العلاقات الإسرائيلية – الروسية : تحولات وتناقضات
الأحد 29/ديسمبر/2013 - 01:01 م
تتحدد العلاقات الإسرائيلية – الروسية على ضوء تداخل ومحصلة تفاعل عوامل عديدة، من بينها وعلى رأسها المصلحة الوطنية والمنظور السياسي والأيديولوجي، الذي تتحدد على ضوئه، وكذلك العناصر التي تنتمي للبيئة الداخلية، سواء في الاتحاد السوفياتي السابق أو في روسيا الاتحادية، وريثة الاتحاد السوفياتي. يلي ذلك الإطار الإقليمي، أو – إن شئنا – البيئة الإقليمية بتجاذباتها وتداخلاتها والإطار الدولي. الذي يتعلق بطبيعة النظام الدولي والعلاقات الدولية. وتتوقف طبيعة العلاقات الإسرائيلية – الروسية ومستواها على محصلة تفاعل هذه العوامل السابقة، وتأثيرها في صياغة هذه العلاقات وأبعادها المختلفة. ومن ناحية أخرى فإن هذه العناصر التي تساهم في تشكيل هذه العلاقات لا تصب جميعها في اتجاه واحد، أي استمرار هذه العلاقات، أو قطعها وتجميدها والاحتفاظ بالحدود الدنيا فيها؛ بل هي تتوزع في كل هذه الاتجاهات. تتعرض العلاقات الإسرائيلية – الروسية لموجات من المد والجزر، والمراوحة بين الصعود والهبوط، على ضوء تصورات النخبة الحاكمة في كلا البلدين للمصلحة الوطنية والقومية وتعريفها في لحظة تاريخية وزمنية محددة. ومع ذلك فإن العلاقات بين روسيا وإسرائيل ليست مجرد علاقات بين دولتين عاديتين، لأن روسيا تتمتع بثقل كبير في النظام الدولي، وهي وريثة الاتحاد السوفياتي وقوته النووية، ولم تتخل أبداً عن طموحها في تبوؤ مكانة بين الأمم وفي النظام الدولي تتلاءم مع تاريخها الحديث والمعاصر. كما أن إسرائيل أيضاً ليست دولة ككل الدول، فهي دولة نشأت على أنقاض شعب آخر هو الشعب الفلسطيني، ولدت حليفة للإمبريالية الغربية والاستعمار الغربي في إقليم الشرق الأوسط.
كان الاتحاد السوفياتي السابق، عندما نشأ عقب الثورة البلشفية عام 1917، يعاني من « مشكلة يهودية » ، وهي جزء لا يتجزأ من « المشكلة اليهودية » التي عرفتها أوروبا، وكان ثمة حزب يهودي يسمى حزب « البوند » للعمال اليهود. وقام « ستالين » عندما تولى رئاسة الحزب الشيوعي السوفياتي بمحاولة معروفة لتهجير اليهود ونقلهم إلى أحد أقاليم سيبيريا، ولم يكتب لتلك المحاولة النجاح حينئذ. وإذا أضفنا إلى ذلك، وفق بعض الكتابات، أن عدداً لا بأس به من أعضاء الحزب الشيوعي السوفياتي ولجنته المركزية كانوا يهوداً، وأن بعض الأفكار في الحزب كانت ترى في قيام إسرائيل نواة دولة اشتراكية، استناداً إلى المزارع التعاونية المسماة صهيونياً « الكيبوتزات » ، والتي رآها البعض في الحزب الشيوعي شبيهة (بالسوفخوزات » و « الكولخوزات » . إذا ما أضفنا كل ذلك، لفهمنا خلفية اعتراف الاتحاد السوفياتي بقرار التقسيم عام 1947، واعترافه بقيام دولة إسرائيل عام 1948. نظر السوفيات إلى شعوب الشرق الأدنى باعتبارها شعوباً تسعى للتحرر من الاستعمار وتحقيق وحدتها القومية، ومع بداية الخمسينيات تشكلت بوادر حركة التحرر الوطني العربية مع الانقلابات العسكرية ذات الطابع الوطني المعادي للاستعمار الغربي، والتي تحولت فيما بعد إلى تطبيق بعض عناصر الاشتراكية ومناهضة الأحلاف الغربية والاستعمار الغربي.
