تصورات الفقراء للثورة: علماء الاجتماع وأسئلة التحولات
وهران- أحمد موسى بدوي
تتفتق التحولات الجارية في المجتمعات العربية عن إرهاصات تحمل معها ملامح مجتمعات عربية جديدة، تواقة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية على ركام الأبنية السلطوية، بأسس قيمية جديدة، تثمن الكفاءة والاستحقاق على حساب قيم الانتماء الطائفي أو الديني أو العرقي أو السياسي.
ومع ذلك فإن ما أفضت إليه التحولات الجارية
اليوم، لايزال في بداية تشكله، ولكونها تحولات تاريخية بامتياز، فإنها كذلك مفتوحة
على جميع الاحتمالات، أي أن المجتمعات العربية الفاعلة، أصبحت في مفترق طرق، إما
التقدم وإما الانتكاس والنكوص. الأمر الذي يحفز علماء الاجتماع العرب، على طرح
مجموعة من التساؤلات الجوهرية عن طبيعة سيرورة التحولات الجارية، وطبيعة القوى
التي تحملها، ومشاريعها على المدى القصير والبعيد. كما يدفعهم إلى الإمساك
بالمعاني المنتصرة، وأن يتفحصوا المعاني التي تتلاشى وتندثر تحت وقع الفعل
التغييري للقوى الاجتماعية المتوثبة نحو مستقبل مغاير.
والآن، وقد بدأت تتلاشى لحظة الافتتان الأولى
بالثورة، وتهدأ مشاعر الزهو بها، من الطبيعي، بل من الواجب أن تعقبها لحظة أخرى
متأملة، ناقدة وحريصة على التساؤل حول ما أُنجز وما لم ينجز، وعلاقة الانسان
العادي الذي شكل مادة ووقود تلك الثورات، بما تطرحه النخب السياسية الجديدة.
وقد حاولت عدة فاعليات، محلية وعربية ودولية،
فهم التحولات التي نجمت ولا تزال، في بلدان الربيع العربي، وهذا المؤتمر، وهران –
الجزائر 18-20 فبراير 2014 ، ربما ينحو منحى جديداً وجريئاً، في ذات الوقت، بأن يعالج مسألة التحولات،
على لا على مستوى بلدان الربيع، بل على مستوى كافة البلدان العربية، وعليه فقد
جاءت محاور المؤتمر متسقة مع هذا المنحى، حيث شملت:
1-
التغير الاجتماعي والاحتجاجات الاجتماعية:
التنبؤ والمفاجأة: أسئلة المعرفة والصعوبات النظرية والمنهجية، المعرفة
السوسيولوجية والتغير الاجتماعي: مقاربات تتراجع ومقاربات تتشكل.
2-
التغير الاجتماعي وتراكم الاحتجاجات
الاجتماعية: الاحتجاجات في العشريتين الأخيرتين، المطالب الاجتماعية والاحتجاجات
(فئوية، مهنية نقابية، تغبيرات هوياتية، احتجاجات سياسية ومواطنية وإقليمية
وطائفية،إلخ)، البنية الطبقية للمجتمعات العربية المعاصرة، وطبيعة القوى السياسية
الحاملة للتغيير، الفاعلون الاجتماعيون (النساء، النخب، النقابات، الأحزاب، إلخ).
3-
التغير الاجتماعي في المجتمعات العربية ودور
النخب: نخب تتلاشى ونخب قيد التشكل، نخب الثورة وأصولها الاجتماعية: الخطب
والوسائط والأصناف، الإنتلنجنسيا العربية ودورها في عمليات التحول والتغيير: إنتلجنسيا
تقليدية مهادنة، وأخرى مهاجمة في طور التبلور.
4-
التحولات الاجتماعية بين المطالب السياسية
والمطالب الاجتماعية: مطالب النخبة ومطالب الفئات الشعبية، الفروق بين الثورات
ومطالب كل منها.
5-
الفئات الهشة وبناء عناصر القوة: المرأة
والثورة، الشباب بين عنفوان المبادرة وفخ الاحتواء، الأقليات الدينية والعرقية
والفضاء العام والرؤية المختلفة للآخر، الأقليات وسؤال المواطنة.
