على مدى العامين الماضيين، كان العراق غارقًا في الاحتجاجات،
وعدم الاستقرار الداخلي، والمواجهة الأمريكية الإيرانية على الأراضي العراقية،
والمأزق السياسي، والتنافس على السلطة بين الشيعة. ومع ذلك، وعلى الرغم من كل
الصعاب، شهد العراق أيضًا دفعة دبلوماسية غير مسبوقة، مع محاولات دمج البلاد في
الخريطة السياسية والاقتصادية الإقليمية وترسيخ نفسها كلاعب إقليم . حيث بدأت الحكومة العراقية في تنظيم
مؤتمرات إقليمية تركز على المنطقة الأوسع، مثل القمة الثلاثية في بغداد بين العراق
والأردن ومصر في 26 يونيو 2021، ومؤتمر بغداد للتعاون والشراكة في 28 أغسطس من نفس
العام. ورغم
القدرة على جلب القوى الإقليمية المختلفة واللاعبين الدوليين والمنافسين إلى طاولة
المفاوضات في بغداد هي غاية في حد ذاتها، فإن رغبة العراق في تحقيق تكامل إقليمي
واقتصادي أكبر ستكون عملية طويلة - تتطلب وقتًا وتماسكًا و اهتمام مُستمر.
وفي سياق جهود دول الشرق الأوسط المختلفة في المصالحة
الدبلوماسية، خلق العراق أيضًا مساحة للحوار بين خصمين أساسيين في المنطقة: إيران
والمملكة العربية السعودية. الأمر الذى يوضح إن هدف الحكومة العراقية يتجاوز
التأملات الدبلوماسية؛ حيث تريد بغداد أن تثبت نفسها كلاعب إقليمي. الحدث الرئيسي
في هذه الفترة كان قمة بغداد، التي جمعت قادة القوى الإقليمية والدولية، بما في
ذلك فرنسا وإيران وتركيا والسعودية والكويت والأردن ومصر وقطر والإمارات العربية
المتحدة. وكان هذا الحدث هو المرة الأولى التي يتخذ فيها العراق مبادرة دبلوماسية
للتخفيف من حدة التوترات الإقليمية في إطار مؤتمر رفيع المستوى حضره عدد كبير من
الحضور. وبغض النظر عن الرمزية الإيجابية للمبادرة، فقد سهل المؤتمر سلسلة من
الاجتماعات الجانبية الثنائية بين دول الشرق الأوسط، التي كانت في كثير من الأحيان
على خلاف مع بعضها البعض.
فمنذ الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، تزايد التأييد
لفكرة السياسة الخارجية المتوازنة بين السياسيين والمسؤولين العراقيين، وقادا تطوران
رئيسيان هذا التحول؛ أولاً، ضرورة كسب دعم إقليمي ودولي في محاربة داعش. والثاني،
أن النجاح العسكري ضد الجماعة منح المسؤولين العراقيين شعوراً بالقوة والفخر
والثقة. ففي عام 2017، استعادت القوات العراقية الموصل من داعش وتولت السيطرة على
محافظة كركوك الغنية بالنفط ومناطق أخرى كانت تحت السيطرة الكردية بعد 2014. وساهمت
هذه الأحداث مؤقتًا في إعادة تأهيل العراق كدولة منذ أن أظهرت القدرة على استخدام
القوة الفعالة لتأمين سيطرتها على الأراضي.
وبلغت الدعوة لدور عراقي أكبر في السياسة الإقليمية والوساطات
الدبلوماسية ذروتها مع تشكيل حكومة في مايو 2020 بقيادة رئيس الوزراء مصطفى
الكاظمي. والجدير بالذكر أن الكاظمي رئيس وزراء توافقي، حيث لا يوجد لديه فصيل
سياسي في البرلمان العراقي يدعمه. ومع ذلك، فإن مختلف الأحزاب الشيعية والكردية
والسنية، وخاصة رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، تدعم سياسة الكاظمي الإقليمية. لذا،
فإن شخصية الكاظمي أساسية في هذا التطور؛ حيث نجحت خلفيته، كرئيس لجهاز المخابرات
الوطني العراقي ودوره في محاربة داعش، في بناء العلاقات والثقة بين مختلف أصحاب
المصلحة المحليين والإقليميين.
