ملامح جديدة: الدبلوماسية الصينية ودورها في التوافق السعودي الإيراني
تزامنا مع إعادة انتخاب الرئيس الصيني
لولاية ثالثة كرئيس للبلاد، جاء الاتفاق السعودي الإيراني على عودة العلاقات
بينهما وذلك برعاية صينية لمفاوضات جرت مؤخرا في الصين بين 6 و10 مارس 2023، وفي
ظل قلق أمريكي من نفوذ الصين في الشرق الأوسط جاء هذا الاتفاق ليؤكد أن بكين تعمل
على هذا بالفعل.
فمنذ أن أعلنت إيران والسعودية استئناف
علاقاتهما الدبلوماسية المقطوعة منذ 2016، بعد مفاوضات قادتها الصين، توالت ردود
الفعل العربية والدولية حول أثر هذا الاتفاق والبُعد الذي يحمله فيما يتعلق
بعلاقات الصين ونفوذها في المنطقة. واتجهت الأنظار إلى أنّ هذه الخطوة تعزز شعوراً
بتنامي القوة والنفوذ الصينيين، وهو ما يغذي الحديث عن تضاؤل النفوذ العالمي
للولايات المتحدة.
وقد اعتبر كبير الدبلوماسيين الصينيين
وانغ يي الاتفاق بمثابة "نصر للحوار ونصر للسلام" قائلًا إن الصين
ستواصل لعب دور بناء في التعامل مع القضايا الشائكة في العالم وستظهر تحليَها
"بالمسؤولية" بصفتها دولة كبرى. وأضاف: "العالم لا يقتصر فقط على
قضية أوكرانيا". وبقدر ما كان الإعلان عن استعادة العلاقات الدبلوماسية بين
السعودية وإيران مفاجئًا، بقدر ما توقف الكثير من المحللين عند نقطة معينة، ألا
وهي رعاية الصين لهذا الاتفاق التاريخي الذي أنهى سبعة أعوام من القطيعة في خطوة
قد تنطوي على تغييرات إقليمية دبلوماسية كبرى.
وبعيدا عن حسابات الصين والولايات
المتحدة ومصالحهما، فإن الاتفاق السعودي الإيراني ربما يضع نهاية لسنوات من
الخلافات بين قوتين لهما ثقلهما في المنطقة، الأمر الذي قد يخمد نار صراعات لم تعد
دول الإقليم تتحمل تبعاتها في ظل أزمة اقتصادية غير مسبوقة، وذلك ما لم يكن لقوى
عظمى أخرى رأي مغاير.
مسار التوافق
إن ما حققته الصين على مستوى المصالحة بين المملكة العربية
السعودية وإيران، لم يكن وليد اللحظة؛ حيث جاء بعد سلسلة من محاولات قامت بها بكين
لإصلاح العلاقة، ففي مارس آذار عام 2017، أعلنت الصين استعدادها للتوسط بين
الجانبين في مبادرة جاءت على لسان وزير الخارجية الصينية آنذاك وانغ يي، قبيل
زيارة قام بها العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز إلى الصين.
وأعادت بكين الكرة أثناء زيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان
إلى البلاد عام 2019، حيث عادت وأعلنت استعدادها للتوسط مع إيران. وهذه المبادرات جاءت ضمن محاولات بكين في
التعامل مع الضغط الواقع عليها بسبب الخلاف بين طهران والرياض. وفي ديسمبر 2022،
عقدت الصين ودول خليجية قمة شهدت عقد اجتماعات وتوقيع اتفاقيات اقتصادية.
إن هذا الاختراق الصيني في تحريك الملفات العربية تجاه التهدئة
وما قابله من ردود فعل مرّحبة، قد يكون له أثر أكبر في خلافات أخرى، حيث يمكن
للصين أن تلعب أدوار أخرى في ملفات عربية عالقة، إن الصين تعزز المقولة أو الرؤية
التي تروّجها عن نفسها بأنها قوة سلام. إذ أعلنت سابقًا مبادرة سلام لإنهاء الحرب
الروسية الأوكرانية، وتوسطت الآن لتدير الخلافات بين السعودية وإيران ما يؤشر على
رغبتها في إعلان أنها قوة سلام عالمية وليست قوة صراع، في محاولة لإعلان بأنها على
عكس ما تمارسه الولايات المتحدة في المنطقة من حيث إبداؤها مواقف تزيد من الأزمات
والصراعات.
وفق ذلك فإن الصين لا تسعى إلى تحقيق أي مصلحة ذاتية في الشرق
الأوسط وتعارض المنافسة الجيوسياسية هناك، ولن تسعى لملء ما يسمى بالفراغ أو إقامة
كتل حصرية، وتؤمن الصين دائما بأن مصير الشرق الأوسط ينبغي أن يكون دائما في أيدي
دول المنطقة. واتفق الخبراء على أن
الصين ستحقق مع دول الشرق الأوسط مزيدا من ثمار التعاون في إطار مبادرة الحزام
والطريق ومبادرة الأمن العالمي ومبادرة التنمية العالمية، وتوسع آفاق التنمية
والتعاون في المنطقة، وتساهم بأفكار وحكمة لتحقيق السلام والهدوء في الشرق الأوسط. الصين لطالما تدعم دول
الشرق الأوسط في التمسك بالاستقلال الاستراتيجي، وتعارض التدخل الخارجي في الشؤون
الداخلية لدول الشرق الأوسط.
