المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

عبقرية البطل والمكان: تجربة محمد عليّ مؤسس الدولة الحديثة

الأربعاء 11/يونيو/2014 - 11:16 ص
المركز العربي للبحوث والدراسات

من المعلوم أن الأمم الحديثة تعيد كتابة تاريخها من فترة لأخرى حسب احتياجات العصر، لأن مراجعة التاريخ هى من أهم الدلائل على حيوية أمة دون غيرها، أما الأمة التى تتجمد عند قراءة وحيدة أحادية لتاريخها، فهى فى الحقيقة أمة لا تعرف الاجتهاد والتجدد.

ولعل تاريخ محمد على وقصته مع مصر الحديثة من أهم الأمثلة على إعادة قراءة التاريخ وأهمية ذلك. على أية حال من الصعب عند دراسة تاريخ محمد على الوقوف عند سنة ١٨٤٨، إذ إن إصلاحاته امتد تأثيرها لعقود عديدة فى تاريخ مصر الحديثة، فضلا عن أنه مؤسس الأسرة "العلوية" أسرة محمد على كما كان يطلق عليها آنذاك، هذه الأسرة التى استمرت تحكم مصر حتى عام ١٩٥٢.

ولن نتحدث هنا تفصيلًا عن إصلاحاته التى استحق عنها بجدارة لقب "مؤسس مصر الحديثة" فهذا موضوع يطول شرحه. لكننا نركز على مسألة إعادة قراءة تاريخ محمد على ورد الاعتبار له من جديد، من خلال رصد اتجاهات المدرسة التاريخية المصرية حول كتابة تاريخ محمد على فى النصف الثانى من القرن العشرين.

ولا يمكن البدء برصد هذه الاتجاهات دون الإشارة إلى آراء عمدة مدرسة التاريخ الحديث فى مصر محمد شفيق غربال الذى كتب العديد من الكتابات أثناء الفترة الملكية عن تاريخ محمد عليّ، لعل أشهرها باللغة العربية كتابه "محمد على الكبير" الذى أصدره فى القاهرة فى عام ١٩٤٤ فى عهد حفيده الملك فاروق، وواضح من عنوان الكتاب رؤية شفيق غربال لمحمد على فهو لديه "الكبير" لأنه مؤسس الأسرة المالكة فى مصر، وواضع أسس الدولة الحديثة بها، وربما تشبها بالإسكندر الأكبر. إذ يصف شفيق غربال محمد على بأنه "عبقري" وبالتالى منحه صفات الرجل العظيم، اللازمة لأية محاولة إصلاح كما كانت الحال فى القرن التاسع عشر، وبالإضافة إلى عبقرية الرجل، هناك عبقرية المكان ويقصد به موقع مصر وإمكانيتها الاقتصادية والبشرية، فضلًا عن تاريخها القديم، وهكذا فى رأى غربال ساعدت عبقرية الرجل وعبقرية المكان على إعادة الحيوية والمكانة إلى مصر من جديد، واصفًا محمد على بأنه موفقًا "بين ماضيه وحاضره – يقصد الزمان - ملائما بين حاجاته وحاجات الإنسانية جمعاء " وهكذا أصبح محمد على هو "الكبير" فى تاريخ مصر الحديث.

ولكن بعد قيام ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، وإلغاء الملكية فى مصر تغيرت إلى حد كبير الصورة السابقة الناصعة لمحمد علي، إذ وصفت الكتابات التاريخية الموالية للثورة الفترة السابقة على ثورة ١٩٥٢ بأنها "العهد البائد"، وانسحبت الصورة السيئة على الملك فاروق إلى مجمل الفترة التى حكمتها أسرة محمد على. بل وبالغت بعض الكتابات الثورية فى التمجيد من شأن الثورة على حساب الفترات السابقة من تاريخ مصر قائلة بأن تاريخ مصر الحديث يبدأ مع ثورة ١٩٥٢.

وكان لابد أن ينعكس ذلك على كتابة المقررات الدراسية لطلاب المدارس، إذ وصفت الكتب التاريخية المدرسية محمد على بأنه "جعل من نفسه المالك الوحيد لأرض مصر والتاجر الوحيد لحاصلاتها، والصانع الوحيد لصناعتها، لقد حرم هذا الوالى – يقصد محمد على – الفلاح والعامل والتاجر المصرى من ثمرة جهودهم، وفرض عليهم التزامات معينة لم يكن بوسعهم التخلص منها".

هكذا تغيرت صورة محمد على فلم يعد هو "محمد على الكبير" كما كان قبل الثورة، بل أصبح هو "الصانع الوحيد والمالك الوحيد والتاجر الوحيد" وترك ذلك صورة سيئة لدى الجيل الذى تربى على هذه الكتابات.

ولكن مع وقوع حرب ٥ يونيو ١٩٦٧، ومع انتصار ٦ أكتوبر ١٩٧٣، تغيرت الأوضاع كثيرًا فى مصر، وبدأت حركة مراجعة نشطة لتاريخ مصر، ومحاولات جادة لإعادة كتابة التاريخ، ساعدت هذه المحاولات على إعادة الاعتبار من جديد لفترة محمد على، ورسم صورة واقعية لتاريخ هذا الرجل، شاركت فى هذا الاتجاه كافة التيارات السياسية والعلمية على حد سواء.

