في
نيسان (إبريل) 1991، ألحق التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة هزيمة قاسية
بجيش صدام حسين وأجبره على التراجع عن الكويت بعد احتلالها، والقبول بالشروط
المذلّة لوقف النار. آنذاك، استغرب كثيرون قرار الرئيس بوش الأب إنهاء الحرب من
دون التخلص من المتسبّبين بها، والمسؤولين عن الخسائر الباهظة التي تحمّلها
الشعبان العراقي والكويتي من قرار مغامر وأرعن.
كانت
حــرب الخليج الثانية نموذجاً لما أصبـــح يعرف بالحرب غير المكتملة، وأصبــحت
اختصاصاً أميركياً وإحدى صناعـــات «النظام العالمي الجديد» الذي بشّر به بوش
الأب. ومن أهمّ خصائص هذا النـــوع مــن الحروب أنه يديم الأزمات ويتركها مفتوحة
لتوليد غيرها. فالحروب التقليدية كانت تنتهي بنتائج حاسمة تلغي وضعاً قديماً وتفتح
المجال لنظام جديد. هكذا مثلاً أنهت الحرب العالمية الثانية صراع القوميات، وفتحت
المجال للصراع العالمي بين المعسكر الرأسمالي والمنظومة الشيوعية. أما حروب النظام
العالمي الجديد، على الأقلّ في الشرق الأوسط، فتنفتح على الخراب وتكرار الأزمات.
حتى
الآن، ما زلنا نعيش نظاماً عالمياً متأرجحاً بين رواسب سابقة (منها مجلس الأمن)
ومصالح أطراف متشابكة، وغير قادرة على إرساء معالم نظام جديد. والولايات المتحدة
التي استفردت بموقع القوّة الأكبر في العالم لم تفلح في تصوّر هذا النظام فضلاً عن
فرضه، وللمرّة الأولى يعيش العالم تحت سيطرة إمبراطورية عظمى لا تعرف ماذا تريد،
أو أنها لا تريد أن تضع نظاماً واضح المعالم كي تظلّ قادرة على التصرّف به كما
تريد.
وكانت
منطقة الشرق الأوسط منطـــقة الاخــتبار القصوى لهذا اللانظـــام الــــذي استقرّ
منــــذ أكثر من ربع قرن، لأنّ كثيرين من أبنائها أيضاً لا يــعــرفون ماذا
يــــريدون ويعـــيشون على وقــــع الشعارات والانتصارات الوهمية والتــــهويمات
الأيديولوجية، ولا تحظى الحيــاة البشـــرية بــقيـــمة كبـــرى لديـــهم، فالتقت
النزعة التجريبية للمتدخّل مع النزعة الانتحارية للمحليين.
إنّ
بلداً قادراً على إرسال صاروخ من الأرض إلى القمر ليحطّ في بقعة محدّدة سلفاً
وتوقيت معلن، لا يمكن مبدئياً أن يفوته استشراف مستقبل الأوضاع التي يتدخّل فيها
عسكريّاً. لكنّ الولايات المتحدة جعلت كلّ حروبها في الشرق الأوسط من نوع الحروب
غير المكتملة. فكلّ مرّة تساهم في حلّ مشكلة لتفتح مشاكل أخرى كثيرة، كان يمكن
الاستعداد لها وتفاديها.
لقد
تكرّر السيناريو من العراق إلى الصومال إلى أفغانستان وأخيراً ليبيا التي تواجه
اليوم مصيرها بعد حرب غير مكتملة شنّها تحالف غربي بقيادة أميركية متستّرة، تخلّصت
من القذافي وأبقت الليبيين في فوضى عارمة، ولم تتعظ بالدرس العراقي كي تسعى إلى
إعانة الليبيين لبناء دولتهم الجديدة. ولو أنّ التحالف الغربي الذي ساهم في إسقاط
القذافي اهتمّ بمصيرهم بعد الثورة اهتمامه بمصير النفط الليبي لما كانت الحال ما
نراه اليوم.
ومن
الخطأ تفسير هذا التقصير الغربي على أنّه مؤامرة، وإنما هو نتيجة عوامل معقّدة
تتحكّم اليوم بالسياسات الغربية، بخاصة المتعلقة منها بالأمور الخارجية. فالفارق
بين وكالة «ناسا» التي ترسل الصواريخ إلى القمر وساكن البيت الأبيض، أنّ الثاني لا
يمكنه أن يتخذ قراراً متجانساً لأنه يخضع لضغوط متباينة، لذلك جاءت كلّ المبادرات
والتدخلات الأميركية مضطربة، قصيرة الأمد، وهي في الغالب تغطّي تقصيرها
الاستراتيجي بالقوة التكنولوجية الباهرة للجيش أو الصيت القوي للديبلوماسية. فساكن
البيت الأبيض يخضع لضغوط اللوبيات التي لا تنظر إلى منطقة الشرق الاوسط إلاّ
باعتبارها حقولاً للنفط والغاز، ويخضع لتقويمات سطحية أو مخادعة يقدّمها له
«حلفاء» في المنطقة، ويخضع للرأي العام الأميركي الذي يريد أن تقوم حكومته بدور
جندي العالم لنشر القيم الأميركية، لكنّه لا يقبل بأن تطول مدد التدخلات ويدفع
ثمناً باهظاً من الأرواح الأميركية.
لكلّ
هذه الأسباب دفعت الولايات المتحدة الى تدخل عسكري في ليبيا تركت مهمة الواجهة فيه
لغيرها، كي يبدو مختلفاً عن مغامرات سابقة كان الرئيس أوباما انتُخِب ليضع لها
حدّاً، لكنّه كان تدخلاً من النمط ذاته، فسارت ليبيا على السيناريو المعهود ذاته
للحروب غير المكتملة.
وتعود
واشنطن اليوم متسترة أيضاً إلى ليبيا، عبر مساندة القبائل والقادة العسكريّين
لمحاربة التنظيمات المتشدّدة، بما سيزيد البلد تفكّكاً ويعسّر إقامة الدولة.
فالأزمة الليبية مرشحة لأن تطول وتتمدّد سنوات طويلة أخرى، بما يترتّب على ذلك من
مآسٍ عميقة للشعب الليبي المسالم، وللشعوب المجاورة، ومنها شعبا تونس والجزائر
اللتين تكتويان حالياً بامتدادات تنظيم «أنصار الشريعة» خارج ليبيا. وقد جاءت
العملية الإرهابية الأخيرة في جبل الشعانبي في تونس لتنسف إعلان السلطات التونسية
سابقاً تطهير المنطقة، وتثبت أنّ أمن تونس لن يستقرّ طالما بقي الوضع في ليبيا على
حاله، وهو سيبقى كذلك لا محالة. نقلا عن الحياة