسلمين الفاتحين انتقلوا به من المعنى الروماني السلبي إلى معنى أكثر إيجابية يرتبط بنطقهم للغة الأمازيغية التي يتحدثون بها والتي تحوي رطانة أعجمية غير مفهومة لدى العرب(5).
وكلمة البربر أو البرابرة أصلها لاتيني ويعني المتوحشين أو الهمجيين، ويظهر أن أول إطلاق له على السكان الأصليين لهذه المنطقة كان من قبل الرومان في غزواتهم المعروفة لبلدان حوض البحر الأبيض المتوسط فيقصدون بها سكان الشمال الأفريقي ممن لا ينتمون إلى حضارتهم، أما البربر أنفسهم فلم يستخدموا هذا الاسم للدلالة على جنسهم، بل كانوا يميزون أنفسهم بالقبيلة التي ينتمون إليها(6).
-أصول الأمازيغ أو البربر
يعيش الأمازيغ في شمال أفريقيا في المنطقة الممتدة من غرب مصر القديمة إلى جزر الكناري، ومن حدود جنوب البحر الأبيض المتوسط إلى أعماق الصحراء الكبرى في النيجر ومالي، ومع حلول الإسلام في أفريقيا استعرب الكثير منهم بتبنيهم اللغة العربية، باستثناء أمازيغ جزر الكناري فهم يتكلمون اللغة الإسبانية.
ويتحدث الأمازيغ لهجات تختلف من منطقة إلى أخرى. وينتشرون في دول لم تعترف كلها بحقوقهم، غير أنهم أصبحوا أكثر نشاطا في المطالبة بما يعتبرونه حقوقهم السياسية والثقافية(7).
علاوة على ذلك؛ فالبربر في الجزائر ينقسمون إلى عدة مجموعات منفصلة جغرافياً: القبائل في بلاد القبائل (شرق العاصمة)، الشاوية في منطقة الأوراس (جنوب شرق العاصمة)، المزاب (المجموعة الأمازيغية الوحيدة ذات المذهب الإباضي) في منطقة غرداية (500 كلم جنوب العاصمة)، الطوارق (أقصى جنوب البلاد)، الشناوة في منطقة شرشال (90 كلم غرب العاصمة)، وهناك مجموعة بربرية أخرى قرب مدينة ندرومة على الحدود مع المغرب، وتتميز لغتها أو لهجتها الأمازيغية بقربها الكبير من الشلحية وهم أمازيغية الشلوح (بربر) في المغرب(8).
2. المسألة الأمازيغية بين التحديات الداخلية والدور الفرنسي:
تنوعت الأسباب التي كانت وراء تأجيج وتصعيد المسألة الأمازيغية من ظروف البيئة الداخلية المتجسدة في تهميش وإقصاء القبائل فضلا عن دور القوى الإقليمية والدولية التي سعت ولا تزال تسعى على تحريك وتصعيد الأزمة، نتعرض لذلك فيما يلي:
بذل الفرنسيون جهودًا ضخمة لتنصير البربر، إيمانا منهم بأن الإسلام هو عدوهم الأبدي، وأن مهمتهم بالتالي هي محاربة هذا الدين
أ-الأسباب الداخلية
ثمة عناصر إضافية تزيد الأبعاد الداخلية للأزمة تشعبا لعل أهمها الجانب الاقتصادي حيث يعيش 23 % من سكان الجزائر تحت مستوى الفقر بينما يستحوذ 20 % من مواطنيه الأغنياء على 50 % من الدخل القومي كما يبلغ عدد العاطلين من الشباب -الوقود الرئيسي لاحتجاجات القبائل- أكثر من ثلاثة ملايين ويسجل المراقبون مفارقة دالة فمع أن مناطق البربر لم تشهد تنمية اقتصادية في حجم تنمية المناطق الأخرى ورغم الأوضاع الاجتماعية الصعبة فيها والتي شكلت قاعدة لتحركات أبريل وما بعده فإن عناصر القبائل ظلت متنفذة في الدوائر الرسمية حتى أكثرها حساسية ويكفي أن نسجل في هذا السياق انتماء شخصيات نافذة لهم من أمثال رئيس هيئة الأركان محمد العماري وقائد إدارة المخابرات محمد مدين ومستشار وزير الدفاع محمد التواتي(9). إضافة لذلك فسياسات الحذف والتهميش جعلت الكثير من الأمازيغ يشعرون بأن الأمازيغية والحضور الأمازيغي الثقافي والاجتماعي والسياسي مستهدف، خصوصاً أن كثيراً من الدول ترفع شعارات العروبة والقومية.
ب-التيار القومي العربي:
النزعة الأمازيغية قد ظهرت في القرن 19م في نفس الوقت الذي برزت فيه الأفكار القومية في العالم أجمع، فإذا كانت القومية العربية في المشرق قد ظهرت في بداياتها الأولى على يد المسيحيين والمتأثرين بالفكر الأوروبي فإن النزعة الأمازيغية في الجزائر على عكس ذلك، حيث ظهرت في البداية في الزوايا على يد المتأثرين بالفكر الإسلامي وبرز ذلك في الدور الكبير الذي قامت به منطقة القبائل أثناء مقاومة "الأمير عبد القادر" للفرنسيين رغم أن المنطقة لم يهددها الاستعمار بعد، وأبلت الزوايا وبخاصة الرحمانية مننها البلاء الحسن في مواجهة الاستعمار الفرنسي بقيادة "لالة فاطمة نسومر" و"بوبغلة" ثم "مقراني" و"الشخ الحداد" أثناء انتفاضة 1871، ومن أهم نتائج هذه الانتفاضة تفكيك المجتمع القبائلي وإفراغه منن نخبه وعلمائه المسلمين الذين هجروا إلى "كاليدونيا" و"الشام" وسعى الاستعمار منذ ذلك على استبدال تلك النخب الدينية بنخب تكونت في مدارسه(10).
جـ-الدور الفرنسي
تعتبر منطقة القبائل من أكثر المناطق الجزائرية التي تعرضت للسياسة الفرنسية الهادفة إلى فرنسة وتمسيح الجزائريين، حيث تم إنشاء عدة مدارس فرنسية بهدف القضاء على المدارس القرآنية، وقد نقل "أجرون" عن المتصرف الإداري لجرجرة ما يلي: "إن هدفنا الحقيقي هو مكافحة شيوخ الزوايا Marabouts الذين يملكون سلاحين خطيرين ينشران بهما الدعاية المعادية لفرنسا هما اللغة العربية والتعليم القرآني"(11)، وكان هدفها هو إدماج القبائل وبأية وسيلة ممكنة في المجتمع الغربي وفصلهم عن باقي الجزائريين، وشهدت المنطقة أيضا حملة واسعة للتمسيح وبخاصة على يد الراهب اليسوعي "كروزا" وكذا الأسقف "الكاردينال لافيجري" CH.M.Lavigerie والأميرال "دوكيدون" الحاكم العام الكاثوليكي للجزائر(12).
فقد بذل الفرنسيون جهودا ضخمة لتنصير البربر(13)، إيمانا منهم بأن الإسلام هو عدوهم الأبدي، كما أشار أحد المستشرقين الفرنسيين أيامها، وأن مهمتهم بالتالي هي محاربة هذا الدين في كل صوره وأشكاله، كما تم تشجيع البربر على الهجرة إلى فرنسا، وهم لذلك يشكلون الأغلبية اليوم بين جزائريي فرنسا(14). وبالتوازي مع ذلك بدأ الكاردينال لافيجري بمحاربة اللغة العربية في الجزائر كونها لغة القرآن، ثم تلاه القس شارل دي فوكو الذي ألف لهذا الغرض "قاموسا بالأمازيغية " مترجما إلى الفرنسية، ثم اعتبرت اللغة العربية لغة أجنبية بقراري 1909 و1938(15).
على الرغم من استقلال الجزائر، واسترجعت سيادتها وشرعت في ترسيخ عناصر هويتها فإن فرنسا لم تستسلم، ففي سنة 1967 أوحت إلى ضابط سابق في الجيش الفرنسي وصيدلي ومغن وصحفي يحملون الجنسية الفرنسية، أن يؤسسوا الأكاديمية البربرية في باريس بمباركة وتمويل فرنسيين، وتنفيذ محلي، لتواصل مشروعها على لسانهم وتنفذه بأيديهم، ثم التحق بهم جزائريون آخرون منهم محند أعراب بسعود الذي صار رئيسا لها، تسعى هذه الأكاديمية القضاء على الأساس الأول للهوية الوطنية والمتمثل في اللغة العربية، من ثم القضاء على أهم عنصر في تحقيق الانسجام الثقافي الجزائري، والقضاء على الوحدة الوطنية للمجتمع الجزائري، وقطع الطريق أمام سياسة التعريب التي انتهجتها الجزائر بعد الاستقلال ومحاولة خلق حالة من الفوضى والتشويش على وحدة الولاء وذلك من خلال دعم لهجة واحدة (القبائلية) دون غيرها من اللهجات الأخرى وهي كثيرة في الجزائر ( الشاوية، الترقية، وغيرها...)(16). وقد وصف "سالم شاكر" المنتمين لهذه الأكاديمية بالتيار النشيط وأن مؤسيسها الرئيسيين هم مناضلين سياسيين ويصف بأن خطابها واضح لمعاداته للعروبة بشكل لاذع(17).