إذ أنصف الاتجاه السياسى اليسارى محمد على حيث كتب أنور عبد الملك كتابه الشهير نهضة مصر (الطبعة العربية ١٩٨٣) مشيدًا بأهمية محمد على والدور الذى لعبه فى تاريخ مصر قائلًا "إن محمد على أراد تأكيد خصوصية مصر عن طريق التقليل من النفوذ العثمانى عليها من جانب والأخذ بأساليب الدولة العصرية من جانب آخر، وفرض نفوذ مصر خارج نطاقها من جانب ثالث".

وعلى الرغم من العداء بين التيارين التيار السياسى الناصرى (نسبة لعبد الناصر) وتاريخ محمد علي، فقد قام هذا التيار بمراجعة شاملة لموقفه من تاريخ محمد علي، لاسيما بعد هزيمة يونيو ١٩٦٧. إذ عقد التيار الناصرى مقارنة واضحة بين تاريخ محمد على وتاريخ جمال عبد الناصر، فكما كان لمحمد على وابنه إبراهيم باشا "المشروع العربي" لإقامة دولة عربية قاعدتها مصر، كان هذا المشروع أيضًا هو المشروع المفضل لدى جمال عبد الناصر، وكما وقفت أوربا ضد تحقيق مشروع محمد علي، وقف الغرب ضد مشروع عبد الناصر، وهكذا أصبح جمال عبد الناصر هو محمد على الجديد.

وبدأ محمد على حياته بدايات عادية بتعلم أصول الدين وحفظ القرآن، ولأنه نشأ فى أسرة عسكرية، بدأ فى تعلم ركوب الخيل واستعمال السلاح وانخرط سريعًا فى قوات حفظ النظام فى المدينة

وشاركت الاتجاهات التاريخية الأكاديمية فى رد الاعتبار لفترة محمد علي، وظهرت العديد من الكتابات الجديدة فى هذا الشأن، لعل أهمها على الإطلاق كتاب عفاف لطفى السيد "مصر فى عهد محمد علي" الذى صدرت طبعته الإنجليزية فى عام ١٩٨٤ وطبعته العربية فى عام ٢٠٠٤.

وبرغم انتقاد عفاف لطفى السيد لبعض جوانب سياسات محمد على فإنها تعترف "فرغم أن محمد على قد سعى لخلق إمبراطورية ترثها سلالته، فإنه كان أول من غرس بذور تمصير البلاد حينما عين الفلاح المصرى فى وظائف إدارية وعسكرية ثم كضابط فى الجيش، وقد أدى هذا رويدًا وعلى مر العقود، إلى تحول أفراد الشعب المصرى من رعايا إلى مواطنين".

وفى عام ١٩٩٩ عقدت الجمعية التاريخية المصرية ندوة كبرى بمناسبة مرور ١٥٠ سنة على وفاة محمد علي، كان عنوانها الرئيسى "إصلاح أم تحديث، مصر فى عهد محمد علي" تم فيها إعادة الاعتبار من جديد لعصر محمد على كمؤسس لمصر الحديثة.

ومع ازدياد دعاوى الإصلاح، والحاجة إلى ذيوع ذلك فى المجتمع المصرى تم استلهام تجربة محمد على فى الإصلاح واحتفلت مصر كلها حكومة وشعبا بمناسبة مرور ٢٠٠ سنة على تولية محمد علي، أو كما أجمع الجميع على ميلاد الدولة الحديثة فى مصر، وعقد المجلس الأعلى للثقافة ندوة دولية عن "عصر محمد علي"، كما عقدت مكتبة الإسكندرية ندوة حول "محمد على والعالم".

وهكذا تمت إعادة الاعتبار إلى تاريخ هذا الألبانى المصري، الذى أسس مصر الحديثة فمَن هو محمد علي، هذا ما سنحاول فى الصفحات التالية رسم صورة لتاريخه الذى هو فى الحقيقة تاريخ مصر.

أولا: النشأة

تختلف الروايات فى تحديد تاريخ ميلاد محمد علي، ولكن أرجح الآراء أن ميلاده يرجع إلى عام ١٧٦٩، وهى الرواية التى يؤكد عليها محمد على نفسه، لأن هذه السنة شهدت أيضا ميلاد نابليون القائد الفرنسى الشهير، وويلنجتون القائد البريطانى الشهير والذى هزم نابليون نفسه فى الموقعة الشهيرة ووترلو ١٨١٥، وأيضا ميشيل ناى قائد الجيوش الفرنسية على عهد نابليون والذى أحرز العديد من الانتصارات. ولهذا كان محمد على يفاخر دائما بميلاده فى نفس السنة التى ولد فيها نابليون تيمنا بأنه سيكون له نفس القدر من المجد والبطولة.

ويشكك البعض فى تاريخ ميلاده ويرده إلى عام ١٧٧٠ أو حتى بين أعوام ١٧٦٨ و١٧٧١، وربما يرجع هذا الخلط إلى غياب سجلات للمواليد فى هذه الفترة، فضلا عن ظاهرة هامة فى الكتابات التاريخية أن التاريخ فى الواقع لا يهتم كثيرًا بتسجيل فترة البدايات للشخصية التاريخية ويركز على فترة الأمجاد، ولذلك وبشكل عام تحيط بفترة النشأة لمعظم الشخصيات التاريخية الكثير من الغموض والقصور فى المعلومات، إذا قورنت بغزارة المادة مع التحول إلى "بطل تاريخي".

على أية حال ولد محمد على فى مدينة "قولة" فى منطقة مقدونيا من بلاد اليونان، وهو من أصل ألبانى. والجدير بالذكر أن نشأة محمد على فى الجزء الأوربى من الدولة العثمانية ستسمح له بالمزيد من الانفتاح على الآخر والتعرف على الحضارة الأوربية.

