دار الحديث في المقال السابق عن الدولة
القاجارية وعوامل سقوطها، والتي كان من أبرزها التدخل الأجنبي في شئون إيران
الداخلية، حيث كان ذلك سببًا كافيًا لانهيار الدولة، وفي هذا المقال سنتطرق في
الحديث عن الدولة البهلوية وأبرز الأحداث آنذاك.
بعد أن نجحت الثورة الدستورية ضعفت الدولة
القاجارية وفقدت هيبتها خاصة بعد أن كانت القرارات تصدر من قبل السفارتين الروسية
والبريطانية؛ ومن هنا خرجت العشائر وأصبحت تتولى شئونها من تلقاء نفسها دون
الاحتكام لقانون السلطة المركزية بطهران، كما أدرك الشعب الإيراني أن الاستقلال
الإيراني بعد الثورة الدستورية لم يكن استقلالًا تامًا كما كان يطمح الشعب
الإيراني، ويوضح ذلك الاتفاق الودي الذي أبرمه أحمد شاه قاجار مع البريطانيين
والروس عام 1907 والذي من شأنه دليل واضح على التدخل وتقسيم إيران بين الحليفين،
حيث كان ينص على هيمنة روسيا على أراضي إيران الشمالية، وهيمنة بريطانيا على
الأراضي الجنوبية منها، وكان هذا التوجه البريطاني صوب مصالحها الشخصية مغايرة
تمامًا للأهداف المعلنة عقب دخول إيران ومن ثم هو خداع واضح للمثقفين الإيرانيين.
في تلك الحقبة سطع نجم ألمانيا وباتت قوتها
السياسية والعسكرية والاقتصادية واضحة للجميع؛ هذا الأمر دفع الليبراليين
الإيرانيين إلى الرغبة في نسج اتفاق مع ألمانيا، ورحبت ألمانيا بالفعل بخطوات
التقارب مع إيران.
أما عن الحرب العالمية الأولى، فبرغم إعلان
إيران الحياد، إلا أن القوى المشتبكة اقحمت إيران عن عمدٍ في تلك الحرب، وذلك لما
كانت تمتلكه إيران من مخزونٍ جيد من النفط وكذلك من موقع استراتيجي متميز، فنرى
بعد ذلك أن كل هذه القوى حاولت استقطاب الشعب الإيراني والعشائر الإيرانية بالأخص
نحوها، تارة روسيا وتارة أخرى الدولة العثمانية وتارة ثالثة ألمانيا، وتوضيح ذلك
أن ألمانيا أمدت العشائر الإيرانية بالأسلحة وحرضتهم على الخروج على السلطة
المركزية، بل وساعدتهم في إقامة حكومتين في "كرمانشاه و قم" مستقليين عن
السلطة المركزية وأصبحت تلك المدن مأوى للهاربين من سطو البريطانيين والروس، وأخذت
الألمان يستميلون الشعب الإيراني من خلال توضيح الأواصر والصلات التي تجمع بين
الإيرانيين والألمان بل واتخذو الدين (الإسلام) ذريعة لإستمالة طرفهم (الإيرانيين)،
ولم يكتفو بذلك بل واخترقت الدولة العثمانية حياد إيران عن عمدٍ بعد أن استردت
كثير من المدن الثائرة، وأصبحت آنذاك إيران مشاركة في حرب لا تمتها بأي صلة، ولم
تجني إيران من هذه الحرب سوى الخسائر الاقتصادية والروحية خاصة بعد المجاعة التي
أصابت المجتمع الإيراني إثر تدهور الزراعة وقلة الإنتاج وأصبح الجوع يسيطر على
عموم الشعب؛ لدرجة أن الإيرانيين لم يجدو أمامهم من اللحوم سوى لحم الكلاب الذي
صار مصدر الغذاء بالنسبة لهم، وهلك بعد ذلك عدد كبير من الإيرانيين إثر هذه المجاعة،
ولم ينج سوى سوى مقاطعتين كيلان ومازندران لتوافر الحبوب والخضروات فيهما.
في تلك الأثناء كانت الحكومة الإيرانية عاجزة
عن سداد النفقات والأجور؛ مما دفعها للإستدانة مرة أخرى من بريطانيا، وهو من شأنه
ما أدى إلى تفاقم الأوضاع أكثر مما سبق، وكان عاملًا بارزًا في انتشار الفوضى،
فنجد بعدها أن المناصب أصبحت عرضة للبيع، وأصبحت وسيلة للثراء فقط لا لحل المشكلات
وإدارة الدولة، وقد تسرب هذا الشرخ ليشمل الجيش هو الآخر الذي كان مكونًا من فرقٍ
مرتزقة، وكان القوزاق هم صفوة هذا الجيش، ولكن ساد الشك في ولائهم للسلطة المركزية
آنذاك.