وفي فرنسا نشأت أيضا مؤسسات أخرى تتبنى الفكرة وتناضل من أجل الثقافة البربرية، ففي سنة 1973 انشق جماعة من الشبان عن الأكاديمية المذكورة، وأسسوا جماعة الدراسات البربرية في جامعة باريس، وقد اتهمهم يومها محند بسعود بالولاء للصين، وفي عام 1978 تكوَّن اتحاد الشعب الأمازيغي الذي نشر مجلة سياسية تحت عنوان "الرابطة"، وكان من أهم مطالبه معارضة التعريب، والاعتراف باللهجة القبائلية لغة رسمية للجزائر، ثم أسس مولود معمري عام 1982 مركز الدراسات والبحوث الأمازيغية بباريس ومجلة "أوال" الكلمة.
فضلا عن ذلك؛ فقد اعتمدت فرنسا على سياسة المساعدات في التأطير والتكوين، من خلال بعث الأطر الرسمية لضمان سير مختلف المرافق في فترة ما بعد الاستقلال خصوصا في إطار التعليم، وهو ما ساعد على تكوين الطلبة الجزائريين تكوينا فرنسيا من خلال البعثات والمنح العلمية(18).
ثانيا: واقع وتداعيات العنف الهوياتي على الجزائر
مرت القضية الأمازيغية بمراحل متعددة فكانت في البداية قضية ثقافية مدارها على اللغة، حيث طالب نشطاء الأمازيغ بتخليص لغتهم مما لحقها -في نظرهم- من تهميش وإقصاء أمام انتشار اللغة العربية منذ مجيء الإسلام إلى اليوم، ثم تطور المطلب ليصبح مطلبا سياسيا تتبناه جمعيات وتنظيمات. وقد تفاعلت هذه المطالب خلال السنوات العشرين الأخيرة من القرن الماضي وعبرت عن نفسها في مجالات جغرافية متعددة.
سياسياً تعود المسألة البربرية إلى الأربعينيات من القرن 20، إلى ما عرف بـ "الأزمة البربرية"، بعدما نشب صراع عام 1949 بين أعضاء من القبائل في حزب الشعب الجزائري/ حركة انتصار الحريات الديمقراطية وزعيمه مصالي الحاج. هذا الأخير اعتبر أن الأمة الجزائرية عربية وإسلامية، فرأى هؤلاء -ومنهم حسين آيت أحمد- في هذا استفزازاً وتجاهلا للتاريخ الجزائري ما قبل الإسلام وللهوية الأمازيغية، ونادوا بضرورة إدراج البعد البربري في تنظيم الدولة المستقلة المقبلة. وقد انتهت هذه الأزمة بإقصائهم من قيادة الحزب واستبدل بهم قيادات قبائلية ليست من دعاة الأمازيغية.
خففت الثورة الجزائرية من تلك الخلافات، لكن المسألة بقيت عالقة، فبعد الاستقلال دأبت السلطة على فرض روايتها الرسمية للتاريخ ومعاييرها في تحديد الهوية الوطنية وإقصاء اللغة والثقافة الأمازيغيتين من قاموسها السياسي، إذ رفض أحمد بن بله هذه المسألة مؤكداً على عروبة الجزائر.
ومع بداية أولى مراحل التعريب في الجزائر (إدخال العربية لغة وطنية بعدما كان الاستعمار الفرنسي قد أعلنها لغة أجنبية في الجزائر عام 1936) في عهد بومدين، بدأت أولى المواجهات بين دعاة الأمازيغية (من الفرنكفونيين) والسلطة حول المسألة اللغوية. وأصبحت فرنسا مركزاً للتعبير عن المطلب الأمازيغي حيث أنشئت في نهاية الستينيات بباريس الأكاديمية البربرية(19).
ثمة عناصر إضافية تزيد الأبعاد الداخلية للأزمة تشعبا لعل أهمها الجانب الاقتصادي حيث يعيش 23 % من سكان الجزائر تحت مستوى الفقر بينما يستحوذ 20 % من مواطنيه الأغنياء على 50 % من الدخل القومي كما يبلغ عدد العاطلين من الشباب -الوقود الرئيسي لاحتجاجات القبائل- أكثر من ثلاثة ملايين ويسجل المراقبون مفارقة دالة فمع أن مناطق البربر لم تشهد تنمية اقتصادية في حجم تنمية المناطق الأخرى ورغم الأوضاع الاجتماعية الصعبة فيها والتي شكلت قاعدة لتحركات أبريل وما بعده فإن عناصر القبائل ظلت متنفذة في الدوائر الرسمية حتى أكثرها حساسية ويكفي أن نسجل في هذا السياق انتماء شخصيات نافذة لهم من أمثال رئيس هيئة الأركان محمد العماري وقائد إدارة المخابرات محمد مدين ومستشار وزير الدفاع محمد التواتي(9). إضافة لذلك فسياسات الحذف والتهميش جعلت الكثير من الأمازيغ يشعرون بأن الأمازيغية والحضور الأمازيغي الثقافي والاجتماعي والسياسي مستهدف، خصوصاً أن كثيراً من الدول ترفع شعارات العروبة والقومية.
ب-التيار القومي العربي:
النزعة الأمازيغية قد ظهرت في القرن 19م في نفس الوقت الذي برزت فيه الأفكار القومية في العالم أجمع، فإذا كانت القومية العربية في المشرق قد ظهرت في بداياتها الأولى على يد المسيحيين والمتأثرين بالفكر الأوروبي فإن النزعة الأمازيغية في الجزائر على عكس ذلك، حيث ظهرت في البداية في الزوايا على يد المتأثرين بالفكر الإسلامي وبرز ذلك في الدور الكبير الذي قامت به منطقة القبائل أثناء مقاومة "الأمير عبد القادر" للفرنسيين رغم أن المنطقة لم يهددها الاستعمار بعد، وأبلت الزوايا وبخاصة الرحمانية مننها البلاء الحسن في مواجهة الاستعمار الفرنسي بقيادة "لالة فاطمة نسومر" و"بوبغلة" ثم "مقراني" و"الشخ الحداد" أثناء انتفاضة 1871، ومن أهم نتائج هذه الانتفاضة تفكيك المجتمع القبائلي وإفراغه منن نخبه وعلمائه المسلمين الذين هجروا إلى "كاليدونيا" و"الشام" وسعى الاستعمار منذ ذلك على استبدال تلك النخب الدينية بنخب تكونت في مدارسه(10).
جـ-الدور الفرنسي
تعتبر منطقة القبائل من أكثر المناطق الجزائرية التي تعرضت للسياسة الفرنسية الهادفة إلى فرنسة وتمسيح الجزائريين، حيث تم إنشاء عدة مدارس فرنسية بهدف القضاء على المدارس القرآنية، وقد نقل "أجرون" عن المتصرف الإداري لجرجرة ما يلي: "إن هدفنا الحقيقي هو مكافحة شيوخ الزوايا Marabouts الذين يملكون سلاحين خطيرين ينشران بهما الدعاية المعادية لفرنسا هما اللغة العربية والتعليم القرآني"(11)، وكان هدفها هو إدماج القبائل وبأية وسيلة ممكنة في المجتمع الغربي وفصلهم عن باقي الجزائريين، وشهدت المنطقة أيضا حملة واسعة للتمسيح وبخاصة على يد الراهب اليسوعي "كروزا" وكذا الأسقف "الكاردينال لافيجري" CH.M.Lavigerie والأميرال "دوكيدون" الحاكم العام الكاثوليكي للجزائر(12).
فقد بذل الفرنسيون جهودا ضخمة لتنصير البربر(13)، إيمانا منهم بأن الإسلام هو عدوهم الأبدي، كما أشار أحد المستشرقين الفرنسيين أيامها، وأن مهمتهم بالتالي هي محاربة هذا الدين في كل صوره وأشكاله، كما تم تشجيع البربر على الهجرة إلى فرنسا، وهم لذلك يشكلون الأغلبية اليوم بين جزائريي فرنسا(14). وبالتوازي مع ذلك بدأ الكاردينال لافيجري بمحاربة اللغة العربية في الجزائر كونها لغة القرآن، ثم تلاه القس شارل دي فوكو الذي ألف لهذا الغرض "قاموسا بالأمازيغية " مترجما إلى الفرنسية، ثم اعتبرت اللغة العربية لغة أجنبية بقراري 1909 و1938(15).