وبدأ محمد على حياته بدايات عادية بتعلم أصول الدين وحفظ القرآن، ولأنه نشأ فى أسرة عسكرية، بدأ فى تعلم ركوب الخيل واستعمال السلاح وانخرط سريعًا فى قوات حفظ النظام فى المدينة. وكان النظام يسمح آنذاك للعسكريين فى العمل بمهنة أخرى من هنا مارس محمد على التجارة فى الدخان، حيث كانت الأراضى المحيطة بقوله تنتج أجود أنواع الدخان.

وقد احتفظ محمد على بأطيب الذكريات لمدينة قوله، حتى إنه زارها بعد ذلك وهو فى عز مجده كحاكم لمصر، وأنشأ فى قوله العديد من الأوقاف الخيرية التى استمرت شاهدة بعظمة مصر وعظمة محمد علي.

ثانيا: موعد مع القدر

إذا كان مولد محمد على ونشأته فى مدينة قوله، فإنه لم يكن يدرك أن مجده وعظمته سترتبطان ببلد آخر هو مصر، إذ سيترك محمد على قوله مشتركًا مع القوة الألبانية التى أرسلتها الدولة العثمانية لمساعدة الإنجليز على خروج الفرنسيين من مصر بعد فشل الحملة الفرنسية (١٨٠١-١٧٩٨).

وقد ساعدت الظروف المحلية والدولية على صعود نجم محمد على من مجرد قائد فى القوة الألبانية إلى "والى مصر"، وكانت ولاية مصر من أهم وأغنى ولايات الدولة العثمانية آنذاك. إذ عانت مصر بعد خروج الحملة من حالة يمكن أن نسميها الفراغ السياسي، فلم تكن بمقدور أية قوة أن تحكم مصر، فرغم عودة مصر إلى التبعية للدولة العثمانية عجز الولاة العثمانيين عن عودة الأمن والاستقرار إلى مصر، بل وعانوا من سطوة الأمراء المماليك الذين عاثوا فى الأرض فسادا ونهبًا، وفرضهم للضرائب الجائرة.

وعلى المستوى الدولى خرجت فرنسا من مصر ولكنها نبهت أذهان العالم الخارجى إلى أهمية موقع مصر الإستراتيجي. ومنذ ذلك الوقت سيظهر التنافس الدولى بين إنجلترا وفرنسا على مصر. وسيحاول الإنجليز الاستناد إلى قوة المماليك فى مصر للسيطرة على البلاد.

وعودة إلى الوضع المحلى كانت القيادات الشعبية وعلى رأسها علماء الأزهر ومشايخ الأشراف قد ازداد وعيها الوطنى من خلال الجهاد ضد الحملة الفرنسية، وأصبحت تمثل بحق طليعة الجماهير المتعطشة إلى العدل والأمان ورفع الضرائب الثقيلة.

فى مثل هذا المناخ المحلى والدولى المضطرب وصل محمد على إلى مصر، وقد أدرك محمد على مبكرًا أهمية مصر، وطبيعة المرحلة المضطربة التى تمر بها، من هنا سيبدأ محمد على فى التعرف على كل أطراف اللعبة السياسية فى مصر لكنه سيحرص دائمًا على عدم التورط المباشر فى الأحداث انتظارًا للحظة التاريخية المناسبة. ولهذا تصدق عليه مقولة أحد المعاصرين الأجانب له (باتون) الذى تقابل معه "إذا كان ثمة رجل تفصح عيناه عن العبقرية فهذا الشخص هو محمد عليّ، لم تكن عيناه ذابلتين أو خامدتين، كانتا آسرتين كعينى غزال أو قاسيتين كالنسر ساعة الغضب".

كان محمد على عندما تولى ولاية مصر مدركًا تمامًا أنه لم يتولَّ أمر ولاية عادية، فمصر كانت من أهم وأخطر الولايات فى الدولة العثمانية

ثالثا: الثورة الشعبية وصعود نجم محمد علي

ودفعت الكوارث المتتالية التى تعرضت لها القاهرة فى الفترة من ١٨٠١ إلى ١٨٠٥ إلى خروج الأهالى إلى الشارع، والتفافهم حول زعمائهم الطبيعيين وهم علماء الأزهر والسادة الأشراف وعلى رأسهم نقيب الأشراف السيد عمر مكرم، وانضم إليها بعض الجند الغاضبين وطالب الجميع بوضع حد لحالة الاضطراب وعدم الاستقرار آنذاك. وانتهى رأى الجميع بضرورة عزل الباشا، لكن الأخير لم يقبل أن يأتى قرار عزله من العامة، فرفض مطالبة الأهالى له بالعزل، ودفع ذلك الجميع إلى محاصرة الباشا فى القلعة، واندلعت المعارك بين الطرفين، الأهالى ومعهم بعض الجند، والباشا وأتباعه من ناحية أخرى، وبناءً على ذلك أصدر السيد عمر مكرم قراره باعتباره الباشا معزولا بإرادة قادة الرأي.

ويذكر مصدر معاصر للأحداث التطورات التالية قائلاً:

"وذهبوا إلى محمد على وقالوا له: إنا لا نريد هذا الباشا حاكما علينا، ولابد من عزله من الولاية".

محمد على : ومن تريدونه يكون واليا؟

الأهالي: لا نرضى إلا بك، وتكون واليا علينا بشروطنا، لما نتوسمه فيك من العدالة والخير.

ويذكر المصدر: فامتنع أولا ثم رضى، وأحضروا له كركًا وعليه قفطان وقام إليه السيد مكرم والشيخ الشرقاوى فألبساه إياه وذلك فى وقت العصر ونادوا بذلك فى تلك الليلة فى المدينة".

