حدة الهبوط: الآثار المتوقعة لانخفاض أسعار النفط والغاز
أسعار النفط والغاز هبطت في نهاية العام الحالي إلى ما يقرب من نصف متوسطها خلال النصف الأول من العام. هذا الهبوط الذي اتسم بسمتين هما الحدة والسرعة، يرتب نتائج كبيرة الأهمية بالنسبة لكل من الدول المنتجة والدول المستهلكة والشركات العاملة في قطاع الطاقة بأكمله في آن واحد. وإذا أخذنا الوقائع والمؤشرات الفعلية دليلا للتحليل فإن روسيا تقدم المثال الأكمل بالنسبة للدول المنتجة بينما دول مثل اليابان، وهي مستورد رئيسي للطاقة، تمثل المثال الأكمل بالنسبة للدول المستهلكة. في حين أن الوضع بالنسبة للشركات العاملة في مجال الطاقة تعكسه في المتوسط أسعار أسهمها المسجلة في البورصات العالمية. المؤشرات الفعلية ليست تكهنات ولكنها أقرب إلى الحقيقة من أي شيء آخر.
ومع ذلك فإن هناك عددا من الأسئلة الرئيسية التي يتعين علينا الإجابة عنها إذا كنا بصدد تقدير الموقف على المدى القصير، حيث توفر الإجابات عن هذه الأسئلة مقومات الأرضية التي يجب أن تقوم عليها السياسة الاقتصادية في الأجل القصير، بما في ذلك الإجراءات الضرورية التي يجب فرضها "اختياريا" بسرعة قبل أن يصبح اللجوء إليها "اضطراريا". والفرق بين هذا وذلك يقوم على تقدير أهمية عنصر الزمن في القرار الاقتصادي، فقرار أو إجراء ما يكون صحيحا إذا تم اتخاذه في توقيته المناسب، ويكون القرار ذاته خاطئا إذا تم اتخاذه بعد الأوان أو قبل موعد استحقاقه. وهنا على وجه التحديد يتحدد "حيز الكفاءة" الذي يتمتع به صانع السياسة الاقتصادية.
وسوف أركز هنا على الأسئلة المتعلقة بالدول المنتجة للنفط، مع الإشارة في بعض الأحوال وعند الضرورة إلى الانعكاسات المحتملة لسياسات الدول المستهلكة على السوق. وتشمل مجموعة الأسئلة التي سنحاول الإجابة عنها ما يلي:
هل الانخفاض الحالي في اسعار النفط مؤقت، أم إنه سيستمر في العام 2015؟ فإذا كان الانخفاض مؤقتا فلماذا يكون القلق والهم؟ أما إذا كان من المرجح أن يستمر، فسيتوجب الاحتياط له بسلة من السياسات والإجراءات الملائمة. ومن الطبيعي أن تتضمن الإجابة عن هذا السؤال البحث في أسباب الانخفاض، وما إذا كان يعكس حركة مقومات ومتغيرات السوق؟ وما حدود انخفاض الأسعار في السوق؟ وما أهم القطاعات والأنشطة التي ستتأثر بانخفاض أسعار النفط في الدول المنتجة؟ وكيف؟ وما النتائج المتوقعة في الأثر النهائي على اقتصاد الدول المنتجة، فيما يتعلق باتجاهات المتغيرات الاقتصادية الكلية مثل عجز الموازنات، ومعدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي، والتضخم، وموازين المدفوعات، والتدفقات الاستثمارية الخارجية؟ وما أهم سياسات التحوط ضد استمرار انخفاض أسعار النفط والغاز في الأجل القصير، وكيف يمكن تخفيف الأضرار المحتملة إلى أدنى حد ممكن، وما الخطط المستقبلية التي يجب الإعداد لها من الآن للتعامل مع سوق للطاقة العالمية تختلف مقوماتها عما كانت عليه السوق منذ الثمانينيات حتى العام 2014؟ وكيف يمكن لأوبيك أن تضمن استقرار سوق النفط على المدى الطويل؟
أولاً: أسباب هبوط أسعار النفط
سجلت أسعار النفط الخام انخفاضا حادا خلال النصف الثاني من العام 2014 ليصل سعر البرميل من خام ويست تكساس إلى 53.58 دولار مقابل 110 دولارات في نهاية عام 2013 بنسبة انخفاض 51.3% تقريبا. وقد تراجعت الأسعار بشدة خلال النصف الثاني من العام، في حين كانت مستقرة تقريبا خلال النصف الأول. وقد حدث هذا الانخفاض على الرغم من اختلالات شديدة في جانب العرض، كان من المفترض أن تؤدي إلى زيادة الأسعار أو إلى تماسكها على الأقل. ونتجت تلك الاختلالات عن الأسباب التالية:
- العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على روسيا والتي وقع معظمها على القطاع النفطي.