على الرغم من استقلال الجزائر، واسترجعت سيادتها وشرعت في ترسيخ عناصر هويتها فإن فرنسا لم تستسلم، ففي سنة 1967 أوحت إلى ضابط سابق في الجيش الفرنسي وصيدلي ومغن وصحفي يحملون الجنسية الفرنسية، أن يؤسسوا الأكاديمية البربرية في باريس بمباركة وتمويل فرنسيين، وتنفيذ محلي، لتواصل مشروعها على لسانهم وتنفذه بأيديهم، ثم التحق بهم جزائريون آخرون منهم محند أعراب بسعود الذي صار رئيسا لها، تسعى هذه الأكاديمية القضاء على الأساس الأول للهوية الوطنية والمتمثل في اللغة العربية، من ثم القضاء على أهم عنصر في تحقيق الانسجام الثقافي الجزائري، والقضاء على الوحدة الوطنية للمجتمع الجزائري، وقطع الطريق أمام سياسة التعريب التي انتهجتها الجزائر بعد الاستقلال ومحاولة خلق حالة من الفوضى والتشويش على وحدة الولاء وذلك من خلال دعم لهجة واحدة (القبائلية) دون غيرها من اللهجات الأخرى وهي كثيرة في الجزائر ( الشاوية، الترقية، وغيرها...)(16). وقد وصف "سالم شاكر" المنتمين لهذه الأكاديمية بالتيار النشيط وأن مؤسيسها الرئيسيين هم مناضلين سياسيين ويصف بأن خطابها واضح لمعاداته للعروبة بشكل لاذع(17).
وفي فرنسا نشأت أيضا مؤسسات أخرى تتبنى الفكرة وتناضل من أجل الثقافة البربرية، ففي سنة 1973 انشق جماعة من الشبان عن الأكاديمية المذكورة، وأسسوا جماعة الدراسات البربرية في جامعة باريس، وقد اتهمهم يومها محند بسعود بالولاء للصين، وفي عام 1978 تكوَّن اتحاد الشعب الأمازيغي الذي نشر مجلة سياسية تحت عنوان "الرابطة"، وكان من أهم مطالبه معارضة التعريب، والاعتراف باللهجة القبائلية لغة رسمية للجزائر، ثم أسس مولود معمري عام 1982 مركز الدراسات والبحوث الأمازيغية بباريس ومجلة "أوال" الكلمة.
فضلا عن ذلك؛ فقد اعتمدت فرنسا على سياسة المساعدات في التأطير والتكوين، من خلال بعث الأطر الرسمية لضمان سير مختلف المرافق في فترة ما بعد الاستقلال خصوصا في إطار التعليم، وهو ما ساعد على تكوين الطلبة الجزائريين تكوينا فرنسيا من خلال البعثات والمنح العلمية(18).
ثانيا: واقع وتداعيات العنف الهوياتي على الجزائر
مرت القضية الأمازيغية بمراحل متعددة فكانت في البداية قضية ثقافية مدارها على اللغة، حيث طالب نشطاء الأمازيغ بتخليص لغتهم مما لحقها -في نظرهم- من تهميش وإقصاء أمام انتشار اللغة العربية منذ مجيء الإسلام إلى اليوم، ثم تطور المطلب ليصبح مطلبا سياسيا تتبناه جمعيات وتنظيمات. وقد تفاعلت هذه المطالب خلال السنوات العشرين الأخيرة من القرن الماضي وعبرت عن نفسها في مجالات جغرافية متعددة.
سياسياً تعود المسألة البربرية إلى الأربعينيات من القرن 20، إلى ما عرف بـ "الأزمة البربرية"، بعدما نشب صراع عام 1949 بين أعضاء من القبائل في حزب الشعب الجزائري/ حركة انتصار الحريات الديمقراطية وزعيمه مصالي الحاج. هذا الأخير اعتبر أن الأمة الجزائرية عربية وإسلامية، فرأى هؤلاء -ومنهم حسين آيت أحمد- في هذا استفزازاً وتجاهلا للتاريخ الجزائري ما قبل الإسلام وللهوية الأمازيغية، ونادوا بضرورة إدراج البعد البربري في تنظيم الدولة المستقلة المقبلة. وقد انتهت هذه الأزمة بإقصائهم من قيادة الحزب واستبدل بهم قيادات قبائلية ليست من دعاة الأمازيغية.
خففت الثورة الجزائرية من تلك الخلافات، لكن المسألة بقيت عالقة، فبعد الاستقلال دأبت السلطة على فرض روايتها الرسمية للتاريخ ومعاييرها في تحديد الهوية الوطنية وإقصاء اللغة والثقافة الأمازيغيتين من قاموسها السياسي، إذ رفض أحمد بن بله هذه المسألة مؤكداً على عروبة الجزائر.
ومع بداية أولى مراحل التعريب في الجزائر (إدخال العربية لغة وطنية بعدما كان الاستعمار الفرنسي قد أعلنها لغة أجنبية في الجزائر عام 1936) في عهد بومدين، بدأت أولى المواجهات بين دعاة الأمازيغية (من الفرنكفونيين) والسلطة حول المسألة اللغوية. وأصبحت فرنسا مركزاً للتعبير عن المطلب الأمازيغي حيث أنشئت في نهاية الستينيات بباريس الأكاديمية البربرية(19).
أحمد بن بلة، في 5 يوليو 1963 أن “التعريب ضروري… ولا اشتراكية بدون تعريب ولا مستقبل لهذا البلد إلا في العروبة
تتواصل الأحداث، ففي عام 1980 أخذ المطلب الأمازيغي بعداً مميزاً وعلنياً
في شكل حركة احتجاجية في القبائل. وكان السبب المباشر في اندلاع أحداث
الربيع الأمازيغي "البربري" مظاهرات طلابية في جامعة تيزي وزو ثم شعبية وفي
باقي كبرى المدن القبائلية قمعتها قوى الأمن) في 20 أبريل/نيسان 1980 هو
منع السلطات الكاتب مولود معمري(20) (منظر الأمازيغية) إلقاء محاضرة في
جامعة تيزي وزو حول "الشعر القبائلي القديم" وحفل موسيقي لفرقة أمازيغن
إيمولا، واجهتها سلطة الجزائر بالعنف والقمع. وكانت تلك الشرارة تطورا ألقى
بظلاله على ملف العلاقة مع الأمازيغ وأصبحت ذكرى هذه الأحداث تعرف بـ
"الربيع الأمازيغي"، ودرج نشطاء الحركة الثقافية الأمازيغية على إحيائها في
أواخر أبريل/ نيسان من كل عام(21).
والملاحظ أن هذه الأحداث جاءت بعد 17 شهرا فقط من وفاة الرئيس هواري بومدين، الذي كان يمسك بشكل مركز على نظام الحكم، ولعل الانفتاح الطفيف والتغييرات التي أحدثها الرئيس الشاذلي بن جديد بعد تسلمه السلطة نهاية عام 1979 سمحت لنشطاء القضية الأمازيغية باستغلال حادث منع الكاتب مولود معمري من إلقاء محاضرته، لتحويل القضية الأمازيغية للمرة الأولى إلى الشارع، لكن هذه الأحداث التي كانت ذات أبعاد ثقافية. لم تكن ذات أبعاد إيديولوجية وسياسية، على اعتبار أن المطلب كان يرتبط بالاعتراف باللغة والثقافة الأمازيغية كجزء من الهوية الوطنية، إلا أنه لم يكن ذا علاقة بالمطالب السياسية المرتبطة بالتعددية السياسية والحريات وحرية التعبير وغيرها، لكون هذه المطالب لم تكن قد نضجت بعد. وفي الوقت نفسه، أظهرت أحداث الربيع الأمازيغي أن الحركة البربرية كانت أكثر نشاطا وتنظيما، مستفيدة من جملة من العوامل تتعلق بالحراك المدني وحركة التنقل الكبيرة للكوادر البربرية إلى الخارج(22).
ومع تصاعد الموجة الإرهابية انتهز النشطاء البربر ضعف السلطة لتحقيق مآربهم، حيث شهدت منطقة القبائل إضرابا مدرسيا عام 1994-1995 احتجاجا أيضا على قانون تعميم استخدام اللغة العربية، الذي أطلق عليه "مقاطعة المحفظة"، تم إنهاؤه بموجب اتفاق أبريل/ نيسان 1995 بين السلطة (كان أحمد أويحيى أحد أعضاء وفدها) والحركة الثقافية البربرية(23)، استمر النضال الامازيغي في الجزائر رغم القمع والتقتيل والتهميش، نتج عن ذلك اغتيال المغني الامازيغي معطوب لوناس يوم25 يونيو/حزيران 1998، المعروف بمواقفه المعادية للسلطة والمدافعة عن المطلب الأمازيغي.
