ملاحظات حول: إشكاليات التجديد في الفكر الإسلامي المصري (1-2)
إحدى أكبر المشكلات البنيوية لعمليات بناء الدولة القومية الحديثة في مصر، تمثلت في العلاقات بين الدين والدولة، والطابع الصراعي الذي وسم هذه العلاقات بكل ما انطوى عليه من توترات واحتقانات، ونزاعات وصلت إلى مستويات من العنف المتبادل بين كل الأطراف، والفاعلين على مسارح الدين والدولة والسياسة والتشريع والمجتمع.
إن سعيَ الدولة والسلطة والنخبة السياسية الحاكمة بعد 23 يوليو 1952 وحتى الآن للسيطرة على توظيفات الدين في إطار توجهاتها وأهدافها، أدى إلى مواجهات ضاربة مع جماعة الإخوان المسلمين منذ وصول الضباط الأحرار إلى سدة السلطة، وحتى أزمة 1965، ثم في إطار المصالحة التي تمت معها بعد حرب أكتوبر 1973، وفي الشهور الأخيرة من أكتوبر 1974. والتوترات التي حدثت معها في نهاية حكم السادات.
الصراع لم يقتصر على جماعة الإخوان، وإنما مع جميع الجماعات الإسلامية الراديكالية، كحزب التحرير الإسلامي الذي أُطلِق عليه إعلاميًا وسياسيًا جماعة الفنية العسكرية الفاشلة، ثم جماعة المسلمين المعروفة إعلاميًا بالتكفير والهجرة، حتى جماعات الجهاد والجماعة الإسلامية، والقطبيين، والصوفيين، والتوقف والتبين، حتى الصراع الراهن مع جماعة الإخوان حتى مع إدماجهم الجزئي داخل التركيبة البرلمانية بعد عام 1984 وما بعده، حتى تداخلهم وتوظيفهم لواقعة مقتل المحامي عبد الحارث مدني عام 1995، وصولًا إلى حصولهم على 20% من مقاعد البرلمان عام 2005، إلى انتخابات 2010 التي تم تزويرها، ومشاركتهم الجزئية خلال أيام الانتفاضة الثورية، ثم وثوبهم عليها، وتوظيفها لصالحهم سياسيًا مع القوى السلفية والجماعات الإسلامية السياسية الأخرى. إن تجربة الإخوان والسلفيين والإسلاميين السياسيين عمومًا في الحكم، كشفت عن عمق أزمات الفكر الديني عمومًا، والإسلامي على وجه الخصوص، وازدادت أهمية إشكاليات هذه الأزمات الممتدة بعد أحداث 30 يونيو 2013 وظهور بعض الجماعات، السلفية الجهادية متمثلة في القاعدة، وأنصار بيت المقدس وسواهم.
الصراع السياسي والتأويلي والتوظيفي للإسلام في السياسة والمجتمع لم يعد حكرًا على طرف دون طرف، وفاعل دون آخر.
جوهر الصراع هو السلطة، وأحد وجوهه البارزة يتمثل هو الصراع التفسيري والتأويلي، وسطوة الأفكار الفقهية الموروثة وأسئلتها وإجاباتها القديمة ابنة أزمانها على الوضعية الحديثة والمعاصرة للمجتمع، والمسلم المصري المعاصر بل وتحديات متغيرات العولمية الجديدة.
من هنا تشكل سطوة الفقه والتفسيرات والتأويلات الموروثة ومقاربتها للمشاكل والأسئلة المعاصرة، تعبيرًا عن أزمة الفكر الإسلامي، وإشكاليات تجديده المعرفية والمنهجية وضوابطها.
ازدادت أهمية معالجة مسألة التجديد في الفكر الإسلامي المعاصر، مع تزايد الحركات الإسلامية السلفية الجهادية، وفشل القوى الإسلامية السياسية، في إدارة شئون الدولة والمجتمع بعد 25 يناير 2011 في مصر.
من هنا سنحاول مقاربة إشكاليات التجديد فيما يلي من ملاحظات أولية.
أولًا: التجديد في الفكر الديني: انكسار وتراجع المجددين
تعد مفردة التجديد إحدى أكثر المفردات شيوعًا في الخطابات والسرديات المصرية والعربية، وذلك لارتباطها بأسئلة التقدم والتخلف والنهضة والحداثة والتحديث والتطور والتطوير، ومن ثم نحن إزاء كلمة إصطلاح مفتاح في الأدبيات النهضوية والحداثية تداخلت مع عديد الحقول المعرفية وقضاياها وإشكالياتها المختلفة.
