التوظيف السياسي: ظاهرة التحرش الجنسي في مصر
تثير حوادث التحرش وهتك عرض
المرأة المصرية في الشوارع والميادين، ظاهرة مرضية منذرة وخطيرة. ومن المعروف أن ميداني
علم النفس والاجتماع، هما المنوط بهما قياس وفهم وتفسير ووضع حلول لهذه الظاهرة المرضية،
غير أن الملاحظ والمتابع للشأن المصري، سوف يفاجأ بأن الأمر خرج من كونه ظاهرة نفسية
أو اجتماعية، إلى قبيل الظواهر السياسية، ونظرا لهذا التعقد الذي أصاب هذه الظاهرة،
فإنها تحتاج إلى أدوات تفسير جديدة لفهمها، وهذا المقال محاولة لكشف أبعاد هذه الظاهرة،
من خلال مدخل انعكاسي لنظرية الوصمة الاجتماعية، سؤاله المركب: هل يمكن توظيف الموروث
الثقافي لوصم المرأة، في الحوادث والمواقف السياسية، وكيف يحدث ذلك؟
أولا: الوصم الاجتماعي
للمرأة المصرية
نظرية الوصمة الاجتماعية
social stigma من النظريات الاجتماعية التي ظهرت في ستينيات القرن الماضي، تحاول النظرية
كشف العلاقة بين وصم الفرد بصفات أو سمات أو تُهَمِ معينة، تحول بينه وبين تقبل المجتمع
له، وربما تؤدي إلى حرمانه من بعض الحقوق، أو عقابه بتقييد حريته فترة من الزمن. مع
ملاحظة أن الفرد ربما لأسباب خارجة عن إرادته، يقع فريسة لوصم الآخرين له، فذوو الاحتياجات
الخاصة، على سبيل المثال، موصومون في المجتمع المصري، سواء منهم من يعاني من عيوب خلقية
وراثية أو مكتسبة، هذه الفئة من المجتمع، تفتقر الفضاء الحر والإنساني لممارسة الحياة
بشكل طبيعي، بسبب الموروث الثقافي السائد في المجتمع.
كما أن المرأة المصرية
تعاني من الوصمة الاجتماعية، فالأرملة، والعانس والعاقر والمطلقة، والعاملة في المصنع
أو المحل التجاري، والخادمة، والبائعة الجائلة...إلخ، كلهن موصومات في المجتمع الذكوري،
دون إرادتهن ورغما عنهن. وتعود مظاهر، وصور الوصم الاجتماعي إلى النظرة الدونية للمرأة
بصفة عامة داخل المجتمع العربي، والتعامل معها
بوصفها مشكلة دائمة، واتهامها ضمنيا أو بالتصريح، بأنها أساس الفساد الأخلاقي
المنتشر في المجتمع. كما يلاحظ في مجتمعاتنا العربية، ومنها المصري، أن عمليات الوصم،
تتدثر بالرداء الديني، رغم أنها لا تعدو كونها مشكلات نفسية متراكمة تتوارثها الجماعة،
منذ أن كان إنجاب الأنثى عارًا يجب التخلص منه بوأد المولودة.
ويتم تكريس النظرة
الدونية للمرأة، عبر العديد من الميكانيزمات، لعل أكثرها تأثيرا، التنشئة الاجتماعية،
فمن مظاهر التنشئة غير السوية، ذلك التقسيم المشوش للأدوار داخل الأسرة، والذي يقوم
على أن الأم تهذب البنت، وغالبا ما يكون تهذيبا تعسفيا، يعتمد على السلطة والعقاب،
وليس على الاختيار والشرح والتفسير، حتى إن الأم تتولى بنفسها تهيئة بناتها لتقبل السلطة
الذكورية، ويقوم الأب بنفس الدور مع الابن، فيكسبه صفات الذكورة المطلوبة، ويميز- بوعي
أو دون وعي- بينه وبين شقيقاته، وهكذا تتم إعادة إنتاج قيم ومعايير
وثقافة المجتمع التي تنتقص من دور ومكانة المرأة.
ما يعني أن الوصمة الاجتماعية، هي قوة قهر معنوي
ومادي تمارسها الجماعة المحلية على بعض أفرادها، دون أن يرتبط الامر في كثير من الأحيان
بانحراف أو انتهاك الفرد لقيم ومعايير وموروثات الجماعة، بل على العكس يكون الفرد ضحية
لهذه الموروثات البالية. وهذا المدخل ضروري لفهم ظاهرة التحرش الجنسي، في صوره وأشكاله،
وفيما يلي سنعرض ونفرق بين نوعين من التحرش الفردي والجماعي، وكيف يمكن توظيف الأخير
توظيفيا سياسيا، لتحقيق العديد من الأغراض.