تبلورت معالم القطبية الثنائية في النظام الدولي ورأى الاتحاد السوفياتي آنذاك في حركة التحرر الوطني العربي حليفاً مهماً واستراتيجياً في الشرق، يعزز مواقع الاشتراكية والاتحاد السوفياتي في مواجهة الغرب الاستعماري ويزعزع النظم الموالية للغرب في المنطقة. لذلك لم يبخل الاتحاد السوفياتي وبلدان الكتلة الشرقية آنذاك بالمساعدة الاقتصادية والمالية والعسكرية للبلدان العربية في مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة والحلف الغربي، وهكذا انتهج الاتحاد السوفياتي سياسة جديدة أفضت إلى بناء علاقات متعددة الأبعاد مع الدول العربية، وقلصت العلاقات مع إسرائيل إلى حدودها الدنيا حتى تم قطعها عام 1953، وعام 1956 مرة أخرى وعقب حرب وعدوان 1967 مرة ثالثة، واستمر هذا الانقطاع في العلاقات حتى عام 1991. بانهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي، ووراثة روسيا الاتحادية له دخلت العلاقات الإسرائيلية – الروسية في منعطف جديد، خاصة في عهد « يلتسين » ، حيث انتشر النفوذ الصهيوني عبر « المؤتمر اليهودي الروسي » وصعدت نخبة جديدة، كان من بينها عدد كبير من اليهود أصبحوا نجوماً في السياسة، في المرحلة الانتقالية، التي شهدت الخصخصة والتوجه للانفتاح على الولايات المتحدة الأمريكية بدعوى الحصول على المساعدات الاقتصادية. ولعب السياسيون اليهود في النخبة الجديدة والمليارديرات اليهود دوراً كبيراً وسيئاً في نهب ثروات روسيا، وتحويل مبالغ طائلة إلى خارجها قدّرها البعض بحوالي مائتي مليار دولار، وبيعت الشركات والمؤسسات الاقتصادية بثمن بخس، وظهر تحالف الفساد والمافيا والنشاط الصهيوني والاستخباراتي واضحاً. وطالب الحزب الشيوعي الروسي واليساريون والوطنيون الروس بضرورة وقف هذا النشاط، وإنهاء سيطرة اليهود على الاقتصاد والإعلام. وتراجعت مكانة روسيا الدولية في هذه الحقبة، واتجهت روسيا بعد « يلتسين » لمحاربة الفساد وتحجيم النفوذ الصهيوني بهدف استعادة مكانة روسيا وإصلاح أحوال الاقتصاد، وقادت روسيا حملة أفضت إلى هروب بعض المليارديرات اليهود إلى الخارج، والقبض على الملياردير اليهودي « خودرو كوفسكي » وتقديمه للمحاكمة، واتهمت إسرائيل الرئيس بوتين بمعاداة السامية وشنت ضده حملة عنيفة. على ضوء تصور الرئيس « بوتين » عبر ولاياته المختلفة كرئيس لروسيا وكرئيس لوزرائها، المستند إلى روسيا القوية الراغبة في استعادة مكانتها الدولية والحفاظ على الأمن القومي الروسي بأبعاده الآسيوية والأوروبية، وكذلك الرئيس « ميدفيديف » شهدت العلاقات الإسرائيلية – الروسية تطورات متوازنة وفي مجالات مختلفة يجمع بينها المصلحة الوطنية الروسية والمنافع المتبادلة.
نظمت العلاقات الإسرائيلية – الروسية في المجال التجاري والاقتصادي الاتفاقية التي وقعت بين الطرفين في 27 أبريل/نيسان عام 1994، والتي قضت بمنح الجانبين الروسي والإسرائيلي نظام الأفضلية القصوى في التجارة، وتشكيل « اللجنة الإسرائيلية – الروسية المشتركة الخاصة بالتعاون التجاري والاقتصادي » ، وكذلك وقعت بين الجانبين اتفاقيات التعاون العلمي والتقني والتعاون في مجال القطاع الزراعي والصحة والطب، وإلغاء الضرائب المزدوجة والتعاون في مجال النقل البحري. واستناداً إلى هذه الاتفاقيات بلغ النمو السنوي للتبادل السلعي بين البلدين وحجم العلاقات التجارية الإسرائيلية – الروسية في عام 2006، 1.9 مليار دولار بدلاً من اثنى عشر مليون دولار فقط عام 1991. كذلك دخل التعاون الإسرائيلي – الروسي مجال الأبحاث الفضائية والمواصلات والتكنولوجيا المعلوماتية والاتصال والتكنولوجيات الزراعية والصناعية وقطاع الأعمال الخاصة بمعالجة الماس والمعادن، وشمل التعاون مجال الطاقة والنفط ومشتقاته.
وفي مجال أبحاث الفضاء قامت روسيا على ضوء مذكرة التفاهم بين وكالتي الفضاء في كلا البلدين بإطلاق القمر الصناعي الإسرائيلي عن طريق الصاروخ الروسي « ريسورس – 10 » في عام 2000، وكذلك في عامي 2003 ، 2006 تم إطلاق قمرين إسرائيليين آخرين عن طريق الصواريخ الروسية. ترغب روسيا في الحصول من إسرائيل على طائرات بدون طيار، والتعاون مع إسرائيل في مجال النانوتكنولوجي، ولكن هذا التعاون في المجالات المختلفة بين إسرائيل وروسيا لم يؤثر حتى الآن في التوجهات الاستراتيجية لروسيا، ولم يؤثر في موقفها من الصراع العربي – الإسرائيلي، حيث تحتفظ روسيا بعلاقات استراتيجية وسياسية بكل من إيران وسوريا، وتتعاون مع الأولى في مجال الطاقة النووية السلمية وتعارض ضرب المنشآت النووية الإيرانية، وترى في العقوبات المفروضة على إيران من قبل الغرب الطريق الوحيد لمعالجة الملف النووي الإيراني. كما أن روسيا تزود سوريا بالسلاح والصواريخ لحماية المجال الجوي السوري، رغم علم روسيا بتزويد سوريا لحزب الله ببعض هذه الأسلحة، وهو الأمر الذي نبهت له إسرائيل مراراً وتكراراً، ولا تزال حتى الآن ترفض منح تفويض للغرب والناتو للتدخل في سوريا على غرار القرار 1973 الذي وافقت عليه روسيا لتدخل الناتو في ليبيا.