ارتبطت المفردة بالدولة، والتشريع، والنظام الاجتماعي، والنظام السياسي والاقتصادي والمؤسسات والأفكار على اختلافها وتحديدًا الدينية الإسلامية والمسيحية. من الشيق ملاحظة أن اصطلاح التجديد والمجددين ظهر في تاريخ الأدب العربي لوصف تيارات التجديد في الشعر العربي في مواجهة المحافظين من الشعراء الكبار التقليديين، ثم تراجع هذا الاصطلاح ليحل محله اصطلاح الحداثة الشعرية والسرديات الحداثية، ثم شعراء الحداثة وقصيدة النثر، وما بعد الحداثة.
ثمة مصطلح آخر نافس ولا يزال مصطلح التجديد، ونستطيع أن نقول إنه تجاوزه خلال أواخر الثمانينيات واستمر إلى الآن، ألا وهو اصطلاح الإصلاح الذي شاع وأطلق على عديد المجالات ومنها الإصلاح الديني، والإصلاح الاجتماعي، والإصلاح السياسي، ومن ثم أصبح أحد أبرز المصطلحات التي شاعت في السوق اللغوي الاصطلاحي ولا يزال، وخاصة في المرحلة شبه الليبرالية، وفي أعقاب التحول نحو سياسة الباب المفتوح على عهد الرئيس محمد أنور السادات ـ الانفتاح الاقتصادي ـ ثم التحول إلى نظام السوق. والإصلاح الديني ينتمي مرجعيًا إلى السوق اللغوية الليبرالية ومصطلحاتها التي ترمي إلى معالجة بعض الاختلالات أو الأخطاء في نظام ما من النظم الاجتماعية أو القانونية أو السياسية أو الإدارية، بهدف تصحيح مساراته، وذلك في مواجهة النزعة الثورية والراديكالية الاجتماعية أو السياسية.
مفهوم الإصلاح الديني يثير بعض من الحساسية لدى بعض الإسلاميين أو رجال الدين الرسميين، وذلك لارتباط هذا المصطلح بالحركة البروتستانتينية والكالفينية التي شكلت خروجًا على التقاليد الكنيسة المؤسسية واللاهوتية الكاثوليكية والأرثوذكسية، ومن ثم يرى بعضهم أن هذا الاصطلاح يرتبط بتجربة دينية أوربية وغربية تختلف عن الإسلام كديانة وعقيدة وشريعة وقيم وطقوس.
من هنا لجأ بعض الكتّاب والباحثين إلى استخدام مفردة التجديد الديني والأحرى القول تجديد الفكر الديني، وذلك لإزالة أية التباسات حول مفهوم التجديد في علاقته بالدين، وذلك تأسيسًا على أن الإسلام له ثوابته وأسسه في العقيدة والطقوس والإيمان لا تتغير ولا تتبدل لأنها منزّلة من عند اللـه سبحانه وتعالى، ولا يجوز التعرض لها بالتجديد أو التغيير. من ناحية أخرى التجديد يتناول الفكر الديني في كل مناشطه، لأنه وضعي وبشري، ومن هنا التجديد يمس الفهم البشري للدين الإسلامي وعقائده وأصوله وقيمه ومعاييره، ومذاهبه، ومواريثه الفقهية والتفسيرية والتأويلية والقانونية والفلسفية ... إلخ.
التجديد يقصد به إدخال تعديلات وتحويلات وإعادة تفسير وتأويل وبحث وتحليل وتفكيك ونقد في المنظومات الفكرية والفقهية والإفتائية والخطابية الإسلامية الوضعية، وذلك من خلال إعادة الدرس النقدي والمنهجي لتاريخ الأفكار الإسلامية، ووضعها في سياقاتها التاريخية، وطبيعة الأسئلة والمصالح المختلفة والمتنافسة في عصرها، ومدى تأثيرها على عمليات تَشكّل وإنتاج وإعادة إنتاج نظم الأفكار الفقهية والكلامية والتفسيرية والتأويلية. هذا الدرس النقدي التاريخي يشكل إحدى مقدمات التجديد، وذلك بهدف تأسيس الوعي التاريخي والمعرفي الذي تتطلبه أية مقاربة تجديدية في المنهج والمفاهيم والآليات ترمي إلى ممارسة تجديدية واجتهادية أكثر شمولًا ترمي إلى تجاوز أسئلة وإجابات وتفسيرات عصور ولّت، ولمواجهة أسئلة وظواهر اجتماعية وسياسية وقانونية واقتصادية ومعرفية جديدة وطارئة... إلخ، أكثر تعقيدًا في عالمنا المعولم.