6- التحولات الاجتماعية ودور الوسائط الإعلامية والاتصالية: انتشار المعلومة
الثورية في الفضاء العام، الصورة وبلاغتها، الإعلام والصراع السياسي بعد الثورة.
وقد انعقد المؤتمر تحت رعاية وزارة التعليم
العالي والبحث العلمي بالجزائر، وشارك في التحضير والإعداد له مركز البحث في
الأنثروبولوجيا بوهران، والجمعية العربية لعلم الاجتماع، وجامعة مستغانم الجزائرية.
وقد بلغ عدد المشاركين في المؤتمر 53 باحثاً وعالم اجتماع من خمسة عشر بلداً عربياً،
من أبرزهم الدكتورة نورية بنغبريط رمعون، مديرة مركز البحث في الأنثروبولوجيا
بوهران، والدكتور محسن بوعزيزي الأمين العام للجمعية العربية لعلم الاجتماع،
والدكتور أحمد زايد أستاذ علم الاجتماع المصري، والدكتور جيلالي سماحة، عميد كلية
العلوم الاجتماعية بجامعة مستغانم، والدكتور على الكنز الأستاذ بجامعة نانت
بفرنسا، والدكتور فالح عبد الجبار مدير معهد الدراسات العراقية، والدكتور زبير
العروس أستاذ علم الاجتماع الجزائري.
أشرف على تنظيم المؤتمر مجموعة من شباب
الباحثين بمركز البحث في الأنثروبولوجيا، على رأسهم الدكتور مصطفى مجاهدي،
والدكتور فؤاد نوار، والدكتور الجيلالي المستاري، والدكتورة خديجة مقدم. وقد استن
مركز البحث في الأنثروبولوجيا، الذي استضاف فعاليات المؤتمر، سنة حسنة بأن جعل رئاسة
كافة جلسات المؤتمر، من نصيب شباب الباحثين في المركز، مما أضفى على هذه الجلسات
حالة جديدة من الحيوية والأمل في آن واحد.
بالنسبة لأوراق المؤتمر قدم الدكتور أحمد
زايد، ورقة بعنوان " تشكل النخب السياسية في مصر المعاصرة من تضخم الخطاب إلى
تفكيك البناء" مفترضاً أن الأزمة التي تعيشها النخبة المصرية بعد الثورة
مرتبطة تاريخياً، بعمليات تشكل النخب السياسية في مصر المعاصرة، حيث يذهب إلى أن
الخبرة الاستعمارية هي التي ساعدت على تشكيل النخب وصبغ رؤيتها للعالم بصيغة
محددة، ثم حدثت إعادة تشكيل لهذه النخب، بعد تكوين الطبقة الوسطى المصرية. ترتب
على ذلك إفراز خطابات نخبوية متنوعة عبر الزمن، اتسمت جميعها بالتضخم إزاء بنية
اجتماعية متخلفة، ومن ثم فقد ظلت خطابات مفارقة لطبيعة البنية الاجتماعية وغير
قادرة على أن تتعامل تعاملاً بناءً وفاعلاً معها.
تتبع زايد مسارات تكوين الطبقة الوسطى وتكوين
النخب السياسية، للكشف عن مظاهر التشظي والتكاثر في التكوين المعاصر للنخب، خاصة
في تحولات ما بعد الثورة ، وللكشف عن بعض الإشكاليات المرتبطة بتعريف النخب
السياسية في المشهد السياسي الجديد، وبتفكك النخب المركزية، وتبدل مراكز السلطة
والنفوذ.
ومن خلال مقاربة سوسيو- تاريخية، عالج
الدكتور زبير العروس، في ورقته المعنونة بـ" الإسلاميون والثوران الشعبي في
المنطقة العربية: مسار ممارسة السلطة والمآل المأزوم" ما يسميه حالة الثوران
الذي عرفته المنطقة العربية منذ نهاية عام 2011، راصداً التحول الذي لحق بالممارسات
السياسية للتيار الاسلامي، حيث يذهب العروس، إلى أن هذه التيارات اعتمدت
استراتيجيات جديدة، غلبت فيها العمل السياسي على نشاطاتها التقليدية، والممثلة في
النشاط الدعوي والعمل الخير، ومن ثم ولجت إلى غمار تجربة ممارسة السلطة بأدواتها
التشريعية وتنظيماتها القانونية. وذهب إلى أن تجربة ممارسة السلطة هذه، أدت إلى
رفع الحرج درجات، وكسرت محرمات كانت متعضدة في الخطاب الثقافي والسياسي في مجملها
تتعلق بماهية الدين، من حيث وظيفته في الحياة العامة للمجتمع، وكذا دوره السياسي
وشرعنة عملية التغيير التي فرضها هذا الثورات الشعبي.