لا تزال روسيا الاتحادية، على صعيد الصراع العربي الإسرائيلي والتسوية، تدعم السلطة الفلسطينية وتتبنى حل الدولتين؛ دولة فلسطين ودولة إسرائيل واعتبار حدود عام 1967 سقف التسوية المتوقعة. وروسيا عضو في اللجنة الرباعية الدولية بجانب الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، صحيح أن الولايات المتحدة لها الكلمة الفصل في اللجنة؛ إلا أن روسيا تطرح تصورات في إطار اللجنة لتفعيل الحل لا تأخذ بها اللجنة الرباعية. يجمع بين روسيا وإسرائيل اهتمام كليهما بالإرهاب الدولي، والخوف من التيارات الإسلامية المتشددة والمتطرفة، فلكل من روسيا وإسرائيل «إرهابيوهما» من وجهة النظر الروسية والإسرائيلية. لدى روسيا المتطرفون الشيشانيون، الذين يطالبون بالانفصال عن روسيا الاتحادية والمدعومون من وجهة نظر بعض الكتابات من المملكة العربية السعودية، ولدى إسرائيل «إرهابيوها» أيضاً وفق وجهة النظر الإسرائيلية المتمثلون في «حماس» و«الجهاد»، واللتين تعتقد إسرائيل أنهما تتلقيان دعماً إيرانياً وسورياً. بيد أن وجهة النظر الروسية فيما يتعلق بالإسلام والمسلمين والحركات الأصولية المتشددة تختلف إلى حد كبير عن وجهة النظر الإسرائيلية؛ فالأخيرة هي جزء لا يتجزأ من وجهة النظر الغربية والأمريكية تحديداً، والتي تلصق الإرهاب بالدين الإسلامي خاصة بعد 11 سبتمبر 2001، وترتكز وجهة النظر هذه على نتائج الاستشراق الغربي أو جزء منه يرى في المسلمين والمجتمعات الإسلامية بيئة منتجة للإرهاب كمعطى أنطولوجي، مرتبط ببنية الديانة الإسلامية والثقافة الإسلامية. كما تسترشد وجهة النظر الغربية والإسرائيلية بنظرية صراع الحضارات لـ «هانتنغتون»، والصدام بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية. أما روسيا الاتحادية فترى أن العلاقات مع العالم الإسلامي مكون مهم في مضمون الأمن القومي الروسي، وأن الفكرة الوطنية الروسية الأساسية تتلخص في الوعي بالشعب الروسي الواحد، مع عدم إهمال الجذور القومية والثقافية لكل شعوب روسيا وقومياتها.
يشكل المسلمون في روسيا الاتحادية ما يقرب من عشرة بالمائة من السكان، أو ما يعادل خمسة عشر مليون نسمة، وتتشكل روسيا الاتحادية من عدد كبير من القوميات والإثنيات. ويعتقد المفكرون الروس أن الانتماء المزدوج شرط لابد منه لوجود دولة متعددة القوميات، وأن الولايات المتحدة الأمريكية تشكل مثالاً كلاسيكياً على ذلك؛ فالزنوج والمكسيكيون يعتبرون أنفسهم زنوجاً ومكسيكيين ولكنهم في الوقت ذاته «أفارقة أمريكيون» و«مكسيكيون أمريكيون» والأمر نفسه بالنسبة للألمان والفرنسيين والإيطاليين والذين يعتبرون أنفسهم أمة واحدة، رغم الفوارق الثقافية الكبيرة، وفضلاً عن ذلك فإن المفكرين الروس يعتبرون أن المسيحية الأرثوذكسية الروسية والإسلام لم يشهدا في تاريخ علاقاتهما صداماً عنيفاً، وأنهما أكثر تسامياً فيما بينهما. بل يعتقد البعض أن الأرثوذكسية أقرب إلى الإسلام في عدد من عناصرها من المسيحية الغربية، وأن الحضارة الأوراسية الروسية قريبة من الحضارة الإسلامية ورغم تنوع وتعدد أوجه التعاون الروسي – الإسرائيلي العلمي والاقتصادي والتقني والتجاري، فإن العلاقات الإسرائيلية – الروسية لا تسير على وتيرة واحدة، فهي تشهد موجات من المد والجزر، الصعود والهبوط نظراً لتناقض وتضارب المصالح والسياسات والرؤى الاستراتيجية لكلا الطرفين. لا تزال روسيا قوة كبرى، في عالم ما بعد الاتحاد السوفياتي، تستند إلى مساحة مترامية الأطراف غنية بالموارد الطبيعية وتمتلك قوة نووية كبيرة، لم يقلل من تأثيرها تفكك الاتحاد السوفياتي أو الأزمة الاقتصادية التي أعقبت هذا التفكك، إذ سرعان ما أعاد «بوتين» تعزيز القوة العسكرية الاستراتيجية لروسيا بتخصيص مبالغ مالية كبيرة لتحديث القوة العسكرية الروسية التقليدية والاستراتيجية، كما تستند روسيا إلى حضارة راسخة وثقافة مهمة أسهمت في تطور العلوم والفنون على مستوى العالم، وروسيا كقوة كبيرة تحاول استعادة دورها ومكانتها بين الأمم ولها طموحات كبرى في تعزيز أمنها القومي وتدعيم الاتحاد الروسي، ولعب دور أكبر على الساحة الشرق أوسطية والعالم الإسلامي.