هذا التوجه التجديدي عمومًا للفكر الديني الإسلامي المصري كان أحد أبرز مؤثرات الصدمة الثقافية الغربية التي جاءت مع مدافع نابليون وأفكار وممارسة السان سيمونيين وطلائع تجديد الدولة المصرية محمد علي باشا، وإسماعيل باشا، ونوبار باشا وشريف باشا، والحداثة القانونية، وتحديث الدولة وهياكلها على المثال الأوربي، وتشكل القومية المصرية في إطار الحركة الوطنية الدستورية المعادية للاستعمار البريطاني وثورة 1919، ودستور 1923.
بيئة سياسية وثقافية اتسمت بالروح والممارسة شبه الليبرالية، والأهم أنها انفتحت على أسئلة جديدة حول التخلف والتقدم والنهضة والتحديث ... إلخ، ومن ثم شاعت الجدالات الكبرى بين مدارس الفكر السياسي والاجتماعي في مصر، والأهم أثرت توجهات التجديد والمجددين في الفقه الدستوري والقانوني، وفى الجامعات وفى إطار الجماعات الثقافية المصرية مما أدى إلى التأثير على الأجواء المحافظة التي سادت المؤسسة الدينية الأزهرية. ترتب على الجدالات والسجالات الفكرية تأثر بعض المشايخ الأزهريين بهذه الأجواء على نحو ضاق بهم جمود المؤسسة وأساليب الإدارة والتدريس بها، مما أدى إلى توجّه المجددين إلى المجال العام والجامعة المصرية والصحف للتعبير عن آرائهم. من هنا نستطيع رصد تاريخ طويل من أسماء الكبار الذين حاولوا التجديد في المقاربة الدينية الفقهية والتفسيرية والإفتائية ... إلخ، منذ تأسيس الدولة الحديثة بدءًا من المشايخ حسن العطار، وخليفة المنياوي، ورفاعة رافع الطهطاوي، ومحمد عبده وعلي عبد الرازق، ومصطفى عبد الرازق، وطه حسين، وأحمد أمين، وعبد المتعال الصعيدي، والشيخ أمين الخولي، ود. محمد أحمد خلف اللـه، وعبد الحميد بخيت، ومحمود شلتوت، ويمكن أن نضع بعض مشايخ الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق ـ على قلة المجددين بينهم ـ ولا سيما الشيخ علي الخفيف.
انكسرت مشروعات التجديد على تعددها وتباينها ومقارباتها وجزئياتها وابتساراتها وعدم اكتمالها لعديد الأسباب على رأسها:
1- قوة تيار المحافظين والغلاة داخل المؤسسة الإسلامية الرسمية، والمزايدات السياسية على الإسلام وبه في النظام السياسي والسلطة المصرية الحاكمة بعد 23 يوليو 1952.
2- تراجع مستويات التكوين العلمي التراثي والحديث داخل الجامعة والتعليم الأزهري، والاعتماد على المناهج التلقينية.
3- غياب الديمقراطية في النظم والممارسات السياسية، والقيود على حريات الرأي والتعبير.
4- انتشار الحركات الأصولية الإسلامية والراديكالية بعد هزيمة يونيو 1967، ثم الصراعات على الهوية المصرية عمومًا وصولًا إلى عودة جماعة الإخوان إلى العمل السياسي شبه العلني بعد مصالحتهم مع السادات عام 1974.
5- انتقال الصراع على الهوية المصرية إلى الصراع على هوية الإسلام المصري، أي التوجهات والتقاليد والممارسات الدينية التاريخية للمسلمين المصريين، وذلك من خلال نمطين من الضغوط أولها: ضغوط الإخوان والجماعات الإسلامية السياسية الراديكالية، والجماعات السلفية وسجالاتهم حول هوية الإسلام المصري، وإعادة طرح مفهوم الجامعة الإسلامية وفكرة الخلافة الإسلامية.