أما عن الشاه القاجاري، فقد كان منغمسًا في
الملذات، ولم يهبأ بشأن إيران ولم يعنيه شئ من هذه الفوضى، ولم يكن له أي دورٍ ولا
توجيه، فكان أشبه بالتمثال، لدرجة أن السلطات البريطانية وصفته بأنه أجبن رجل في
إيران؛ لأنه كان يستشير السفير البريطانية يوميًا عن قراراته قبل أن يتخذها.
رضا بهلوي وارتقاؤه عرش إيران:
بعد توقيع بريطانيا وإيران اتفاقية 1919 ومنذ
ذلك الحين أخذت بريطانيا تحاول إقناع الشعب الإيراني بهذه الاتفاقية، ولكن فشلت في
ذلك مما أدى إلى تفاقم الوضع أكثر، وأخذ الشعب الإيراني يتطلع إلى زعيم جديد يحقق
له الاستقلال المنشود بعد أن بدى واضحًا للإيرانيين أنه لم يكن استقلالًا بل حماية
بريطانية، ومن هنا رأت بريطانيا كذلك أنه حان الوقت لاستبدال جهاز السلطة الإيراني
بجهاز يثق فيه الشارع ويضمن مصالحها في إيران، وبالفعل وقع الخيار على رضا شاه
بهلوي أحد ضباط قوات القوزاق لأسباب عدة منها: كراهيته الشديدة للروس – وولائه
لبريطانيا – وطموحاته العالية وحبه للمناصب، لذا قاد بنفسه أول انقلاب عسكري عرفته
إيران 1921.
رغم اختلاف أهداف روسيا وبريطانيا وأمريكا
وغيرهم، إلا أنهم اتفقوا جميعًا على إزاحة الدولة القاجارية، وبالفعل قاد رضا
بهلوي الانقلاب 1921 ونجح في سحب بساط السلطة من أسفل الأسرة القاجارية بعد مساعدة
من القوى الداخلية والخارجية.
وجاءت لحظة الحسم، حيث خرج رضا شاه ومعه عدد
من الجنود القوزاق واتجه صوب العاصمة طهران، بعد أن تسلح بالمدافع والرشاشات، وقد
حظى رضا شاه بدعم من المثقفين ورجال الثورة، مما دفعه للتقدم نحو العاصمة، وفي ذلك
الوقت طلب أحمد شاه قاجار من رضا بهلوي عدم دخول العاصمة طهران، ولكن وصل وفد من
السفارة البريطانية لملاقاة الشاه أحمد قاجار ينصحه بضرورة قبول الانقلاب والتعاون
مع قادته، وبالفعل استجاب لهم الشاه وأخذ بالنصيحة، ومن ثم تشكلت وزارة جديدة تحت
قيادة رجال الانقلاب، بينما تولى رضا بهلوي الجيش، وأخذت الوزارة الجديدة بتطهير
البلاد من الفسدة ومصادرة الكثير من الممتلكات بغية توفير الأموال لدعم الجيش
وقوات الجندرمة، ولكن النقطة السلبية في كل هذا هي استمرار تبعية السلطات
الإيرانية للأجانب (حتى بعد مجئ رضا بهلوي وارتقائه للسلطة) لما لا والبريطانيون أنفسهم
هم من نصبوه وعزلوه كما سيتضح فيما بعد.
بعد أن أخذت الوزارة الجديدة تزاول عملها،
شعر الشعب بالطمأنينة تجاه هذه الوزارة، خاصة بعد أن أعلنت مساندتها للشعب ورفع
القيود عنه وتقسيم الأراضي بين الفلاحين..إلخ، واستطاع الانقلابيون إلغاء اتفاقية
1919 مع بريطانيا، بل وعقدو اتفاقية مع الروس 1921 تعهدت فيها روسيا بعدم التدخل
في شئون إيران إلا في حالة الإضرار بمصالحها، كما تعهدت إيران بحفظ مصالح روسيا
وعدم الإضرار بها، ومن هنا يمكن القول بأن الوزارة الجديدة قد تمكنت من تحقيق رغبة
الشعب وأخذت تقضي على فلول النظام القديم واحدًا تلو الآخر.
وفي ذلك الوقت استعان رئيس الوزراء الجديد
بخبراء أجانب في مختلف المجالات للنهوض بإيران مرة أخرى (والتي تعد نقطة إيجابية
وسلبية في الوقت نفسه)، ورغم الجهود المبذولة إلا أن الوضع ظل على ما هو عليه دون
تغيير، مما أثار غضب العشائر الإيرانية، وفي الوقت نفسه ألقى رضا بهلوي اللوم على
رئيس الوزراء "طباطبائي"، واستغل الاستياء الشعبي من طباطبائي وقام بالاستيلاء
على الوزارات واحدة تلو الأخرى، حتى عينه طباطبائي وزيرًا للحربية بجانب قيادته
للقوزاق، وظن طباطبائي أنه يبعده عن هدفه (السلطة)، ولكنه قربه أكثر من مبتغاه.