وهكذا أصبح محمد على واليا على مصر بإرادة الشعب. ومازال حتى الآن يطرح السؤال التالى، لماذا وفى هذه اللحظة التاريخية بالذات لم تتجه الجماهير وقادتها من علماء الأزهر والسادة الأشراف إلى اختيار أحد "المصريين" لتولى منصب الولاية، بدلا من اختيارهم لهذا الألبانى الأصل أو حتى العثمانى واليا على مصر؟ أين كانت الروح القومية آنذاك.

وفى الحقيقة هذا السؤال يطرح كثيرا الآن فى البحث عن الهوية، ولابد أن نتذكر أن الهوية العامة لمصر آنذاك كانت إسلامية، وكانت مصر ولاية عثمانية يحكمها والٍ يأتى من جانب السلطان العثمانى من أستانبول، ولم يكن هذا غريبًا آنذاك، وربما ستنتظر مصر كثيرًا إلى الربع الأخير من القرن التاسع عشر عندما يبدأ نمو الوعى القومى المصرى مع الثورة العرابية، من هنا ستشهد هذه الثورة هذا الشعار التاريخى الذى سيتردد بعد ذلك كثيرًا "مصر للمصريين".

على أية حال أصبح محمد على واليا على مصر بالإرادة الشعبية، لكن هذا الأمر لم يكن من السهل أن يدخل حيز التنفيذ دون الحصول على موافقة السلطان العثمانى عليه، وفى نفس الوقت كان من الصعب على السلطان تجاهل الإرادة الشعبية والأمر الواقع فى مصر، وكان من مصلحة السلطان تهدئة الأمور فى مصر، ولذلك أرسل السلطان قراره إلى مصر فى يوليو ١٨٠٥ ومضمونه أن محمد على باشا والى جدة (حيث كان قد تم تعيينه فى هذه الوظيفة سابقا) تم تنصيبه واليا على مصر ونص القرار أن ذلك بناءًا على رغبة (العلماء والرعية) ليؤكد السلطان احترامه لإرادة الرعية (الجماهير) والعلماء (قادة الجماهير).

رابعا: عبقرية المكان وعبقرية البطل

إلى هنا وتبدو القصة عادية، عزل والٍ ومجىء والٍ جديد، وجماهير تثور على والٍ، والسلطان يولى من اختاره الناس، لكن قصة محمد على مع مصر، وقصة مصر مع محمد على لن يتوقف سيناريو الأحداث فيها عند هذا الحد. فلابد أن نأخذ فى الاعتبار أن مصر تمثل بالفعل كما يذكر المفكر الجغرافى المصرى الشهير جمال حمدان عبقرية المكان فموقع مصر الإستراتيجيى فى قلب قارات العالم القديم أوربا وآسيا وأفريقيا، وإشرافها على البحرين المتوسط مع أوربا، والأحمر مع افريقيا وآسيا، وعودة الاهتمام مرة أخرى بطرق التجارة الدولية القديمة، بعد أن صرف اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح الاهتمام عن طريق مصر لفترة طويلة، ثم الصراع الدولى على مصر من إنجلترا وفرنسا فضلا عن الدولة العثمانية، هذا بالإضافة إلى نهر النيل والخير الوفير الذى يجلبه على مصر، والذى دعا المؤرخ اليونانى القديم هيرودوت أن يشير إلى مصر بأنها "هبة النيل" لأننا لو تخيلنا خريطة مصر بدون النيل لاكتشفنا صورة أخرى غير الصورة الخضراء التى يرسمها لنا وادى النيل، لاكتشفنا صورة صفراء وصحراء قاحلة هى امتداد للصحراء الكبرى الإفريقية. لابد أن نذكر أن مصر آنذاك كانت سلة غلال العالم، كانت إستنابول تعتمد على الغلال المصرية، وكانت فرنسا تعتمد على صادرات الأرز المصرى، حتى لقد قال البعض إنه لو تأخرت صادرات الأرز المصرى لفرنسا لجاع الجيش الفرنسى الموجود فى جنوب فرنسا.

ولا ننسى بجانب الموقع الإستراتيجى والثروات الطبيعية، الثروة البشرية، وهو الإنسان المصرى، إذ تميزت مصر بالكثافة السكانية، رغم العديد من المجاعات والأوبئة، هذه الكثافة اللازمة لإقامة أى نهضة اقتصادية وتأسيس جيش قوى، وحتى على المستوى الثقافى استمر الأزهر حتى فى عصور الضعف العثمانى منارة للثقافة العربية الإسلامية، ولا ننسى دور الأزهر، فالنهضة الثقافية فى عصر محمد على لم تأت من فراغ، وإنما كانت وليدة تراث طويل لعبته مصر فى عالم الإسلام، كما أن الشيخ رفاعة الطهطاوى الأب الشرعى للفكر المصرى الحديث هو ابن الأزهر الشريف.

هكذا تجمعت عوامل عبقرية المكان الموقع، الثروة، البشر، لترسم صورة مصر المستقبل، وكان محمد على عندما تولى ولاية مصر مدركًا تمامًا أنه لم يتولَّ أمر ولاية عادية، فمصر كانت من أهم وأخطر الولايات فى الدولة العثمانية. ولذلك اجتمعت عبقرية البطل التاريخى الذى يفهم طبيعة المكان، مصر، والزمان القرن التاسع عشر، عصر التحديث، وضعف الدولة العثمانية، ليبدأ محمد على فى رسم ملامح مشروعه التحديثى الكبير، فلم يكن حلم محمد على عند ولايته لمصر أن يكون واليا عاديا، يقضى سنة أو عدة سنوات ثم يترك مصر لينتقل إلى ولاية جديدة ولكن محمد على أدرك مبكرًا أن مصر مؤهلة لتصبح قاعدة لدولة حديثة له ولأولاده، وربما ينجح فى مصر فى ما لم ينجح فيه السطان العثمانى فى إستانبول فى تحديث الدولة وإنقاذها من السقوط.

