المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
محمد الحدّاد
محمد الحدّاد

نوبل السلام لتجربة الوفاق التونسية

الأحد 18/أكتوبر/2015 - 12:41 م

ما زلت أذكر يوم السبت 12 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2013، وكنّا نستعدّ لانطلاق أعمال ندوة موضوعها «دور المجتمع المدني في إنجاح الحوار الوطني»، عندما دخلت فجأة ومن دون تفسيرات فرقة من الأمن لتفتّش القاعة تفتيشاً دقيقاً، وقد علمنا بعد ذلك أنّ إنذاراً قد صدر من مجهول بوجود شيء مشبوه داخل القاعة. وبعد انطلاقة متأخرة للندوة بسبب هذه الحادثة، وقبل أن تتجاوز ساعتها الأولى، حدثت المفاجأة التالية، عندما اقتحمت مجموعة ميليشياوية القاعة لإفساد أعمال الندوة وظلت تصرخ من دون هوادة بشعارات ضدّ الحوار. وكنّا قد دعونا ممثلي كبار الأحزاب السياسية، لكنّ ممثل حزب «نداء تونس» مُنع من الالتحاق بالقاعة.

هذه صورة مصغّرة عن الأجواء التي كانت تحيط بمشروع الحوار الوطني عند بداياته في تونس. ولا بدّ أن نقول للتاريخ إنّه لم يكن لينطلق لولا اللقاء شبه السري الذي عقد بباريس يوم 15 آب (أغسطس) 2013 بين من أصبح يطلق عليهم في تونس لقب الشيخين، بمعنى التقدم في السنّ والتحلّي بالرصانة، وهو لقاء عقد بمبادرة من الأوّل، الباجي قائد السبسي، وباستجابة من الثاني، راشد الغنوشي، وبرعاية مجموعة من رجال الأعمال ومعاضدة من عواصم أوروبية. قليلون آنذاك كانوا على علم بالأمر، أما الرأي العام وقواعد الأحزاب، ومنها «نداء تونس» و «النهضة»، فكانت بعيدة عن توقّع ما يدور في الكواليس. لقد نجح السبسي في إقناع خصمه بالمشاركة في الحوار الوطني الذي كانت قد أطلقته أربع منظمات كبرى من المجتمع المدني وهي الاتحاد العام التونسي للشغل (أكبر نقابة عمالية منذ فترة التحرر الوطني) والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة (نقابة أصحاب المؤسسات الاقتصادية) والرابطة التونسية لحقوق الإنسان وعمادة (نقابة) المحامين. فمن دون تلك المشاركة، كان الوضع سيتجه وجهة أخرى. هكذا أصبحت الطريق سالكة أمام الوفاق.

ومع بداية الموسم السياسي كان ضرورياً الانتقال بالمسار إلى العلن وصرف جهد كبير في إقناع الجميع بأنه الحلّ الأمثل للخروج من الأزمة الخطيرة التي تردّت فيها البلاد. وقد تعثرت الانطلاقة الرسمية مرتين قبل أن تعلن بصفة نهائية يوم 25 تشرين الأول. وكانت الأزمة قد بدأت باغتيال النائب اليساري الحاج محمد براهمي يوم 25 تموز (يوليو)، وهو ثاني شخصية يسارية تنالها يد الغدر بعد الزعيم البارز شكري بلعيد الذي اغتيل قبله ببضعة أشهر. كان أنصار «الجبهة الشعبية» (تجمع اليسار) يتهمون الحكومة ذات الغالبية النهضوية بالتورّط في عمليتي الاغتيال، وكان المراقبون يرون أن التهاون في شأن الإرهاب الذي ميّز حكومتي ما بعد انتخابات 2011 هو السبب في استفحال هذه الظاهرة التي كانت تعتبر غريبة عن النفسية التونسية المعروفة بالسلمية. وبعد عملية الاغتيال، حاصر المحتجون مقرّ المجلس التأسيسي داعين إلى عصيان مدني وحلّ المجلس وإسقاط الحكومة، لكن البعض حذّر من مغبة هذا السيناريو مقترحاً تجربة قريبة من تلك التي حصلت في 2011، أي تشكيل حكومة محايدة تتولّى تسيير البلاد. وقد حسم الأمر عندما مالت النقابة العمالية الى الحلّ الثاني على رغم أنها كانت بدورها من ضحايا العنف، إذ اقتحم مقرّها المركزي آخر سنة 2012 بنية احتلاله من ميليشيات قريبة من الأوساط الحاكمة.