- العقوبات الأمريكية والأوروبية والدولية المفروضة على إيران والتي ينصب معظمها على القطاع النفطي.
- اضطراب إمدادات النفط من العراق وليبيا وسورية واليمن بسبب الحروب الدائرة في هذه البلدان.
وفي حال عودة الإمدادات من هذه البلدان إلى مستوياتها العادية، فإن هذا سيزيد الضغوط على الأسعار إلى أسفل.
ومن ثم فإن تفسير الهبوط في أسعار النفط يحتاج إلى المزيد من التحليل لمكونات دالتي العرض والطلب، وذلك لفهم طبيعة القوى التي أدت إلى الهبوط في الأسعار وتقدير أثرها في الأجلين القصير والمتوسط.
1- التغيرات في مكونات دالة العرض
زاد إنتاج النفط في الولايات المتحدة في العام 2014 (متوقع) إلى 8.6 مليون برميل يوميا، مقابل 7.44 مليون برميل يوميا في المتوسط عام 2013 بزيادة 1.16 مليون برميل يوميا بنسبة زيادة تبلغ 15.59%. وقد تم استيعاب معظم هذه الزيادة في المصافي المحلية لأغراض الاستهلاك المحلي، بما أدى إلى انخفاض الواردات. ومن المتوقع أن يرتفع الإنتاج في العام 2015 إلى 9.32 مليون برميل يوميا بزيادة 720 ألف برميل يوميا (+ 8.4%) وهي زيادة تم تقديرها في ديسمبر وتقل عن التقديرات السابقة، بسبب توقعات تراجع تدفق النفط من بعض الآبار وتخفيض الاستثمارات الجديدة نتيجة لانخفاض الأسعار.
وهذا يمثل أعلى مستوى للإنتاج النفطي في الولايات المتحدة منذ 45 عاما، وأكثر من ضعف ما كان عليه في العام 2008.
وتعود الزيادة في إنتاج النفط في الولايات المتحدة إلى نجاح استراتيجية تقليل الاعتماد على النفط المستورد التي تم وضعها والعمل بها منذ سبعينيات القرن الماضي. وتتوقع هيئة معلومات الطاقة في الولايات المتحدة (EIA) أن تكون واردات النفط في العام 2015 في حدود 21% من الاستهلاك الكلي، بعد أن نجحت الولايات المتحدة من تخفيض وارداتها من 60% من الاستهلاك الكلي عام 2005 إلى 32% عام 2013. وتعتمد الولايات المتحدة على دول أمريكا الشمالية بنسبة كبيرها في إمداداتها من النفط المستورد. وتضم قائمة أكبر موردي النفط للولايات المتحدة كلا من كندا والمكسيك (أمريكا الشمالية) وروسيا (أوراسيا) والسعودية (الشرق الأوسط) وفنزويلا (أمريكا اللاتينية).
ويتفق خبراء النفط على أن تطوير تكنولوجيا الحفر الأفقي واستخلاص النفط والغاز من البترول الصخري (shale oil) أحدث ثورة في نتاج الولايات المتحدة من النفط. وكان إنتاج النفط من البترول الصخري (هو عبارة عن نفط وغاز يتم استخلاصهما من طبقات رسوبية تتكون من أحجار رملية أو جيرية غنية بالنفط أو الغاز حيث يتم تفكيك هذه الصخور بواسطة مضخات مياه ومواد كيماوية واستخلاص النفط والغاز منها) وكان إنتاج النفط من هذه الحقول قد بلغ ما يعادل 12% من إنتاج الولايات المتحدة في العام 2008 لكنه تضاعف ثلاث مرات تقريبا خلال السنوات الخمس التالية ليصل إلى 35% من إجمالي الإنتاج الأمريكي في عام 2012. ومن المتوقع أن يواصل الزيادة على الرغم من الهبوط الحالي في الأسعار ليصل إلى ما يعادل 50% من الإنتاج في نهاية العام 2019 بفضل التطور السريع في تكنولوجيا الحفر الأفقي، واستخلاص النفط من طبقات الصخور الرملية والجيرية المشبعة بالنفط والغاز وتقليل تكاليف الإنتاج بشكل عام في ظل وجود مساحات شاسعة غنية بالبترول الصخري في شمال داكوتا وتكساس.
