مسارات التصعيد: الهجمات العسكرية في ليبيا وإعادة إنتاج الأزمات
أدّت
المعارك التي اندلعت في العاصمة الليبية طرابلس في 26 أغسطس 2022 إلى مقتل 32 شخصًا
وإصابة 159، بحسب حصيلة جديدة اعلنتها وزارة الصحة في حكومة الوحدة الوطنية
الموقتة، وذلك بعد اشتباكات بين مجموعات مسلحة شملت عدة أحياء في العاصمة الليبية،
والتي ساهمت في أن تدخل البلاد في حالة فوضى بسبب وجود حكومتين متنافستين، وقد تزامن
ذلك في غمرة دعوات دولية وإقليمية لتجنب العنف وإطلاق حوار حقيقي بين الأطراف
يَنزع فتيل الأزمة العاصفة بالبلاد.
ونظرا
إلى عدم قدرة باشاغا حتى الآن على بناء تحالف من الفصائل الغربية التي يمكنها
تنصيبه في طرابلس، كما أن استمرار الوجود العسكري التركي في أنحاء طرابلس والذي
حافظت عليه أنقرة عبر نشر طائرات مسيرة هناك بعد المساعدة في صد هجوم قوات الجيش
الوطني الليبي في عام 2020 يعني أن إعادة الدخول للعاصمة يبدو احتمالًا مستبعدًا
في الوقت الحالي.
جذور
الخلافات
ظهرت
الخلافات في ليبيا قبل عشر سنوات عندما تبنت جماعات محلية مواقف مختلفة خلال ثورة
ما سمي بالربيع العربي التي ساندها حلف شمال الأطلسي وأفضت إلى الإطاحة بالرئيس
الراحل معمر القذافي. وشهدت محاولات من أجل الانتقال الديمقراطي
عن السيطرة، إذ أقامت الجماعات المسلحة قواعد قوة محلية وتكتلت حول فصائل سياسية
متنافسة وسيطرت على موارد اقتصادية. وقد تم تشكيل حكومة جديدة في طرابلس بعد
اتفاق مدعوم من الأمم المتحدة في وقت اقتنص فيه تنظيم داعش موطئ قدم في ليبيا. ومن ثم اتحدت
الفصائل المسلحة المتنافسة التي تسيطر على غرب ليبيا بهدف دعم حكومة طرابلس في
مواجهة الجيش الوطني الليبي وصدت هجومه في عام 2020 بمساعدة تركيا، مما أدى إلى
وقف لإطلاق النار وعملية سلام جديدة تدعمها الأمم المتحدة.
كما أفضت
عملية السلام إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية جديدة بقيادة عبد الحميد الدبيبة بتفويض
للإشراف على انتخابات وطنية كان من المقرر إجراؤها في ديسمبر 2021، لكن لم يكن
هناك اتفاق على قواعد التصويت، مما تسبب في انهيار العملية برمتها. على الجانب
الآخر، وفي شرق ليبيا، أعلن البرلمان أن حكومة الدبيبة غير شرعية وعين حكومة جديدة
برئاسة فتحي باشاغا. ورفض الدبيبة قرارات البرلمان وقال إنه لن يتنازل عن السلطة
إلا بعد الانتخابات. وفي هذه الأثناء، كانت فصائل غرب ليبيا
تحاول السيطرة على طرابلس في مناوشات من حين لآخر، ورأت بعضها في باشاغا أفضل فرصة
لها للصعود والتقدم.
وهو ما
ترتب عليه، محاولة باشاغا دخول طرابلس بعد فترة وجيزة من تعيينه في مارس 2022، لكن
الفصائل الموالية للدبيبة منعت مرور موكبه. وحاول مجددًا في مايو 2022، لكنه غادر
طرابلس بعد تبادل قصير لإطلاق النار، ونتج عنه تغير في معالم التحالفات
والائتلافات بين فصائل طرابلس مع محاولة كل من الدبيبة وباشاغا استمالة الأطراف
الرئيسية. وفي شوارع طرابلس، تكررت المناوشات بين القوات المسلحة بسبب مناطق
نفوذها. وعندما اندلع القتال الحالي بين فصيلين، بدأت
الفصائل المتحالفة مع باشاغا شن ما بدا أنها هجمات منسقة في محاولة جديدة لتنصيبه
في العاصمة.
فرص
الحل
دعت بعثة
الأمم المتحدة للدعم لليبيا في 30 أغسطس 2022 إلى وقف التصعيد على الفور في البلاد
معربة عن قلقها من ارتفاع منسوب التوتر بين الخصوم السياسيين الليبيين الذي يثير
المخاوف من احتمال اندلاع حرب أهلية. خاصة وأنه يعتقد أن هناك استعدادات تجرى لشن
هجوم عسكري لقوات موالية لحكومة فتحي باشاغا، يمكن أن يحدث في أي وقت في الفترة
المقبلة. بعد أن حاولت الحكومة المعينة من قبل مجلس النواب الترويج مرارًا إلى
اعتمادها الخيار السلمي لدخول العاصمة ومباشرة مهامها، لكنها باتت تروج مؤخرًا
لخيار القوة لتحقيق ذلك. خاصة أنه طرح بعض السياسيين فكرة إطلاق محاولة أخرى
لتشكيل حكومة جديدة يمكن لجميع الأطراف قبولها، لكن من المرجح أن يحاول الدبيبة مواجهة
هذه الجهود، بالإضافة إلى ذلك أُجهضت جميع الجهود الدولية للتوسط في اتفاق سياسي
بسبب اتساع هوة الخلاف بين الدول المعنية وبين الفصائل المحلية.
وتجب
الإشارة هنا إلى أن حكومة باشاغا أعلنت إنه طوال الأشهر الستة الماضية بعد منح
الثقة للحكومة رحبوا بكل المبادرات المحلية والدولية لحل أزمة انتقال السلطة
سلميًا، دون أي استجابة من الحكومة منتهية الولاية. ومن ناحية أخرى، أعلن المكتب
الإعلامي لرئيس حكومة الوحدة الوطنية الموقتة، عبد الحميد الدبيبة، تشكيل غرفة
عمليات عسكرية للدفاع عن طرابلس.
في الختام: يمكن الإشارة إلى أن
استمرار وجود حكومتين متعارضتين سوف يساهم في تعزيز الانقسام الداخلي مع تزايد
احتمالية نشوب حرب أهلية، واستمرار حكومة الدبيبة في رفض تسليم السلطة للحكومة
الليبية الجديدة التي أقرها البرلمان الليبي. وهو ما يزيد من حالة التأزم الداخلي
وتصاعد نشاطات الجماعات الإرهابية والمرتزقة التي تنشط هناك، ويعزز هذا الاتجاه تعثر
الجهود الدبلوماسية وأصبح الاتفاق على كيفية إجراء الانتخابات كحل دائم للخلافات
السياسية في ليبيا بعيد المنال أكثر من أي وقت مضى.