بينما إسرائيل لم تتخل عن دورها كحليف للغرب وانتقل ولاؤها من بريطانيا وفرنسا، وهما القوتان الاستعماريتان التقليديتان، إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وتستند على الدعم الأمريكي العسكري والسياسي وتأثير الجاليات اليهودية واللوبيات اليهودية في أمريكا وأوروبا. ولا تزال إسرائيل تقف ضد رغبة المجتمع الدولي في تسوية الصراع بينها وبين الدول العربية، وتخرق بانتظام كافة المعاهدات والاتفاقيات الدولية ولا تتورع عن العدوان على لبنان 2006 وغزة 2008-2009 و 2012. وتبقى إسرائيل حتى الآن القوة الاستعمارية الوحيدة في العالم المعاصر، التي تقوم باحتلال الضفة الغربية والجولان السوري منذ عام 1967 وحتى الآن، وتدعم تحالفها وانخراطها في الأجندة الغربية والأمريكية على نحو يخل بالتوازنات الدولية ومصالح الشعوب المستضعفة وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني. ونتيجة هذا التضارب الإسرائيلي – الروسي في المصالح والأهداف والتحالفات، فقد لعبت إسرائيل دوراً كبيراً في دعم جورجيا بطائرات استطلاع بدون طيار، وتدريب فرق جورجية عسكرية على أيدي مدربين إسرائيليين، وهو الأمر الذي لم تغفره روسيا لإسرائيل. طالبت روسيا بوقف الدعم الإسرائيلي لجورجيا وغيرها من الدول، التي تمثل الحديقة الخلفية لموسكو وروسيا، وكانت تدور في الفلك السوفياتي قبل انهيار الاتحاد السوفياتي. وتسبب ذلك في أزمة كبيرة في العلاقات الإسرائيلية – الروسية، ففي الوقت الذي طالبت فيه روسيا بوقف دعم جورجيا، طالبت إسرائيل بوقف تزويد سوريا بصواريخ (سي – 300) الهجومية ووقف دعم روسيا لإيران في برنامجها النووي. بين روسيا والعالم العربي تشابهات بنائية حضارية وثقافية وسياسية في الماضي والحاضر؛ فروسيا تستند إلى حضارة أوراسية راوحت كثيراً بين التوجه شرقاً والتوجه غرباً، واعتبار نفسها دولة شرقية تارة وأخرى غربية، وزاوجت بين التقليد والتحديث بين الأصيل والوافد. وهكذا فعل العالم العربي، الذي ظل لمدة قرنين – بلا ولا يزال – يبحث عن الكيفية التي يزاوج بها بين التقليدي والحديث، بين الأصالة والاقتباس عن الغرب، بين الاندماج في الحضارة العالمية المعاصرة والاحتفاظ بالجذور الحضارية التاريخية. من ناحية أخرى تربط العالم الإسلامي والعالم العربي بروسيا علاقات الجوار التاريخي، وعديدة هي الجمهوريات الإسلامية التي دخلت ضمن الفضاء السوفياتي قبل انهياره، بل وبقيت علاقات هذه الجمهوريات مع روسيا قوية بحكم المصالح والجوار والأمن القومي. كما أن روسيا الاتحادية تضم بين ظهرانيها أقلية مسلمة روسية كبيرة تنتمي إلى الأمة الروسية، رغم مطالبة بعضهم بالانفصال.
يرتبط الأمن القومي الروسي ببناء تصورات جديدة واستراتيجيات جديدة للتكيف مع واقع التعدد القومي والديني داخل روسيا وعلى حدودها في آسيا الوسطى والقوقاز والشرق، وهو ما تعيه النخبة الروسية الحاكمة والدوائر الأكاديمية والبحثية. ويتبين لهذه النخبة شيئاً فشيئاً عدم صحة التوجه لإسرائيل كمفتاح لتوجه روسيا غرباً، وضرورة إعادة هيكلة السياسات الروسية على قاعدة التوازن بين التوجه للعالم العربي والإسلامي والعالم الغربي، خاصة أن روسيا لا تزال ترى في الغرب بقايا عدو قديم عبر محاولة حصارها بالدرع الصاروخية الأوروبية وضم بعض البلدان التي كانت تدور في فلك موسكو لحلف الأطلنطي، ومواقف الغرب إزاء صربيا والبوسنة والهرسك وغيرها من الملفات المطروحة للتفاوض بين روسيا والغرب وحلف الناتو. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتولي روسيا خلافته، وظهور القطبية الأحادية وموجات العولمة تجد روسيا والعالم العربي أنفسهما في واقع متشابه، واقع يطمح إلى تطبيق الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والتعددية الفكرية والسياسية والإصلاح الاقتصادي ومحاربة الإرهاب ومحاولات التكيف مع العالم الجديد والمعطيات المتغيرة على الصعيد الدولي. فروسيا والعالم العربي يرفضان التدخل الغربي في شؤونهما، ويرفضان المساعدات الغربية المشروطة ويحاولان النهوض باقتصاداتهما، على ضوء فكرة السوق الاجتماعية وتحقيق اسس الاستقلال الوطني واستقلال القرار الوطني. هذه التشابهات البنائية بين روسيا والعالم العربي، القديم منها والحديث، تعزز بالتأكيد من توقعات مختلف الأطراف تجاه بعضها البعض، فالعالم العربي يتوقع من روسيا أن تلعب دوراً مؤثراً في استعادة الحق الفلسطيني في الدولة والقدس والتسوية العادلة. خاصة أن روسيا أحد أعضاء اللجنة الرباعية وأن تعزز روسيا تواجدها في المحافل الدولية لدعم الحق العربي والفلسطيني، كما تتوقع روسيا من العالم العربي تدعيم التبادل التجاري مع روسيا وزيادة الاستثمارات العربية فيها بدلاً من تركزها في الغرب، وأخيراً وليس آخراً، أن تلعب الدول العربية دوراً مؤثراً في إنهاء النزعات الانفصالية لبعض المسلمين في الاتحاد الروسي وتشجيعهم على الاندماج على قاعدة المساواة في الحقوق السياسية والثقافية مع باقي القوميات وأصحاب الديانات الأخرى، التي تكوّن الاتحاد الروسي.