ثانيها: ضغوط المؤسسة الوهابية المحافظة مع ثورة عوائد النفط وما بعدها، والنزوع السعودي للتأثير على الأوضاع الدينية في مصر من خلال عديد أشكال دعم انتشار الأفكار السلفية والوهابية ومراجعها وأشرطتها زمن ثورة الكاسيت. من ناحية أخرى التأثير على بعض علماء الأزهر من خلال نظام الإعارات والتعاقدات مع الجامعات والوزارات والمؤسسات الدينية السعودية، والاستكتاب في الجرائد والمجلات، فضلًا عن البرامج التلفازية وصولًا إلى الفضائيات.
6- أسهم العنف الديني، والتوترات والفتن الطائفية في استمرارية دعم تيار الغلاة والسلفيين والإخوان المسلمين في طرح خطاباتهم المحافظة التي تستعيد المتون والآراء الفقهية والفتاوى القديمة والشروح على الحواشي والحواشي على الحواشي وتحاول فرضها على واقع مختلف.
ثانيًا: مظاهر الجمود في الفكر الديني الإسلامي
نستطيع القول: إن قدم مسألة التجديد في الفكر الديني الإسلامي المصري لم تستطع أن تبنيَ مسارًا في عمق المعرفة والوعي الديني المصري، بل ثمة استمرارية للجمود الفقهي والتفسيري والتدريسي للإسلام ـ والاستثناء جدُ محدود ـ والأخطر هو شيوع روح التزمت والغلو لدى غالب الجمهور، وعسر تكيف العقل الديني النقلي الرسمي، واللا رسمي مع متغيرات الحياة العصرية والمعولمة.
يمكننا أن نرصد بعض مظاهر أزمة الفكر الديني الإسلامي فيما يلي:
1- غلبة الشكلانية والطقوسية والنزعة الاستعراضية في الخطاب والممارسة الدينية اليومية.
2- شيوع نمط من البلاغة الخطابية الجوفاء لدى بعض رجال الدين الرسميين أو اللا رسميين.
3- اختطاف الشارع للإسلام، وذلك من خلال وعّاظ الشوارع ـ ولاسيما من داخل الحركة السلفية ـ ومن خلال الاستيلاء على سلطة الإفتاء والخطاب الشفاهي الملفوظ، ومن ثم بات بعضهم يحقق مكانة وسلطة على الآخرين تحدد ماهية الحلال والحرام في السلوكيات والزي ولغة التخاطب اليومي .. إلخ.
4- تمدد الحركة السلفية وخطابها وممارساتها الدينية الاستعراضية.
5- سيطرة العقل النقلي الاجتراري على العقل الاجتهادي لدى رجال الدين الرسميين واللارسميين وأصبح المجتهدين يشكلون قلة تعاني العنت والحصار.
6- تراجع تأثير المؤسسة الدينية الرسمية ـ الأزهر ـ في الحياة الاجتماعية، وميل بعض رجالها للغلو والسلفية والراديكالية، وتراجع تأثيرها الإقليمي والدولي.
7- بروز دور الإعلام التلفازي، ولا سيما القنوات الفضائية وبعض تأثيراته السلبية على إنتاج الخطابات والأفكار الدينية الإسلامية، ويمكن لنا رصد مظاهر ذلك فيما يلي:
أ- أسهمت في دعم ونشر الفقه الوهابي، والثقافة الدينية التي ارتبطت بنمط الحياة والقيم البدوية، وفي المدن الصحراوية الجديدة ـ حيث الحياة التقليدية في قلب عمارة حديثة ـ وهو ما ساعد على توجيه بعض الفكر الديني المصري والعربي والإسلامي إلى التأثر بالفكر الديني الوضعي الوهابي، أو السلفي السائد في إقليم النفط من عديد الأوجه ومنها:
أسئلة الواقع البدوي أفكاره الموروثة تغاير بعض أسئلة وأوجه الحياة المصرية، من حيث التناقضات والتوترات بين نمط الحياة الحديثة والمعولمة وأنماط استهلاكها، وبين بعض الأفكار الحاملة لها، وبين موروثات التربية ـ التنشئة الاجتماعية ـ والقيم والسلوكيات والعلاقات والقواعد العرفية القبلية والعشائرية والعائلية وبين منطق الحياة الحديثة في التعليم، والقيم، وطرائق التفكير ومناهجه، بل وفي منطق الاكتشافات العملية وفي مجال العلوم الطبية وتقنياتها. المنطق الحديث وما بعده ومحمولاته القيمية وأسئلته ومناهج تفكيره شكلوا تحديًا وتناقضًا وتوترًا على الحياة في البوادي والمدن الصحراوية التقليدية ـ القيم والمواريث والمحمولات ـ والحديثة من حيث التصميم الهندسي والتخطيط المعماري.