تلا ذلك؛ أحداث الربيع الأسود في أبريل/ نيسان 2001 لتشكل المحطة التاريخية الرابعة لهذا المطلب الأمازيغي، حيث أشعلت وفاة طالب ثانوي "ماسينيسا قرباح" يوم 18 أبريل/نيسان من نفس السنة، في مقر الدرك الوطني فتيل الأزمة التي لم تهدأ بعد، فانطلقت في بلدة بني دوالة في ولاية تيزي وزو شرق الجزائر العاصمة بعد اعتقاله عندما كان يتظاهر هو وغيره احتفالا بذكرى الربيع البربري الذي يحتفل به سنويا، وهكذا انطلقت شرارة الأحداث (مظاهرات وقمع للمتظاهرين وتخريب وتدمير المرافق العمومية وكل ما يرمز إلى الدولة) فتوسعت لتعم كل أنحاء منطقة القبائل وليرتفع عدد ضحاياها إلى 123 قتيلا ومئات الجرحى، استمرت حتى أكتوبر/ تشرين الأول(24).
أدت تلك الأحداث إلى انسحاب حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية RCD الحزب الثاني في منطقة القبائل ذي القاعدة الشعبية الأمازيغية من الحكومة في مايو/أيار 2001، كما كان من نتائجها تشكيل تنظيم شعبي جديد عرف باسم "تنسيقية العروش" الذي يضم أبرز العائلات في منطقة القبائل وممثلين عن الفعاليات البربرية المختلفة خاصة منظمات المجتمع المدني، إذْ تولت قيادة حركة الاحتجاج ولتبلور لائحة مطالب عرفت بـ "أرضية القصر" التي أعلنت عنها في يونيو/ حزيران 2001 في مدينة القصر بولاية بجاية، وهي عريضة من 15 مطلبا، أهمها إخلاء الدرك لمنطقة القبائل، ومعاقبة الدركيين المتسببين في الأحداث، وتلبية المطلب الأمازيغي بكل أبعاده الهوياتية والحضارية واللغوية والثقافية دون استفتاء ودون شروط، ومطالب أخرى اجتماعية كتعويض أهل الضحايا(25)، وقد تمكنت من تحقيق بعضها، حيث قرر الرئيس بوتفليقة في مارس/آذار 2002 ترسيم الأمازيغية لغة وطنية (وليست رسمية كما يطالب القبائل).
حاول حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية(26) بقيادة سعيد سعدي وحزب القوى الاشتراكية(27) بزعامة حسين آيت أحمد مسايرة الأحداث -خاصة حزب سعدي الذي انسحب من الائتلاف الرئاسي- سعيا لاسترجاع نفوذهما السياسي، لكن العروش أصبحت فاعلا مستقلا يتحرك على حسابهما ويتفاوض مباشرة مع السلطة. ونجحت تنسيقية العروش حيث فشل الحزبان الأكثر نفوذا، لأن العروش محلية المنشأ والهموم. وبينما حاول الحزبان التأكيد على بعدهما الوطني للتخلص من صفة العرقية والجهوية، استغلت السلطة الطبيعة الجهوية للحركة لعزلها(28)
ثم توالت الأحداث؛ مسيرات ومناقشات ودخلت جميع الأحزاب على الخط مختارة أو مضطرة، وكان البرلمان على موعد مع جلسة مناقشة أيام 26 – 28 مايو/ أيار 2001 شاركت فيها الأحزاب السياسية المختلفة باستثناء جبهة القوى الاشتراكية. وكان شهر سبتمبر/ أيلول الماضي المناسبة التي دعا فيها الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة الأمازيغ من خلال "العروش" إلى تسليم عريضة مطالب، أما في 3 أكتوبر/تشرين الأول دعا الوزير الأول علي بن فليس ممثلي "العروش" ليؤكد لهم الموافقة على أربعة مطالب من أصل 12 مطلبا(29).
إلى أن توقفت الاحتجاجات والتظاهرات العنيفة واستبدلت بمظاهرات ومسيرات سلمية تحتفل سنويا بذكرى الربيع البربري، وعليه فقد نظمت حركة الحكم الذاتي(30) مسيرة بمدينة تيزي وزو، شارك فيها الآلاف من المواطنين الذين قدموا من مختلف أرجاء ولاية تيزي وزو والولايات المجاورة على غرار البويرة، بجاية، بومرداس والعاصمة.
ثالثا: آليات مواجهة العنف الأمازيغي من طرف السلطات الجزائرية
بعد حصول الجزائر على استقلالها كان التعريب إحدى المهام العاجلة للدولة المستقلة، تجلى ذلك في خطاب الرئيس السابق أحمد بن بلة بتاريخ 5 يوليو 1963 أن “التعريب ضروري… ولا اشتراكية بدون تعريب ولا مستقبل لهذا البلد إلا في العروبة”، وهذا ما رسخته القوانين الأساسية: ميثاق الجزائر 1964، الميثاق الوطني سنة 1976، دستور 1989 الذي ينص في المادتين 2، 3 أنّ الإسلام دين الدولة، والعربية هي اللغة الوطنية والرسمية، فالإسلام والعروبة ثابتين أساسيين متلازمين وغير قابلين للنقاش، فأعطى اللغة العربية مكانة الصدارة، وتم تشكيل اللجنة الوطنية للتعريب تحت وصاية جبهة التحرير الوطني، كما ألغى كرسي الأمازيغية بجامعة الجزائر، وهو ما كان وراء بروز تجمعات فكرية وثقافية ومهنية عديدة خارج وداخل الجزائر كرد فعل، والتي رفضت طمس هويتها ومميزاتها اللغوية والحضارية أو التقليل منها.
والملاحظ أن هذه الأحداث جاءت بعد 17 شهرا فقط من وفاة الرئيس هواري بومدين، الذي كان يمسك بشكل مركز على نظام الحكم، ولعل الانفتاح الطفيف والتغييرات التي أحدثها الرئيس الشاذلي بن جديد بعد تسلمه السلطة نهاية عام 1979 سمحت لنشطاء القضية الأمازيغية باستغلال حادث منع الكاتب مولود معمري من إلقاء محاضرته، لتحويل القضية الأمازيغية للمرة الأولى إلى الشارع، لكن هذه الأحداث التي كانت ذات أبعاد ثقافية. لم تكن ذات أبعاد إيديولوجية وسياسية، على اعتبار أن المطلب كان يرتبط بالاعتراف باللغة والثقافة الأمازيغية كجزء من الهوية الوطنية، إلا أنه لم يكن ذا علاقة بالمطالب السياسية المرتبطة بالتعددية السياسية والحريات وحرية التعبير وغيرها، لكون هذه المطالب لم تكن قد نضجت بعد. وفي الوقت نفسه، أظهرت أحداث الربيع الأمازيغي أن الحركة البربرية كانت أكثر نشاطا وتنظيما، مستفيدة من جملة من العوامل تتعلق بالحراك المدني وحركة التنقل الكبيرة للكوادر البربرية إلى الخارج(22).
ومع تصاعد الموجة الإرهابية انتهز النشطاء البربر ضعف السلطة لتحقيق مآربهم، حيث شهدت منطقة القبائل إضرابا مدرسيا عام 1994-1995 احتجاجا أيضا على قانون تعميم استخدام اللغة العربية، الذي أطلق عليه "مقاطعة المحفظة"، تم إنهاؤه بموجب اتفاق أبريل/ نيسان 1995 بين السلطة (كان أحمد أويحيى أحد أعضاء وفدها) والحركة الثقافية البربرية(23)، استمر النضال الامازيغي في الجزائر رغم القمع والتقتيل والتهميش، نتج عن ذلك اغتيال المغني الامازيغي معطوب لوناس يوم25 يونيو/حزيران 1998، المعروف بمواقفه المعادية للسلطة والمدافعة عن المطلب الأمازيغي.
تلا ذلك؛ أحداث الربيع الأسود في أبريل/ نيسان 2001 لتشكل المحطة التاريخية الرابعة لهذا المطلب الأمازيغي، حيث أشعلت وفاة طالب ثانوي "ماسينيسا قرباح" يوم 18 أبريل/نيسان من نفس السنة، في مقر الدرك الوطني فتيل الأزمة التي لم تهدأ بعد، فانطلقت في بلدة بني دوالة في ولاية تيزي وزو شرق الجزائر العاصمة بعد اعتقاله عندما كان يتظاهر هو وغيره احتفالا بذكرى الربيع البربري الذي يحتفل به سنويا، وهكذا انطلقت شرارة الأحداث (مظاهرات وقمع للمتظاهرين وتخريب وتدمير المرافق العمومية وكل ما يرمز إلى الدولة) فتوسعت لتعم كل أنحاء منطقة القبائل وليرتفع عدد ضحاياها إلى 123 قتيلا ومئات الجرحى، استمرت حتى أكتوبر/ تشرين الأول(24).