يتوقع العالم العربي أن تتعمق روابط روسيا مع الدول العربية، وأن يساهم الاتحاد الروسي في تقوية مواقع العرب الدولية وتصحيح التوازن المختل مع إسرائيل، على صعيد التسلح والتقنية الدفاعية. كما تتوقع روسيا أن تتعزز مواقعها التجارية والاقتصادية والاستراتيجية في العالم العربي. وإذا كانت التوقعات شيئاً والواقع شيئاً آخر والمسافة بينهما قد تكون كبيرة، فإن الإرادة السياسية والتفهم العميق للعلاقات والمصالح وبلورة رؤى عميقة للسياسات الخارجية من جانب الطرفين عبر الحوار الاستراتيجي وبناء فضاءات استراتيجية للحوار، يعد الطريق الوحيد لتقليص الفجوة بين هذا وذاك.
كان الاتحاد السوفياتي السابق، عندما نشأ عقب الثورة البلشفية عام 1917، يعاني من « مشكلة يهودية » ، وهي جزء لا يتجزأ من « المشكلة اليهودية » التي عرفتها أوروبا، وكان ثمة حزب يهودي يسمى حزب « البوند » للعمال اليهود. وقام « ستالين » عندما تولى رئاسة الحزب الشيوعي السوفياتي بمحاولة معروفة لتهجير اليهود ونقلهم إلى أحد أقاليم سيبيريا، ولم يكتب لتلك المحاولة النجاح حينئذ. وإذا أضفنا إلى ذلك، وفق بعض الكتابات، أن عدداً لا بأس به من أعضاء الحزب الشيوعي السوفياتي ولجنته المركزية كانوا يهوداً، وأن بعض الأفكار في الحزب كانت ترى في قيام إسرائيل نواة دولة اشتراكية، استناداً إلى المزارع التعاونية المسماة صهيونياً « الكيبوتزات » ، والتي رآها البعض في الحزب الشيوعي شبيهة (بالسوفخوزات » و « الكولخوزات » . إذا ما أضفنا كل ذلك، لفهمنا خلفية اعتراف الاتحاد السوفياتي بقرار التقسيم عام 1947، واعترافه بقيام دولة إسرائيل عام 1948. نظر السوفيات إلى شعوب الشرق الأدنى باعتبارها شعوباً تسعى للتحرر من الاستعمار وتحقيق وحدتها القومية، ومع بداية الخمسينيات تشكلت بوادر حركة التحرر الوطني العربية مع الانقلابات العسكرية ذات الطابع الوطني المعادي للاستعمار الغربي، والتي تحولت فيما بعد إلى تطبيق بعض عناصر الاشتراكية ومناهضة الأحلاف الغربية والاستعمار الغربي.
تبلورت معالم القطبية الثنائية في النظام الدولي ورأى الاتحاد السوفياتي آنذاك في حركة التحرر الوطني العربي حليفاً مهماً واستراتيجياً في الشرق، يعزز مواقع الاشتراكية والاتحاد السوفياتي في مواجهة الغرب الاستعماري ويزعزع النظم الموالية للغرب في المنطقة. لذلك لم يبخل الاتحاد السوفياتي وبلدان الكتلة الشرقية آنذاك بالمساعدة الاقتصادية والمالية والعسكرية للبلدان العربية في مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة والحلف الغربي، وهكذا انتهج الاتحاد السوفياتي سياسة جديدة أفضت إلى بناء علاقات متعددة الأبعاد مع الدول العربية، وقلصت العلاقات مع إسرائيل إلى حدودها الدنيا حتى تم قطعها عام 1953، وعام 1956 مرة أخرى وعقب حرب وعدوان 1967 مرة ثالثة، واستمر هذا الانقطاع في العلاقات حتى عام 1991. بانهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي، ووراثة روسيا الاتحادية له دخلت العلاقات الإسرائيلية – الروسية في منعطف جديد، خاصة في عهد « يلتسين » ، حيث انتشر النفوذ الصهيوني عبر « المؤتمر اليهودي الروسي » وصعدت نخبة جديدة، كان من بينها عدد كبير من اليهود أصبحوا نجوماً في السياسة، في المرحلة الانتقالية، التي شهدت الخصخصة والتوجه للانفتاح على الولايات المتحدة الأمريكية بدعوى الحصول على المساعدات الاقتصادية. ولعب السياسيون اليهود في النخبة الجديدة والمليارديرات اليهود دوراً كبيراً وسيئاً في نهب ثروات روسيا، وتحويل مبالغ طائلة إلى خارجها قدّرها البعض بحوالي مائتي مليار دولار، وبيعت الشركات والمؤسسات الاقتصادية بثمن بخس، وظهر تحالف الفساد والمافيا والنشاط الصهيوني والاستخباراتي واضحاً. وطالب الحزب الشيوعي الروسي واليساريون والوطنيون الروس بضرورة وقف هذا النشاط، وإنهاء سيطرة اليهود على الاقتصاد والإعلام. وتراجعت مكانة روسيا الدولية في هذه الحقبة، واتجهت روسيا بعد « يلتسين » لمحاربة الفساد وتحجيم النفوذ الصهيوني بهدف استعادة مكانة روسيا وإصلاح أحوال الاقتصاد، وقادت روسيا حملة أفضت إلى هروب بعض المليارديرات اليهود إلى الخارج، والقبض على الملياردير اليهودي « خودرو كوفسكي » وتقديمه للمحاكمة، واتهمت إسرائيل الرئيس بوتين بمعاداة السامية وشنت ضده حملة عنيفة. على ضوء تصور الرئيس « بوتين » عبر ولاياته المختلفة كرئيس لروسيا وكرئيس لوزرائها، المستند إلى روسيا القوية الراغبة في استعادة مكانتها الدولية والحفاظ على الأمن القومي الروسي بأبعاده الآسيوية والأوروبية، وكذلك الرئيس « ميدفيديف » شهدت العلاقات الإسرائيلية – الروسية تطورات متوازنة وفي مجالات مختلفة يجمع بينها المصلحة الوطنية الروسية والمنافع المتبادلة.