ومن الملاحظ كذلك أن شركات النفط الأمريكية، بدأت تتجه إلى بيع بعض استثماراتها في الخارج، والتخلي عن بعض الامتيازات لشركات أخرى بغرض الحصول على سيولة مالية إضافية تمكنها من زيادة استثماراتها في الولايات المتحدة، بما في ذلك التنقيب في المياه العميقة وفي آلاسكا. وسوف يؤدي هذا الاتجاه عمليا إلى تقليل الأثر السلبي لانخفاض أسعار النفط على القدرة الاستثمارية لشركات النفط الأمريكية داخل الولايات المتحدة.
وتمثل الاستثمارات الصينية الجديدة في مجالات الطاقة والموارد الطبيعية في كل أنحاء العالم متغيرا مهما سيترك أثره في دالة عرض الطاقة خلال العقود المقبلة. لكن من الملاحظ أن الصين تركز كثيرا على الاستثمارات في قطاع الموارد الطبيعية في أمريكا الشمالية بكثافة شديدة، وعلى وجه الخصوص في قطاع النفط والطاقة. وتجيئ هذه الاستثمارات خارج الصين على الرغم من إنها تملك احتياطيات ضخمة من الفحم والبترول الصخري وإمكانات الطاقة الهيدروليكية. وتقدر هيئة معلومات الطاقة في الولايات المتحدة أن الصين تملك احتياطيات من البترول الصخري هي الأكبر في العالم وتزيد بنسبة 50% عما تملكه الولايات المتحدة.
وقد أنفقت الشركات الصينية ما يقرب من 44.2 مليار دولار منذ العام 2008 في أنشطة الاستحواذ على شركات وأنشطة استغلال الموارد الطبيعية وأهمها النفط والغاز في أمريكا الشمالية فقط، وهو أعلى رقم أنفقته الصين على مثل هذه الاستثمارات في أي قارة في العالم. كذلك فإن الشركات الصينية تسارع حاليا إلى اقتناص أهم الفرص المتاحة لشراء امتيازات تمكلها الشركات الأمريكية في حال عرضها للبيع، بقصد زيادة محفظتها الاستثمارية في الموارد الطبيعية ومصادر الطاقة على المستوى العالمي. وليس من المستغرب أن تفعل الشركات الصينية هذا بينما من المتوقع أن يرتفع حجم الاقتصاد الصيني في عام 4040 إلى ما يزيد على حجم كل اقتصاديات أمريكا الشمالية مجتمعة (الولايات المتحدة وكندا والمكسيك)!
وبعد بداية الهبوط الحاد في أسعار النفط في يونيو 2014 توقعت السوق أن تلجأ أوبيك إلى تخفيض الإنتاج على غرار ما فعلته في العام 2008 عندما هبطت أسعار النفط إلى ما دون 40 دولارا للبرميل. غير أن دول أوبيك أدركت أنها لا بد أن تتخلى عن دور المنتج المرجح (swing producer) لصالح المنتجين الآخرين، وفضلت على ذلك الدفاع عن نصيبها من السوق وترك الأسعار لكي تحددها ظروف العرض والطلب في السوق. وقد تبنت السعودية بوضوح هذه الاستراتيجية خلال اجتماع أوبيك في فيينا (27 نوفمبر 2014)، ورفع وزير النفط السعودي شعار "البقاء للأقدر على المنافسة" أو البقاء للأصلح، واستبعد أن تقوم أوبيك بالدفاع عن منتجين يغرقون السوق بالنفط عند مستويات عالية للأسعار.