لقد بدأ الحوار متعثّراً لكنه نجح في غضون حوالى سنة في تحقيق أهدافه، أي توفير الظروف الملائمة لصياغة دستور توافقي وانتخابات بأكثر ما يمكن تحقيقه من مصداقية في بلد حديث العهد بالديموقراطية. وبذلك استطاعت تونس أن تنجح في تحقيق انتقالين سلميين للسلطة في 2011 و2014. وكانت شخصية الباجي قائد السبسي محورية في المرتين، وكان «الاتحاد العام التونسي للشغل» القوة الحاسمة في الترجيح والتوجيه. أما حركة «النهضة» فكانت أوّل من أطلق النار على الحكومة الموقتة لسنة 2011 متهمة إياها بالمناورة للاستيلاء على السلطة، ثم عادت بعد ذلك واستفادت من المسار بفضل انتخابات 2011، كذلك بادرت برفض الحوار سنة 2013 إلى أن قبله الغنوشي بعد لقاء باريس المشار إليه، وكان تراجعها في المرتين مـفيداً لها ومفيداً للبلاد، لكنها لم تكن في موقع الريادة، لا في التجربة الأولى ولا في الثانية.

واليوم، وقد أسندت جائزة نوبل للسلام للرباعي الراعي للحوار تأكيداً على أهمية التجربة الوفاقية التونسية، بما منحها رمزية كونية، فإنّ ملاحظتين أساسيتين تستحقان التأكيد.

أولاهما، أن الوفاق ينبغي أن لا يتحوّل إلى حالة من الجمود فتؤجّل كلّ القرارات المهمة والضرورية تفادياً لانهياره، ولا أن يظلّ مجسداً بإرادة شخصيات وزعامات، فتضعف المؤسسات السياسية ولا تضطلع بالوظائف المنوطة بها، لا سيما إذا كانت تلك الشخصيات في سن متقدمة ويمكن أن يؤدي غيابها إلى الفراغ الذي لا تحمد عقباه. فلا بدّ في تونس من التعجيل بالإصلاحات وتنصيب المؤسسات السياسية التي نصّ عليها الدستور وتطبيق الدستور نصاً وروحاً وانتقال الأحزاب من قيادة أبوية وكاريزمية إلى تسيير ديموقراطي شفّاف.

وثانيتهما، أن جائزة نوبل توجّه رسالة قويّة إلى بقية بلدان الثورات العربية كي تغلّب منطق الوفاق على منطق الصدام، وهو أمر وارد التحقيق في ليبيا المجاورة التي يمكن أن تصل إلى صيغة وســـطية مقبولة، ولا بدّ أن تسعى لذلك قبل فوات الأوان. والأمر أكثر عسراً لكنّه ممكن أيضاً في اليمن التي يدرك الجميع فيها فشل منطق المغامرات العنيفة التي أرادت الميليشيات فرضها. أما في سورية، فإنّ الأمل يظلّ بعيداً لكن لا بدّ أن يتوقف في يوم من الأيام هذا الدمار الشامل للبلاد الذي لن يفيد أحداً في النهاية.

إنّ الذين عايشوا في تونس ظروف انطلاق تجربة الحوار الوطني يدركون جيداً كم كانت حظوظه محدودة في البداية وكم كانت ظروفه صعبة، وكيف أنه تدعم بالسعي والعمل والمجازفة وليس بكثرة التنظير والجدل. فاليأس والتردّد من أكبر العوائق أمام التقدّم في المسارات السياسية الدقيقة. نقلا عن الحياة

 

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