هذا النمط من الأسئلة والظواهر طرح نفسه وبقوة على الفكر الديني السعودي والخليجي، وكانت الاستجابات تقليدية غالبًا وتعيد إنتاج أسئلة التحديات والضوابط التي ارتبطت بحياة القبيلة / العائلة الممتدة.
ب- شكلت حياة العرب المسلمين في إقليم النفط وشبه الجزيرة العربية أحد المحاور الرئيسة للأسئلة، والطلب الاجتماعي المحافظ والتقليدي وشبه الحديث على الخطابات الدينية الإفتائية والدعوية والفقهية، ومن هنا أدت إلى ضغوط على الفكر الإسلامي المصري كي يتواءم مع هذا الطلب الاجتماعي والمذهبي والفقهي، كي يكون منتجو الخطابات الدينية على اختلافها جزءًا من العرض على هذا الطلب، والاستجابة له، حتى يكونوا جزءًا من المشهد الديني الإسلامي السنِّي في الإقليم.
ج- شكل الطلب الديني (أسئلة / فتاوى / آراء / كتابات) في إقليم النفط أساسًا أحد أبرز وجوه ومضامين طلب أجهزة الإعلام المكتوبة والمسموعة والمقروءة في الإقليم النفطي، ومن ثم أثرت على قائمة أعمال (أجندة) اهتمامات رجال الدين ـ وعّاظ ومفتيِّين وأساتذة فقه وأصول دين وتفسير ودعاة الطرق وفق تعبير الأستاذ العميد طه حسين، وغيرهم من مشايخ السلفية ومنظري ومفتيِّي الحركة الإسلامية السياسية بكل تنوعاتها وتعددها ـ وكانت الاستجابة المصرية عمومًا تتسم بالسعي نحو الاستجابة والمواءمة بين الإسلام المصري والإسلام الوهابي وفي إقليم النفط، وهو ما أدى إلى استعارات واستجابات أقرب إلى المفاهيم والأفكار الوهابية السائدة هناك، ولا سيما مع تزايد الطلب وارتفاع الأجور والمكافآت، وإعارات أساتذة الأزهر ووعاظ الأوقاف وغيرهم إلى الجامعات ووزارات الأوقاف والدعوة الإسلامية.
د- تأثر العمالة المصرية الوافدة بنمط التدين الوهابي الوضعي البدوي ونقلهم للقيم والممارسات الدينية معهم بعد عودتهم لبلادهم.
8- بروز دور الفضائيات العربية والدينية السلفية أساسًا الذي أثّر على بعض التوجهات نحو المزيد من التشدد والتزمت والميل إلى التكفير بسبب دخول أطراف غير مؤهلة من الناحية التكوينية والفقهية والمنهجية إلى سوق إنتاج الفتاوى.
9- اعتماد إنشاء الفضائيات على التمويلات المالية، ومن ثم باتت القدرة المالية على إطلاق إحدى القنوات هي التي تفرض معها نمط فكرها الديني وممثليه ومصالحه على اختلافها.
10- تحولت الفضائيات إلى ميدان لمجاراة الفكر المتطرف، وفقه الشارع العربي الإسلامي الراديكالي والتكفيري، وذلك من خلال تأثير ردود أفعال الجمهور، ومشايخ القنوات على تمويلها من خلال الطلب الإعلاني، ورسائل الـ S.M.S على بعض برامج المشايخ السلفيين.
وبرز متغير جديد على المشهد الإعلامي والمعلوماتي هو استخدام القنوات السلفية، خلال العقد الماضي والإخوانية في أعقاب 25 يناير 2011 ومعها قنوات داعمة كالجزيرة القطرية وبعض القنوات التركية التي تؤيد أطروحات الجماعة السياسية والإيديولوجية لا سيما بعد أحداث 30 يونيو 2013.
من ناحية أخرى أسهمت الصحف والمواقع الإخوانية على الإنترنت في الكشف عن أزمة عميقة في الفكر الديني لدى الجماعة، وبعض الجماعات السلفية. تحولت ثورة المعلومات والاتصالات إلى عامل قوة إضافي لدى الإسلام السياسي، وفي دائرته السلفيات الجهادية التي تبث أفكارها وممارساتها الدامية على الواقع الافتراضي، وهو ما يكشف عن تحول القوة المعلوماتية الاتصالية الجديدة وتطوراتها السريعة إلى محض أداة ولم تؤثر في بنية الخطابات الدينية السياسية والراديكالية من حيث جمودها وتزمتها وتقليديتها وعدم تطورها إلا قليلًا واستثناءً.