ويبدو أن السعودية التي تقدم وحدها للسوق ما يقرب من ثلث إمدادات أوبيك تدرك أن مستوى الأسعار الذي كان سائدا في السوق قبل يونيو 2014 كان أكثر ملاءمة للمنتجين الأقل قدرة على المنافسة السعرية، فقررت أن تقبل بسعر يدور حول 60 دولارا للبرميل، وهو ما كشفت عنه حسابات الموازنة السعودية للعام 2015 والتي تقدر أسعار النفط الخام على أساس يترواح بين 55 إلى 63 دولارا للبرميل. ويلاحظ في هذا السياق أن وزارة الطاقة الأمريكية تتوقع أن يدور سعر النفط حول معدل 62.75 دولار للبرميل في العام نفسه.
إن تخلي أوبيك عن دور "المنتج المرجح" سيؤدي عمليا إلى إخراج بعض المنتجين مرتفعي التكلفة والأقل قدرة على المنافسة من السوق. وربما يكون الضحية هنا هم منتجو البترول الصخري الذين تعيش شركاتهم على وسادة منفوخة بالديون، فإذا عجزوا عن سدادها، فربما تنفجر بالونة البترول الصخري بأكملها، وتخسر الولايات المتحدة مصدرا مهما من مصادر نفطها المحلي.
ومع ذلك فإنه يمكن القول باطمئنان إن دالة العرض قد تعرضت لتغيرات هيكلية عميقة بات أثرها شديد الوضوح في السنوات الأخيرة، وهو ما سيعكس نفسه على المستقبل بكل تأكيد. وطبقا لإحصاءات كل من أوبك ووكالة الطاقة الدولية، فإن معدل الزيادة في إنتاج النفط خارج أوبك يفوق مثيله في بلدان أوبك. كما أن نصيب أوبيك من السوق أو حصتها في الإمدادات العالمية تنكمش بصورة تدريجية. وعلى الرغم من أن أوبيك تستهدف تصدير نحو 30 مليون برميل يوميا (حسب نتائج اجتماعات المجلس الوزاري لأوبك في فيينا في 27 نوفمبر 2014) فإن تقديرات السوق تشير إلى أن صادراتها الفعلية تقل عن ذلك بنحو مليون برميل يوميا. ومن المتوقع أن تنخفض حصة أوبك من الإمدادات العالمية في العام 2015 لتبلغ نحو 28.9 مليون برميل يوميا.
ومن المرجح أن تؤدي التغيرات في دالة العرض إلى إتجاه الأسعار للنزول في الأجل القصير، كما هي الحال التي عليها الآن، لكنها مع ذلك ستعاود الصعود والاستقرار عند مستويات تدور حول 100 دولار للبرميل، حسب تقديرات أوبيك ووكالة الطاقة الدولية ووزارة الطاقة الأمريكية. وسيتحقق هذا لسببين، الأول أن النفط سيحافظ على مكانته باعتباره المصدر الرئيسي للطاقة طبقا للتقديرات العالمية حتى العام 2040 على الأقل. ومع ذلك فإن نصيبه في المكونات الكلية للطاقة سينخفض من 31.9% عام 2010 إلى 24.3% عام 2040 حسب تقديرات أوبيك. والسبب الثاني هو الزيادات القوية المتوقعة في الطلب على النفط من جانب الدول النامية خصوصا الصين والهند ودول جنوب شرق آسيا.
2- التغيرات في مكونات دالة الطلب
إن أي مستوى للأسعار في السوق تحدده العلاقة بين دالتي العرض والطلب. ويعتقد صناع السياسة الاقتصادية في الدول الصناعية المستهلكة للنفط أن أوبيك تمثل "تكتلا احتكاريا" لمنتجي النفط يعمل على تشويه الأسعار الطبيعية في السوق. ومن هنا يمكن القول إن هناك من صانعي السياسة في الدول الصناعية المتقدمة، من يعتقد أن غياب تأثير أوبيك سيؤدي إلى سيادة ظاهرة "الأسعار الطبيعية" أي الأسعار التي تعكس التوازن بين العرض والطلب. ويمكن القول بقدر مساو من الدقة، بأن أوبيك التي لعبت دورا مهما في "قيادة" سوق الطاقة العالمية منذ السبعينيات، تتجه الآن إلى أن تلعب دور المنتج الطبيعي الذي لا يهتم باستهداف سعر معين، بقدر ما يستهدف الحصول على حصته العادلة من السوق. وتمثل الحصة العادلة من السوق المكافئ الموضوعي للقدرة التنافسية وليس للسياسات الإحتكارية. وليس من المنطقي في أي سوق أن يتخلى أحد المنتجين عن قدرته التنافسية طواعية لصالح منتج آخر أقل قدرة على المنافسة.
