مقدمة                                                                                                                                                              

قبل نحو ثلاثة عقود ضم الجيش الألماني نحو 500 ألف جندي وأكثرمن 2000 دبابة إضافة إلي ما يقرب من ألف طائرة مقاتلة وهي تجهيزات كانت كافية آنذاك للوفاء بالإلتزامات الدفاعية للبلاد حال تحولت الحرب الباردة إلي مواجهة مباشرة ، لكن مع سقوط الإتحاد السوفييتي بدأت ألمانياً تدريجياً في تقليص نفقاتها الدفاعية وإلغاء التجنيد الإجباري والحد من التجهيزات العسكرية ، وفي أعقاب النظام العالمي الناشيء آنذاك إعتقدت ألمانيا أن التجارة والدبلوماسية والمساعدات الإقتصادية أقدر علي إرساء الأمن من الدبابات والطائرات الحربية.

واستمرت ألمانيا في إنتهاج تلك السياسة الدفاعية حتي وقوع الغزو الروسي لأوكرانيا والذي شكل تحولاً كبيراً فيما يتعلق بسياساتها العسكرية وحجم إنفاقها العسكري حيث تحولت برلين من التركيز علي الإقتصاد فقط إلي إيقاظ العقيدة العسكرية ، فتعتزم بذلك القيام بدوراً جديد في سياساتها الأمنية والدفاعية لمواكبة التحديات العسكرية وذلك بالتخلي عن معتقداتها العسكرية الدفاعية منذ إنتهاء الحرب الباردة .

أولاً : مدخل لمفهوم العقيدة العسكرية 

جاءت مقولة نابليون بونابرت الشهيرة في التاريخ العسكري " الجيوش تمشي علي بطونها " لتخبرنا بأن أهم ما تحتاجه الجيوش هو القوت المادي ، وعلي الرغم من أن هذا القول قد يبدو صحيحاً من الناحية الغذائية أو اللوجستية فإن القوات المسلحة تحتاج إلي ما هو أكثرمن القوت المادي لمواصلة عملياتها فلابد من وجود قوام فكري أيضاً تستطيع من خلاله أن تبدأ عملياتها الهجومية وأن تعززها وتنهيها ، وهذا الأساس الفكري الذي يخاطب العقل وليس الجسد والوجدان هو ما يسمي بـ" العقيدة العسكرية " .

ويمكن تعريف العقيدة العسكرية بطرق مختلفة في دول مختلفة ، فالتعريفات المختلفة للمصطلح تتأثر بالعوامل الأمنية التي تواجه تلك البلاد إلي جانب التوجهات والتطورات التكنولوجية القائمة والمستجدة والسياسات الداخلية في أفرع وتخصصات القوات المسلحة مثل المنافسة والصراعات المحتملة بين صناع السياسة من العسكريين والمدنيين حول أولويات الأمن القومي والميزانية المالية التي قد تضطر القوات المسلحة إلي تخفيض حجم أهدافها العسكرية .⁽¹⁾

ويمكن تعريف العقيدة العسكرية الأكثر شيوعاً وقبولاً في معظم جيوش العالم بأنها : " جميع المباديء والنهوج والأساليب التي تمكن القوات المسلحة من إدارة أعمالها في السلم والحرب والمستنبطة من الأفكار والممارسات المختلفة النابعة من الخبرة العملية والدراسات النظرية " . ⁽²⁾

العوامل المؤثرة في صياغة العقيدة العسكرية ⁽³⁾

قد تتأثر صياغة العقيدة العسكرية بمجموعة من العوامل يمكن إجمالها في الأتي :

1- العدو الحقيقي والمحتمل

وهو عامل متغير بحكم تغير إمكانيته التقنية والصناعية والتسليحية والإقتصادية وأهدافه العسكرية والسياسية وتحالفاته إلي جانب تغير العدو نفسه فتغير المصالح يغير الأصدقاء والأعداء .

2- التطورات العلمية والتقنية

هذا عامل متغيرأيضأ له دور كبير في صياغة العقيدة العسكرية لتأثيرها في العلم العسكري وما توفره من مستلزمات الآلة العسكرية وعدتها ووسائلها من أسلحة ومعدات وتجهيزات والتي أدي التطور بها إلي وجود تبدلات في العقيدة العسكرية .

3- القدرات الصناعية

 فالدولة التي لا تمتلك قاعدة صناعية رصينة تمكنها من إنتاج أسلحتها ومعداتها الحربية وتعتمد علي إستيراد ما تحتاجه منها من الخارج تقع تحت أسر الجهات التي تجهزها بإحتياجاتها وبالتالي تأثر عقيدتها العسكرية بسبب تصميم الأسلحة والتجهيزات علي وفق العقيدة العسكرية للبلد المنتج ، وهذا عامل متغير أيضأ .