الإعلان بالصعود
في بيان الإعلان عن هذا الاتفاق، أبرزت
السعودية الدور الذي اضطلعت به الصين وبمبادرة من الرئيس شي جينبينغ "لتطوير
علاقات حسن الجوار" واستضافة بلاده مباحثات بين الطرفين خلال الفترة من (6 -
10 مارس) برئاسة مساعد بن محمد العيبان مستشار الأمن الوطني في المملكة، وعلي
شمخاني أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني.
وتضمن الاتفاق الموافقة على استئناف
العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران "وإعادة فتح سفارتيهما وممثلياتهما
خلال مدة أقصاها شهران"، وكذلك التأكيد على "احترام سيادة الدول وعدم
التدخل في شؤونها الداخلية"، فضلا عن الاتفاق على عقد لقاء بين وزيري خارجية
البلدين قريبا "لتفعيل ذلك وترتيب تبادل السفراء ومناقشة سبل تعزيز العلاقات
بينهما"، كما نص الاتفاق على تفعيل اتفاقية التعاون الأمني الموقعة بينهما
عام 2001، وكذلك اتفاقية اقتصادية موقعة عام 1998.
أن التركيز على الدور الذي قامت به
الصين في هذا الاتفاق ربما يستهدف توجيه رسالة للقوى العظمى، ومن بينها الولايات
المتحدة، "مفادها أن محور الشرق الأوسط يتغير، كما أن الإعلان عن اتفاق
لإعادة تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين إيران والسعودية تحت رعاية الصين، أعطى
الصين المزيد من النفوذ في الشرق الأوسط، وبات الآن يمثل علامة فارقة لجهود بكين
لترسيخ نفسها كقوة دبلوماسية رائدة وهو ما يؤكد دور الصين في الاتفاقية باعتباره
الجانب الأكثر أهمية في المشهد.
بالإضافة إلى ذلك فإنّ نموذج الصين
للدبلوماسية الجديدة حقق فوزاً بالصفقة الإيرانية السعودية، وأنّ مبادرة بكين
تمثّل نموذجاً جديداً لإدارة العلاقات الدولية. وأن هذا الأمر يعني زيادة نفوذ
الصين في الشرق الأوسط كدليلٌ ملموس على أنّ بكين مستعدة للاستفادة من نفوذها في
النزاعات الخارجية، مشيرةً إلى أنّ الصين اقتربت من الشرق الأوسط الغني بالنفط حيث
ظهرت في المرتبة الأولى في العالم كمستورد للطاقة، لكن دورها الآن أكبر بكثير.
وضمن سياق متصل، فإن المبادرة الناجحة
والنشاط السياسي الأول لـبكين في منطقة الخليج والشرق الأوسط، يمكن إرجاعه إلى الثقة
التي تبديها دول المنطقة للصين، بسبب ما تملكه من علاقات اقتصادية وتجارية من
ناحية، بالإضافة لتاريخ خالٍ من الخلافات والصراعات، حيث لم تكن بكين مسبقاً
منخرطة في أي من النزاعات، ولا تملك تاريخاً استعمارياً في المنطقة وهي أمور
وظفتها بكيّن خلال حواراتها ودبلوماسيتها، وأدت في وصول الأطراف المختلفة للاتفاق.
وأنّ أداء الصين دوراً يُظهر إلى أين تتغير القوة العالمية، وهو تغيير ذو مغزى في
كيفية إدارة الرئيس الصيني شي جين بينغ لسياسة الشرق الأوسط. وعلى الرغم من ذلك
يستبعد أن تلعب الصين دوراً بديلاً عن الولايات المتحدة، لكنها كذلك تحقق في هذا
الاتفاق دوراً رئيسياً ومؤثراً في المنطقة.
في الختام: جاءت بكين متأخرة إلى
المنطقة لكنها يبدو أنها لن تضيع الوقت في أن تزيد من تواجدها، خاصة وأن منطقة الشرق
الأوسط تعتبر أكبر مورد للنفط والغاز للصين؛ حيث تمثل المنطقة ما يقرب من نصف
واردات الصين من النفط، مما يجعل المنطقة حيوية جدا لأمن الطاقة في بكين في ظل
الأزمة الأوكرانية واختلال سلاسل امداد الطاقة حول العالم.
وهكذا تعمل الصين على زيادة نفوذها في
الشرق الأوسط بشكل كبير، ليس فقط من خلال التجارة والاقتصاد كما جرت العادة بين
الصين وهذه المنطقة وأفريقيا عموما، لكن أيضا بأن تكون فاعلة في مجريات السياسية،
ولن يكون الاتفاق بين إيران والسعودية سوى خطوة ضمن خطة صينية لأداء دور فاعل
ومؤثر فيما يبدو أنه آخذ في الازدياد.