نظمت العلاقات الإسرائيلية – الروسية في المجال التجاري والاقتصادي الاتفاقية التي وقعت بين الطرفين في 27 أبريل/نيسان عام 1994، والتي قضت بمنح الجانبين الروسي والإسرائيلي نظام الأفضلية القصوى في التجارة، وتشكيل « اللجنة الإسرائيلية – الروسية المشتركة الخاصة بالتعاون التجاري والاقتصادي » ، وكذلك وقعت بين الجانبين اتفاقيات التعاون العلمي والتقني والتعاون في مجال القطاع الزراعي والصحة والطب، وإلغاء الضرائب المزدوجة والتعاون في مجال النقل البحري. واستناداً إلى هذه الاتفاقيات بلغ النمو السنوي للتبادل السلعي بين البلدين وحجم العلاقات التجارية الإسرائيلية – الروسية في عام 2006، 1.9 مليار دولار بدلاً من اثنى عشر مليون دولار فقط عام 1991. كذلك دخل التعاون الإسرائيلي – الروسي مجال الأبحاث الفضائية والمواصلات والتكنولوجيا المعلوماتية والاتصال والتكنولوجيات الزراعية والصناعية وقطاع الأعمال الخاصة بمعالجة الماس والمعادن، وشمل التعاون مجال الطاقة والنفط ومشتقاته.
وفي مجال أبحاث الفضاء قامت روسيا على ضوء مذكرة التفاهم بين وكالتي الفضاء في كلا البلدين بإطلاق القمر الصناعي الإسرائيلي عن طريق الصاروخ الروسي « ريسورس – 10 » في عام 2000، وكذلك في عامي 2003 ، 2006 تم إطلاق قمرين إسرائيليين آخرين عن طريق الصواريخ الروسية. ترغب روسيا في الحصول من إسرائيل على طائرات بدون طيار، والتعاون مع إسرائيل في مجال النانوتكنولوجي، ولكن هذا التعاون في المجالات المختلفة بين إسرائيل وروسيا لم يؤثر حتى الآن في التوجهات الاستراتيجية لروسيا، ولم يؤثر في موقفها من الصراع العربي – الإسرائيلي، حيث تحتفظ روسيا بعلاقات استراتيجية وسياسية بكل من إيران وسوريا، وتتعاون مع الأولى في مجال الطاقة النووية السلمية وتعارض ضرب المنشآت النووية الإيرانية، وترى في العقوبات المفروضة على إيران من قبل الغرب الطريق الوحيد لمعالجة الملف النووي الإيراني. كما أن روسيا تزود سوريا بالسلاح والصواريخ لحماية المجال الجوي السوري، رغم علم روسيا بتزويد سوريا لحزب الله ببعض هذه الأسلحة، وهو الأمر الذي نبهت له إسرائيل مراراً وتكراراً، ولا تزال حتى الآن ترفض منح تفويض للغرب والناتو للتدخل في سوريا على غرار القرار 1973 الذي وافقت عليه روسيا لتدخل الناتو في ليبيا.
لا تزال روسيا الاتحادية، على صعيد الصراع العربي الإسرائيلي والتسوية، تدعم السلطة الفلسطينية وتتبنى حل الدولتين؛ دولة فلسطين ودولة إسرائيل واعتبار حدود عام 1967 سقف التسوية المتوقعة. وروسيا عضو في اللجنة الرباعية الدولية بجانب الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، صحيح أن الولايات المتحدة لها الكلمة الفصل في اللجنة؛ إلا أن روسيا تطرح تصورات في إطار اللجنة لتفعيل الحل لا تأخذ بها اللجنة الرباعية. يجمع بين روسيا وإسرائيل اهتمام كليهما بالإرهاب الدولي، والخوف من التيارات الإسلامية المتشددة والمتطرفة، فلكل من روسيا وإسرائيل «إرهابيوهما» من وجهة النظر الروسية والإسرائيلية. لدى روسيا المتطرفون الشيشانيون، الذين يطالبون بالانفصال عن روسيا الاتحادية والمدعومون من وجهة نظر بعض الكتابات من المملكة العربية السعودية، ولدى إسرائيل «إرهابيوها» أيضاً وفق وجهة النظر الإسرائيلية المتمثلون في «حماس» و«الجهاد»، واللتين تعتقد إسرائيل أنهما تتلقيان دعماً إيرانياً وسورياً. بيد أن وجهة النظر الروسية فيما يتعلق بالإسلام والمسلمين والحركات الأصولية المتشددة تختلف إلى حد كبير عن وجهة النظر الإسرائيلية؛ فالأخيرة هي جزء لا يتجزأ من وجهة النظر الغربية والأمريكية تحديداً، والتي تلصق الإرهاب بالدين الإسلامي خاصة بعد 11 سبتمبر 2001، وترتكز وجهة النظر هذه على نتائج الاستشراق الغربي أو جزء منه يرى في المسلمين والمجتمعات الإسلامية بيئة منتجة للإرهاب كمعطى أنطولوجي، مرتبط ببنية الديانة الإسلامية والثقافة الإسلامية. كما تسترشد وجهة النظر الغربية والإسرائيلية بنظرية صراع الحضارات لـ «هانتنغتون»، والصدام بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية. أما روسيا الاتحادية فترى أن العلاقات مع العالم الإسلامي مكون مهم في مضمون الأمن القومي الروسي، وأن الفكرة الوطنية الروسية الأساسية تتلخص في الوعي بالشعب الروسي الواحد، مع عدم إهمال الجذور القومية والثقافية لكل شعوب روسيا وقومياتها.
