التعددية الإعلامية فى العراق: أداة للوحدة الوطنية أم وسيلة للصراع (2-2)
تناولنا في الحلقة
السابقة المدخل التاريخي لمميزات الصحافة العراقية، والمتغير السياسي وتأثيره على
التعددية الإعلامية في العراق بعد عام 2003، والمشهد الإعلامي في العراق قبل وبعد
إبريل 2003. ونستكمل في هذه الحلقة ما قام به الاحتلال الأمريكي من أساليب اختراق
لوسائل الإعلام العراقية من حيث التخريب الإعلامي، والخطاب الإعلام المستحدث، وإلغاء
وزارة الإعلام وتنمية الفوضى في العراق، وغيرها من الأساليب كما يلى.
4. الصراع
بين الإعلام الاحتلالي والوطني
كانت أول صحيفة عراقية صدرت في بداية الاحتلال الأمريكي للعراق هي
صحيفة (الساعة)، وهي صحيفة مستقلة وحيادية من حيث رؤيتها الإعلامية الوطنية
للأحداث، والأهم أنها كانت تنتقد الاحتلال الأمريكي بشكل صريح، بل تهاجم بعنف كل
من يسانده ويقف إلى جانبه. صدرت عن الحركة الوطنية العراقية الموحدة التي يرأسها
رجل الدين الشيخ أحمد عبيد الكبيسي، لكنها أصبحت شبه متوقفة بعد ثلاث سنوات من
صدورها المنتظم، بسبب سوء التمويل المالي لها، إضافة إلى المضايقات التي تتعرض لها
مع بقية وسائل الإعلام العراقية، وبخاصة التي تتعارض مع خط الاحتلال أو السلطات
الحكومية العراقية المتعددة التي تعاقبت على حكم العراق عقب التاسع من أبريل
عام2003.
ومن حيث وسائل الإعلام ذات الحيادية التامة في رسالتها اليومية،
تتربع على عرش وسائل الإعلام العراقية المقروءة والمسموعة حاليًا صحيفة الزمان
ولها نسخة إلكترونية وفضائية الشرقية المستقلتان، ويصدرهما الإعلامي العراقي سعد
البزاز، حيث تجد أن النبرة الإعلامية فيهما مكرسة لمناهضة الاحتلال، لكن بأسلوب
إعلامي هادئ يتميز بالمهنية، وبالرغم من أنها تحاول قدر الإمكان أن تلتزم الخط
الحيادي في محاولة منها لتجنب الصدام مع الحكومة والاحتلال الذي قد يصل إلى حد
الاعتقال أو أكثر من ذلك، لكن ليس ذلك على حساب تجاهل الحقائق. ومع هذا فإن حكومة
نوري المالكي أوقفت بث قناة الشرقية من مكتب بغداد في بداية عام2007، بحجة التحريض
على الإرهاب إثر تنديدها، مع بقية وسائل الإعلام الدولية، بالطريقة الطائفية التي
جرى فيها إعدام الرئيس الراحل صدام حسين. وكان قبلها بسنتين قد شهد إغلاق مكتب
قناة الجزيرة ببغداد عقب معركة الفلوجة الأولى في أبريل عام2004، للحجة ذاتها، حين
قامت حكومة أياد علاوي المؤقتة وقادة جيش الاحتلال الأمريكي باتهام الجزيرة بتشجيع
العنف، لكونها كانت أبرز فضائية تتعقب الحدث في ابعد مكان من ساحة البلد بحثًا عن
التفاصيل والصورة، وتتعامل بلغة حقائق إعلامية (مهنية) تقدمها في نشرات الأخبار
على مدار الساعة يوميًا للرأي العام الدولي.
ويذكر أن صحيفة الزمان تصدر بطبعات دولية، وتوزع في عدد من عواصم
العالم أبرزها لندن. أما صحيفة (المشرق) المستقلة التي يصدرها نهرو عبد الكريم
وتتجاوز أرقام توزيعها اليومي ببغداد (30) ألف نسخة، على الرغم من الظروف الأمنية
الاستثنائية، وهي أفضل صحيفة مقروءة بين العراقيين من خلال حجم الطباعة والتوزيع،
وهي حيادية على صعيد استعراض القضية الأمنية والسياسية العراقية على الرغم من
كشفها جرائم الاحتلال لكن بطريقة إعلامية خفيفة. والمعروف أنها تضم ملاكًا
إعلاميًا متميزًا يمثل نسبة كبيرة من منتسبي وسائل الإعلام العراقية السابقة، مثل
وكالة الأنباء العراقية وبقية الصحف الأخرى (الثورة والجمهورية والعراق والقادسية،
ومجلة ألف باء، إضافة إلى إصدارات وزارة الثقافة والإعلام)، والذين يمتازون
بالمهنية والكفاءة الصحفية العالية، ما عدا بعض كتاب الأعمدة الصحفية فيها، فإن
لهم حرية مطلقة في نقد الحكومة العراقية والاحتلال. وهنا يجب التنويه إلى أن الرسم
الكاريكاتوري مع الأعمدة الصحفية، ولاسيما عمود الكاتب حميد عبد اللـه "قصة
المشرق الإخبارية" وآخرين، على الطريقة نفسها في كل من صحيفتي (المشرق
والزمان)، هما التعليق الكاريكاتوري الهادف نفسه بعنوان (كاريكاتور) الذي تقدمه
نخبة من الفنانين العراقيين أبرزهم ماجد ياسين وسعد خليفة وزهير محمد رشيد، إضافة
إلى الفنان الراحل وليد حسن جعاز، الذي اغتالته الميليشيات المسلحة بسبب نقده
اللاذع لسياسة الحكومة والاحتلال من خلال برنامج أسبوعي تقدمه قناة الشرقية.
