تصاعد الاختلافات: تقاطعات الرؤيتين الأمريكية والأوروبية في التعامل مع الصين
أثارت تصريحات الرئيس الفرنسي،
إيمانويل ماكرون، الجدل والأسئلة خاصة بعدما قال فيها إن على أوروبا أن تنتهج
سياسة مستقلة عن الولايات المتحدة والصين وأن تكف عن التبعية لواشنطن، وأنه على
أوروبا أن تقلص ارتباطها بالولايات المتحدة، وأن تتجنب مواجهة محتملة مع الصين
بشأن تايوان. مؤكدا على نظريته حول
"الحكم الذاتي الاستراتيجي" لأوروبا التي من المفترض أن تقودها فرنسا، حيث
صرح الرئيس الفرنسي قائلا: "أسوأ ما في الأمر أن نعتقد أننا يجب كأوروبيين أن
نكون تابعين في هذا الملف وأن نتأقلم مع الإيقاع الأمريكي أو رد الفعل المبالغ فيه
من الصين"، بل يجب على أوروبا أن تكون "ٌقطبا ثالثا"، حسبما نقلت
عنه "Les Echos".
لتصبح "قوة عظمى ثالثة". وجاءت هذه التصريحات
في أعقاب زيارته إلى الصين، والتي رافقته فيها رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون
دير لاين. وضمن السياق ذاته، وصف ماكرون زيارته التي تستغرق ثلاثة أيام إلى الصين
بأنها جزء من جهوده في التواصل لمحاولة لتجنيد الرئيس الصيني شي جين بينج للعب دور
رئيسي في بناء السلام بين أوكرانيا وروسيا. وتأتي قمة ماكرون وشي في الوقت الذي حذر فيه المسؤولون الصينيون من
العواقب والانتقام ردا على استضافة رئيس مجلس النواب الأمريكي كيفين مكارثي لرئيسة
تايوان في كاليفورنيا. وقال مكارثي للصحفيين عقب اجتماعه مع تساي إنه
يأمل أن يطلب ماكرون من شي ألا "يمول حرب روسيا في أوكرانيا" وأكد أن
"الديمقراطية تجعل العالم أكثر أمانًا وقوة".
اتجاهات أوروبية جديدة
"إن الخطر الكبير الذي تواجهه
أوروبا هو أنها عالقة في أزمات ليست من شأننا أو أزماتنا مما يمنعها من بناء
استقلاليتها الاستراتيجية". هكذا شدد ماكرون على أن الأوروبيين يجب ألا
يكونوا أتباعا للولايات المتحدة في أزمات لا دخل لأوروبا بها.
وفي نفس الإطار، لفت ماكرون إلى أن
أوروبا زادت من اعتمادها على الولايات المتحدة في مجال الأسلحة والطاقة وبالتالي
يتوجب على أوروبا الآن التركيز على تعزيز الصناعات الدفاعية الأوروبية. كما دعا ماكرون إلى ضرورة أن تقلل أوروبا من اعتمادها على الدولار
"خارج الحدود الإقليمية". وأنه يجب إيقاف تبعية أوروبا للولايات المتحدة
وتحقيق استقلال القارة الاستراتيجي. بجانب ضرورة
تقليل اعتماد أوروبا على السلاح ومصادر الطاقة الأميركية، وتجنب الانجرار لمواجهة
بين بكين وواشنطن بشأن أزمة تايوان.
على الجانب الآخر، تصاعدت بعض الآراء التي
تتحدث بإن هناك تعقيدات كثيرة تحول دون تطبيق رؤية ماكرون، لكنها على أي حال كانت
محل ترحيب صيني. وأن ماكرون حقق ويمكنه تحقيق استقلال بعيدا عن
الولايات المتحدة في مجالات عدة مثل الموقف من تايوان والصفقات التجارية، لكن في
الأمور الاستراتيجية الكبرى، يبدو الأمر متعذرا ويحتاج إلى عمل كبير.
الموقف الأمريكي
فيما يتعلق بالموقف الأميركي من زيارة
ماكرون للصين، تحرص واشنطن على أن تدفع الدول الحليفة لها، إلى اتخاذ موقف
"حذر" إزاء الصين، لا سيما بعد إطلاق روسيا عمليات عسكرية في أوكرانيا
المجاورة، واتهامات لبكين بالاصطفاف إلى جانب موسكو، رغم التحفظ في مسألة الدعم
العسكري.
وضمن هذا السياق، كتبت صحيفة
"نيويورك تايمز" الأميركية، أن زيارة ماكرون إلى بكين، رغم التوتر بين
واشنطن وبكين، تؤكد مرة أخرى أن الحلفاء لا ينظرون إلى الأمور من الزاوية نفسها
بالضرورة. وبحسب الصحيفة فإن هذه الزيارة قالت
"لا" على نحو صريح، لنهج واشنطن الاقتصادي الساعي إلى تطويق الصين
اقتصاديا، بعدما أضحت أكبر منافس للولايات المتحدة.