أدت تلك الأحداث إلى انسحاب حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية RCD الحزب الثاني في منطقة القبائل ذي القاعدة الشعبية الأمازيغية من الحكومة في مايو/أيار 2001، كما كان من نتائجها تشكيل تنظيم شعبي جديد عرف باسم "تنسيقية العروش" الذي يضم أبرز العائلات في منطقة القبائل وممثلين عن الفعاليات البربرية المختلفة خاصة منظمات المجتمع المدني، إذْ تولت قيادة حركة الاحتجاج ولتبلور لائحة مطالب عرفت بـ "أرضية القصر" التي أعلنت عنها في يونيو/ حزيران 2001 في مدينة القصر بولاية بجاية، وهي عريضة من 15 مطلبا، أهمها إخلاء الدرك لمنطقة القبائل، ومعاقبة الدركيين المتسببين في الأحداث، وتلبية المطلب الأمازيغي بكل أبعاده الهوياتية والحضارية واللغوية والثقافية دون استفتاء ودون شروط، ومطالب أخرى اجتماعية كتعويض أهل الضحايا(25)، وقد تمكنت من تحقيق بعضها، حيث قرر الرئيس بوتفليقة في مارس/آذار 2002 ترسيم الأمازيغية لغة وطنية (وليست رسمية كما يطالب القبائل).
حاول حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية(26) بقيادة سعيد سعدي وحزب القوى الاشتراكية(27) بزعامة حسين آيت أحمد مسايرة الأحداث -خاصة حزب سعدي الذي انسحب من الائتلاف الرئاسي- سعيا لاسترجاع نفوذهما السياسي، لكن العروش أصبحت فاعلا مستقلا يتحرك على حسابهما ويتفاوض مباشرة مع السلطة. ونجحت تنسيقية العروش حيث فشل الحزبان الأكثر نفوذا، لأن العروش محلية المنشأ والهموم. وبينما حاول الحزبان التأكيد على بعدهما الوطني للتخلص من صفة العرقية والجهوية، استغلت السلطة الطبيعة الجهوية للحركة لعزلها(28)
ثم توالت الأحداث؛ مسيرات ومناقشات ودخلت جميع الأحزاب على الخط مختارة أو مضطرة، وكان البرلمان على موعد مع جلسة مناقشة أيام 26 – 28 مايو/ أيار 2001 شاركت فيها الأحزاب السياسية المختلفة باستثناء جبهة القوى الاشتراكية. وكان شهر سبتمبر/ أيلول الماضي المناسبة التي دعا فيها الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة الأمازيغ من خلال "العروش" إلى تسليم عريضة مطالب، أما في 3 أكتوبر/تشرين الأول دعا الوزير الأول علي بن فليس ممثلي "العروش" ليؤكد لهم الموافقة على أربعة مطالب من أصل 12 مطلبا(29).
إلى أن توقفت الاحتجاجات والتظاهرات العنيفة واستبدلت بمظاهرات ومسيرات سلمية تحتفل سنويا بذكرى الربيع البربري، وعليه فقد نظمت حركة الحكم الذاتي(30) مسيرة بمدينة تيزي وزو، شارك فيها الآلاف من المواطنين الذين قدموا من مختلف أرجاء ولاية تيزي وزو والولايات المجاورة على غرار البويرة، بجاية، بومرداس والعاصمة.
ثالثا: آليات مواجهة العنف الأمازيغي من طرف السلطات الجزائرية
بعد حصول الجزائر على استقلالها كان التعريب إحدى المهام العاجلة للدولة المستقلة، تجلى ذلك في خطاب الرئيس السابق أحمد بن بلة بتاريخ 5 يوليو 1963 أن “التعريب ضروري… ولا اشتراكية بدون تعريب ولا مستقبل لهذا البلد إلا في العروبة”، وهذا ما رسخته القوانين الأساسية: ميثاق الجزائر 1964، الميثاق الوطني سنة 1976، دستور 1989 الذي ينص في المادتين 2، 3 أنّ الإسلام دين الدولة، والعربية هي اللغة الوطنية والرسمية، فالإسلام والعروبة ثابتين أساسيين متلازمين وغير قابلين للنقاش، فأعطى اللغة العربية مكانة الصدارة، وتم تشكيل اللجنة الوطنية للتعريب تحت وصاية جبهة التحرير الوطني، كما ألغى كرسي الأمازيغية بجامعة الجزائر، وهو ما كان وراء بروز تجمعات فكرية وثقافية ومهنية عديدة خارج وداخل الجزائر كرد فعل، والتي رفضت طمس هويتها ومميزاتها اللغوية والحضارية أو التقليل منها.
قام الأمازيغيون بانتهاج سياسة قضت بإبراز هويتهم القومية واللغوية عبر تنظيم عدد من التظاهرات وكان الهدف منها خلق وعي حقيقي بأزمة الهوية البربرية
انطلاقا من ذلك؛ قام الأمازيغيون بانتهاج سياسة قضت بإبراز هويتهم القومية وخصوصياتهم الأدبية واللغوية عبر تنظيم عدد من التظاهرات والأنشطة المختلفة وكان الهدف منها خلق وعي حقيقي بأزمة الهوية البربرية، واتسمت تلك الأنشطة بمعاداتها للسلطة المحلية المركزية(31).
على أي؛ فإن سياسة التعريب وضعت خطوطها بوضوح في فترة حكم بن بلة كأداة للقضاء على الخصوصية الأمازيغية التي كان ينظر إليها كخطر محدق بالأمة. ففي 1983 لا زال بن بلة يعبّر عن إرتياحه تجاه التقدم الحاصل في تعريب القبائل، في حين أن التعريب عند قادة آخرين كان موجها أساسا ضد الوضع المهيمن للغة الفرنسية. وعليه فإن؛ الهدف النهائي لابن بلة كان يتمثل في "الوحدة العربية"، فعمل على إعادة الانتماء العربي للجزائر وعروبتها.
أما ولاية الرئيس السابق هواري بومدين (1965-1978) فقد شهدت إسراعا بعملية التعريب، إذْ وقع مرسوما يوم 26 أبريل/نسيان 1968 يلزم كل الموظفين الجزائريين بأن يكونوا على "معرفة كافية باللغة الوطنية العربية عند توظيفهم، كما أن في سنة 1971 بدأت اللغة العربية تأخذ الطابع الرسمي في الجزائر، فقد أصدرت الدولة قرارا بأن تكون كافة الرسائل الرسمية السياسية والاقتصادية والثقافية، وكذلك الاتصالات والمباحثات باللغة العربية، وإن اللغة العربية هي الرسمية في كل المعاملات، وتم تعريب أسماء المدن الأمازيغية، كما منعت السلطات الجزائرية في ما بين عامي 1974 و1975 التسمي بأسماء غير عربية(32)0
ومع توسع ظاهرة الإرهاب في التسعينيات، ازدادت موجة الاحتجاجات من قبل القبائل، فهدأ الرئيس اليمين زروال الوضع بإدخال اللغة الأمازيغية في التعليم بفتح قسمين للغة الأمازيغية بجامعتي تيزي وزو وبجاية عام 1990، كما أنشأ "المحافظة السامية للأمازيغية"(33). من جهة أخرى تم إحداث نشرات إخبارية في التلفزيون باللغات الأمازيغية الرئيسية: القبائلية والشاوية والمزابية، كما قام زروال بإضافة البعد الأمازيغي باعتباره أحد المقومات الأساسية للهوية الجزائرية إلى جانب الإسلام والعروبة، وأدرجه في الدستور (تعديل نوفمبر/ تشرين الثاني 1996).
هذه الإنجازات التي قام بها الرئيس "زروال" هدأت الوضع لسنوات إلا أنها تتكرر دائما، ففي 2001 تكررت نفس المواجهات أدت مرة أخرى إلى بروز القضية وتفاقمها ما سمي بأحداث الربيع الأسود، التزمت السلطة الصمت حيال الأحداث ثم قررت الحوار مع العروش، حيث كلف الرئيس عبد العزيز بوتفليقة رئيس الحكومة علي بن فليس بفتح حوار مع ممثلي تنسيقية العروش للتفاوض حول لائحة القصر. وقد استاءت الأحزاب السياسية من هذه المبادرة ورأت فيها تجاهلاً لها، أما العروش فانقسمت إلى طرفين، الطرف الأول وهم الذين قادوا حوارا مع السلطة وتزعمهم شاب يدعى سليم عليلوش، أما الثاني وهم الذين استمروا في معارضتهم للسلطة وتزعمهم بلعيد أبريكا(34)0 وقد توج هذا الحوار باستجابة السلطة لأبرز مطالب لائحة القصر، حيث تم الاعتراف رسميا باللغة الأمازيغية كلغة وطنية دون مساواتها بالعربية أوائل عام 2002 بمبادرة من الرئيس بوتفليقة وبموافقة برلمانية، هذا الأخير أقر تعديلا دستوريا في 10 أبريل/ نيسان(35).