ولعل هذه التعليقات الفنية ضمن إطارها الفكاهي أعطت لكل الوسائل
الإعلامية دعمًا وقبولًا لدى الشارع العراقي المتلهف لنقل معاناته المتأزّمة إلى
الرأي العام. وإلى جانب هذا، توجد وسائل إعلام لا تقل مناهضة للحكومة والوجود
الأجنبي، وإن كانت بمستوى أقل من ناحية الانتشار والتأثير بسبب انعدام الدعم
المالي لها مثل صحيفة (راية العرب) الناطقة بلسان التيار القومي العراقي الذي
يتزعمه وزير الخارجية العراقي الأسبق الراحل صبحي عبد الحميد، وأصبحت منذ أكثر من
سنة تصدر أسبوعيًا بسبب إمكانات التمويل المحدودة، حيث يرأس تحريرها الأكاديمي
المعروف وميض عمر نظمي، وكذلك صحيفة الزوراء الصادرة عن نقابة الصحفيين العراقيين،
والتي تعد أقدم صحيفة عراقية يعود تأسيسها إلى 15يونيوعام1869، فيما تتمسك وسائل
إعلام أخرى بموقف أكثر صلابة حيال الحكومة والاحتلال منذ البداية وحتى الآن، ومن
أبزها صحيفة (البصائر) وإذاعة أم القرى، وتصدرهما هيئة علماء المسلمين التي
يتزعمها الشيخ العلامة حارث الضاري، وكان لهما أسلوبهما الخاص المميز في اتخاذ
المواقف الصلبة والناقدة بلغة شديدة اللهجة لمجريات الأحداث المتعلقة بسلوكيات جيش
الاحتلال الأمريكي حتى أصبحت هاتان المؤسستان الإعلاميتان في برنامج متابعة دقيقة
من لدن الأجهزة الحكومية العراقية والجانب الأمريكي.
وإلى جانب هذه الباقة الإعلامية، توجد فضائية بغداد وصحيفة (دار
السلام) ويصدرهما الحزب الإسلامي العراقي. ومن اللافت للنظر إذا كان الحزب
الإسلامي يعد أحد الأحزاب السياسية التي اشتركت في مجلس الحكم وقد فقد شعبيته جراء
ذلك، فإن قناة بغداد ودار السلام تعدان من وسائل الإعلام المناهضة للاحتلال،
وتتابعان بدقة كل سلبياته، وتمتلكان كادرًا إعلاميًا يتعامل بلغة خطاب وطني قريبة
من نبض الشارع العراقي، لكنهما متهمتان إلى حد ما من قبل بعض الأحزاب الأخرى
بإثارة الطائفية حالها حال بقية الصحف والقنوات التي تصدرها أحزاب الدعوة والمجلس
الأعلى للثورة الإسلامية وتيارات مثل قنوات وإذاعات (الفرات والفيحاء والمسار
وبلادي والمؤتمر)، وصحف مثل (البينة والمؤتمر والبينة الجديدة والمواطن). وهناك
صحف أخرى تترصد مساوئ الحكومة، ومنها صحيفة (السيادة العراقية) التي يصدرها زعيم
التجمع الجمهوري في العراق سعد الجنابي، والتي تكرر دائمًا أن العراق يعيش تحت
وطأة احتلالين: أمريكي وإيراني.
ووصف شهاب التميمي نقيب الصحفيين العراقيين الأسبق، والذي اغتالته
ميليشيات مسلحة مطلع شهر مارس2008، في نقده للواقع الإعلامي والصحفي بـ(الفوضى
الصحافية)، بقوله:"إن الساحة العراقية تمر باختناق إعلامي فوضوي منذ بداية
الاحتلال غالبيته يمثل مزاجًا حزبيًا يتسم بالنفاق السياسي"، وأشار إلى أن
مثل هذا الكم الهائل من الصحف والفضائيات "ربما شجع على شحن الأوضاع الطائفية
والمذهبية، لأن الموجود في أغلبه ليس إعلامًا بل سياسة بحتة، وأنا لا أشم رائحة
صحافية في غالبية وسائل الإعلام الموجودة حاليًا".