يشكل المسلمون في روسيا الاتحادية ما يقرب من عشرة بالمائة من السكان، أو ما يعادل خمسة عشر مليون نسمة، وتتشكل روسيا الاتحادية من عدد كبير من القوميات والإثنيات. ويعتقد المفكرون الروس أن الانتماء المزدوج شرط لابد منه لوجود دولة متعددة القوميات، وأن الولايات المتحدة الأمريكية تشكل مثالاً كلاسيكياً على ذلك؛ فالزنوج والمكسيكيون يعتبرون أنفسهم زنوجاً ومكسيكيين ولكنهم في الوقت ذاته «أفارقة أمريكيون» و«مكسيكيون أمريكيون» والأمر نفسه بالنسبة للألمان والفرنسيين والإيطاليين والذين يعتبرون أنفسهم أمة واحدة، رغم الفوارق الثقافية الكبيرة، وفضلاً عن ذلك فإن المفكرين الروس يعتبرون أن المسيحية الأرثوذكسية الروسية والإسلام لم يشهدا في تاريخ علاقاتهما صداماً عنيفاً، وأنهما أكثر تسامياً فيما بينهما. بل يعتقد البعض أن الأرثوذكسية أقرب إلى الإسلام في عدد من عناصرها من المسيحية الغربية، وأن الحضارة الأوراسية الروسية قريبة من الحضارة الإسلامية ورغم تنوع وتعدد أوجه التعاون الروسي – الإسرائيلي العلمي والاقتصادي والتقني والتجاري، فإن العلاقات الإسرائيلية – الروسية لا تسير على وتيرة واحدة، فهي تشهد موجات من المد والجزر، الصعود والهبوط نظراً لتناقض وتضارب المصالح والسياسات والرؤى الاستراتيجية لكلا الطرفين. لا تزال روسيا قوة كبرى، في عالم ما بعد الاتحاد السوفياتي، تستند إلى مساحة مترامية الأطراف غنية بالموارد الطبيعية وتمتلك قوة نووية كبيرة، لم يقلل من تأثيرها تفكك الاتحاد السوفياتي أو الأزمة الاقتصادية التي أعقبت هذا التفكك، إذ سرعان ما أعاد «بوتين» تعزيز القوة العسكرية الاستراتيجية لروسيا بتخصيص مبالغ مالية كبيرة لتحديث القوة العسكرية الروسية التقليدية والاستراتيجية، كما تستند روسيا إلى حضارة راسخة وثقافة مهمة أسهمت في تطور العلوم والفنون على مستوى العالم، وروسيا كقوة كبيرة تحاول استعادة دورها ومكانتها بين الأمم ولها طموحات كبرى في تعزيز أمنها القومي وتدعيم الاتحاد الروسي، ولعب دور أكبر على الساحة الشرق أوسطية والعالم الإسلامي.