4- الإقتصاد الوطني

 الإقتصاد الوطني عاملاً متغيراً فكلما كان رصيناً متعدد المصادر والميزان التجاري لصالحه أمكن ذلك من بناء قوات مسلحة وطنية لا تخشي إنقطاع مواردها سلماً وحرباً ويكون بمقدوره الإيفاء بإلتزامات العقيدة العسكرية ووضع عقيدة رصينة لا تخشي المفاجأت .

5- الطموحات الوطنية والقومية

وهي عامل متغيرفقد يتحقق بعضها كما قد يضاف إليها عبر الزمن ويستجد غيرها طالما أن الدولة قائمة فضلاً عن حماية الأمن الوطني والسعي لتحقيق الطموحات القومية ، وبالتالي لابد من تهيئة قوات مسلحة قادرة علي الوفاء بتلك الإلتزامات علي وفق عقيدة عسكرية تتلاءم دائماً مع الظروف دون أن تكون جامدة.

6- الرقعة الجغرافية وموقعها

إن الموقع الجغرافي عامل ثابت ولكن الرقعة الجغرافية قابلة للتغيير والتبدل ، وكان هذا العامل أحد أسباب نشوب الحروب في الماضي والحاضر وسيبقي كذلك في المستقبل إما لإستعادة أرض مغتصبة وأما لأطماع في أرض مجاورة ، فالحدود وصغر الرقعة الجغرافية وسعتها وطبيعتها وموقعها والعلاقة بالدول المجاورة وحب التوسع علي حساب الآخرين تؤثر جميعها في نوع العقيدة المعتمدة من أجل بناء قوات مسلحة تواجه تلك الأخطار . 

وعليه نجد أن العوامل المذكورة جميعها متغيرة وبالتالي ستجعل العقيدة العسكرية هي الأخرى في تغير تبعاً لذلك فالوطن حين يعترضه خطراً أو عدوان ينبغي لواضع العقيدة العسكرية الموازنة الدقيقة للخروج بمحصلة جيدة تحقق الهدف المطلوب ، وما يصح اليوم من عوامل تؤثرفي صياغة العقيدة العسكرية قد لا يصح غداً .

ويسعي العسكريون للتوصل إلي وسائل عقلانية وعلمية لصياغة وتبرير وتوثيق سياساتهم العسكرية من أجل تحقيق أهداف يرون أنها في صالح أمنهم القومي وهناك كم كبير من الأدبيات التي توثق مبررات هذه العقائد العسكرية القومية ، وهي موجودة في بلاد مثل ألمانيا التي يمكن إعتبارها منشأ العقيدة العسكرية القومية . ⁽⁴⁾

ثانياً : مراحل تطورالعقيدة العسكرية الألمانية ⁽⁵⁾

1- العقيدة العسكرية الألمانية ما بين الحربين العالميتين الأولي والثانية

لعبت القوات المسلحة الألمانية دوراً تاريخياً هاماً في تطوير العقيدة العسكرية القومية ، فكان لهذه العقيدة عظيم الأثر علي سياسة الأمن القومي الألماني والسياسات العسكرية للدول الأخرى . وكانت خطة " شليفن  " التي تمت صياغتها للحرب العالمية الأولي بواسطة الفيلد مارشال ألفريد شليفن ( 1833 – 1913 ) ، كانت أحد أشهر الأمثلة وأكثرها إثارة للجدل علي الإسهام الألماني في فكر العقيدة العسكرية .

اقتضت خطة شليفن العسكرية لصراع أوروبي محتمل ، أن تخوض ألمانيا حرباً علي جبهتين ( فرنسا ، روسيا) مع التأكيد علي هزيمة القوات الفرنسية في الغرب بالمرورعبر بلجيكا المحايدة قبل إستخدام شبكة السكة الحديد الألمانية لنقل تلك القوات إلي الشرق لهزيمة روسيا .

ومع هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولي وشروط إتفاقية فرساي للسلام أعادت المخططين العسكريين الألمان إلي إعادة رسم العقيدة العسكرية الألمانية مرة أخري .