وقالت الصحفية أن هذه الزيارة أحدثت
نوعا من التوازن في مواقف بكين والغرب حيال الأزمة في أوكرانيا، لكن دون حصول
اختراق كبير بشأن هذه المسألة. كما صورت الصحيفة الأميركية مضي ماكرون قدما في
تعزيز العلاقات مع الصين، بمثابة نيل من التوجه الغربي الساعي إلى الحفاظ على
المؤسسات الليبرالية، لأن الحلفاء الغربيين لا ينظرون إلى الأمور بالعين نفسها.
واعتبرت صحيفة "نيويورك
تايمز" ما صدر عن ماكرون في هذه الزيارة بمثابة لعب "ورقة ديغول"،
في إشارة إلى نهج الجنرال والرئيس الفرنسي الراحل، شارل ديغول، الذي كان حريصا على
تحقيق سيادة باريس والنأي بها عن التبعية للولايات المتحدة.
من جانبه أكّد البيت الأبيض الإثنين
أنّ لديه "ملء الثقة" بالعلاقة "الممتازة" التي تربط بين
واشنطن وباريس، وذلك على الرّغم من التصريحات التي أدلى بها الرئيس الفرنسي
إيمانويل ماكرون بشأن تايوان ولقيت ردود فعل غاضبة في الولايات المتحدة. وقال المتحدّث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي للصحافيين
"نحن مرتاحون ولدينا ملء الثقة في علاقتنا الثنائية الممتازة مع فرنسا، وفي
العلاقة التي تربط الرئيس (جو بايدن) بالرئيس ماكرون". وأضاف أنّ "الفرنسيّين هم فعلاً بصدد الانخراط بشكل أكبر في منطقة
المحيطين الهندي والهادئ".
على الجانب الآخر، أوضح قصر الإليزيه
لاحقا أن هدف الزيارة لم يكن نقل بكين من معسكر إلى آخر، بل السعي إلى تقريب وجهات
النظر. الجدير بالذكر أن الأوروبيون الشرقيون الذين عانوا لوقت طويل من النظام السوفياتي،
شديدي التمسك بحلف شمال الأطلسي وبالحماية الأميركية، وينظرون بتشكيك إلى الدفاع
الأوروبي الذي تدعو إليه فرنسا، ولو أنها تشدد على أنه يفترض أن يكون مكملا للحلف
وليس منافسا له.
تداعيات متعددة
تعرض الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون
لانتقادات بعد تصريحات قال فيها إنه يتعين على أوروبا عدم التورط في الصراع في
تايوان وإن عليها أن تصبح "قطبا ثالثا" مستقلا عن واشنطن وبكين، وتأتي
التصريحات الفرنسية بشأن علاقاتها مع الصين وفق قناعة أوروبا بأن ترك الساحة
الصينية لروسيا ليس في صالح الدول الأوروبية، ولذلك هناك دعوات أوروبية للانخراط
في حوار جاد مع بكين حتى يكون أمام القيادة الصينية بديل عن الكرملين.
ولقد كان لاستبعاد فرنسا من تحالف
"أوكوس" الذي يضم الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، واستبعادها
كذلك من صفقة الغواصات النووية لصالح بريطانيا الأثر الأكبر حول اتجاه فرنسا إلى
قيادة جهود أوروبية موازية في سبيل إيجاد تسوية أكثر شمولا للأزمة الأوكرانية.
وضمن هذا الإطار، هناك توافر في الإرادة
السياسية الأوروبية للتغلب على الخلافات مع الصين، وذلك من خلال توافد القادة
الأوروبيين على بكين. فالرئيس ماكرون أصر على اصطحاب رئيسة المفوضية الأوروبية
خلال زيارته الأخيرة لتوصيل رسالة أوروبية موحدة، بعد أن توافد عدد من القادة
الأوروبيين على الصين بشكل منفرد خلال الشهور الأخيرة. وتلك الزيارات بدأت بزيارة
المستشار الألماني، أولاف شولتز، لبكين في 4 نوفمبر 2022، ثم زيارة رئيس المجلس الأوروبي،
شارل ميشيل، في مطلع ديسمبر من العام الماضي، وقبل أيام من زيارة ماكرون كانت
زيارة رئيس الوزراء الإسباني، بيدرو سانشيز، للعاصمة الصينية في 30 مارس الماضي.
في الختام: أثارت التصريحات التي أعلن
عنها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تساؤلات حول مدى قدرة الدول الأوروبية على
انتهاج سياسة مستقلة عن الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ناحية واشنطن فإن
الولايات المتحدة من المحتمل أن توافق إلى حد كبير على مثل هذا الموقف إذا كان
الأوروبيون أكثر قدرة على ضمان الأمن الأوروبي بأنفسهم، خاصة وأن هناك تصور بأن ماكرون
جعل من الولايات المتحدة المسؤول الوحيد عن التوتر وليس الصين رغم أن هدفها
السيطرة على تايوان وتغيير الوضع القائم، ومن ثم فإننا أمام مشهد أوروبي مختلف
تتقاطع فيه الرؤيتين الأوروبية والأنجلوساكسونية وهو ما يؤشر على إدراك الدول
الأوربية لطبيعة التغيرات المحتملة في هيكل النظام الدولي.