بينما إسرائيل لم تتخل عن دورها كحليف للغرب وانتقل ولاؤها من بريطانيا وفرنسا، وهما القوتان الاستعماريتان التقليديتان، إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وتستند على الدعم الأمريكي العسكري والسياسي وتأثير الجاليات اليهودية واللوبيات اليهودية في أمريكا وأوروبا. ولا تزال إسرائيل تقف ضد رغبة المجتمع الدولي في تسوية الصراع بينها وبين الدول العربية، وتخرق بانتظام كافة المعاهدات والاتفاقيات الدولية ولا تتورع عن العدوان على لبنان 2006 وغزة 2008-2009 و 2012. وتبقى إسرائيل حتى الآن القوة الاستعمارية الوحيدة في العالم المعاصر، التي تقوم باحتلال الضفة الغربية والجولان السوري منذ عام 1967 وحتى الآن، وتدعم تحالفها وانخراطها في الأجندة الغربية والأمريكية على نحو يخل بالتوازنات الدولية ومصالح الشعوب المستضعفة وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني. ونتيجة هذا التضارب الإسرائيلي – الروسي في المصالح والأهداف والتحالفات، فقد لعبت إسرائيل دوراً كبيراً في دعم جورجيا بطائرات استطلاع بدون طيار، وتدريب فرق جورجية عسكرية على أيدي مدربين إسرائيليين، وهو الأمر الذي لم تغفره روسيا لإسرائيل. طالبت روسيا بوقف الدعم الإسرائيلي لجورجيا وغيرها من الدول، التي تمثل الحديقة الخلفية لموسكو وروسيا، وكانت تدور في الفلك السوفياتي قبل انهيار الاتحاد السوفياتي. وتسبب ذلك في أزمة كبيرة في العلاقات الإسرائيلية – الروسية، ففي الوقت الذي طالبت فيه روسيا بوقف دعم جورجيا، طالبت إسرائيل بوقف تزويد سوريا بصواريخ (سي – 300) الهجومية ووقف دعم روسيا لإيران في برنامجها النووي. بين روسيا والعالم العربي تشابهات بنائية حضارية وثقافية وسياسية في الماضي والحاضر؛ فروسيا تستند إلى حضارة أوراسية راوحت كثيراً بين التوجه شرقاً والتوجه غرباً، واعتبار نفسها دولة شرقية تارة وأخرى غربية، وزاوجت بين التقليد والتحديث بين الأصيل والوافد. وهكذا فعل العالم العربي، الذي ظل لمدة قرنين – بلا ولا يزال – يبحث عن الكيفية التي يزاوج بها بين التقليدي والحديث، بين الأصالة والاقتباس عن الغرب، بين الاندماج في الحضارة العالمية المعاصرة والاحتفاظ بالجذور الحضارية التاريخية. من ناحية أخرى تربط العالم الإسلامي والعالم العربي بروسيا علاقات الجوار التاريخي، وعديدة هي الجمهوريات الإسلامية التي دخلت ضمن الفضاء السوفياتي قبل انهياره، بل وبقيت علاقات هذه الجمهوريات مع روسيا قوية بحكم المصالح والجوار والأمن القومي. كما أن روسيا الاتحادية تضم بين ظهرانيها أقلية مسلمة روسية كبيرة تنتمي إلى الأمة الروسية، رغم مطالبة بعضهم بالانفصال.
يرتبط الأمن القومي الروسي ببناء تصورات جديدة واستراتيجيات جديدة للتكيف مع واقع التعدد القومي والديني داخل روسيا وعلى حدودها في آسيا الوسطى والقوقاز والشرق، وهو ما تعيه النخبة الروسية الحاكمة والدوائر الأكاديمية والبحثية. ويتبين لهذه النخبة شيئاً فشيئاً عدم صحة التوجه لإسرائيل كمفتاح لتوجه روسيا غرباً، وضرورة إعادة هيكلة السياسات الروسية على قاعدة التوازن بين التوجه للعالم العربي والإسلامي والعالم الغربي، خاصة أن روسيا لا تزال ترى في الغرب بقايا عدو قديم عبر محاولة حصارها بالدرع الصاروخية الأوروبية وضم بعض البلدان التي كانت تدور في فلك موسكو لحلف الأطلنطي، ومواقف الغرب إزاء صربيا والبوسنة والهرسك وغيرها من الملفات المطروحة للتفاوض بين روسيا والغرب وحلف الناتو. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتولي روسيا خلافته، وظهور القطبية الأحادية وموجات العولمة تجد روسيا والعالم العربي أنفسهما في واقع متشابه، واقع يطمح إلى تطبيق الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والتعددية الفكرية والسياسية والإصلاح الاقتصادي ومحاربة الإرهاب ومحاولات التكيف مع العالم الجديد والمعطيات المتغيرة على الصعيد الدولي. فروسيا والعالم العربي يرفضان التدخل الغربي في شؤونهما، ويرفضان المساعدات الغربية المشروطة ويحاولان النهوض باقتصاداتهما، على ضوء فكرة السوق الاجتماعية وتحقيق اسس الاستقلال الوطني واستقلال القرار الوطني. هذه التشابهات البنائية بين روسيا والعالم العربي، القديم منها والحديث، تعزز بالتأكيد من توقعات مختلف الأطراف تجاه بعضها البعض، فالعالم العربي يتوقع من روسيا أن تلعب دوراً مؤثراً في استعادة الحق الفلسطيني في الدولة والقدس والتسوية العادلة. خاصة أن روسيا أحد أعضاء اللجنة الرباعية وأن تعزز روسيا تواجدها في المحافل الدولية لدعم الحق العربي والفلسطيني، كما تتوقع روسيا من العالم العربي تدعيم التبادل التجاري مع روسيا وزيادة الاستثمارات العربية فيها بدلاً من تركزها في الغرب، وأخيراً وليس آخراً، أن تلعب الدول العربية دوراً مؤثراً في إنهاء النزعات الانفصالية لبعض المسلمين في الاتحاد الروسي وتشجيعهم على الاندماج على قاعدة المساواة في الحقوق السياسية والثقافية مع باقي القوميات وأصحاب الديانات الأخرى، التي تكوّن الاتحاد الروسي.
يتوقع العالم العربي أن تتعمق روابط روسيا مع الدول العربية، وأن يساهم الاتحاد الروسي في تقوية مواقع العرب الدولية وتصحيح التوازن المختل مع إسرائيل، على صعيد التسلح والتقنية الدفاعية. كما تتوقع روسيا أن تتعزز مواقعها التجارية والاقتصادية والاستراتيجية في العالم العربي. وإذا كانت التوقعات شيئاً والواقع شيئاً آخر والمسافة بينهما قد تكون كبيرة، فإن الإرادة السياسية والتفهم العميق للعلاقات والمصالح وبلورة رؤى عميقة للسياسات الخارجية من جانب الطرفين عبر الحوار الاستراتيجي وبناء فضاءات استراتيجية للحوار، يعد الطريق الوحيد لتقليص الفجوة بين هذا وذاك.