وقد شهدت سنوات ما بين الحربين العالميتين تعاوناً مستوراً مع الإتحاد السوفيتي وتطوراً في عقيدة الحرب الخاطفة التي إستخدمت بنجاح في الحملات الأولي من الحرب العالمية الثانية . وفي النهاية نجح خصوم ألمانيا الحلفاء في إحباط التفوق الألماني وتحويله إلي هزيمة فادحة للقوة الدفاعية الألمانية أكثر مما حدث في الحرب العالمية الأولي مما أدي إلي تراجع تطوير العقيدة العسكرية القومية لصالح التخطيط القومي ، حيث أصبحت ألمانيا المقسمة جزءاً من الخطة العسكرية لحلفي شمال الأطلسي ووارسو بين 1945 و1990 ، كما شهدت تلك المرحلة تراجعاً شديداً ومعاداة للنزعة العسكرية في الخطاب السياسي القومي الألماني نتيجة لتلك الهزائم.

 2- العقيدة العسكرية الألمانية ما بعد إنتهاء الحرب الباردة

أدي تفكك الإتحاد السوفييتي وحلف وارسو بين 1989 و1991 إلي إعادة توحيد ألمانيا في 1990 وإنسحاب القوات الروسية من ألمانيا الشرقية السابقة 1994 .

 فقد مضت ألمانيا السنوات القليلة التالية في محاولة لإستيعاب ألمانيا الشرقية السابقة وظهور الجدل في دوائرالأمن الألمانية عن الدور العسكري الذي ينبغي لألمانيا القيام به في ما بعد الحرب الباردة خاصة ما بعد الحادث في يوغسلافيا السابقة وكذلك أحداث 11 سبتمبر2001 والتي كانت سبباً رئيسياً في جعل صناع القرار الألمان يحاولون إستكشاف إمكانية قيام ألمانيا بعمليات عسكرية خارج أطر حلف شمال الأطلسي ( الناتو) والإتحاد الأوروبي .

ويمكن ذكر بعض مظاهر التغير في السياسة الدفاعية العسكرية الألمانية خلال هذه المرحلة من خلال الأتي:

1) الورقة البيضاء White Paper

·      أصدرت حكومة ألمانيا بعد إعادة توحيدها أول وثيقة لعقيدتها العسكرية في1994 والتي أقرت فيها ما يلي:

- موافقتها علي تخفيضات حلف شمال الأطلسي لترسانته النووية .

- سحب الأسلحة النووية الأرضية قصيرة المدي .

- إن تحقيق وحدة ألمانيا تمت بموافقة جيرانها والقوي العالمية مع البقاء في حلف شمال الأطلسي .

- أقرت بأن ألمانيا لابد من أن تتحمل مسئولية أمنية عالمية جديدة .

- إعترفت بأن ألمانيا تقوم بدور رئيسي من أجل المزيد من التكامل الأوروبي وتدعيم الشراكة عبر الأطلسي ومع الأمم المتحدة .

- إدراكها أن مناطق عدم الإستقرار في أوروبا وآسيا وإفريقيا تهدد الأمن العالمي .

- إعترفت بأن المفاهيم التقليدية للردع والدفاع لم تعد ملائمة للتعامل مع الصراعات المحلية والإجتماعية .

هذا البيان الرسمي الصادرفي 1994أكد علي أن القوات المسلحة الألمانية لكي تواجه التحديات الأمنية الجديدة آنذاك لابد أن يكون لديها إمكانيات إستطلاع قادرة علي إكتشاف الأخطار التي تهدد ألمانيا وحلف شمال الأطلسي في الوقت المناسب ، وأن العسكرية الألمانية والقوات البرية الحليفة لابد من أن تكون قادرة علي حماية ألمانيا من أي هجوم علي أراضيها ، وأن قواتها الجوية لابد من أن تكون قادرة علي القيام بعمليات إستطلاعية في وقت السلم وعمليات دفاعية في وقت الحرب وبعمليات الدعم العميق في المعارك مع الحلفاء ، وأن البحرية والقوات الجوية التابعة لها لابد من أن تكون قادرة علي العمل مع الحلفاء لتبقي علي خطوط الإتصال البحري مفتوحة وتمنع أي إنزال للقوات المعادية علي الأراضي الألمانية .

2) دليل سياسة الدفاع Defense Policy Guidelines

·      أصدرت وزارة الدفاع الألمانية عام 2003 وثيقة بعنوان دليل سياسة الدفاع ومن أبرز نقاط هذه الوثيقة ما يلي :

- التركيز علي الأهمية الحيوية للشراكة عبر الأطلسي بالنسبة إلي الأمن الألماني .

- التأكيد علي أن ألمانيا ستقوم بعمليات عسكرية مع الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي وحلفاء الإتحاد الأوروبي وشركائه .

- وجود إستثناءات في ظروف مهام الإخلاء والإنقاذ .