خلاصة القول؛ يعد قرار بوتفليقة إقرار الأمازيغية لغة وطنية نقلة نوعية في تعامل السلطة مع المطلب الأمازيغي، ويدخل هذا القرار في سياق تطور سياسي شامل.
خاتمة
في ضوء ما تم تناوله في هذه الدراسة، يمكن الإشارة إلى عدد من النقاط الأساسية كالتالي:
أولا؛ المسألة الأمازيغية اليوم من نتاج التسلطية السياسية والهوياتية في البلدان المغاربية، ولو أن الأنظمة الحاكمة اعترفت غداة الاستقلال بالأمازيغية كأحد مقومات هوية شعوبها، لما أخذت المسألة الحجم الحالي، ثم إن رفضها للمطلب الأمازيغي بالتعبير عن نفسه جعله ينتقل إلى المهجر، حيث تشكل فرنسا بحكم التاريخ مركز ثقل هذه المسألة.
ثانيا؛ عرفت القضية البربرية في الجزائر العديد من المحطات وشهدت الكثير من التجاذبات، وانتهت إلى دسترة الأمازيغية كلغة وطنية فأعيد بذلك للهوية الأمازيغية بعدها الوطني في الدستور، مما ساهم بشكل كبير في نزع فتيل تأزيم المطلب من جهة وتطبيع الأوضاع وانعتاق المنطقة من رواسب الماضي ودخولها من جهة أخرى تقويم التنمية الجديد والتسابق نحو المستقبل على غرار باقي ولايات الوطن.
ختاما؛ وبناءا على كل ما سبق يمكن القول أن أزمة الهوية هي مصدر جميع الأزمات، وتشكل هذه الأزمة أحد النقاط السوداء بالنسبة لأي دولة، وتفرض عليها مواجهتها عن طريق وضع حلول فعالة وناجعة، وليس مجرد إعطاء مسكنات قد تخمدها في حينها، لكنها تشكل فيما بعد أساسا تقام عليه العديد من الثورات، الأزمات والاحتجاجات. وعليه؛ لابد من الدولة الجزائرية أن تجد حلولا ناجعة لمثل هذه الأزمات، تكون من الجذور، وليس مجرد رفع شعارات وسد الطريق أمام ثقافة العنف والتسلط، وهذا من خلال تفعيل آليات المشاركة السياسية، وتحقيق الهوية، وإعطائها هامشا وقيمة تستحقه، وفي هذا الصدد يقول الدكتور برهان غليون: "إن الإبحار في مياه الأزمة لا يحتاج إلى المتشائمين الذين يشكون من ريحها، ولا إلى المتفائلين الذين ينتظرون تغيّرها، بل إلى العاملين الذين يضبطون أشرعتها ثم يتوكلون". وعلى هذا الأساس؛ فإنه ينبغي الحفاظ على هوية مجتمعنا الجزائري ومجابهة التمزق الهوياتي عن طريق تفعيل أداء الأطراف الفاعلة والمؤثرة على ذلك وهذا في سبيل الوصول إلى تحقيق الحكم الراشد.
*باحث علوم سياسية
قائمة المصادر والمراجع
1. لحسن سرياك، الجزائر في أصول البشرية ثلاثون قرنا من التاريخ " الهوية الأمازيغية": مدونة وبيلوغرافيا، (الرباط: دار التنوير، 2003)، ص 23.
2. شارل أندرى، تاريخ إفريقيا الشمالية، محمد مزالى وبشير بن سلامة (مترجم)، ط3، ج 1، ( تونس: الدار التونسية للنشر، 1978)، ص ص 12-13.
3. كمال القصير، الأمازيغ أو البربر.. التسمية والأصول، تم تصفح الموقع يوم: (12-5-2015)، من الرابط: www.aljazeera.net
4. صالح بلعيد، في مسألة الأمازيغية، ط2، ( الجزائر: دار هومة، 1999)، ص 17.
5. نهى الزيني، أيام الأمازيغ: أضواء على التاريخ السياسي الإسلامي، ط2، ( القاهرة: دارش الشروق، 2012)، ص ص 11-12.
6. يحي هويدى، تاريخ فلسفة الإسلام في القارة الأفريقية، ج 1، ( القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1965)، ص 13.
7. 7- -United Nations, “The discriminations against Amazighs of Algéria”, Alternative report of the CMA, 82nd session, Geneva, february 2013, p6.
8. لحسن سرياك، المرجع نفسه، ص ص 24-25.
9. محمد جميل بن منصور، الأمازيغ في الشمال الأفريقي محاولة للفهم، تم تصفح الموقع يوم: (12-5-2015)، من الرابط: www.aljazeera.net
10. رابح لونيسي، دعاة البربرية في مواجهة السلطة، (الجزائر: دار المعرفة، 2002)، ص 45.
11. محمد العربي ولد خليفة، المسألة الثقافية وقضايا اللسان والهوية، ( الجزائر: دار ثالة، 2007)، ص 299.
12. عبد القادر حلوش، سياسة فرنسا التعليمية في الجزائر، ( الجزائر: دار الأمة للطباعة والنشر والتوزيع، 2010)، ص 87.
13. 13 -Tlemcani Rachid, State and Revolution in Algeria, (Colorado: Westview Press,1986),P199.
14. Fuller Graham. Algeria : The Next Fundamentalist State, (Santa Monica: RAND, 1996), P14.
15. محمد الطاهر عزوي، الغزو الثقافي والفكري للعالم الإسلامي، ( الجزائر: دار الهدى للطباعة والنشر والتوزيع، 1999)، ص ص 65-67.
16. أحمد بن نعمان، فرنسا والأطروحة البربرية: الخلفيات الأهداف، الوسائل والبدائل، ( الجزائر: دار الأمة، 1997)، ص ص 42-43.
17. -Salem Chaker , Les bérbéres aujoud ‘hui , (Paris : édition l’harmattan) , p30.
18. حسان بوقنطار، السیاسة الخارجیة الفرنسیة إزاء الوطن العربي منذ عام 1976 ، ( بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1987)، ص 98.
19. عبد النور بن عنتر، تداعيات ترسيم الأمازيغية في الجزائر، تم تصفح الموقع يوم: (12-5-2015)، من الرابط: www.aljazeera.net
20. مولود معمري كان يعمل في السرية الجامعية بعد إلغاء الدولة لكرسي الأستاذية الأمازيغية عام (1973) الذي كان يشرف عليه في جامعة الجزائر، ثم تم توقيفه عام 1980، أعماله أيقظت اعتزاز البربر بلغتهم الأم.
21. محمد جميل بن منصور، المرجع نفسه.
22. -International crisis group, « Algeria: Unrest and impasse in Kabylia », Middle East/North Africa Report, (Cairo/ Brussels N°15, 10 june 2003),p 3.
23. عبد النور بن عنتر، قراءة في الخطاب الأمازيغي بالجزائر، تم تصفح الموقع يوم: (12-5-2015)، من الرابط: www.aljazeera.net
24. Comité des droits économiques , « L'Etat algérien et la question amazighe », Rapport alternatif de Tamazgha,( Genève, du 25 au 29 mai 2009), p 10 .
25. عبد النور بن عنتر، تداعيات ترسيم الأمازيغية في الجزائر، المرجع نفسه.
26. يترأسه سعيد سعدي منذ تأسيسه عام 1989، وكان قبل ذلك قد انضم مع آيت أحمد إلى الحركة الثقافية البربرية، ثم أنشأ حزبه الخاص "التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية" والذي يعتبر نفسه الممثل لطموحات ومطالب الأمازيغ في الجزائر، يطالب التجمع بإقامة دولة جزائرية علمانية.
27. أسست عام 1963 على يد حسين آيت أحمد وهو أحد القادة التاريخيين لثورة التحرير الجزائرية، ووقفت في وجه الحزب الحاكم رافضة نظام الحزب الواحد، فحكم على زعيمها آيت أحمد بالإعدام ثم عفي عنه. واختار زعيمها آيت أحمد النفي الطوعي الذي استمر من عام 1989 حتى عام 1992، تاريخ خروجه مجددا من الجزائر إلى منفاه الاختياري. لم يمنع وجود آيت أحمد خارج البلاد -معظم الوقت- الجبهة من تصدر العمل السياسي في منطقة القبائل حيث تعتبر الجبهة أكبر الأحزاب الموجودة في المنطقة. ويتبنى الحزب العلمانية ويدعو إلى الاعتراف بالفرنسية والأمازيغية لغتين رسميتين إلى جانب اللغة العربية.
28. عبد النور بن عنتر، قراءة في الخطاب الأمازيغي بالجزائر، المرجع نفسه.
29. محمد جميل بن منصور، المرجع نفسه.