وهناك اتفاق بين صناع القرار العراقيين على أن دورًا إقليميًا
متوازنًا أكبر مفيد لاستقرار العراق، الذي أصبح ساحة معركة لمنافسات إقليمية
ودولية مختلفة، مثل التنافس بين الولايات المتحدة وإيران والتنافس بين إيران
والسعودية وقوى إقليمية أخرى؛ حيث أدت هذه الخصومات أيضًا إلى خلق وتعزيز الوكلاء
والعملاء المحليين، مما زاد من زعزعة استقرار العراق وإضعاف فكرة الدولة العراقية
والسيادة. وهناك مجموعات في العراق تتماشى مع توجهاتها في السياسة الخارجية مع
رعاتها الإقليميين. إيران، على سبيل المثال، لديها وكلاء في العراق، لديهم القدرة
على استخدام أراضي العراق وموارد الدولة لتهديد جيران آخرين. وفي هذا السياق، فإن
التعاون الإقليمي ليس جيدًا فقط لتأسيس السيادة الخارجية، ولكنه أيضًا أساسي
لاستقرار العراق الداخلي وسيادته. وللحصول على إجماع وطني واسع، أجرى الكاظمي
مشاورات مسبقة مع القوى السياسية العراقية الرئيسية حول الخطوات اللازمة للعب هذا
الدور. وقد بدأ هذا في خلق فهم داخلي حول الدور الجديد للحكومة العراقية كجسر
إقليمي.
أولاً- ما الذي يمكن أن يقدمه العراق؟
يتمتع العراق بميزة على الدول العربية الأخرى عندما يتعلق الأمر
بالعلاقات والمنافسات الإيرانية السعودية. فعلى سبيل المثال، لا يمكن لقطر أن تلعب
هذا الدور بسبب نزاعاتها الخاصة مع المملكة العربية السعودية، ويُنظر إلى عُمان
على أنها قريبة جدًا من السعوديين من وجهة نظر إيران. كونه دولة ذات أغلبية شيعية
ساعد العراق في هذا الصدد. ونجحت الوساطة العراقية حتى الآن في التقريب بين
الطرفين السعودي والإيراني خلال خمس جولات من المحادثات الثنائية في بغداد، مما ساعد
الخصمين الإقليميين على اتخاذ خطوات نحو تطبيع العلاقات بينهما. بالإضافة إلى ذلك،
توسط العراق أيضًا بين إيران من جهة والأردن ومصر من جهة أخرى، حيث استضافت بغداد
محادثات ثنائية منفصلة بين إيران ومصر، وكذلك بين إيران والأردن.
فبغداد لديها الرغبة في أن تكون ملتقى مناسبًا بين إيران والدول
العربية. وتتمتع كل من إيران، وبدرجة أقل المملكة العربية السعودية، بعلاقات عميقة
ومتعددة القطاعات مع الأحزاب والمجتمعات العراقية. وفي سياق الرؤية الإيرانية
الشاملة للمنطقة، يمثل العراق قلب نفوذها الإقليمي. وفي المقابل، تود المملكة
العربية السعودية إعادة العراق إلى محيطه العربي. بينما يريد العراق لعب دور
الوسيط الإقليمي، تريد كلتا القوتين الإقليميتين أيضًا وضع العراق في منافسات
القوة الإقليمية الأوسع بينهما.
ثانيًا- التحديات
تثير هشاشة بغداد الداخلية وسيادتها المحدودة العديد من
التساؤلات حول واقعية خططها.
أولاً: العراق
في وضع سياسي واقتصادي صعب، مما يحد من محاولته تقديم الدعم للوساطة الدبلوماسية
الإقليمية. فمنذ انتخابات أكتوبر 2021، على سبيل المثال، انقسمت البلاد إلى
معسكرين مختلفين، حيث تدعم العديد من القوى الإقليمية الفصائل المتنافسة طهران والرياض باعتبارهما لاعبان إقليميان
قويان، والعراق أكثر اعتمادًا عليهما من العكس. ويمكن القول إن العراق وجد نفسه في
دور الوساطة هذا دون أن يكون لديه الكثير ليقدمه على المدى الطويل. وفقًا لمقابلة
مع محلل مقيم في بغداد، ضغطت الولايات المتحدة على المملكة العربية السعودية
لإعادة إشراك العراق، لأن إيران وجدت العراق مفيدًا في حل مشاكلها مع السعوديين. ولسنوات
عديدة، شجع المسؤولون الأمريكيون تحالفًا أوسع بين القادة الشيعة الأكراد والسنة و
"المعتدلين" على المستوى الوطني، وتحالف العراق مع الدول العربية على
المستوى الإقليمي، على أن يتمثل الأساس المنطقي لذلك في خلق توازن مقابل النفوذ
الإيراني في العراق.