- إن قواتها المسلحة مندمجة ومتكاملة مع حلف شمال الأطلسي أكثر منها مع أي حليف آخر .

- إن العمليات الحالية والمستقبلية للقوات الألمانية تتطلب منها أن تكون قادرة علي المشاركة في عمليات متعددة الجنسية عبر نطاق القتال وخارج حدود أراضي الحلفاء .

- قيام القوات المسلحة الألمانية بتعزيز جهودها للوصول إلي قدرات تكنولوجية أعلي وإرسال قوات للقيام بعمليات قتالية في أفغانستان كجزء من العون الأمني الدولي لحلف شمال الأطلسي علي الرغم من الإختلاف حول فعالية هذه القوات الألمانية بسبب قواعد وقوانين الإشتباك المقيدة .

3) إعلان وزارة الدفاع 2006

أبرز الإعلان الألماني الرسمي الخاص بسياسة الدفاع التي أصدرته وزارة الدفاع في 2006 دور الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل وتأثيرها في العقيدة العسكرية وسياساتها الداخلية والدولية بما يدل علي الإستعداد للقيام بدور إستباقي أكثر فعالية في التعامل مع هذه الأخطار ، كما أكدت الوثيقة علي أهمية التجنيد في تغذية القوات المسلحة الألمانية بالأفراد وأن هذا الدور سوف يستمر ، وأن ألمانيا سوف تستمر في الإعتماد علي الإمكانيات التكنولوجية المحلية والدولية لتعزيز سياسة أمنها القومي وإلتزام القوات المسلحة بتعزيز قدراتها للعمل في بيئة متعددة الجنسيات .

 وفيما إستمر الجيش الألماني في المشاركة بمهام حلف الأطلسي الخارجية ، كانت ميزانية الجيش ذاته تواجه تقليصاً سنوياً من قبل القيادة السياسية بعكس أغلب الحلفاء الأوروبيين، إذ إنكمشت موازنة الدفاع الألمانية من 3.2 في المئة من إجمالي الناتج المحلي عام 1983 إلى 1.2 في المئة عام 2014، كما علّق التجنيد الإجباري في 2011، وعليه باتت القوة العسكرية في مهب "التقادم"، وأصبح الجيش غير قادر على مجابهة التحديات الإقليمية ، ما إستدعى معه شكوى مستمرة من قادة الـ"بوندسفير" من العوار الذي أصاب "قدرات الجيش" بسبب غياب التطوير ونقص المعدات والصيانة.

في هذا الشأن كان لافتاً إقرار الجيش الألماني في 2014 بوجود مشكلات مزمنة في المعدات جعلت قواته المسلحة غير قادرة على الوفاء بوعودها الدفاعية لحلف شمال الأطلسي، ومن بينها خلل في أنظمة الأسلحة والمدرعات والطائرات والسفن البحرية غير الصالحة للخدمة الفورية بسبب إهمال الصيانة والنقص الخطير في المعدات وقطع الغيار، ونتيجة لذلك ومع ضم روسيا شبه جزيرة القرم في مارس 2014، وتزايد حجم التوترات بين موسكو والغرب، أعلنت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل في 2015 عن زيادة كبيرة في الإنفاق الدفاعي، وخطط لتطوير أفرع الجيش شملت العمل على توسيع أسطول الدبابات، وزيادة أسطول الغواصات، وتطوير الطائرات المقاتلة. ومع حلول 2016 أعلنت ألمانيا أنها ستنفق 130 مليار يورو على معدات جديدة بحلول 2030، وستضيف ما يقرب من سبعة آلاف جندي بحلول 2023، في أول توسع عسكري ألماني منذ نهاية الحرب الباردة، قبل أن تعلن برلين توسعاً آخر عام 2017 من شأنه زيادة عدد جنودها المحترفين بمقدار 20 ألف جندي بحلول 2024. وفي عام 2020 بلغ الإنفاق العسكري في ألمانيا 52.8 مليار دولار، وهو الرقم الذي بقي أقل من مستويات الإنفاق العسكرية المماثلة في دول الحلفاء، وكان محل إنتقاد بعض الدول الغربية لاسيما الولايات المتحدة في عهد إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب الذي طالما طالب بزيادة النفقات الدفاعية الألمانية لتصل لنحو اثنين في المئة من إجمالي إنتاجها المحلي . ⁽⁶⁾

ثالثا ً : دور الحرب الروسية الأوكرانية في تحول العقيدة العسكرية الألمانية

 كان لألمانيا أسبابها الخاصة المتعلقة بالالتزام بسياسة الإبتعاد عن الصراعات وعدم تقديم الأسلحة لأطراف منخرطة فيها. وأحد تلك الأسباب هو أن أهوال الحرب العالمية الثانية ما تزال حية في أذهان الشعب الألماني، وهي التي دفعت ألمانيا إلى الالتزام بالسلم والمشاركة فقط في مهام حفظ السلام، بإستثناء بعض الحالات التي أثارت الجدل كما حصل في البلقان وفي أفغانستان ومؤخراً مع قوات البشمركة الكردية.

