الثروة في أيدي القلة..كيف ولماذا؟
الأحد 16/فبراير/2014 - 01:53 م
أحمد دياب*
ربما يكون السعي نحو اكتساب الرزق وامتلاك الثروة هو المحرك الأساس للتاريخ البشري. غير أن اللامساوة في حيازة الثروة بين الأغنياء والفقراء تكاد تكون مشكلة لازمت البشرية، ربما منذ وطأت قدم أول إنسان هذه الأرض، وفي حين فسر البعض هذه المشكلة تفسيراً دينياً، فرأي أن التفاوت واللامساواة في الثروة هو نتيجة للتفاوت في "حظوظ" و"أقدار" الناس التي تهبها لهم الطبيعة، وتوزعها عليهم الآلهة، باعتبار أن مسألة الثروة هي في حقيقتها "مشيئة" إلهية لا دخل للبشر في توزيعها، فإنه في السياسة تحولت مشكلة اللامساواة إلي معركة حامية الوطيس، خاصة بين قطبي السياسة في العصر الحديث (اليمين واليسار)، حيث كان لكل منهما تفسيراته الجاهزة بالطبع!
في نظر اليسار، لا تدل مشكلة اللامساواة إلا علي خلل متأصل في رأسمالية السوق الحرة، والتي تمنح قلة من الأثرياء السيطرة علي أكثرية من الفقراء، وعلي العكس تماماً في نظر اليمين، فقد بلغ الأثرياء موقعهم بفضل المهارة والعمل الشاق وحدهما، وبالطبع فإن القاسم المشترك بين الرأيين هو الانتصار التام لليقين والأيديولوجيا علي الدليل والبرهان. لكن في كل الأحوال فإن كثيرين يرون أن كيفية توزيع الثروة في بلد ما، يتوقف علي العديد من التفاصيل المتعلقة بذاك البلد وسكانه؛ فيشيرون إلي احتمال أن يكون لقوانين الوراثة وفرض الضرائب أهمية كبيرة، وكذلك النشاط الاقتصادي الرئيسي للبلد، سواء كان زراعة واسعة أم صناعة ثقيلة أو غيرهما. ويمكن أيضاً الإشارة إلي احتمال تأثير المستوي الحضاري، بما أنه في بعض المجتمعات تكتسب المساواة الاجتماعية مكانة أهم مما لها في مجتمعات أخري، إلا أن الأرقام تثبت أن كل هذه الاحتمالات هي في الحقيقة عاجزة، أو علي الأقل، قاصرة عن تفسير ظاهرة بهذا التعقيد والأهمية.
بين القلة والحشد:
في أوائل القرن العشرين صاغ عالم الاقتصاد الإيطالي "فليفريدو باريتو" قانون "الثروة الطبيعي"، وفيه أشار باريتو إلي أن أي بلد سيكون فيه، بحكم الرياضيات وحدها، فارق كبير بين قلة من الأثرياء الأقوياء وحشد من الفقراء الضعفاء، ففي جميع البلدان تملك ـ دائماً ـ قلة من الأثرياء نصيب الأسد من خيرات البلاد. غير أن باريتو اكتشف شيئاً أعمق قليلاً من مجرد التماثل الكيفي بين البلدان، إذ اغترف هذا العالم من الرياضيات، فقد اكتشف أن توزيع الثروة في جميع البلدان يتخذ صورة رياضية أساسية بعينها، فإذا نظرنا علي وجه خاص إلي الجانب الأكثر ثراء من سكان أي بلد، فسنجد دائماً أن عدد الذين يملكون الثروة، ويرمز لها بالرمز "ثاء"، هذا العدد يتناسب عكسياً مع الرمز "ثاء ع"، حيث إن "ع" هي أي عدد بين اثنين وواحد ونصف، بمعني آخر فإن عدد الأفراد يتناقص؛ حين تزيد الثروة، إلي درجة تتراوح بين اثنين وثلاثة، ومما يثير الدهشة أن هذا تحديداً نفس نمط "قانون القوة" الخاص بالتقلبات في أسواق المال.
