نجحت رأسمالية السوق الحر لأنها أدت أكثر المهام فاعلية في تخصيص موارد المجتمع، أو هكذا يقول المنطق السائد. ولكن ماذا إن كانت القيمة الحقيقية للرأسمالية في مكان آخر؟ وماذا إن كان إسهامها الأكثر أهمية هو بالفعل عدم الفاعلية؟ تلك هي الحجة المقنعة بشكل مثير ومدهش التي طرحها الرأسمالي نِك هانور والاقتصادي إيريك باينهوكر من معهد التفكير الاقتصادي الجديد. وإن كانا محقين فإن عدم المساواة الاقتصادية الاجتماعية المتصاعد، قد يمثل تهديدا لآلة الرأسمالية الإبداعية ذاتها.
وتعتمد معظم الاقتصاديات الحديثة على فكرة أن السعر هو أفضل مقياس للقيمة. وقرر الاقتصاديون قبل نصف قرن أن خير انعكاس لقيمة الشيء هو في السوق: كم يرغب شخص ما في أن يدفع مقابله؟ أقبل بهذه الطريقة من التفكير، ومن الطبيعي أن تأخذ الناتج المحلي الإجمالي المقيس بالدولار، كأفضل مؤشر على ثروة المجتمع وازدهاره - ربما مع بعض التسويات لاستيعاب بعض الأشياء الدقيقة مثل رفاهية الإنسان.
ولكن هل يكفي مجرد الالتفاف على الطريقة التي نضع بها القيمة النقدية على الأشياء؟ ما نحتاجه حسبما يقترح هانور وباينهوكر تفكير أكثر جذرية. نحتاج أن نبدأ النظر إلى الثروة ليس على أساس أنها مجرد مال، بل حل للمشكلات الإنسانية.
وهو واضح إن فكرت فيه. إذا أعطاك شخص مليار دولار وأرسلك إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية أو أي من الدول الأكثر فقرا في العالم، فسيمكنك شراء أي شيء موجود هناك، بمبالغ تفوق ما يستطيع دفعه السكان المحليون. ولكنك تكون مع ذلك أقل ثراء من الشخص المتوسط في أي دولة متقدمة، لأنه لن تتوفر لديك وسيلة الحصول على الحلول: الغذاء والماء الآمنين، الإمداد الكهربائي الموثوق به، الشرطة الجديرة بالثقة وغير ذلك من المؤسسات. قد ترتبط الثروة النقدية بالثروة القائمة على الحلول ولكن الحلول تبقى هي الأهم.
ابدأ في النظر إلى الأشياء بهذه الطريقة وستبدو الرأسمالية بصورة مختلفة بعض الشيء. يبدو أن الاقتصاديات المعتمدة على السوق تخلق الرفاهية بصورة أكثر فاعلية مقارنة ببدائلها، لكن سر نجاحها لا يبدو كثيرا كالتوازن الأمثل. فهي تزدهر بالضبط بسبب مقدرتها على صنع الفوضى الخلاقة. مثل ما ادعى به نظام النشوء والارتقاء الدارويني بالبقاء للأصلح، فهي ترعى عدم التوازن الدائم وتختبر الإمكانات الجديدة الكثيرة، وتكتشف بذلك وترعى الحلول الجديدة. وتشتمل العملية على الكثير من الفشل والخسارة. فكم من المشاريع الجديدة تنهار وتحترق من أجل غيرها مما يغير حياتنا؟
ويأتي ذلك بهانور وباينهوكر إلى نقطة مهمة: يتطلب الإبداع اللازم للرأسمالية التنوع. فهو يحتاج إلى الكثير من العقول التي تبحث في اتجاهات مختلفة، وتجمع مهارات وخبرات متنوعة لاختبار كم هائل من الحلول المحتملة.
يحد عدم المساواة الاقتصادية الاجتماعية من الحصول على مخزون الحلول الإنسانية، ويقلل من الفرص أمام مئات الملايين من العقول للإسهام الذي يمكن أن تقوم به. فكم من الحلول الجديدة القوية يمكن توقعها من إعفاء الضرائب بنسبة 1 في المائة؟ ومع ندرة الأفكار الجيدة فقد يصعب الحصول على من حققوا النجاح، ليكونوا «صناع وظائف المستقبل». وفي مقابل ذلك فإن الاستثمارات الواسعة في مجالات الصحة العامة والتعليم التي يستفيد منها 350 مليون شخص، قد تكون حاسمة في رعاية القاعدة الإبداعية للأمة.
إن إسهام هانور وباينهوكر مهم لأنه يمضي أبعد من الصورة النمطية القديمة والكليشيهات السهلة حول أسباب نجاح الرأسمالية. السر هو البحث الفوضوي الخلاق الذي يسبب الخسارة، وليس بعض الموازنات الغامضة. نحتاج للجميع الغني والفقير لتحقيق النجاح.
* بالاتفاق مع بلومبيرغ – نقلا عن الشرق الأوسط