وفى الحقيقة كانت شخصية محمد على تؤهله إلى ذلك، فكما ذكرنا من قبل نشأ محمد على فى القسم الأوربى من الدولة العثمانية وتعرف إلى أجناس وأعراق وثقافات مختلفة، كما استفاد محمد على من انخراطه فى سلك العسكرية، وعلينا أن نتذكر أن مهام العسكرية لم تقتصر آنذاك على الدفاع فقط، ولكن اكتسب العسكر العديد من الخبرات الإدارية والأمنية، كما عمل محمد على بالتجارة، وبالتالى اكتسب مهارة التاجر، وهو ما سينطبع على شخصيته بعد ذلك، هذا فضلا عن صفاته الشخصية التى شهد بها العديد من معاصريه، فقد تحدث الجميع عن ذكائه ودهائه، وقدرته على اختيار أخلص المعاونين له، ولا ننسى طبيعة اللحظة التاريخية التى وصل فيها محمد على إلى مصر، لقد وصل محمد على فى مطلع القرن التاسع عشر وهو المعروف فى التاريخ العالمى بعصر التحديث، وأتى محمد على بعد خروج الحملة الفرنسية ١٨٠١ وبداية انفتاح مصر على العالم الغربى، كما أظهرت الحملة أيضا مدى ضعف وهشاشة الدولة العثمانية، وجعلت العديد من الناس فى مصر وحتى فى الدولة العثمانية يتساءلون لماذا انتصر علينا "الفرنجة" الأجانب.

كما ساعدت الحملة الفرنسية على كسر شوكة المماليك فى مصر، هذه القوة التى كانت تنافس الدولة العثمانية فى مصر وتسبب الكثير من الاضطرابات، وتفرض العديد من الضرائب الباهظة التى طالما عانى منها أهل مصر. وبالتالى كان من السهل على محمد على كما سنرى بعد ذلك القضاء على المماليك.

وساعد الجهاد الوطنى من جانب المصريين وقادتهم من علماء الأزهر سواء فى مواجهة الحملة الفرنسية أو حتى مظالم المماليك والولاة بعد ذلك على نمو الوعى المصرى، وضرورة مشاركتهم فى الأحداث، هذا الأمر الذى ساعد فى النهاية على وصول محمد على إلى الحكم.

هكذا تجمعت العديد من العوامل على وصول محمد على إلى ولاية مصر، وأيضًا على نجاح مشروعه التحديثى، الذى سنتحدث عنه تفصيلا بعد ذلك، ونقصد بتلك العوامل عبقرية المكان، عبقرية الزمان، عبقرية البطل التاريخى.

وسيطرت على محمد على فكرة مثالية هى أنه ما دامت المواد الأولية متوافرة والأيدى العاملة رخيصة، فإن المشكلة تنحصر فى استيراد الآلات والاستعانة بالمساعدات الفنية من أوربا، وإحداث ثورة

خامسا: بداية التحديات : حملة فريزر ١٨٠٧

تعتبر حملة فريزر ١٨٠٧ الإنجليزية على الإسكندرية ورشيد أول التحديات الخارجية التى واجهت محمد على فى بداية حكمه لمصر، ولا يمكن تفهم الدوافع الحقيقة وراء الحملة إلا بتتبع مجريات وتطور السياسة الأوربية آنذاك، فضلا عن العلاقات الأوربية العثمانية.

فى الواقع اجتاح نابليون آنذاك أوربا ودخل فى صراعات سياسية مع القوى الأوربية التقليدية آنذاك لاسيما إنجلترا، العدو التقليدى لفرنسا، وأيضا روسيا، وتعقدت الأمور الدبلوماسية باعتراف السلطان العثمانى بنظام نابليون، وازدياد نفوذ السفير الفرنسى فى إستانبول، مما دعا إنجلترا إلى التوجس من النشاط الفرنسى فى الشرق، وأرادت إنجلترا القيام باستعراض قوة ترهب به الدولة العثمانية، ويعزز مكانة روسيا فى مواجهة الدولة العثمانية، ويعتبر ورقة يمكن اللعب بها إزاء فرنسا.

فى ظل هذه الظروف المضطربة، أرسلت إنجلترا قوة بحرية إلى الإسكندرية التى سرعان ما سقطت فى أيدى الحملة، ووصلت الأنباء إلى القاهرة وكان محمد على خارجها، وانتظر محمد على لرؤية تطور الأمور، ودراسة طبيعة الهدف الحقيقى للحملة. لكن القوات زحفت إلى رشيد وأبو حماد حيث منيت هناك بهزائم قاسية، حيث لم تكن هذه القوات النظامية بقادرة على التعامل مع حرب العصابات، وحروب المدن.

وتروى المصادر المعاصرة قصة هذه الهزيمة المشينة للقوات الإنجليزية. حيث أرسلت قيادة الحملة فى الإسكندرية نحو ألفى جندى منهم مائتان من البحرية، بينما لم تكن حامية رشيد مؤلفة إلا من بضع مئات على رأسهم على بك، الذى صمم على عدم تسليم رشيد، كما فعل حاكم الإسكندرية.