ودلالة القانون، في هذه الحالة، هي أنه كلما زادت الثروة بمعامل عشرة، انخفض عدد الأفراد المالكين لهذا الحاصل بمعامل ستة تقريباً (علي سبيل المثال فإن عدد من يملك الواحد منهم مليوناً، هو ستة أضعاف من يملك الواحد منهم عشرة ملايين؛ أي من بين كل سبعة يملكون سبعين مليوناً، يملك واحد، من كل ستة، مليوناً، ويملك السابع 10 ملايين)، هذه الأعداد من الأفراد تنخفض علي نحو طبيعي ومنتظم( ليصبح عدد مالكي العشرة ملايين سدس عدد مالكي المليون، وعدد مالكي المائة مليون سدس عدد مالكي العشرة ملايين وهكذا علي التوالي). ومنذ زمن باريتو أكدت دراسات لا حصر لها وجود هذا الانتظام في توزيع الثروة عبر كل القارات والحضارات.
وعلي هذا النحو يبدو أنه ليس للتفاوت أي صلة بالإجابات الجاهزة من جانب قطبي السياسة، اليمين واليسار، فعلي نحو ما تصور "لعبة الثراء" بواسطة النموذج الافتراضي، قد تدفع عملية طبيعية تماماً معظم الثروة إلي أيدي قلة من الناس؛ دون أي مؤامرة أو تواطؤ من الأقوياء، وهي أيضاً تُظهر أن علينا توقع فوارق هائلة في الثروة، بغض النظر عن توزيع الموهبة الإنسانية!، إذ نجد هذه الفوارق حتى إن كان الناس متساوين تماماً في مهاراتهم في جميع الأحوال؛ ولذلك فإن من المستحيل استنتاج السبب في حيازة الأثرياء للثروة، أهى من ذكائهم ومهاراتهم أم من دأبهم وعملهم الشاق. فالموهبة ليست موزعة بالتساوي بين الناس، ولكنها ليست متفاوتة كذلك تفاوتاً كبيراً، والمشكلة هي أن القدرة علي كسب المال هي المتفاوتة، إذ إن كسب الملايين ليس دليلاً علي فضيلة، مثلما قد يري المتدينون والأغنياء، ذلك أن كسب المال محصلة: حظ أو فرصة - جشع أو سرقة- مهارة أو اجتهاد، ومهما تكن الخلطة فإن نسبة مئوية صغيرة جداً من الناس سوف تكسب نسبة كبيرة جداً من الثروة، وتلك هي المشكلة مع ما يدعى نظام المقدرة والانجازات.
إن الثروة، بحكم التعريف، هي كل ما يملكه أي إنسان، وكل واحد منا لديه قدر معين من الثروة، ولدي بعضنا أكثر ما لدي غيرهم، وهذه الثروة تتذبذب زيادة أو نقصاناً علي مر الزمن، ولا شك أن القيام بتنبؤات بشأن زيادة أو نقص ثروة إنسان ما، هو أمرُ عسير، لكن هناك طريقتان مختلفتان، وإن كانت أساسيتين بدرجة متساوية، في كيفية حدوث تغيرات في حيازة شخص ما للثروة:
الأولي، هي التبادلات النقدية، فالشركات تدفعُ أجوراً للعاملين فيها، وقيمة هذه الأجور تحصّلها الشركات عبر مبيعات منتجاتها أو خدماتها التي توفرها للمواطنين. وكلما انتقل النقد من يد إلي يد، أودع شخص ما شيكاً في بنك أو اشتري هدية، ينساب جزءٌ من الثروةِ سائلاً في مجري قنوات التبادل الاقتصادي، جاعلاً بعض الأشخاص أكثر ثراء، وبعضهم أقل ثراء، هذا النوع من التبادلات النقدية، يشكل قوام حياتنا الاقتصادية اليومية؛ إذ يصيب الأفراد من الثروة أو يفقدون، حتى وإن ظل مجموع النقود هو نفسه.