 ومع إنطلاق الحرب في أوكرانيا وزيادة المخاوف الغربية من الطموحات العسكرية الروسية، في أخطر أزمة "جيوسياسية" تواجه القارة العجوز منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، بدلت ألمانيا نظرتها إلى المؤسسة العسكرية فكان لها تأثير واضح علي صناع القرار في ألمانيا الذين وضعوا أيديهم علي القصور الذي تسرب علي مدار السنوات الماضية لكل أجزاء القوات المسلحة الألمانية سواء فيما يتعلق بالجاهزية القتالية للوحدات العسكرية الألمانية أو فيما يخص الموارد المالية واللوجستية المتوفرة لهذه الوحدات ، وبدا هذا القصور واضحاً بعد أن وجد الوسط السياسي الألماني نفسه أمام مساهمة ضعيفة من جانب برلين في تعزيز دفاعات حلف الناتو في شرق أوروبا وعدم مقدرة الحكومة الألمانية علي تقديم مساعدات عسكرية نوعية وفعالة للجيش الأوكراني في أزمته الأخيرة .⁽⁷⁾

وقد عززت ألمانيا إستراتيجية التعاون الأمني والدفاعي الخاصة بها، وخرجت عن أحد ثوابت مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وهو تحجيم الإنفاق العسكري وعدم التورط في أي أعباء عسكرية خارجية مما شكل تحولاً تاريخياً في السياسة الأمنية والدفاعية لألمانيا ، حيث أعلنت الحكومة الألمانية على لسان رئيس حكومتها المستشار "اولاف شولتز" في 26 فبراير 2022 عن إستثمار إضافي بقيمة (100) مليار يورو في الدفاع، وبذلك تلتزم ألمانيا بإنفاق أكثر من (2%) من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع متجاوزاً بذلك بريطانيا وفرنسا والهند وروسيا لتصبح ثالث أكبرمنفق علي الدفاع في العالم . كما أعلنت عن إرسالها مساعدات دفاعية إلى أوكرانيا، (1000) سلاح مضاد للدبابات و (500) من أنظمة الدفاع المضادة للطائرات من طراز Stinger إلى أوكرانيا.  كما رفعت برلين الحظر عن دول الإتحاد الأوروبي الأخرى من إرسال معدات ألمانية الصنع. إضافة إلى تعزيز القوات الألمانية في الجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي. وقد أعلن وزير دفاع سلوفاكيا في 20 مارس 2022 إأن بلاده تسلمت أنظمة الدفاع الجوي، باتريوت المضاد للطائرات ، والصواريخ الباليستية التكتيكية من ألمانيا. 

ولعل من النقاط اللافتة أيضاً في هذه "الصحوة" الألمانية هي الوتيرة المتسارعة للخطوات المتعلقة بملفّ تسليح الجيش الألماني، فقد أعلنت وزيرة الدفاع الألمانية في 15 مارس 2022 عزم برلين على شراء ما يصل إلى (35) مقاتلة أمريكية من نوع "أف35″، وهو إعلان جاء مفاجئاً بشكل كبير، فبهذه الخطوات فكت ألمانيا عقوداً من السياسة الخارجية والدفاعية الألمانية وهذا ما يمكن وصفه بتحول زلزالي ليس فقط بالنسبة لألمانيا ولكن يحتمل أن يكون لأوروبا والعلاقة عبر الأطلسي.⁽⁸⁾

 إن مشاهدة عواقب العدوان الروسي غير الرادع في أوكرانيا أجبر المواطنين والسياسين الألمان علي التفكير في الضرورة الإستراتيجية للإستعداد للصراع المحتمل وتجهيز قواتها المسلحة علي النحو الأمثل ، فهذا التحول هو نتيجة لعجز الولايات المتحدة عن تحقيق الحماية المطلوبة لأوروبا كما كان عليه الحال منذ إنتهاء الحرب العالمية ، حيث تمكنت الولايات المتحدة من تحقيق ردع إستراتيجي حقيقي في وجه الإتحاد السوفييتي السابق وتحقق ذلك عندما حاصر السوفييت برلين في يونيو 1948 من جميع الجهات في محاولة منهم للحد من قدرة الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا علي السفر إلي قطاعاتهم في تلك المدينة التي كانت تقع داخل ألمانيا الشرقية التي يحتلها السوفييت ، وأقامت الولايات المتحدة جسراً جوياً إستمر لمدة عام وتم عبره نقل الإمدادات الحيوية من غذاء ودواء إلي الألمان في الشطر الغربي.