أدت المنافسات والصراعات على السوق الديني، ونمط الطلب السائد داخله إلى بروز ظاهرة حروب الفتاوى المتشددة في سبيل الحصول على أكبر قدر من المشاهدة، ومن ثم على الإعلان فيها.
12- استمرارية ظاهرة التوظيف السياسي للدين من السلطة السياسية، وأجهزة الدولة، قبل 25 يناير 2011 وما بعد والخلط بين المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية والتعليمية ... إلخ، والدينية. وهو ما أدى إلى عديد النتائج السلبية ومنها:
أ- هيمنة الديني على المجالات كافة، ومن ثم كرس سلطة رجال الدين على المتخصصين وأهل الخبرة في مجالات شتى، وبات السؤال الديني ومضمراته من القيود الشائعة على حرية الرأي والتعبير.
ب- قمع حريات الفكر والتعبير والبحث الأكاديمي على اختلافها، وبروز بعض مظاهر النفاق الديني، وتراجع مظاهر الاجتهاد والتجديد الديني، وفي البحوث الاجتماعية على اختلافها.
ج- رفع دعاوى الحسبة على المبدعين والمفكرين والصحفيين من قبل بعض المشايخ والوعّاظ والمحامين والعوام، مما كبل الحريات العقلية والإبداعية والبحثية والتعبيرية.
13- إضعاف القوى المدنية الداعمة للحداثة والتحديث السياسي والثقافي.
14- تزايد الضغوط الدينية الاجتماعية على المرأة المصرية وحرياتها وحقوقها كمواطنة في المجالين السياسي والاجتماعي.
15-اتخاذ الثقافي موضوعًا للتيار الديني السياسي للحضور في المجال العام السياسي وكسر الحواجز والقيود السياسية والقانونية والأمنية على الحركة الإسلامية السياسية.
بعض الملاحظات السابقة عن عديد الأزمات بين الدين والدولة والنظام السياسي التسلطي في مصر، لا تزال تشكل جزءًا من تعقيدات الأزمات المستمرة للجمود في الفكر الديني، وتفاقم النزعات المحافظة التي أنتجت فجوات بين السلع الدينية ـ آراء وفتاوى ووعظ ودعوة مكتوبة أو مرئية أو مسموعة ـ التي تتسم بالغلو والتشدد أو الراديكالية الجهادية، وبين مشاكل الحياة اليومية التي يعاني منها المصري المسلم المعاصر على عديد الصُّعد الاقتصادية والقيمية والاجتماعية.. إلخ.
واقع معاش متخم بالأسئلة والالتباسات، وواقع المؤسسة الدينية الرسمية المتراجع، وسطوة الجماعات الإسلامية السياسية، والسلفيين، وسواهم الذين لا يزالون يعيدون إنتاج بعض الموروث الفقهي والإفتائي والدعوي الوضعي، دون محاولة جادة للخروج من إسار الموروثات الوضعية البشرية الطابع بامتياز، والتي تعد جزءًا من أسئلة عصورها وبيئاتها ومشاكلها.
إن إرث الجمود في الفكر الديني ازداد تفاقمًا في أعقاب الانتفاضة الثورية في 25 يناير 2011، لا سيما مع الاضطراب والسيولة، والفوضى، واتساع الفجوات الأمنية التي أتاحت للقوى الإسلامية السياسية الإخوان المسلمين والجماعات السلفية وآخرين تشكيل أذرع سياسية لهم، واستطاعوا أن يسهموا بفاعلية في الانقسامات الاجتماعية والسياسية مع القوى السياسية المدنية. إن منطق وسياسة الغلبة والتمكين هيمن على تفكير هذه القوى على تعددها، والتي استطاعت فرض قوائمها ـ أجندتها ـ السياسية على عملية التخطيط لعمليات الانتقال السياسي، في المرحلتين الانتقالية الأولى والثانية من تعديل جزئي لدستور 1971، ثم الانتخابات البرلمانية، والانتخابات الرئاسية.