ثانيا: التحرش الجنسي
– الحالة الفردية
لا شك أن ثقافة الزحام، وحالة
الفقر، وتدهور البنى التحتية، تؤدي ضمن متغيرات أخرى، إلى تقييد حرية الجسد، وانتهاك
خصوصيته، وتشير الدراسات، والشواهد، إلى أن وسائل المواصلات العمومية، والأسواق، ومؤسسات
العمل التي تضييق بموظفيها، ومؤسسات التعليم المكتظة، تمثل بيئات غير ملائمة لحماية
خصوصية جسد المرأة. وحين توجد هذه البيئة المَرَضية، مصحوبة بالنظرة الدونية الموجودة
بالفعل في تقاليد وموروثات المجتمع، تصبح حقوق المرأة أكثر عرضة للانتهاك، ويعد التحرش
الجنسي من أشد هذه الانتهاكات قسوة، وهو من الانحرافات التي يعاقب عليها القانون المصري،
كما أنه سلوك مرضي نصت المواثيق الدولية على مكافحته والتصدي له. جريمة الاعتداء الجنسي
اللفظي أو الجسدي، تمثل انتهاكًا للقيم الانسانية بصفة عامة، والقواعد الأخلاقية والقانونية
في المجتمع بصفة خاصة ومن ثم فإن العقوبة المترتبة على هذا الفعل المنحرف، هي عقوبة
ضرورية للحفاظ على أمن واستقرار هذا المجتمع. شريطة أن تكون العقوبة، رادعة للمتحرش
حتى لا يعود للفعل مرة أخرى، وزاجرة لغيره لمنعه من الإتيان بالفعل.
ومع ذلك ورُغْمِه، فسوف يلاحظ
القارئ، أن الوصمة الاجتماعية لا تقتصر على الجاني فقط، وإنما تمتد بشكل متعسف للمجني
عليها، فالمرأة التي تقعضحية التحرش، ينالها جانب معتبر من العقاب والعنف الرمزيين
واللفظيين والماديين، مع أنها مجنيٌّ عليها، وغالبا ما تدفع المرأة ثمنا غاليا – دون
إرادتها- فيتم النيل من شرفها، والبحث عن مبررات وأعذار لفاعل التحرش، بالتفتيش في
سلوك الضحية، ومظهرها، أي أن المجتمع دون وعي،
يعاقب المجني عليها، وليس الجاني، معاقبة ممتدة في الزمن، وبوصمة، ربما لا تستطيع التخلص
منها طوال الحياة. وهذا وضع من الخطورة بمكان، لسببين، الأول: أن الكثير من الروايات
والقصص التي تحكيها بعض النساء والفتيات، اللاتي تعرضن لهذه الخبرة المؤلمة، دلت على أنهن غالبا ما يلجأن إلى الاستكانة والسلبية والمسايرة والخضوع والإذعان،
خوفا من افتضاح أمرهن، وخوفا من العقاب الاجتماعي الضمني والصريح بعد ذلك، الثاني:
أنه وضع، يورّث لدى الفاعلين، شعورًا بعدم المسئولية عن الجرم المرتكب، وبالتالي امكانية
إتيانه مرة بعد مرة، طالما أن المجتمع لديه الاستعداد للتسامح والتماس الأعذار المزيفة.
كل ذلك يرتبط بالتحرش الجنسي
كحالة فردية، تعود أسبابه إلى مشكلات في التنشئة الاجتماعية، وعُقَد نفسية متراكمة،
ودوافع شخصية، واختلال أخلاقي أكيد، وهذا النوع من التحرش، من الظواهر المنتشرة في
كافة المجتمعات، وعلى مستوى المجتمع المصري، لدينا العديد من الدراسات التي تبحث الظاهرة،
وتقدم توصيات مهمة لمكافحتها (انظر تقرير التنمية البشرية في مصر 2010). على أية حال،
التحرش الفردي، بكل أشكاله، ظاهرة قديمة في مصر، وليست طارئة أو مستجدة بعد ثورة
25 يناير، كما يروج البعض، وهي ظاهرة تستوجب العقاب في أحيان والعلاج في أحيان أخرى.