 وإقتنع السوفييت أخيراً أنه لا أمل لهم في تحقيق أهدافهم فقاموا بفك الحصار وتم تثبيت خرائط الإشتباك وتموضع كل طرف في قطاعه ، لكن موقف الولايات المتحدة الذي يحرك حلف الناتو لنجدة أوكرانيا أظهرأن فكرة الأمن الأطلسي الشامل لم تعد واقعية وأن كل دولة أوروبية باتت معنية بالدفاع عن نفسها. ⁽⁹⁾

ونجد أن ألمانيا تبدو من خلال خططها الإستراتيجية الدفاعية الجديدة متجاوزة حتي للحرب الروسية الأوكرانية إلي فضاء جديد تماماً له إرتباط أكبر بمعادلات القدرة الذاتية وبما تراه يحقق لها النقلة التي تسعي إليها مع الشركاء الأهم لها في الحلف والتي تمثل في الولايات المتحدة الأمريكية في المرتبة الأولي مؤخراً.⁽¹⁰⁾

رابعاً : أثر تحول العقيدة العسكرية الألمانية علي دورها دولياً وإقليميا

إن التوجه الألماني الجديد قد قوبل بترحاب غربي فلقد أكدت ألمانيا أن بناء جيش ألماني قوي لن يخيف أوروبا لاسيما بعد تخليه منذ إعادة تأسيسه عام 1955 عن التقاليد التوسعية النازية وإلتزامه قيم الجمهورية البرلمانية الديمقراطية ، وعليه أدرك الأوروبيون أهمية تحمل ألمانيا القوية عسكرياً نصيب الأسد من الأعباء الأمنية الثقال لقارة باتت تهددها المخاطر خصوصاً بعد مغادرة بريطانيا من الإتحاد الأوروبي الذي كانت تمثل ثقله العسكري الوازن . ومن ناحية أخري نجد قد توارت الشكوك الأمريكية تجاه هذه الصحوة الألمانية التي إستنفرت الأمريكيين طويلاً للتفاني في إعاقتها ومع تسارع وتيرة المساعي الروسية لتغيير معادلة الأمن الأوروبي ساعياً لنظام عالمي متعدد الأقطاب إضطرت واشنطن إلي تقبل شروع الجيش الألماني في تطوير قدراته القتالية ومنظوماته التسلحية " التقليدية " حتي يغدو درعاً للقارة العجوز في مواجهة الأطماع الروسية.

 فقد تمهد خطوة زيادة الإنفاق العسكري الطريق أمام ألمانيا لسد الفجوة بين قوتها الإقتصادية وثقلها السياسي في الإتحاد الأوروبي من ناحية وبين قدراتها العسكرية الذاتية من ناحية أخرى. ومن ثم ستتحول برلين خلال عدة سنوات لتصبح أكبر جيش بين جميع أعضاء الناتو الأوروبيين؛ حيث سيمنح تعزيز الإنفاق الدفاعي ألمانيا القدرة على إعادة تسليح الجيش وتحديث معداته من خلال إنفاق حوالي 41 مليار يورو لتعزيز القوات الجوية، و19 مليار يورو للبحرية الألمانية، وما يناهز 17 مليار يورو للقوات البرية، بالإضافة إلى 21 مليار يورو لتكنولوجيا الاتصالات الحديثة.

بناءاًعلى ذلك ستساعد تلك الخطوة ألمانيا على لعب دوراً بارزاً في المهمات العسكرية لحلف الناتو والإتحاد الأوروبي بعد عقود طويلة من إعتماد برلين على الدعم الأمني العسكري الأمريكي. وهذا بدوره سيقود إلى تغيرات عميقة في مسار السياسة الأمنية والدفاعية لألمانيا تفتح الطريق لتَشكُّل إستراتيجية جديدة للأمن القومي تختلف إلى حد بعيد عن إستراتيجية برلين بعد إنتهاء الحرب الباردة . ⁽¹¹⁾

