وقع هذا الحادث المدهش فى بريطانيا فى أوائل هذا الشهر وهو يستحق التأمل واستخراج العبر منه حتى فى خارج الدولة التى وقع فيها.
عالم بريطانى كبير Tim Hunt سنه 72 عاما وأستاذ فى جامعة لندن، وحصل على جائزة نوبل لاكتشافاته فى ميدان انقسام الخلية. دعى إلى مؤتمر فى سيول عاصمة كوريا الجنوبية سمّى (المؤتمر العالمى للصحافة العلمية) فألقى كلمة على عدد كبير من محررى الموضوعات العلمية فى الصحف، وتضمنت كلمته جملة قصد منها الدعابة أكثر من الجد، لكنها للأسف حظيت بانتشار كاسح، بسبب ما تتمتع به وسائل الاتصال اليوم من قدرة على نشر أبسط الأخبار وترديدها من موقع الكترونى إلى آخر، واستقبال ونشر التعليقات من كل من هب ودب، على نطاق واسع مما كان متاحا فى أى وقت فى الماضي، وكانت النتيجة أن اصدرت جامعة لندن قرارا بعزله من وظيفته كأستاذ شرفي، مما يعنى - على حد قوله هو - نهاية حياته العلمية.
ما هى إذن هذه الجملة التى أغضبت الجامعة إلى هذا الحد؟ قال إنه فى أثناء قيامه بتجاربه فى المعمل، صادف ثلاث مشكلات تتعلق بوجود بعض النساء فى المعمل فى نفس الوقت: فهو إما أن يقع فى حب إحداهن أو أن تقع إحداهن فى حبه، فضلا عن انه إذا وجه انتقادا لإحداهن لخطأ ارتكبته انخرطت فى البكاء! وأضاف انه يفضل لو قام الرجال والنساء باختباراتهم فى المعامل منفصلين إذ أن الوصول إلى الحقيقة فى البحث العلمى يتطلب السير على أرض مستوية لا تعوقه أى عقبة.
يبدو أن إحدى النساء الحاضرات فى المؤتمر نشرت الجملة فى موقعها على شبكة الاتصال الاجتماعى وعلقت عليها بقولها «الظاهر أننا قد عدنا إلى العصر الفيكتوري»!
عندما سئل الرجل فى ذلك قال: إنى أسف لما سببه كلامى من إيذاء لبعض المشاعر، وقد قلته بدافع الدعابة وإن كنت اعتقد فى صحة ما قلت. قال ايضا إنه لا ينكر ان لديه بعض التعصب Chauvinism لكنه يؤيد تقديم كل صور الدعم للنساء للإسهام فى البحث العلمي. كما اعترف اساتذة آخرون بأنه فعل الكثير خلال حياته فى سبيل هذا الدعم.
لا أريد أن أناقش هنا صحة أو خطأ ما قاله، فالأهم من ذلك فى نظرى الطريقة التى تعامل بها الناس مع الخبر، وعلى الأخص تصرف الجامعة على هذا النحو.
لقد عبر الرجل عن دهشته الشديدة من أن قرار الجامعة بعزله اتخذ دون أى محاولة من جانبها للاستماع إلى أقواله عما حدث لسبب ما شعرت الجامعة بالحرج إذا لم تتصرف بسرعة وحزم فى هذا الأمر. وقد علقت صحيفة بريطانية على ما حدث تعليقا حكيما إذ قالت إن الأرجح أن أغلب النساء إذا سمعن بما حدث لن يشعرن بغضب شديد بل ولا حتى بالغضب أصلا بل سيعتبرونه دعابة غير موفقة ثم ينصرفن إلى التفكير فى شيء آخر.
لابد أن حجم الأهمية التى أعطيت لما قاله الرجل فى جملة أو جملتين وعلى نحو عابر وبقصد المزاح ترجع إلى أسباب أخرى غير ما يمكن أن يثيره كلامه من غضب النساء أو ما قد يسببه من ضرر لهن أو لغيرهن.
هناك طبعا تلك الظاهرة المخيفة والمتعلقة بالتمييز بين ما يعتبر لائقا أو غير لائق سياسيا Politically Correct.