30. ورغم أن التجمع يحتضن الأمازيغية كأيديولوجيا ثقافية له دون العربية، فإنه لا يتبنى أية فكرة انفصالية عن الجزائر، ولكن خرج من رحمه فرحات مهني وهو محترف للغناء القبائلي وناشط بارز تبنى ثقافة الانفصال، أو بالتحديد إقامة حكم ذاتي في منطقة القبائل. وكان مهني قد نشر عام 1998 مع المفكر الأمازيغي سالم شاكر نصا يدعو إلى إقامة حكم ذاتي برلماني في منطقة القبائل، مطالبا الأمم المتحدة بتنظيم استفتاء لسكان المنطقة بشأن تقرير مصيرهم، كما أسس مهني لاحقا (عام 2001) حركة عرفت باسم "الحركة من أجل الاستقلال الذاتي لمنطقة القبائل الجزائرية". إلا أن هذه الدعوة لم تلق استجابة ذات أهمية في الجزائر وإن شهدت تفاعلا من بعض النخب الأمازيغية في فرنسا.
31. عبد الجليل التميمي، التكامل والتفاعل الفكري بين الهويتين الأمازيغية والعربية بالمغرب الكبير، ورقة مقدمة في ندوة "المغرب العربي والتحولات الإقليمية الراهنة"، ( الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات، 17-18 فبراير/ شباط 2013)، ص 4.
32. -Comité des droits économiques , « L'Etat algérien et la question amazighe », op.cit, p 11.
33. تأسست المحافظة السامية للأمازيغية في مايو/أيار 1995 في عهد الرئيس الجزائري اليامين زروال على إثر الإضراب المفتوح الذي نفذته الحركة الأمازيغية في منطقة القبائل،كانت قد تأسست عقب اتفاق مبدئي مع ممثلي الجمعيات والهيئات الأمازيغية مع الرئيس زروال يوم 22 أبريل/نيسان 1995، وترتبط المحافظة برئاسة الجمهورية مباشرة، تقدم المحافظة استشارة للرئيس الجزائري حول تطوير الأمازيغية، كما تكلف بمهمة الإسراع بترقية الأمازيغية ودمجها في النظام التعليمي والإعلامي والسياسي. عين السيد يدر آيت عمران محند أول رئيس للمحافظة السامية للأمازيغية في مايو/أيار 1995، وظل يشعل هذه الوظيفة حتى وفاته يوم 30 أكتوبر/تشرين الأول 2004، ولم يعين عليها رئيس منذ ذلك التاريخ.
34. أحمد روابة، تنسيقية العروش في الجزائر، ، تم تصفح الموقع يوم: (12-5-2015)، من الرابط: www.aljazeera.net
35. عبد النور بن عنتر، تداعيات ترسيم الأمازيغية في الجزائر، المرجع نفسه.
على أي؛ فإن سياسة التعريب وضعت خطوطها بوضوح في فترة حكم بن بلة كأداة للقضاء على الخصوصية الأمازيغية التي كان ينظر إليها كخطر محدق بالأمة. ففي 1983 لا زال بن بلة يعبّر عن إرتياحه تجاه التقدم الحاصل في تعريب القبائل، في حين أن التعريب عند قادة آخرين كان موجها أساسا ضد الوضع المهيمن للغة الفرنسية. وعليه فإن؛ الهدف النهائي لابن بلة كان يتمثل في "الوحدة العربية"، فعمل على إعادة الانتماء العربي للجزائر وعروبتها.
أما ولاية الرئيس السابق هواري بومدين (1965-1978) فقد شهدت إسراعا بعملية التعريب، إذْ وقع مرسوما يوم 26 أبريل/نسيان 1968 يلزم كل الموظفين الجزائريين بأن يكونوا على "معرفة كافية باللغة الوطنية العربية عند توظيفهم، كما أن في سنة 1971 بدأت اللغة العربية تأخذ الطابع الرسمي في الجزائر، فقد أصدرت الدولة قرارا بأن تكون كافة الرسائل الرسمية السياسية والاقتصادية والثقافية، وكذلك الاتصالات والمباحثات باللغة العربية، وإن اللغة العربية هي الرسمية في كل المعاملات، وتم تعريب أسماء المدن الأمازيغية، كما منعت السلطات الجزائرية في ما بين عامي 1974 و1975 التسمي بأسماء غير عربية(32)0
ومع توسع ظاهرة الإرهاب في التسعينيات، ازدادت موجة الاحتجاجات من قبل القبائل، فهدأ الرئيس اليمين زروال الوضع بإدخال اللغة الأمازيغية في التعليم بفتح قسمين للغة الأمازيغية بجامعتي تيزي وزو وبجاية عام 1990، كما أنشأ "المحافظة السامية للأمازيغية"(33). من جهة أخرى تم إحداث نشرات إخبارية في التلفزيون باللغات الأمازيغية الرئيسية: القبائلية والشاوية والمزابية، كما قام زروال بإضافة البعد الأمازيغي باعتباره أحد المقومات الأساسية للهوية الجزائرية إلى جانب الإسلام والعروبة، وأدرجه في الدستور (تعديل نوفمبر/ تشرين الثاني 1996).
هذه الإنجازات التي قام بها الرئيس "زروال" هدأت الوضع لسنوات إلا أنها تتكرر دائما، ففي 2001 تكررت نفس المواجهات أدت مرة أخرى إلى بروز القضية وتفاقمها ما سمي بأحداث الربيع الأسود، التزمت السلطة الصمت حيال الأحداث ثم قررت الحوار مع العروش، حيث كلف الرئيس عبد العزيز بوتفليقة رئيس الحكومة علي بن فليس بفتح حوار مع ممثلي تنسيقية العروش للتفاوض حول لائحة القصر. وقد استاءت الأحزاب السياسية من هذه المبادرة ورأت فيها تجاهلاً لها، أما العروش فانقسمت إلى طرفين، الطرف الأول وهم الذين قادوا حوارا مع السلطة وتزعمهم شاب يدعى سليم عليلوش، أما الثاني وهم الذين استمروا في معارضتهم للسلطة وتزعمهم بلعيد أبريكا(34)0 وقد توج هذا الحوار باستجابة السلطة لأبرز مطالب لائحة القصر، حيث تم الاعتراف رسميا باللغة الأمازيغية كلغة وطنية دون مساواتها بالعربية أوائل عام 2002 بمبادرة من الرئيس بوتفليقة وبموافقة برلمانية، هذا الأخير أقر تعديلا دستوريا في 10 أبريل/ نيسان(35).
خلاصة القول؛ يعد قرار بوتفليقة إقرار الأمازيغية لغة وطنية نقلة نوعية في تعامل السلطة مع المطلب الأمازيغي، ويدخل هذا القرار في سياق تطور سياسي شامل.
خاتمة
في ضوء ما تم تناوله في هذه الدراسة، يمكن الإشارة إلى عدد من النقاط الأساسية كالتالي:
أولا؛ المسألة الأمازيغية اليوم من نتاج التسلطية السياسية والهوياتية في البلدان المغاربية، ولو أن الأنظمة الحاكمة اعترفت غداة الاستقلال بالأمازيغية كأحد مقومات هوية شعوبها، لما أخذت المسألة الحجم الحالي، ثم إن رفضها للمطلب الأمازيغي بالتعبير عن نفسه جعله ينتقل إلى المهجر، حيث تشكل فرنسا بحكم التاريخ مركز ثقل هذه المسألة.
ثانيا؛ عرفت القضية البربرية في الجزائر العديد من المحطات وشهدت الكثير من التجاذبات، وانتهت إلى دسترة الأمازيغية كلغة وطنية فأعيد بذلك للهوية الأمازيغية بعدها الوطني في الدستور، مما ساهم بشكل كبير في نزع فتيل تأزيم المطلب من جهة وتطبيع الأوضاع وانعتاق المنطقة من رواسب الماضي ودخولها من جهة أخرى تقويم التنمية الجديد والتسابق نحو المستقبل على غرار باقي ولايات الوطن.
ختاما؛ وبناءا على كل ما سبق يمكن القول أن أزمة الهوية هي مصدر جميع الأزمات، وتشكل هذه الأزمة أحد النقاط السوداء بالنسبة لأي دولة، وتفرض عليها مواجهتها عن طريق وضع حلول فعالة وناجعة، وليس مجرد إعطاء مسكنات قد تخمدها في حينها، لكنها تشكل فيما بعد أساسا تقام عليه العديد من الثورات، الأزمات والاحتجاجات. وعليه؛ لابد من الدولة الجزائرية أن تجد حلولا ناجعة لمثل هذه الأزمات، تكون من الجذور، وليس مجرد رفع شعارات وسد الطريق أمام ثقافة العنف والتسلط، وهذا من خلال تفعيل آليات المشاركة السياسية، وتحقيق الهوية، وإعطائها هامشا وقيمة تستحقه، وفي هذا الصدد يقول الدكتور برهان غليون: "إن الإبحار في مياه الأزمة لا يحتاج إلى المتشائمين الذين يشكون من ريحها، ولا إلى المتفائلين الذين ينتظرون تغيّرها، بل إلى العاملين الذين يضبطون أشرعتها ثم يتوكلون". وعلى هذا الأساس؛ فإنه ينبغي الحفاظ على هوية مجتمعنا الجزائري ومجابهة التمزق الهوياتي عن طريق تفعيل أداء الأطراف الفاعلة والمؤثرة على ذلك وهذا في سبيل الوصول إلى تحقيق الحكم الراشد.