خامساً : عقبات تحول العقيدة العسكرية الألمانية  ⁽¹²⁾  

يري بعض الخبراء الأمنيون عدم وجود رؤية إستراتيجية ألمانية واضحة لشراء الأسلحة ومواجهة التهديدات ، فهي تواجه صعوبة في زيادة مشترياتها الدفاعية رغم تمتعها بتمويلها الخاص لإعادة معداتها العسكرية إلي المستوي الإعتيادي بعد عقود من الإستنزاف منذ نهاية الحرب الباردة ، هذا إلي جانب أن عملية الشراء معقدة والقرارات الخاصة بأنظمة أسلحة معينة تتبع معايير السياسة الإستراتيجية والصناعية .بالإضافة إلي أن صناعة الأسلحة بألمانيا تعاني من ركود سلاسل التوريد وقلة المواد ونقص العمالة . هذا إلي جانب القيود المالية لمعظم دول الغرب وزيادة أسعار الطاقة والواردات الأخرى حيث يتعين الإستجابة للمطالب المدنية من خلال دفع المزيد من دخلها الحكومي لتلبية الإحتياجات المدنية في ظل الأزمة الدولية الحالية بدلاً من زيادة الإنفاق العسكري . مما يشكل جميعاً عقبات أمام التحول العسكري الألماني .

سادساً : التحديات المستقبلية لتغير العقيدة العسكرية الألمانية

1) المقاومة الأمريكية لتحولات العقيدة العسكرية الألمانية ⁽¹³⁾

 إن الزيادة في الإنفاق العسكري لألمانيا ستجعل من الجيش الألماني الأفضل تمويلاً في أوروبا الغربية وعليه ستسعي ألمانيا بنشاط للعب دور أكثر بروزاً في الأمن الأوروبي وتشكيل قوة أوروبية موحدة يمكن في حال إنهيار حلف الناتو أن تقوم بعمليات دفاعية وعسكرية خاصة بالجانب الأوروبي .

فقد تم التفكير في مشروع الجيش الأوروبي الموحد منذ أن حدث نوعاً من التوتر بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية تحت مظلة حلف الناتو خاصة بعد أن هدد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بالإنسحاب من الحلف وإضعافه وهو ما أرغم الأوروبيين علي التفكير في تكوين جيش أوروبي موحد وعقيدة دفاعية مشتركة ذات إستقلالية عن حلف الناتو والسيطرة الأمريكية به . بالإضافة إلي أن ألمانيا لديها صناعة نووية متقدمة تمكنها من بناء قوة ردع نووية إستراتيجية تستغني بها عن المظلة النووية الأمريكية لتتجاوز تغطية إحتياجاتها الدفاعية إلي تغطية إحتياجات القارة الأوروبية أيضاً .

 فهذا كله سيشكل تهديداً علي الوضع الأمريكي في حلف الناتو وكذلك وضعه بين الدول الغربية ووجود منافسة أوروبية أمريكية في ظل النظام الدولي الحالي وإعادة تشكيل ميزان القوي الدولي ، وقدرة هذه القوة الأوروبية علي زيادة نفوذها وتدخلها في العديد من الأزمات الإقليمية وفرض نفوذها في العديد من مناطق النفوذ الأمريكي كمنطقة الخليج العربي والشرق الأوسط دون الحاجة إلي المنظومة الأطلسية الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلي وجود مقاومة أمريكية لهذا التطور العسكري الأوروبي للمحافظة علي مكانتها ونفوذها داخل حلف الناتو وعرقلة أي محاولة من أي دولة أوروبية وعلي رأسهم ألمانيا بإعتبار الوضع القائم أن تقوم بتغيير عقيدتها العسكرية وزيادة إنفاقها العسكري .

2) إعادة إحياء معاهدة فرساي ⁽¹⁴⁾

إلي جانب الشكوك الأمريكية تجاه تغير العقيدة العسكرية الألمانية نجد أيضاً الموقف الروسي الذي إعتبر عودة ألمانيا إلي العسكرة تهديد لأمن بلدهم حيث أدان مساعي برلين لإعادة التسلح وإستحضاردعايات وإستراتيجيات الماضي النازي بكل ما نتج عنه من كوارث ومررات مما يشكل تهديداً للأمن الأوروبي .

 وأن معاودة ألمانيا تسليح جيشها سيؤجج سباق التسلح ويفاقم من مخاطر التصعيد والتوتر الإستراتيجيين ، وقد يفوق الأمر مجرد طموحات ألمانيا لتحقيق إحتياجاتها الأمنية المشروعة فقد يتطور الأمر إلي ما هو أبعد من ذلك فربما تفكر في إستعادة الأراضي التي إقتطعت من إقليمها وتجاوز ذلك أراضي الجوار التي بها أغلبية ألمانية وستصبح محاطة بدول تستميت في إسترضائها وهي تغلبها نزعة الإنتقام منها الوضع الذي ساد ثلاثينات القرن الماضي وقاد لإندلاع الحرب العالمية الثانية.