غير أن ما يعتبر بحق ظاهرة مستجدة، هو التحرش وهتك العرض الجماعي الذي شوهدت حوادثه،
أكثر من مرة في الشارع المصري، وبخاصة في ميادين التظاهر، ما يحتاج إلى أدوات تفسير
مختلفة عن أدوات البحث في ظاهرة التحرش الفردي.
ثالثا: التحرش الجماعي
العشوائي
تأمل معي هذه الرواية، التي
روتها إحدى ضحايا التحرش الجماعي في ميدان التحرير يوم السبت الموافق 2 يونيه 2012
(كنا نتجول في الميدان بأمان مع بعض الأصدقاء، وأردنا الاقتراب من شارع محمد محمود،
بدأنا نخترق الميدان متوجهين للشارع، وكلما اقتربنا، شعرت أن هناك رجالا يقتربون منا،
حاولنا أن نتوجه إلى طريق جانبي (للهروب من هذه الملاحقة) وفجأة ظهر رجال يحاولون مساعدتنا،
وكونوا سلسلة بشرية حولنا، محاولين دفعنا للأمام، إلا أنهم تعرضوا للدفع من آخرين يحاولون
الوصول إلينا، وأدركت في لحظتها أن الهجوم اقترب، فهؤلاء الرجال كانوا يضغطون أجسادهم
على جسدي، كنت آخر فرد في مجموعتي، لهذا تعرضت للدفع أكثر، وفجأة دفعونا إلى طريق جانبي
وهاجمونا. في البداية كونوا سلسلة بشرية حولي لحمايتي، ولكن البعض الآخر بدأ في الإمساك
والضغط على كل ما يمكن لهم الوصول إليه من أجزاء جسدي، صدري ومؤخرتي، شعرت بعشرات الأيدي
تقتحم جسدي).
إذن فنحن بإزاء فعل همجي،
لا تستطيع نظريات التحرش الفردي، أن تفسره، فهل يمكن أن يتفق مجموعة من الأفراد، لا
تربطهم ببعض علاقة مسبقة، على إتيان هذا الفعل الوحشي؟ والإجابة بنعم، شريطة توافر
وتضافر مجموعة من العوامل، تمثل معا جديلة واحدة (1) استعدادات لدى الفاعلين للتحرر
من جميع القيم الدينية والأخلاقية والأعراف المجتمعية. (2) وجود معتقدات وتصورات ثقافية
تقليدية، تحتقر من مكانة المرأة بصفة عامة. (3) وجود رغبة لدى الفاعلين للتحرش الجماعية
في اختزال الأنثى في جسد مستباح بمجرد توافرالفرصة لاستباحته. (4) فوضى الحشد، تمكن
الفاعلون من الإفلات من المراقبة والملاحقة والمحاسبة، ما يحفز الأفراد على استنفار
هذه الطاقة الهمجية دون وجل. (5) المؤازرة وتدعيم السلوك، فاشتراك آخرين مع الفرد،
سواء بشكل عمدي أو بالمصادفة، يجعل سلوك التحرش الجماعي مبررا بالقوة الوحشية المتعسفة
لمجموعة من الأفراد المتواطئين على هذا الفعل.
هذه حالة التحرش الجماعي العشوائي،
ومن الممكن أن يتم استثمار هذه الحالة، وتوظيفها سياسيا بامتياز، بمعنى أن يتم صناعة
وفبركة واستحداث وقائع تحرش جماعي لأغراض سياسية بحتة، وهذا ينقلنا إلى الجزء الأخير
من المقال.
رابعا: توظيف التحرش
الجماعي
في هذه الحالة، يتم استدعاء
مجموعة العوامل المتضافرة، اللازمة لحدوث التحرش الجماعي العشوائي، لصناعة موقف تحرش
عمدي لغرض ما، هنا يتحول الفعل الهمجي، إلى جريمة منظمة، وصفقة دنيئة تنعقد بين صاحب
المصلحة، ومجموعة البلطجية، جريمة يتم التخطيط لها، وتوفير كوادرها، وتمويلها، من أجل
توظيف هذه الوقائع الصادمة، توظيفا سياسيا، يستهدف العديد من الأغراض، منها:
(1) تدنيس الميدان ووصمه بالمكان المشبوه:
وقد ظهر هذا الغرض خلال التظاهرات التي انطلقت ضد حكم محمد مرسي، حيث ترتكب
جرائم التحرش المنظم، ثم يتم نشرها اعلاميا وتتولى القنوات والوسائل الاعلامية الموالية
للإخوان، بالسخرية من المجني عليهن، واستنكار وجودهن بالميدان المشبوه، ومطالبة أولياء
المرأة بمنعها من ارتياد الميادين، حتى لا يلحق بهم عار الوجود في الميدان المشبوه،
الذي هجره الثوار الحقيقيين، ولم يبق فيه سوى البلطجية. يتم تعليب وتغليف جريمة التحرش
الجماعي بالخطاب الديني، حيث يتولى شيوخ الفضائيات المسمومة، بحض الأهالي على صيانة
عفة بناتهم وأزواجهن وأمهاتهن، والنأي بهن عن مستنقع الميدان، الذي تنتهك فيه الحرمات.