*باحث علوم سياسية
قائمة المصادر والمراجع
1. لحسن سرياك، الجزائر في أصول البشرية ثلاثون قرنا من التاريخ " الهوية الأمازيغية": مدونة وبيلوغرافيا، (الرباط: دار التنوير، 2003)، ص 23.
2. شارل أندرى، تاريخ إفريقيا الشمالية، محمد مزالى وبشير بن سلامة (مترجم)، ط3، ج 1، ( تونس: الدار التونسية للنشر، 1978)، ص ص 12-13.
3. كمال القصير، الأمازيغ أو البربر.. التسمية والأصول، تم تصفح الموقع يوم: (12-5-2015)، من الرابط: www.aljazeera.net
4. صالح بلعيد، في مسألة الأمازيغية، ط2، ( الجزائر: دار هومة، 1999)، ص 17.
5. نهى الزيني، أيام الأمازيغ: أضواء على التاريخ السياسي الإسلامي، ط2، ( القاهرة: دارش الشروق، 2012)، ص ص 11-12.
6. يحي هويدى، تاريخ فلسفة الإسلام في القارة الأفريقية، ج 1، ( القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1965)، ص 13.
7. 7- -United Nations, “The discriminations against Amazighs of Algéria”, Alternative report of the CMA, 82nd session, Geneva, february 2013, p6.
8. لحسن سرياك، المرجع نفسه، ص ص 24-25.
9. محمد جميل بن منصور، الأمازيغ في الشمال الأفريقي محاولة للفهم، تم تصفح الموقع يوم: (12-5-2015)، من الرابط: www.aljazeera.net
10. رابح لونيسي، دعاة البربرية في مواجهة السلطة، (الجزائر: دار المعرفة، 2002)، ص 45.
11. محمد العربي ولد خليفة، المسألة الثقافية وقضايا اللسان والهوية، ( الجزائر: دار ثالة، 2007)، ص 299.
12. عبد القادر حلوش، سياسة فرنسا التعليمية في الجزائر، ( الجزائر: دار الأمة للطباعة والنشر والتوزيع، 2010)، ص 87.
13. 13 -Tlemcani Rachid, State and Revolution in Algeria, (Colorado: Westview Press,1986),P199.
14. Fuller Graham. Algeria : The Next Fundamentalist State, (Santa Monica: RAND, 1996), P14.
15. محمد الطاهر عزوي، الغزو الثقافي والفكري للعالم الإسلامي، ( الجزائر: دار الهدى للطباعة والنشر والتوزيع، 1999)، ص ص 65-67.
16. أحمد بن نعمان، فرنسا والأطروحة البربرية: الخلفيات الأهداف، الوسائل والبدائل، ( الجزائر: دار الأمة، 1997)، ص ص 42-43.
17. -Salem Chaker , Les bérbéres aujoud ‘hui , (Paris : édition l’harmattan) , p30.
18. حسان بوقنطار، السیاسة الخارجیة الفرنسیة إزاء الوطن العربي منذ عام 1976 ، ( بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1987)، ص 98.
19. عبد النور بن عنتر، تداعيات ترسيم الأمازيغية في الجزائر، تم تصفح الموقع يوم: (12-5-2015)، من الرابط: www.aljazeera.net
20. مولود معمري كان يعمل في السرية الجامعية بعد إلغاء الدولة لكرسي الأستاذية الأمازيغية عام (1973) الذي كان يشرف عليه في جامعة الجزائر، ثم تم توقيفه عام 1980، أعماله أيقظت اعتزاز البربر بلغتهم الأم.
21. محمد جميل بن منصور، المرجع نفسه.
22. -International crisis group, « Algeria: Unrest and impasse in Kabylia », Middle East/North Africa Report, (Cairo/ Brussels N°15, 10 june 2003),p 3.
23. عبد النور بن عنتر، قراءة في الخطاب الأمازيغي بالجزائر، تم تصفح الموقع يوم: (12-5-2015)، من الرابط: www.aljazeera.net
24. Comité des droits économiques , « L'Etat algérien et la question amazighe », Rapport alternatif de Tamazgha,( Genève, du 25 au 29 mai 2009), p 10 .
25. عبد النور بن عنتر، تداعيات ترسيم الأمازيغية في الجزائر، المرجع نفسه.
26. يترأسه سعيد سعدي منذ تأسيسه عام 1989، وكان قبل ذلك قد انضم مع آيت أحمد إلى الحركة الثقافية البربرية، ثم أنشأ حزبه الخاص "التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية" والذي يعتبر نفسه الممثل لطموحات ومطالب الأمازيغ في الجزائر، يطالب التجمع بإقامة دولة جزائرية علمانية.
27. أسست عام 1963 على يد حسين آيت أحمد وهو أحد القادة التاريخيين لثورة التحرير الجزائرية، ووقفت في وجه الحزب الحاكم رافضة نظام الحزب الواحد، فحكم على زعيمها آيت أحمد بالإعدام ثم عفي عنه. واختار زعيمها آيت أحمد النفي الطوعي الذي استمر من عام 1989 حتى عام 1992، تاريخ خروجه مجددا من الجزائر إلى منفاه الاختياري. لم يمنع وجود آيت أحمد خارج البلاد -معظم الوقت- الجبهة من تصدر العمل السياسي في منطقة القبائل حيث تعتبر الجبهة أكبر الأحزاب الموجودة في المنطقة. ويتبنى الحزب العلمانية ويدعو إلى الاعتراف بالفرنسية والأمازيغية لغتين رسميتين إلى جانب اللغة العربية.
28. عبد النور بن عنتر، قراءة في الخطاب الأمازيغي بالجزائر، المرجع نفسه.
29. محمد جميل بن منصور، المرجع نفسه.
30. ورغم أن التجمع يحتضن الأمازيغية كأيديولوجيا ثقافية له دون العربية، فإنه لا يتبنى أية فكرة انفصالية عن الجزائر، ولكن خرج من رحمه فرحات مهني وهو محترف للغناء القبائلي وناشط بارز تبنى ثقافة الانفصال، أو بالتحديد إقامة حكم ذاتي في منطقة القبائل. وكان مهني قد نشر عام 1998 مع المفكر الأمازيغي سالم شاكر نصا يدعو إلى إقامة حكم ذاتي برلماني في منطقة القبائل، مطالبا الأمم المتحدة بتنظيم استفتاء لسكان المنطقة بشأن تقرير مصيرهم، كما أسس مهني لاحقا (عام 2001) حركة عرفت باسم "الحركة من أجل الاستقلال الذاتي لمنطقة القبائل الجزائرية". إلا أن هذه الدعوة لم تلق استجابة ذات أهمية في الجزائر وإن شهدت تفاعلا من بعض النخب الأمازيغية في فرنسا.
31. عبد الجليل التميمي، التكامل والتفاعل الفكري بين الهويتين الأمازيغية والعربية بالمغرب الكبير، ورقة مقدمة في ندوة "المغرب العربي والتحولات الإقليمية الراهنة"، ( الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات، 17-18 فبراير/ شباط 2013)، ص 4.
32. -Comité des droits économiques , « L'Etat algérien et la question amazighe », op.cit, p 11.
33. تأسست المحافظة السامية للأمازيغية في مايو/أيار 1995 في عهد الرئيس الجزائري اليامين زروال على إثر الإضراب المفتوح الذي نفذته الحركة الأمازيغية في منطقة القبائل،كانت قد تأسست عقب اتفاق مبدئي مع ممثلي الجمعيات والهيئات الأمازيغية مع الرئيس زروال يوم 22 أبريل/نيسان 1995، وترتبط المحافظة برئاسة الجمهورية مباشرة، تقدم المحافظة استشارة للرئيس الجزائري حول تطوير الأمازيغية، كما تكلف بمهمة الإسراع بترقية الأمازيغية ودمجها في النظام التعليمي والإعلامي والسياسي. عين السيد يدر آيت عمران محند أول رئيس للمحافظة السامية للأمازيغية في مايو/أيار 1995، وظل يشعل هذه الوظيفة حتى وفاته يوم 30 أكتوبر/تشرين الأول 2004، ولم يعين عليها رئيس منذ ذلك التاريخ.
34. أحمد روابة، تنسيقية العروش في الجزائر، ، تم تصفح الموقع يوم: (12-5-2015)، من الرابط: www.aljazeera.net
35. عبد النور بن عنتر، تداعيات ترسيم الأمازيغية في الجزائر، المرجع نفسه.