إن أى كلام يمكن أن يفهم منه وجوب معاملة النساء على نحو مختلف عن معاملة الرجال لاسباب تتعلق بالطبيعة البيولوجية يعتبر الآن من قبيل الكلام غير اللائق سياسيا ومعنى ذلك أنه كلام غير مقبول ومستهجن من الرأى العام المقبول الآن واللائق سياسيا هو اعتبار أى اختلاف قد يلاحظ بين سلوك المرأة وسلوك الرجل لابد أن يعود إلى ظروف اجتماعية وليس إلى اسباب طبيعية وعلى الأخص إلى ظروف فرضت على المرأة فرضا مما جعل اداؤها فى بعض الميادين مختلفا عن أداء الرجل. والقول بأى شيء يوحى بغير ذلك غير جائز أو غير لائق وينطوى على الرجوع إلى العصر الفيكتورى أو ما قبله. فإذا اصاب احدنا السهو عن ذلك وعبر عما يخالفه - ولو كان هذا هو ما يعتقده حقيقة - تعرض لما لا تحمد عقباه.
لكن الأمر يصبح أكثر سوءا فى ظل ثورة الاتصالات والمعلومات الراهنة فأبسط خبر يمكن أن يذاع على الملأ وعبارة بسيطة تقال على سبيل الجد أو المزاح يمكن أن تنتشر فى جميع أركان الأرض فى لمح البصر إذا اعتقد البعض أنها يمكن أن تسلى الناس أو تلفت نظرهم. وفى هذه الحالة يصبح ارتكاب العمل - غير اللائق سياسيا - أشد خطورة وأوجب للعقاب.
> > >
لقد سبق أن حذرنا الكاتب الفرنسى الفذ (اليكس دى توكفيل) فى كتابه المشهور (الديمقراطية فى أمريكا) من أن الخطر الذى يهدد الديمقراطية لا ينحصر فى استبداد الدولة بل يمكن أن يكون الأسوأ منه استبداد «الرأى العام» لكن توكفيل كتب هذا فى ثلاثينيات القرن التاسع عشر أى منذ ما يقرب من قرنين من الزمان قبل أن تحدث ثورة الاتصالات الحالية التى فى ظلها يتحول الرأى العام إلى ما يشبه الوحش المفترس ينقض عليك بمجرد أن يبدو منك ما يغضبه. فالمئات من الغاضبين قد تحولوا فى ظل ثورة الاتصالات إلى ملايين وهؤلاء تصعب تهدئتهم بل يشجع بعضهم بعضا على الاسترسال فى التعبير عن غضبهم ومعاقبة من أغضبهم تماما كالذى نشاهده من فرق بين سلوك المشتركين فى مظاهرة من عشرة أشخاص والمشتركين فى مظاهرة من مليون من البشر.
يبدو أن هذا هو ما حدث فى موقف الجامعة العريقة من تصريحات الرجل المسكين. إذ لم يشفع له علمه الغزير ولا ما قدمه من نفع للإنسانية أمام غضب الرأى العام. بل يبدو أن الجامعة بفصلها الأستاذ لم تكن تحاول تهدئة الغاضبين بقدر ما كانت تحاول تجنب غضب محتمل ولم يجد صاحب قرار الفصل لديه من الشجاعة ما يجعله يصرح بأن الأمر لا يستوجب أكثر من اعتذار بسيط عن خطأ فى التعبير.
إن مثل هذا هو ما كان يقصده المفكر الأمريكى ناعوم تشومسكى فى مقال قديم له بعنوان حدود التفكير المسموح به وقد أصبح الآن من قبيل التفكير غير المسموح به إرجاع بعض الاختلافات بين سلوك الرجل وسلوك المرأة إلى اختلافهما البيولوجى لقد ذكر بعض المعلقين على هذا الحادث الأخير بأن هناك من الإحصاءات ما يدل على أن استعداد المرأة للبكاء يبلغ أضعاف استعداد الرجل له لكن قول مثل هذا الكلام الآن يعتبر شيئا خطيرا يستحسن تجنبه لأن هناك أعدادا غفيرة من الناس يمكن أن تحدث ضجة كبيرة إذا سمعت به فلماذا لا تطلب الجامعة أو غيرها السلامة والهدوء فتفصل أستاذا واحدا لن يجد فى الغالب جمهورا واسعا يعبر عن الغضب لفصله؟
يحدث هذا فى دولة هى أعرق دول الغرب فى المناداة بالحريات الفردية والسياسية مما لابد أن يجعلنا نشك فى صحة الزعم بأننا نسير قدما فى عصر ازدهار الديمقراطية لكن هذا الشك نفسه قد أصبح ايضا من قبيل المواقف غير اللائقة سياسيا فالأفضل إذن ، إذا أردنا السلامة والهدوء أن نكف عن هذا الشك ايضا أو على الأقل أن نحتفظ به لأنفسنا دون أن نقوله على الملأ. نقلا عن الأهرام