(2) وصم المتظاهرين،
رجالا ونساء: وهنا يتم توظيف التحرش الجماعي المتعمد، لوصم الحركات الثورية،
وقد تكررت هذه الحوادث، ونجحت في فترة من فترات الثورة الأولى، بسبب تضافر عوامل فبركة
وقائع التحرش الجماعي، غير أنها لم تفلح في فترات الثورة الثانية، رغم المحاولات المستميتة،
بسبب وحدة وتماسك كتلة الجماهير، وتواجد قوات الأمن وسيطرتها على الميادين.
(3) تدنيس الموقف
السياسي: وهو ما حدث خلال الأحداث الاخيرة
في ميدان التحرير، فالمحتفلون في الميدان بمناسبة نجاح الخطوة الثانية من خارطة الطريق،
يتم معاقبتهم ووصمهم بالانحلال الاخلاقي، تكريسا لفكرة عدم شرعية الانقلاب، وتكريسا
لوهم أن الشعب المصري ضد الانقلاب، وأن المحتفلين في الميادين، مجموعات من الجماهير
المنحرفة أخلاقيا، الذين لا يعبرون عن غالبية الشعب المصري. ويلاحظ القارئ أن منهجية
تدنيس الموقف السياسي، لم تتوقف عند حدود جرائم التحرش العمدي التي حدثت خلال الاحتفالات
الأخيرة لفوز المشير السيسي، بل سنجد نفس المنهجية التي تستدعي الثقافة الذكورية، والنظرة
الدونية للمرأة، خلال فترة كتابة الدستور، فجرى التشهير على نحو فج ومتواصل بمجموعة
من الفنانات أو المثقفات، والتندر والسخرية من أنهن اللائي يكتبن دستور مصر.
خاتمة
يتضح مما سبق أننا أمام ظاهرة
موجودة بالفعل في المجتمع المصري، وليست مستجدة عليه، كما يدعي البعض، وأن دوافع وأسباب
التحرش الفردي، مختلفة عن ظواهر التحرش الجماعي الذي ظهرت خلال التجمعات الجماهيرية،
وخاصة في ميدان التحرير، وأنه لابد من تضافر مجموعة من العوامل المتضافرة لكي تحدث
ظاهرة التحرش الجماعي الفوضوي أو الهمجي، وأنه يمكن توظيف هذه العوامل في صناعة وفبركة
وقائع جديدة من التحرش الجماعي العمدي، من أجل تحقيق أغراض سياسية متنوعة. وعلى صانع
القرار، إن امتلك الإرادة والإمكانية، أن يعالج الظاهرة عبر عدة مستويات، أهمها تجديد
منظومة القيم، وتغيير نظرة المجتمع للمرأة، والتشخيص الدقيق لظواهر التحرش، والمراقبة
لمنع صدور الفعل، ثم أخيرا العقاب الرادع الزاجر.
مع الانتباه إلى أن ظواهر التحرش، بكل أنواعه، محل دراسات مستفيضة في الأكاديمية المصرية، ومراكز البحوث القومية، منذ سنوات في مختلف أقسام العلوم الاجتماعية، أي أن المعرفة العلمية بهذه الظاهرة المَرَضِية، وحلولها موجودة بالفعل، تنتظر مجرد الأخذ بالتوصيات وتحويلها إلى برامج عمل مباشرة، دون الحاجة إلى قرارات بتشكيل لجان عليا، تتبع رئيس الوزراء مباشرة أو رئيس الجمهورية. ففي مصر مثال بيروقراطي حقيقي، يقول: إذا أردت أن تبطل موضوعا وتفسده، فليس عليك سوى أن تشكل له لجنة لدراسته.