ثانيًا: لن يتم
التعامل مع العراق بمصداقية من قبل القوى الإقليمية قبل أن يتمكن من حل مشكلاته
الخاصة؛ حيث يعتمد نهج الكاظمي على فكرة أن استقرار البلاد يتطلب منها أن تلعب
دورًا إقليميًا أكبر. وعلى الأرض، يمكن للعراق فقط أن يلعب دور الناقل، حيث ينقل
الرسائل ذهابًا وإيابًا، لكنه لا يستطيع التأثير على إتجاه المحادثات أو إجبار
الأطراف على تقديم تنازلات. ففي هذه الفترة، مر العراق بأزمات سياسية داخلية عميقة،
أضعفت سلطة الحكومة، ورغبتها في لعب دور إقليمي. فعلى سبيل المثال، بعد أقل من شهر
من الانتخابات البرلمانية لعام 2021، رفضت الجماعات الموالية لإيران النتائج وبدأت
في تحدي الحكومة ومؤسساتها. وفي هذا السياق، تعرض منزل رئيس الوزراء نفسه لهجوم
بطائرات مسيرة تحمل متفجرات في نوفمبر 2021. هذه الأحداث تقوض السيادة المحلية
للبلاد، وبالتالي تقوض قوتها في الحفاظ على السيادة الخارجية.
ثالثًا: هناك
ملاحظات من قبل بعض الأطراف حول كيفية إدارة هذا الدور؛ حيث تعتقد بعض الأحزاب
الشيعية أن النهج وثيق الصلة بشخصية رئيس الوزراء وليس بمؤسسات الدولة العراقية. وفي
هذا السياق، من المهم التأكيد على أن الكاظمي تفضله الرياض والعواصم العربية
الأخرى أكثر من طهران. وتعتقد بعض القوى الشيعية، وخاصة تلك المتحالفة مع إيران،
أن نهج الكاظمي منحاز للسعوديين والدول العربية الأخرى المعادية لإيران، مثل
الإمارات العربية المتحدة. على سبيل المثال، خلال قمة بغداد، انتقد الحشد الشعبي -
وهو منظمة جامعة تمولها الدولة العراقية وتضم سبعة وستين فصيلا مسلحا - بشدة
الحكومة العراقية لعدم دعوة الرئيس السوري بشار الأسد إلى المؤتمر. كما كان يُنظر
إلى سياسة الكاظمي الإقليمية على أنها فرصة له للبقاء في السلطة من خلال كسب الدعم
الإقليمي.
رابعاً: دور
العراق الإقليمي ونشاطاته الدبلوماسية تتطلب الاستمرارية؛ حيث يُنظر إلى السلطات
المحدودة للحكومة العراقية، وسياسة شخصية الكاظمي، والتأثير المبتور لرؤساء وزرائها
على أنها تحدٍ رئيسي لاعتماد إتجاه طويل الأمد ومتسق للسياسة الخارجية. نجح نهج
الكاظمي في تحسين صورة العراق الإقليمية ودبلوماسيته لكنه فشل في إضفاء الطابع المؤسسي
على العملية، وهذا يعني أن دور العراق الحالي في الدبلوماسية الإقليمية قد لا
يستمر في غيابه.
في الواقع ، يسعى عدد من الفاعلين السياسيين العراقيين إلى
تحقيق أهداف متباينة ومتضاربة في السياسة الخارجية، فالأحزاب الشيعية التي تضم
شخصيات سياسية شيعية نافذة، ويبقى أن نرى كيف سيؤثر ذلك على المشاركة الدبلوماسية
الأخيرة والحالية للبلاد مع الدول العربية المختلفة.
وفي النهاية: كان للأنشطة الدبلوماسية
الأخيرة للعراق ورغبته في أن يكون لاعبًا إقليميًا تأثير رمزي إيجابي على موقع
البلاد الإقليمي. ومع ذلك، يفتقر العراق إلى القدرات المؤسسية الأساسية لدعم
العملية التي تحتاج إلى متابعة مبادراته الدبلوماسية والوساطات بين القوى العظمى
في المنطقة. عدم الاستقرار الداخلي في العراق والتنافس على السلطة لا يستدعي
تدخلات خارجية فحسب، بل يحد أيضًا من قدرة البلاد على لعب دور أكبر في السياسة
الإقليمية.
Kamaran Palani, Iraq’s
Diplomatic Mediations: Strong on Symbolism but Short on Substance, Manara
Magazine, 3 October, 2022, available at https://manaramagazine.org/2022/10/iraqs-diplomatic-mediations-strong-on-symbolism-but-short-on-substance/?s=07&fbclid=IwAR3TIQDHr15wViA4xDY258OhyxStwhC7w7VC3gPw74QJRU3zXAqDk-NaslU
.