وصل الإسلاميون السياسيون إلى سدة السلطة في البلاد، وكشفت هذه المرحلة عن الآثار السلبية لجمود الفكر الديني ومرجعياته الفقهية التي تتسم في غالبها بالغلو والتزمت، ومن ثم برزت في المشهد الديني السياسي، عديد المشكلات ومنها:
1- صعود رجال الدين والتنظيم والمال داخل جماعة الإخوان، ومشايخ الحركة السلفية وسواهم إلى صدارة المشهد، وذلك من خلال الاعتماد على دورهم الإفتائي وآرائهم في الأمور السياسية وغيرها، فضلًا عن دورهم الدعوي والتعبوي في الحشد الجماهيري لقواعدهم والعاطفين عليهم، للتظاهر للمطالبة بتطبيق نظام الشريعة، وتغيير طبيعة الدولة، أو في ممارسة الضغوط على السلطة الانتقالية بدءًا من استلام المجلس العسكري السلطة إلى نهاية المرحلة الانتقالية الثانية في 30 يونيو 2013 وما بعد.
2- تجسد الفكر الديني السياسي المتشدد في أثناء تعديل دستور 1971، وخاصة في إعداد دستور 2012، من خلال فرض بعض النصوص التي تتوافق مع الرؤية السلفية والإخوانية التي تسمح بتغيير طبيعة الدولة الحديثة ونظامها القانوني والقضائي.
3- تم استخدام سياسة الهوية، والربط بينها وبين تصوراتهم عن الدولة والتشريع ودور رجال الدين، ونظام القيم، والعلاقة مع المواطنين المصريين من غير المسلمين من المسيحيين بمختلف مذاهبهم، وبقايا اليهود المصريين، وآخرين كالبهائيين وشهود يهوه، وهو ما يعني بروز بعض التمييز على أساس الانتماء الديني بين المواطنين في إطار الدولة، ومن ثم المساس بمبدأ المساواة الدستوري، وحقوق المواطنة على اختلافهما. من ناحية أخرى شكل اعتراف الدستور بالأديان السماوية الثلاثة استبعاد للبهائيين أيًا كانت محدودية أعدادهم. من ناحية أخرى أدت بعض نصوص الدستور في المادة 219 ذائعة الصيت إلى ما يسمح بالتمييز إزاء المصريين الشيعة.
4- قامت الجماعات السلفية والإخوان بتدريب مجموعة من القضاة العرفيين لتطبيق أحكام الشريعة في المنازعات التي تنشأ بين الجمهور، لاسيما في شبه جزيرة سيناء، وذلك في مرحلة الاضطراب الأمني، والهجوم على السلطة القضائية، والقضاة.
5- بروز انتهاكات متعددة لحقوق المواطنين الأقباط، من خلال ازدياد الاحتقانات الطائفية، والاعتداء على بعض المواطنين، وانتهاك الحق في الخصوصية، وقطع أذن بعض المسيحيين. من ناحية أخرى اتسع نطاق الاعتداء على دور العبادة المسيحية من كنائس وملحقات لها.
لا شك أن هذه المتغيرات أسهمت في الانقسامات الحادة ـ مع الأطراف الأخرى ـ وذلك كنتاج لسيطرة الأفكار والفتاوى والآراء السلفية والمحافظة والمغالية، والأخطر انعكاس هذا النمط الفكري والإيديولوجي الديني المتشدد على مستوى الممارسات السياسية والاجتماعية اليومية، على نحو بات يهدد نمط الحياة الحديث، الذي أَلِفَه وعاشه المصريين منذ نهاية القرن التاسع عشر، والقرن الماضي، وحتى اللحظة التاريخية الراهنة.
ساعد هذا النمط الإيديولوجي الديني الوضعي، في تهيئة الأجواء من قبل القوى الإسلامية على تمدد النزعة التكفيرية للمغايرين في الرأي والسلوك والاتجاه السياسي، أو الانتماء الديني. ترتب على هذه التوجهات خلال المرحلتين الانتقالية الأولى والثانية تشجيع القوى السلفية الجهادية على الظهور في شبه جزيرة سيناء، ومناطق أخرى في الجمهورية، وبدعم من جماعة الإخوان المسلمين.
من هنا نستطيع القول: إن العملية الديمقراطية التي تمت في أعقاب 25 يناير 2011، لم تستطع أن تؤثر على إيجاد بعض المقاربات الجديدة في إطار الفكر الديني السائد، واستمرت الاتجاهات المحافظة والمتشددة.