ورسم هذا القائد خطة فى منتهى البساطة، لكنها خير مثال لطبيعة حرب العصابات. إذ أمر على بك بأن لا يطلقون نيرانهم حتى يعطيهم إشارة البدء، ودخل الجنود الإنجليز المدينة بسهولة شديدة، وظنوا أن قصة دخول الإسكندرية تتكرر من جديد، وانتشروا فى شوارع وأسواق رشيد الخالية من الناس، ولما رأى على بك ذلك أعطى إشارة إلى جنوده فانقضوا من أسطح المنازل وشبابيكها بالنيران على الجنود الإنجليز مما أوقع الفزع فى قلوب القوة الإنجليزية، وأخذ الجنود فى الفرار تجاه الإسكندرية بعد أن سقط منهم نحو مائة جندى قتلى وبعض الضباط وأُخِذ مائة وعشرون آسيرًا، فضلا عن بعض الأسلحة.

وابتهج محمد على بهذا الانتصار وأقيمت الأفراح فى القاهرة التى عاد إليها محمد على من الصعيد، حيث كان يقود حملة تأديبية للمماليك الفارين هناك. وعندما حاول الإنجليز العودة مرة أخرى إلى رشيد للانتقام من هزيمتهم، لم يفلحوا من جديد فى دخول المدينة.

وفى أثناء ذلك تغيرت الأمور فى أوربا إلى حد ما، حيث هدأت الأمور بين فرنسا والدولة العثمانية من جهة وروسيا خليفة إنجلترا من جهة أخرى. من هنا رأت إنجلترا أنه لم يعد ثمة مبرر لبقاء إنجلترا فى حالة عداء مع الدولة العثمانية، فبدأت المفاوضات لانسحاب الحملة من الإسكندرية، التى غادرتها فى أوائل ١٨٠٨.

سادسا: المواجهة مع القيادات الشعبية

أدرك محمد على مبكرًا مدى قوة العلماء، هؤلاء الذين لعبوا دورًا هاما فى وصوله إلى الحكم، كما أنهم القادة الشرعيين للأهالى، ولذلك استعمل معهم الحيلة والدهاء لإبعادهم عن الحياة العامة، وعمل على إحداث الوقيعة فيما بينهم، شجعه على ذلك صراعهم الشديد على إدارة الأوقاف التى تدر عليهم أموالا طائلة، فأخذ يغرى بعضهم بمناصب الأوقاف، ثم استشعر الخوف من السيد عمر مكرم الذى أخذ نفوذه يزداد بين الأهالى، حتى إن الجبرتى، المصدر المعاصر للأحداث، يصف تأثير عمر مكرم على الناس قائلاً: : "صارت الرعية تحت أمره إن شاء جمعهم وإن شاء فرقهم وهو الذى أعانه مع العامة والخاصة حتى ملّكه الأقاليم، وإن شاء فعل بنقيض ذلك". ولهذا أمر محمد على بنفى السيد عمر مكرم إلى دمياط ليقوم بإبعاده عن القاهرة مركز الأحداث. وهكذا انتهى الدور التاريخى للسيد عمر مكرم، وضعفت قوة القيادات الشعبية التى كان يخشاها محمد على من قبل.

سابعا: مذبحة المماليك سنة ١٨١١ م

مثل المماليك دومًا صداعًا شديدًا لأى حاكم لمصر منذ الفتح العثمانى، وأدرك محمد على مبكرًا مدى قوة المماليك، وتأثيرهم كقوة مناوئة له، وقد مر بنا قيامه بحملات تأديبية على الصعيد لمواجهة المماليك أثناء حملة فريزر، ولكن بعد هدوء الأحوال الدولية، وتخلصه من الزعامة الشعبية جاء الدور على المماليك، حتى يخلو الجو لمحمد على للقيام بمشاريعه فى مصر من هنا سيعرف تاريخ مصر تلك الحادثة المشهورة بمذبحة المماليك.

إذ انتهز محمد على فرصة سفر ابنه طوسون باشا على رأس قوة عسكرية للسيطرة على الحجاز، لإقامة حفلة كبرى بهذه المناسبة، ودعا إليها كل بكوات (قادة) المماليك وأتباعهم. وبدأ موكبهم الذى تقدره المصادر المعاصرة بنحو ٥٠٠ راكب يصحبهم العديد من الأتباع، حيث عبروا بوابات القلعة الحصينة. ولم يتخلف عن الحضور سوى إبراهيم بك لحذره الشديد متعللا بظروف خاصة.

واستقبل محمد على المماليك بحفاوة بالغة، مصافحًا كل واحد منهم، وقدم الغداء لهم، ولكن ما إن انسحب الباشا وفى صحبته معيته ليفسحوا الطريق أمام الاستعراض العسكرى. وهكذا وجد المماليك أنفسهم فى كمين، حيث فتح عليهم الجنود النيران أثناء عبورهم ممرًا ضيقًا فى القلعة أثناء الاستعراض، وفى خلال أقل من خمس عشرة دقيقة تم القضاء على هذه القوة العسكرية التى سيطرت على البلاد لفترات طويلة.

وبصرف النظر عن الكثير من الآراء التى انتقدت هذا الموقف الدموى الذى وقفه محمد على من المماليك، فإن أحد المعاصرين الأجانب يرى:

"إن كل نقطة دم سفكها محمد على فى ذلك اليوم أنقذت أكثر من إنسان برىء". دلالة على فساد المماليك وسلبهم ونهبهم للأهالى من قبل.