اتخذ رضا بهلوي من غضب الشعب من الوزارة
طريقة للإطاحة برئيس الوزارة الجديد، وبالفعل بعد أن تقرب من الشاه أحمد قاجار،
تمكن من استصدار فرمان عزل طباطبائي من منصبه، وخلفه أخو وثوق الدولة "قوام
السلطنة"، وصار رضا بهلوي بطلًا في نظر الشعب الإيراني، لا يريد إلا سلامة
الوطن وشعبه، ولم يكونو يعلمون بنواياه للظفر بالسلطة، حيث اتخذ سياسة الضغط على
الوزراء في محاولة لإفساح الطريق لنفسه ومن ثم الوصول إلى عرش إيران.
وفي تلك الأثناء تظهر أمريكا خاصة بعد ضغط
شديد من بريطانيا للإصرارها على سداد إيران للديون البريطانية المتأخرة، فاستغاث
رئيس الوزراء آنذاك بأمريكا التي كانت تنتظر الفرصة المناسبة لدخول إيران
والاستيلاء على منابع النفط. وبالفعل وافقت أمريكا على إقراض إيران، بل وعقدت
معاها اتفاقية استخراج النفط لخمسين عامًا، ولكن لم يصدق البرلمان على هذه
الاتفاقية إلا في عهد وزارة مستوفي الممالك، وهنا دخلت قوة جديدة لإيران مما كان
داعيًا إلى اعتراض الشارع الإيراني، وبالتالي توالت الوزرات، وظل رضا بهلوي
محتفظًا بمنصبه في الحربية، حتى أجمع الجميع على أختياره رئيسًا للوزراء.
بعد أن تولى رضا بهلوي الوزراة، اتخذ سياسة
القمع مع معارضيه، فأغلق كل الصحف المعارضة، وطارد معارضيه في كل مكان، بل ونفى
رؤساء الوزراء السابقين، مما دفع باقي معارضيه إلى الفرار خارج إيران. وكان
لسياسته هذه صدىً في نفوس كثيرة من الأفراد سواء من الشعب أو من القوى الخارجية
التي أعجبت بأسلوبه في الإدارة، ويلاحظ هنا عودة هيبة وسلطة الإيرانيين مرة أخرى،
حيث تمكن رضا بهلوي من القضاء على الفوضى واستئصال الفساد من المجتمع والقضاء على
الناقمين لحكمه.
شكل رضا بهلوي وزارته الجديدة، وحرص على
مشاركة كل الأحزاب والشخصيات البارزة في إيران في هذه الوزارة، كما أعلن عن برنامج
اصلاحي ضخم يعتمد فيه على النفس دون اللجوء للأجانب للحد من نفوذهم. وكان رضا
بهلوي يسير آنذاك بخُطًا ثابتة نحو عرش إيران إلى أن مرض الشاه أحمد قاجار وسافر
للخارج لتلقي العلاج وعين شقيقه وصيًا على العرش، ولكن بمجرد سفره أرغم رضا بهلوي
شقيق الشاه على التعهد الخطي بعدم التدخل في شئون البلاد وبهذا فقد آلت السلطة
الإدراة كاملة لرضا بهلوي، وأخذ منذ ذلك الوقت باقحام أنصاره في البرلمان حتى
أصبحت أغلبية المقاعد فيه مؤيدة له، وكان الهدف من ذلك هو التصديق المباشر على
قراراته، خاصة الجمهورية التي تطلع لها رضا بهلوي والتي لقت اعتراضًا شديد اللهجة
من رجال الدين خوفًا على مصالحهم، مما دفع رضا بهلوي التخلي مؤقتا عن فكرة
الجمهورية، وقام باستمالة جانب رجال الدين عن طريق إقامة إصلاحات لهم وبالفعل نجح
في ذلك وحصل على تأييدهم.
بعد أن استتبت الأوضاع أراد رضا بهلوي التخلي
عن الوزارة وتقديم الاستقالة، وبالفعل وافق الشاه مباشرة عليها، ولكن رفضها أعضاء
البرلمان وطلبو منه الرجوع في الاستقالة، وبالفعل عاد الأخير فيها وعلا شأنه أكثر
بين جموع الشعب الإيراني موضحًا لهم عدم رغبته في السلطة.
اشترط رضا بهلوي لعودته للوزارة مرة أخرى
تأييد الشعب الإيراني لإصلاحاته، فوافقو على ذلك، ولكن كان يواجه مشكلة بسبب عصيان
القبائل والعشائر الإيرانية المستمر، مما دفعه للقضاء عليها، بل ووصل به الأمر إلى
قصفها بالطيران الحربي ولأول مرة في تاريخ إيران، ومن هنا فقد تمكن رضا بهلوي من
كبح جماح تمرد تلك القبائل على السلطة المركزية في طهران، خاصة عربستان التي اظهر
دهائه وحنكته في قمع تمردها وضمها لإيران تحت مسمى (خوزستان)، ومن ثم باتت الأوضاع
مهيئة لبسط النفوذ وإقامة الإصلاحات المختلفة وبالتالي لم يكن هناك ما يمنع من
تأسيس الأسرة البهلوية وإعلان خلع الأسرة القاجارية نهائيًا 8 فبراير 1925.