الثانية، هي الاستثمار، وهذه الطريقة لا تترك المجموع علي نفس ثباته، ففي معظم الأحيان تخلق الاستثمارات الثروة، وبالطبع يمكن أيضاً أن تضيعها، وكلا الأمرين يتم باعتماد شديد علي عنصر الحظ، فالثروة، كمادة، تنساب من شخص إلي آخر، وأحياناً تتغير كميتها، زيادة أو نقصاناً، عندما يستثمرها الشخص نفسه من حين لآخر.
ما الذى تقدر على فقده:
وفي عام 2000، بدأ عالما الفيزياء جان فيليب بوشو ومارك ميزار استكشاف طرق عمل عالم افتراضي مبني علي هذه الحقائق، حيث يتبادل الناس الثروة بإجراء تعاملات تجارية بين بعضهم البعض، وأيضاً يربحونها ويخسرونها من خلال الاستثمارات، كذلك افترض العالمان شيئاً آخر، وهو أن قيمة الثروة نسبية؛ فامرأة دون زوج وتعول ابنها، قد تواجه ما يشبه الإفلاس إذا فقدت مائة دولار مثلاً. في المقابل فإن شخصاً ثريّاً لن تؤثر فيه خسارة بضعة آلاف من الدولارات. بعبارة أخري فإن قيمة الثروة، أكثر أو أقل قيلاً، تتوقف علي مدى ما يملكه صاحبها أصلاً، ودلالة هذا أنه متى بات الأمر متعلقاً بالاستثمار، فسيغلب علي الأثرياء أن يستثمروا بنسبة تفوق تلك التي يستثمر بها من هم أقل ثراءً. وسرعان ما اكتشف العالمان أن التعاملات بين الناس يغلب عليها أن تنشر الثروة فيما حولها، وإذا صار أحد الناس ثريّاً بصورة مذهلة فإنه قد يسافر إلي كل مكان، ويبني بيوتاً ويستهلك مزيداً من السلع؛ وفي كل من هذه الحالات يغلب علي الثروة أن تنساب في اتجاه الآخرين، في حين أن الفقير سيشتري مقداراً أقل من السلع، وبالتالي سوف تنساب مقادير أقل من الثروة تجاه الآخرين.
لقد اكتشف بوشو وميزار - رغم أنهما أعطيا كل شخص في عالمهما الافتراضي نفس المهارة في اختيار الاستثمارات- أن الحظ الخالص جعل بعض الناس يربحون من الثروة أكثر مما ربح الآخرون، عندئذٍ صار لأولئك المزيد من الثروة الذي يقومون باستثماره، فائزين بفرصة لمزيد من الربح. وهذا يؤدي إلي السر الحقيقي وراء عجزنا عن فهم التفاوت في الثروة، وهو الافتقار إلي تقدير الكيفية التي تتسارع بها زيادة الأرباح التي تتزايد أضعافاً مضاعفة، إذ يمكن أن تكفي سلسلة من عوائد الاستثمار الايجابي في حدوث تفاوت ضخم في ثروات الناس، لأنها تكْوّن ثروة الشخص لا بمجرد الإضافة( متوالية حسابية)، بل بالمضاعفة(متوالية هندسية)، والنتيجة – في النموذج الافتراضي- هي أن معظم الثروة تتكدّس في أيدي قلة ضئيلة. ويقول ويل ديورانت في كتابه "دروس من التاريخ": " إن تركيز الثروة شيء طبيعي وحتمي، تلطفه دورياً إعادة توزيعها جزئياً بعنف أو بهدوء، وفي ضوء هذه الفكرة يكون التاريخ الاقتصادي كله أشبه بنبضات القلب البطيئة للكائن الاجتماعي، فهو انقباض وانبساط هائلان في تركيز الثروة وإعادة توزيعها".