 مما قد يؤدي مستقبلاً إلي إحتمالية إعادة إحياء معاهدة فرساي1919 والتي تضمنت شروطاً قاسية فرضها الحلفاء علي ألمانيا بعد أحداث الحرب العالمية الأولي حيث دعت لنزع السلاح الألماني وتقييد الجيش والبحرية الألمانية ومنعها من حيازة سلاح جوي وبالتالي ستكون وسيلة تستخدمها الدول التي تري أن التغير في العقيدة العسكرية الألمانية تهديداً لأمنها ودورها في ظل النظام الدولي الحالي محاولة منهم لعرقلة ومقاومة هذا التغيرالعسكري الألماني والتحول في عقيدته العسكرية .

وختاماً نجد أن الغزو الروسي لأوكرانيا أدي لزعزعة غير مسبوقة للعقيدة العسكرية الألمانية تأسست بعد الحرب العالمية الثانية كما حطم عدداً من القناعات السياسية مؤكداً علي الحاجة لتغيير سريع وجذري لبوصلة برلين في عالم متحرك يقع فيه علي عاتق كل دولة العمل علي حماية نفسها من أثر تغيراته السريعة والمختلفة ، أما عن النتائج بعيدة المدى لإعادة تسلّح ألمانيا فقد لا تقتصرعلى التحول في سياستها تجاه روسيا ، ونظرتها لدورها العسكري والأمني في الناتو، كما لا تقتصر على عودتها المحتملة كقوة عسكرية قادرة على موازنة التهديدات الروسية ضد الإتحاد الأوروبي ولكنّها أيضا تطلق واقعاً جديداً من المبكر الجزم بمآلاته الجيوسياسية بعيدة المدى حول طبيعة العلاقات الألمانية الأمريكية مستقبلاً إذا أصبحت برلين أكثر إستقلالا ًأمنياً وعسكرياً عن واشنطن وسيكون للمرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية مما سيرسم ملامح جديدة لشكل الصراع الدولي الحالي وسيفرض دوراً صراعياً جديداً لألمانياً دولياً وإقليمياً .

 

الهوامش

1) بيرت تشابمان ( مؤلف ) ، طلعت الشايب (مترجم) ، العقيدة العسكرية " دليل مرجعي" ، القاهرة : دار الكتب المصرية ، 2015 ، ص  ص 10 ، 11 .

2) طارق محمود شكري ، العقيدة العسكرية وتطوراتها ، بغداد : الذاكرة للنشر والتوزيع ، الطبعة الأولي ، 2016 ، ص 29.

3) المرجع السابق ، ص ص 32 ، 33 .

4) بيرت تشابمان ( مؤلف ) ، طلعت الشايب (مترجم) ، مرجع سابق ، ص 12 .

5)  المرجع السابق ، ص 129 ص 130

6)  107 مليارات دولار للدفاع..هل هي قيامة المارد الألماني؟ ، علي الرابط التالي :

 www.independentarabia.com/2/12/2022 https://

7) كيف أيقظ بوتن عملاق أوروبا النائم ؟ ألمانيا تعزز ترسانتها ، علي الرابط التالي :

skynewsarabia.com/29/11/2022.https://www.

8) القواعد العسكرية الأمريكية في المانيا تحديات دفاعية وجيوسياسية ، علي الرابط التالي :

 https:// www.europarabct.com/30/11/2022

9) الإستراتيجية العسكرية الألمانية الجديدة ، علي الرابط التالي : https://www. alkhaleej.ae/26/11/2022.

10)  ألمانيا العسكرية قادمة ، علي الرابط التالي : https://www al-Arabiya.net/26/11/2022.

11) ألمانيا ترفع إنفاقها العسكري وتتحول إلى سياسة دفاعية أكثر حزما واستقلالا ، علي الرابط التالي :

https://www.asbab.com/16/1/2023

12) عقبات أمام التطور العسكري في ألمانيا ، علي الرابط التالي :

https://www.faceiraq.org/17/1/2023

13) جيش أوروبي موحد هل أوروبا قادرة علي تشكيله وهل سيكون بديلاً للناتو ؟علي الرابط التالي:

www.europarabct.com/17/1/2023 https://

14)  ألمانيا تعاود التسلح ، علي الرابط التالي:

shotouknews.com/17/1/2023 https://www.