وعبر مقاربة بنيوية تاريخية، ينتقل فالح عبد
الجبار في بحثه المعنون بـ" علم الاجتماع، الديمقراطية والربيع العربي"
إلى مقارنة ما يحدث من تحول نحو الديمقراطية في العالم العربي، وبين ما حدث من تحول
في أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية في تسعينيات القرن العشرين، ويذهب إلى أن هذا
التحول سيؤدي لا محالة، إلى انهيار نظم الحكم الواحد، والأوليغاركية العسكرية. على
الرغم من صعوبة التحول على المستوى العربي، لتعقد وتنوع نظم الحكم بها ما بين نظم
تسلطية، وتوليتارية وسلطانية، ما يؤدي إلى تنوع في مسارات الكفاح من أجل
الديمقراطية، تبعاً لنوع النظام الحاكم في هذا القطر العربي أو ذاك.
وقدم سمير إبراهيم حسن من جامعة مسقط، بحثاً
بعنوان " مقدمة لدراسة مستقبل التغير الاجتماعي الثقافي في بلدان الخليج
العربي" حاول من خلاله الاجابة على سؤال.. هل نستطيع توقع منحى التغير
الاجتماعي الثقافي في مجتمعات الخليج؟ ويذهب إلى أن اتجاه التغيير في المجتمع
الخليجي، رغم تفاوت بلدانه في التدخل لتوجيهه، ينحو باتجاه التحديث والانتقال
التاريخي من القبيلة إلى الدولة عموماً، مع كل العواقب الثقافية لذلك، مهما تكن
الممانعة من بعض القوى التقليدية والمحافظة.
ويشخص محسن بوعزيزي، حالة اللايقين التي تسم
المشهد الثوري التونسي، من خلال موضوع بحث بعنوان :"الثورة في تونس وسلطة
الهامش، مقاربة كمية" حيث يذهب البوعزيزي إلى أن محاولة الامساك بالمعنى في
الحالة التونسية، عبر البحوث العلمية المنضبطة، صعبة بسبب ولادة الحدث وموته
وولادة آخر، دون ترتيب أو تمهيد. وينتهي إلى أن كافة الخيارات بعد السنوات الثلاث
من عمر الثورة، مطروحة، في مناخ من الشك والريبة، فكل الفاعلين في منتصف الطريق
منذ بداية الثورة إلى اللحظة الراهنة.
وحاول كاتب هذه السطور، في بحثه المعنون بـ "
تصورات الفقراء للثورة المصرية" الكشف عن تمثلات قطاعات من العمال والفلاحين
وشرائح من الطبقة الوسطى الفقيرة، تجاه أسباب وأهداف ونتائج ثورة 25 يناير 2011،
ممهداً للبحث الميداني، باستنتاج العوامل المولدة للفقر في الحالة المصرية، عبر
تحليل للبيانات الاحصائية المتعلقة، بالتوزيع العمري للسكان، ومعدل أمية الكبار،
وتوزيع القوى العاملة المصرية، بحسب العمر، والنوع، والقطاعات الاقتصادية. جاءت
نتائج البحث الميداني، الذي اعتمد على المقابلة الكيفية المعمقة، وجرى تنفيذه قبل
ثورة 30 يونية 2013، لتوضح أن الفقراء أكثر
المتضررين من نظام الحكم قبل الثورة، وهم أيضاً أكثر المتضررين بعدها، ساندوا
الثورة، ولم تتحقق أحلامهم البسيطة والمشروعة، كما أظهرت النتائج وجود حالة من
اليأس والاحباط من النظام القائم بعد ثورة يناير2011، وتوقع الباحث، بناء على
نتائج بحثه، أن تظهر موجة ثورية أخرى من الاعتراض على حكم الاخوان المسلمين، ربما
تحمل هذه الموجة أملاً جديداً للفقراء، وربما يظل الوضع على ما هو عليه.