وقد تراجعت أسعار النفط والغاز في النصف الثاني من العام 2014 بسبب مجموعة من العوامل والمقومات التي تكون دالة الطلب، وليس فقط بتأثير التغيرات في دالة العرض. وقد تراجع الطلب على النفط بسبب أربعة عوامل رئيسية هي: (1) ضعف النمو في الدول الصناعية الغربية خصوصا في أوروبا واليابان. (2) زيادة كفاءة استخدام الطاقة بسبب تطبيق تكنولوجيا توفير الطاقة في محركات السيارات والأجهزة المنزلية وأجهزة الإضاءة. (3) التحول من النفط إلى البدائل بما في ذلك الطاقة المتجددة، خصوصا مع زيادة الاهتمام العالمي بتقليل انبعاثات الكربون في الجو. (4) تفضيل الدول المستهلكة الشراء من دول خارج أوبيك على الاستيراد من أوبيك. ويظهر هذا بوضوح في مناطق كثيرة من العالم، مع زيادة الاعتماد على النفط المستخرج محليا خصوصا في الولايات المتحدة التي استغنت على سبيل المثال عن كل وارداتها من النفط من نيجيريا بعد أن حل النفط المستخرج من البترول الصخري (المشابه للنفط النيجيري في جودته) محل النفط المستورد من الدولة الأفريقية.
وتعمل الدول الصناعية على تحقيق نمو اقتصادي بقدر أقل من الطاقة والوقود. فعلى صعيد استهلاك وقود السيارات مثلا، تستهلك محركات السيارات الموفرة للوقود مقدارا يقل بنسبة 2.2% سنويا لكي تقطع نفس المسافة التي كانت تقطعها في السنة السابقة، ناهيك عن تأثير التوسع في إنتاج المحركات الهجين والمحركات الكهربائية. كذلك فإن نظم الإنتاج الصناعي تتحول بسرعة إلى تقليل استخدام العمل البشري والتوسع في استخدام الروبوت. وتظهر تقارير التقييم التكنولوجي أن التحول من العمل البشري إلى استخدام الروبوت في الصناعة يؤدي إلى تقليل استهلاك الطاقة والمواد الخام وأيضا إلى الحد من الفضلات والمخلفات!
ومن المتوقع أن يزيد الطلب على الطاقة حتى العام 2040 بنسبة 1.6% سنويا حسب تقديرات أوبيك ووكالة الطاقة الدولية، وهو ما يقل عن نصف متوسط معدل نمو الإقتصاد العالمي خلال تلك الفترة. غير أن الطلب على النفط الخام سيكون أقل من ذلك بكثير، حيث تقدر المصادر الإحصائية في كل من أوبيك ووكالة الطاقة العالمية أن معدل النمو السنوي في الطلب على النفط الخام سيكون في حدود0.7% في المتوسط سنويا، بالمقارنة مع زيادة في الطلب العالمي على الغاز الطبيعي بنسبة 2.4% في المتوسط وبنسبة 7.7% بالنسبة لمصادر الطاقة المتجددة. ولا يعود ذلك إلى القصور في إنتاج النفط الخام وإنما إلى محددات ومعايير بيئية سوف تفضل تطوير المصادر المتجددة غير الملوثة للبيئة والتوسع في استخدامها بديلا للنفط الخام. ومع ذلك سوف يظل النفط الخام حتى عام 2040 هو المصدر الرئيسي للطاقة في العالم.