أنشأ محمد على العديد من المصانع المدنية، التى كانت تخدم فى نفس الوقت المجهود الحربى، مثل مصانع الغزل والنسيج للقطن والحرير والكتان والصوف

ثامنا: الثورة الصناعية فى مصر

كانت مصر تعتمد دائما فى ثروتها على نهر النيل، الذى هو بمثابة شريان الحياة للزراعة المصرية، وفى السنوات العادية، كان العائد من الزراعة يمثل عماد الاقتصاد المصرى، ولكن محمد على أدرك مبكرا أن الاعتماد على الطبيعة مجازفة كبرى لا يستطيع مشروعه التحديثى الكبير احتماله، إذ عرفت مصر على مر تاريحها تقلبات الطبيعة ومشاكل فيضان النيل بالزائد أو الناقص مما كان يؤثر بالسلب على الاقتصاد المصرى، ولذلك حاول محمد على كبح جماح هذا المارد الجبار نهر النيل من خلال العديد من مشاريع الرى.

لكن محمد على فى الحقيقة كان يتجه بفكره نحو التجارة والصناعة حتى يميل الميزان التجارى لصالحه، وكان محمد على بخلفيته كتاجر للدخان سابقًا، وتحت تأثير الأفكار الاقتصادية العالمية آنذاك يميل إلى الصناعة والتجارة. وسيطرت عليه فكرة مثالية هى أنه ما دامت المواد الأولية متوافرة والأيدى العاملة رخيصة، فإن المشكلة فى الحقيقة تنحصر فى استيراد الآلات والاستعانة بالمساعدات الفنية من أوربا، وبالتالى يمكن تحويل مصر إلى بلد صناعى، وإحداث ثورة صناعية شبيهة بما يحدث آنذاك فى إنجلترا وفرنسا.

ودفع محمد على إلى الاهتمام بالصناعة مشروعه العسكرى التوسعى الكبير، لقد أدرك منذ حملة فريزر على مصر ضعف تحصينات السواحل وإمكانية فرض حصار بحرى عليه ومنع وصول المؤن والذخيرة إليه. ولهذا أنشأ محمد على العديد من المصانع الحربية لخدمة الجيش المصرى الجديد، مثل العديد من مصانع البارود والبنادق وسبك آلات المدافع، ومصانع الأحذية والملابس الضرورية للجيش، حتى وصل إلى مرحلة أن جميع لوازم الجندى المصرى من سلاح ولباس يصنع فى مصر بإشراف الحكومة المصرية وبالاستعانة بالعديد من الخبراء الأجانب الذين استعان بهم محمد على آنذاك.

ولم يقتصر اهتمام محمد علِى علَى الجيش وإمداداته فقط وإنما اهتم أيضًا بالصناعات الخاصة بالقوات البحرية، إذ أنشأ فى الإسكندرية ترسانة أصبحت من أهم الترسانات البحرية فى حوض البحر المتوسط لصناعة السفن التجارية والحربية.

ومن الجدير بالذكر أن المشرف عليها كان أحد الوطنيين وهو الحاج عمر الذى نجح فى إدارة الترسانة لفترة طويلة حتى أتى محمد على بعد ذلك بأحد المهندسين الفرنسيين لتعميق الترسانة وإدارتها. ونجح محمد على فى جمع العديد من المصريين لتعليمهم مهن وحرف الترسانة تحت إشراف العديد من الخبراء الأجانب.

 

تاسعا: الصناعات المدنية

وبالإضافة إلى هذه الصناعات الحربية أنشأ محمد على العديد من المصانع المدنية، التى كانت تخدم فى نفس الوقت المجهود الحربى، مثل مصانع الغزل والنسيج للقطن والحرير والكتان والصوف. إذ أنشأ العديد من مصانع غزل ونسيج القطن لاسيما فى المنصورة ودمياط ورشيد والمحلة الكبرى وشبين الكوم وقليوب وزفتى وميت غمر فى الوجه البحرى، أما فى الوجه القبلى، بنى سويف، والمنيا وفرشوط وطهطا وأسيوط وجرجا وقنا، وكان أكبر المصانع فى القاهرة فى منطقة بولاق، ومنطقة الخرنفش، كما عهد إلى المسيو جوميل الفرنسى بمهمة تحسين وانتشار زراعة القطن المصرى الشهير آنذاك.

كما أنشا العديد من مصانع الكتان، ولعل أشهرها مصنع المبيضة الشهير فى المنطقة الواقعة بين بولاق وشبرا وسميت المنطقة بالمبيضة، لأن المصنع كان يقوم بتبيض الأقمشة. كما أنشأ فى بولاق مصنعًا للجوخ، وأحضر له فى بداية الأمر العديد من الخبراء الفرنسيين، وكعهد محمد على فى تربية كوادر وطنية يعتمد عليها، طلب من الخبراء تدريب العديد من الشبان المصريين على هذه الصناعة ليحلوا محلهم فى المصنع، بل وارسل محمد على بعض الشبان المصريين إلى مصانع سيدان وليون فى فرنسا فى بعثات تدريبية لمصانع الجوخ، نظرًا لأهمية هذه الصناعة فى الزى العسكرى. كما أنشأ العديد من مصانع السكر فى الصعيد، حيث تجود زراعة قصب السكر هناك. ولم يكتف محمد على بالاستعانة بالخبرة الأوربية فحسب بل اتجه إلى الاستفادة حتى بالخبرات الشرقية، إذ يذكر أنه اهتم اهتمامًا خاصة بالنيلة المهمة فى صناعة الملابس وجلب لها العديدين من الهند للتوسع فيها فى مصر.