وتشير توقعات أوبيك أيضا إلى تغير آخر في مقومات الطلب على الطاقة، بما في ذلك النفط في العقدين المقبلين. وتقدر أوبيك أن إجمالي الطلب العالمي في العام 2040 سيرتفع إلى 111 مليون برميل يوميا. لكن هذه الزيادة من عام 2013 إلى عام 2040 (نحو 21 مليون برميل يوميا) ستأتي من الطلب على النفط في الدول النامية، وعلى رأسها الصين والهند، وليس من زيادة الطلب بواسطة الدول الصناعية المتقدمة. ويشير التقرير الأخير لأوبيك (2014) عن توقعات سوق النفط أن الطلب على الإمدادات العالمية بواسطة الدول الصناعية الغربية سيقل بمقدار 7 ملايين يوميا في العام 2040 مقارنة بعام 2013! في حين أن الطلب من الدول النامية سيزيد بمقدار 28 مليون برميل يوميا خلال الفترة نفسها، وهو ما سيسفر عن زيادة صافية في الطلب العالمي بمقدار 21 مليون برميل يوميا. وتطمح أوبيك أن تزيد إمدادتها العالمية من 2020 وحتى 2014 بمقدار 13 مليون برميل يوميا.
إن دالة الطلب على النفط تتعرض هي الأخرى لتغيرات هيكلية عميقة، فالنمو الاقتصادي في الدول الصناعية المتقدمة لم يعد هو محرك الطلب العالمي، كذلك لم يعد معدل نمو الناتج العالمي أيضا هو المحرك الرئيسي للطلب على النفط. وأصبح طلب الدول النامية الصاعدة إلى مصاف الدول الصناعية هو المحرك الحقيقي. كما أن هناك اتجاها عالميا، لأسباب بيئية، للتحول عن استخدام النفط إلى مصادر أخرى للطاقة أقل تلويثا للبيئة. وهناك اتجاه للتحول عن نفط أوبيك كما سمحت المتغيرات إلى نفوط دول أخرى منتجة، ومنها الدول الصناعية التي تستثمر فيها الصين أموالا هائلة في قطاع النفط والغاز. ويضاف إلى كل ذلك تأثير تكنولوجيا توفير الطاقة والإقتصاد في استهلاكها في كل مجالات الحياة.
ثانياً: النتائج المتوقعة لهبوط الأسعار على الدول الخليجية
سوف يترك هبوط أسعار النفط آثارا واسعة النطاق على الدول المنتجة للنفط، إبتداء من معدل النمو الإقتصادي إلى توازن الميزانية وسعر العملة الوطنية وميزان المدفوعات والبطالة وتدفق الإستثمارات إلى الخارج. وعلى المستوى النظري يمكن أن يؤدي هبوط أسعار النفط إلى تراجع معدل النمو وزيادة عجز الميزانية وانخفاض قيمة العملة المحلية وتراجع فائض ميزان المدفوعات وزيادة البطالة وتوقف البدء في إنشاء مشروعات جديدة خصوصا مشروعات البنية الأساسية المكلفة. لكن الدول العربية الخليجية تتمتع في واقع الأمر بوسادة مخملية من الفوائض المالية سواء كانت في شكل احتياطيات من النقد الأجنبي لدى البنوك المركزية أو استثمارات في الخارج أو أصول مملوكة لصناديق الاستثمار السيادية.
ثالثاً: سيناريوهات للتعامل مع هبوط الأسعار
وفي مواجهة الهبوط في أسعار النفط، والآثار المحتملة لذلك على المتغيرات الاقتصادية الكلية للدول العربية الخليجية المصدرة للنفط، فإن هناك ثلاثة سيناريوهات للتعامل مع ذلك.
السيناريو الأول، هو أن يتحمل الاحتياطي النقدي والاستثمارات الخارجية والصناديق السيادية عبء هبوط الأسعار بالكامل.
السيناريو الثاني، هو أن يتحمل الاحتياطي النقدي والاستثمارات الخارجية والصناديق السيادية نسبة من تغطية الهبوط في عائدات الصادرات النفطية، قد تصل إلى 50% (تزيد أو تقل طبقا لظروف كل دولة).
السيناريو الثالث، هو أن تتحمل الموازنة السنوية عبء هبوط عائدات تصدير النفط بالكامل، مع اتباع حزمة من السياسات النقدية والمالية لتقليل أثر ذلك على الاقتصاد المحلي، وذلك بتحريك سعر الصرف مقابل الدولار واستخدام سياسة أسعار فائدة ملائمة، وضغط الإنفاق العام بحيث تكون الأولوية لاستكمال المشاريع التي تم البدء في تنفيذها وتلك ذات الأهمية الإستراتيجية أو العائد الاقتصادي والاجتماعي المرتفع.
ويبدو أن دولة الإمارات العربية المتحدة جاءت في مقدمة الدول العربية الخليجية المصدرة للنفط التي اختارت السيناريو الأول بدون تردد. وتظهر موازنات الدول العربية المصدرة للنفط للسنة المالية 2015 اتجاها إيجابيا بشكل عام على الرغم من أن بعضها يتضمن عجزا في التمويل مثل الميزانية السعودية. وتظهر الميزانية الاتحادية لدولة الإمارات العربية المتحدة زيادة في الإنفاق (13.35 مليار دولار) بنسبة 6.5% أكثر من العام 2014 مع اهتمام بالغ باستمرار الإنفاق على مشاريع التنمية الاجتماعية والاقتصادية والخدمات الأساسية طموحا إلى تحقيق معدل للنمو يبلغ ما يتراوح بين 4 إلى 4.5%. وتستند موازنة الإمارات إلى موقف مالي صلب حيث بلغت قيمة احتياطي النقد الأجنبي ما يقرب من 90 مليار دولار (327.6 مليار درهم) في يوليو عام 2014. كذلك بلغت قيمة الأصول التي يستثمرها صندوق أبوظبي للأصول السيادية أكثر من 800 مليار دولار. هذا بدون احتساب الأصول الاستثمارية المملوكة لهيئة دبي للاستثمار وغيرها من المؤسسات.
إن هذه الأرضية المالية والاستثمارية الصلبة التي تتمتع بها الدول العربية المصدرة للنفط من شأنها أن تجعل من الهبوط الحالي في أسعار النفط مجرد فقاعة في الأجل القصير. ومع ذلك فإنه من الضروري التحوط ضد مخاطر واحتمالات استمرار المستوى المتدني للأسعار في الأجل المتوسط بحزمة من السياسات الإستثمارية تهدف لتنويع مصادر الدخل المحلي، والسياسات النقدية التي تهدف لإضفاء قدر أكبر من المرونة على أسعار الصرف وأسعار الفائدة، مع التمسك بالانفتاح على العالم والدخول في اتفاقيات واسعة لتحرير التجارة وزيادة الاستثمارات من خلال الدخول، عن طريق إبرام اتفاقات تعاقدية، إلى سلاسل خلق القيمة على المستوى العالمي (Global Value Chains) بالقدر الكافي لتحقيق التنافسية وتنويع هياكل الإنتاج.
رابعاً: استنتاجات
نستنتج مما تقدم ما يلي:
- يعكس الهبوط في أسعار النفط حاليا تغيرات جوهرية في بنية العرض والطلب على المستوى العالمي.
- هذه التغيرات سيستمر تأثيرها في الأجل القصير على الأقل. ومن ثم فليس من المتوقع أن تعود أسعار النفط في عام 2015 إلى مستوياتها السابقة في العام 2014. ومن المرجح أن تتراوح أسعار النفط بين 55 دولارا إلى 65 دولارا للبرميل في المتوسط خلال عام 2015.
- سيتوقف الارتفاع في الطلب على النفط على قدرة دول الإتحاد الأوروبي ودول أمريكا الشمالية واليابان على التعافي، مع استمرار معدلات نمو قوية في الصين والهند وكوريا الجنوبية وغيرها من الدول الصاعدة.
- يعتبر تخلي أوبيك عن القيام بدور "المنتج المرجح" (swing producer) من العوامل التي ستوفر للسوق توزانا معقولا في العقود المقبلة، وذلك بفضل طاقة الإنتاج الهائلة والرخيصة لدى الدول الأعضاء في أوبيك. لكن هذا التوازن المطلوب لمصلحة المنتجين والمستهلكين على السواء سيحتاج دائما قدرا معقولا من التشاور والتنسيق بشأن سياسات الإنتاج بما يتلاءم مع احتياجات النمو والبعد عن الصدمات السعرية المفاجئة.