وقد تعرضت تجربة محمد على الصناعية للنقد الشديد، إذ اعتاد الأجانب المعاصرين لمحمد على توجيه النقد لهذه التجربة، على أساس أن مصر بلد زراعى بالأساس، وأن محاولات محمد على لتصنيع مصر هى محاولات هشة لا تستطيع الصمود كثيرًا أمام تطور الثورة الصناعية فى إنجلترا وفرنسا، آنذاك، وأن بعثرة محمد على الأموال على مصانعه، وسوء حال الصناع المصريين، كان نتيجته الطبيعية الإخفاق الاقتصادى للتجربة.

لكن عفاف لطفى السيد، وهى أهم من قام بدراسة عصر محمد على ترى عكس ذلك، بل وتشكك فى تقارير الأجانب المعاصرين قائلة:

"وأيا ما كانت الأعمال الأخرى التى أقدم عليها محمد على، فلم يحدث أن قام ببعثرة أمواله. لقد قبل مبدأ أن يشغل صناعاته بالخسارة وهى فى مرحلة طفولتها وإلى أن تصبح قادرة على الوقوف على قدميها، لكن لو أنها استمرت فى تحقيق خسائر مالية لكان قد أحالها إلى "خردة" بغير رحمة. ولا يوجد تحت أيدينا ما يتيح لنا افتراض أنه لم يكن يعرف ما يدور فى بلده، وأن أولئك الغرباء العابرين (تقصد المسئولين الأجانب المعاصرين) لم يكن يمكنهم التحرك فى البلاد إلا بصعوبة بالغة، دعك من إمكانهم التحدث بلغة عربية تكفى لفهم ما كان يدور... فإذا لاحظنا فوق ذلك أن هؤلاء الناس أنفسهم الذين تباكوا على أن المصانع جالبة للخراب ومحققة للخسائر، كانوا قد بعثوا كذلك بتقارير ذكروا فيها أن قطعة القماش التى كلفت الحكومة ٤٠ قرشا لتصنيعها كانت تباع مقابل ١٠٥ قروش محققة ربحا تبلغ نسبته أكثر من ١٠٠ %، فعندئذ يجب علينا أن نعيد النظر فى معتقداتنا حول هذه المصانع".

هذه شهادة حق حول تجربة مصر الصناعية فى عصر محمد على التى كانت تتم رغم الثورة الصناعية فى أوربا وسطوة الرأسمالية الأوربية آنذاك، وستلهم هذه التجربة كل خطوات تصنيع مصر بعد ذلك من طلعت حرب إلى ناصر.

عاشرًا: مشاريع الرى الكبرى والقناطر الخيرية

أدرك محمد على مبكرًا مدى أهمية الزراعة بالنسبة لمصر، وأهمية ترويض نهر النيل شريان الحياة فى مصر، إذ لو حجب النيل عن مصر فيضانه الممزوج بالطمى المخصب الذى هو بالنسبة لأرض مصر بمثابة السماد، كانت السنة جدب. كما أنه إذا أغرقها بمائه الزائد على الحاجة كان الضرر أعم.

ولذلك أقام محمد على العديد من مشاريع الرى الكبرى مثل ترعة المحمودية التى سميت على اسم السلطان محمود العثمانى والتى تمد الإسكندرية بالماء العذب، كما تسمح أيضا للسفن بالمرور من النيل إلى المدينة.

وكان إنشاء القناطر الخيرية على فرعى النيل، دمياط ورشيد، من أكبر المشاريع العامة فى عصر محمد على لتنظيم مياه الرى والحيلولة دون ضياع القدر الكبير من المياه فى البحر المتوسط. وأدت هذه المشاريع إلى انتشار الرى الدائم فى أراضى مصر.

ويثار العديد من الانتقادات حول جدوى هذه المشاريع الكبرى وما عادت به على مصر، لكن الأبحاث الحديثة أثبتت مدى أهمية مشاريع الرى فى زيادة الرقعة الزراعية، إذ يقدر البعض حجم الزيادة بنحو ١,١٧٦,٥٨٨ فدانًا، والفضل فى ذلك راجع إلى الأشغال العامة التى قام بتنفيذها محمد على.

ويوجه البعض النقد إلى هذه المشاريع لأنها أدت إلى انتشار السخرة فى مصر، إذ قام المراقبون الأجانب المعاصرون، وكان معظمهم متحاملا على محمد على بسبب سيطرته على ثروات البلاد، ولرفضه إطلاق يدهم فى التجارة الخارجية والداخلية باتهامه بتشغيل المصريين بلا أجر.

لكن الحقيقة التاريخية تثبت عكس ذلك. فلم تكن الترع والقناطر تبنى من خلال أعمال السخرة غير مدفوعة الأجر. لقد كان العمال يتاقضون أجرًا، ويدلل على ذلك المؤرخ المصرى الشهير المعاصر للأحداث عبد الرحمن الجبرتى قائلاً: :

"ونزل الأمر لكشاف الأقاليم بجمع الفلاحين والرجال... ويدفعون للشخص الواحد عشرة ريالات، ويخصم له مثلها من المال... وعند العمل يدفع لكل شخص قرش فى كل يوم، ويخرج أهل القرية أفواجًا ويجتمعون فى المكان المأمورين باجتماعهم فيه".

والقرش هنا كان عملة العصر، ولا يقاس بالعملة الآن. ولم يكن الفلاحون يتقاضون أجرًا فحسب بل كان يطعمون "شوربة أو دشيشة"، كذلك كانوا يأكلون اللحم مرة كل عدة أيام.

 

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