- من المرجح أن تتأثر الاستثمارات في قطاع النفط والغاز سلبا بانخفاض الأسعار عن المستوى الذي كانت عليه في العام 2014. وتشير التجربة التاريخية إلى أن الأزمة المالية الآسيوية في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي أدت إلى تراجع الاستثمار في القطاع النفطي على مستوى العالم بنسبة 20% ثم تعافي بعد ذلك. كما أن الاستثمار في القطاع نفسه تراجع أيضا بنسبة 10% نتيجة للأزمة الاقتصادية العالمية 2008- 2009 ثم تعافي بعد ذلك.
- تستفيد الصين من فوائضها المالية والتجارية بزيادة استثماراتها في قطاعات الموارد الطبيعية على مستوى العالم، وفي مقدمتها قطاع الطاقة. ومن المتوقع أن تسهم هذه الاستثمارات في تقليل الأثر السلبي لانخفاض أسعار النفط على القدرة الاستثمارية لشركات النفط الكبرى.
- من المرجح أن تتأثر سلبا شركات إنتاج البترول الصخري، خصوصا تلك المثقلة بالديون، بهبوط الأسعار. وعلى الرغم من أن معظم هذه الشركات يعمل حتى الآن في استخراج النفط من آبار قليلة التكاليف (sweet spots) وتنتقل بسرعة من موقع إلى آخر فإن بعضها يعاني من نسبة مرتفعة للقروض إلى الأصول (debt-to- assets ratio) ومثل هذه الشركات ستكون معرضة للخروج من السوق مع انخفاض العائد عن التكلفة الحدية المتغيرة. ويجب أن نضع في اعتبارنا هنا أن العبرة ستكون بمعدلات التكلفة المتغيرة وليس التكاليف الكلية أو الرأسمالية.
- ومن الضروري أن نذكر هنا أن السوق تعاني حاليا من نقص في الإمدادات نتيجة لاضطراب الإنتاج والصادرات في دول رئيسية مصدرة للنفط مثل روسيا وإيران وليبيا والعراق. وفي حال استقرار الأوضاع في هذه البلدان أو إلغاء العقوبات المفروضة عليها أو تخفيفها، فإنها ربما تتجه للإفراط في إمداداتها للسوق لتعويض ما فاتها، وللحصول على عائدات تمكنها من إعادة بناء نفسها بسرعة (مثل حال ليبيا والعراق). وربما يؤدي ذلك إلى الضغط على الأسعار إلى ما دون المستوى المتوقع لتوازن الأسعار في العام 2015.
- نظرا لتمتع الدول العربية المصدرة للنفط بمراكز مالية واستثمارية قوية، فإنها على وجه العموم لن تعاني من الهبوط الحالي لأسعار النفط في الأجل القصير. وتظهر موازنات العام 2015 أن هذه الدول اختارت استراتيجية واضحة لمواصلة النمو وزيادة الإنفاق وعدم اللجوء إلى سياسات انكماشية، كما أن عملاتها لم تتأثر سلبا بالهبوط على غرار ما حدث في روسيا.
- ومع ذلك فمن المهم أن تتحوط الدول العربية المصدرة للنفط من احتمالات استمرار المستويات المتدنية لأسعار النفط في الأجل المتوسط، وذلك باتباع حزمة من السياسات الاقتصادية والنقدية والمالية تساعد على استمرار التوسع الاقتصادي وتنويع الإنتاج وزيادة الاندماج في الاقتصاد العالمي.
-
ومن المهم هنا الإشارة إلى ما تنطوي عليه هذه الاستنتاجات على صعيد الاقتصاد
السياسي للمنطقة وعلاقاتها الاستراتيجية مع العالم. فانخفاض اعتماد الولايات
المتحدة على نفط الشرق الأوسط، قد يؤدي إلى تراجع الأهمية الاستراتيجية للمنطقة من
وجهة النظر الأمريكية، ومن ثم تراجع المصلحة في ضمان أمنها واستقرارها على المدى
البعيد. ويقودنا هذا إلى ضرورة العمل مبكرا على تعزيز القوة الاستراتيجية للمنطقة
من خلال ترتيبات دفاعية مشتركة على الصعيد الإقليمي تضمن الاستقرار واستمرار
الرخاء لشعوب المنطقة.
* رئيس وحدة البحوث الاقتصادية