أما الصحف الدينية، فيمكن ذكر صحيفة الحوزة، وتهتم بأنشطة الحوزة
الشيعية وفتاواهم الدينية، ومجلة (الفتوى) التي تمثل المذهب السني وتصدر شهريًا،
ومجلة (الكوثر) وهي نصف شهرية تبرز نشاطات الشيعة وشؤونهم. إلى جانب صحف
(البصائر)التي ورد ذكرها وصحف أخرى (أنصار الحوزة والدعوة والبيان والمجلس والبينة
وقمر بني هاشم والكوفة وصوت الجمعة والوفاق الإسلامي)، فضلًا عن عناوين عديدة أخرى
يمكن الرجوع لها في ببليوغرافيا الصحافة الجديدة. ومن الصحف الفكاهية الساخرة التي
كانت تصدر خارج العراق وهي ذات طابع تجاري، فتشمل على صحف (حبزبوز)، حيث اشتقت
الاسم والأسلوب من الصحيفة الهزلية العراقية القديمة حبزبوز والصحاف والرصيف وجحا.
ومن الصحف الفنية الأخرى صحيفة (الكره وعدسة الفن والعالم الرياضي
والرياضي الجديد والسفير الرياضي وعيون الفن)، وتؤكد مصادر نقابة الصحافيين
العراقيين أن ثلث المنتج الإعلامي تلاشى بمرور الزمن بسبب كلفة التمويل الباهظة،
هذا إلى جانب أن الصحافة حرفة معقدة لا يمكن للطارئين أن يواصلوا مشوارهم معها
لفترة طويلة وحتى ولو امتلكوا المال اللازم لاستمرارها، فالصحيفة أو الإذاعة أو
الفضائية أو الموقع الإلكتروني، تعد مشروعًا ضخمًا من غير المعقول أن يتواصل العمل
به تحت قيادة شخص لا يملك مؤهلات التواصل وعشق المهنة. وفي عراق ما بعد الاحتلال،
تبوأ العشرات من الناس ممن لا يملكون أدنى مستويات التعليم ولا حتى أبسط خبرة
إعلامية، رئاسة تحرير صحف التي أصدرت أعدادًا بصفحات متعددة وبإخراجية متواضعة
للغاية، ولكن بنوعية ورق مصقول ومرغوب لا تملكه العديد من الصحف الدولية المشهورة،
واستمرت لشهرين أو زد عليها لأسابيع، وتوقفت بالنهاية بالرغم من وجود رأس المال
الذي يكفي لاستمرارية المشروع لسنين طوال. ولكن العلة هنا تكمن في أن صاحب
الامتياز أو رئيس التحرير الذي لا يعرف موقع نقابة الصحفيين، هو شخص طارئ على مهنة
البحث عن المتاعب، ومن بين من تولى رئاسة تحرير صحيفة في هذه الفترة من كان بقالًا
أو صاحب معرض لبيع السيارات أو علوة لبيع السمك. وعلى سبيل المثال تولي رئاسة
تحرير صحيفة (البشارة) شخص يعمل ميكانيكي في ورشة تصليح السيارات قبل الاحتلال
الأمريكي للعراق.
وكذلك الحال بالنسبة إلى صحيفة (الوجه الديمقراطي الجديد)، التي صدرت
عقب الاحتلال واستمرت لستة أشهر تقريبًا، ثم تلاشت وانقرضت، فتولى رئاسة تحريرها
شخص يعمل في علوة لبيع السمك، فالصحافة جزء من التاريخ أو هي مادته الأساسية ينبغي
لها أن تدون ذلك التعثر الذي لحق بها فترة غياب القانون. نعم، قد تبدو للبعض بأنها
مهنة سهلة، ولكنها أكثر تعقيدًا من أية مهنة أخرى، فالبعض يشبهها بلعبة كرة القدم
حيث أن أي شخص بإمكانه أن يركل الكرة ويمارس اللعبة، ولكن من الصعوبة بمكان أن
يكون محترفًا ويسمى لاعبًا في الملعب عندما تزف ساعة الحقيقة التي تعادل تسجيل
الهدف في المرمى.
وتقول نقابة الصحفيين العراقيين؛ إنه إلى جانب مئات الامتيازات التي
تم تسجيلها بالنقابة منحت لإعلاميين وصحافيين وشخصيات متعددة الكثير منها لم يسجل
تاريخه أية علاقة له بالمعترك الإعلامي بإصدار صحف وإذاعات وقنوات فضائية ومواقع
الكترونية، فإن أرقامًا فلكية جرى تسجيلها واعتمادها لدينا في مجال الصحافة الإلكترونية،
وهي أيضًا مقسمة بين الصحافة الوطنية والحزبية والحيادية والموالية.
5. قرارات
تغيير هيكلية الإعلام العراقي
لا شك في أن تنظيم عمل وسائل الإعلام والاتصال في أطرها القانونية
وبما يتاح لها من حرية التعبير، يعد من أبرز السمات اللازمة لتحديد هوية ومنهج أي
نظام سياسي دولي ديمقراطي، ولاسيما إذا كان المسعى الحقيقي إلى بناء مجتمع مدني
متحضر مواكبًا لحركة النظام السياسي وأهدافه وتطلعاته، وذلك من خلال توفير فضاء
إعلامي واتصالي حر ومستقل وفعال يمتلك جميع أدوات التقدم اللازمة وفق ثنائية
الإعلام والديمقراطية. لكن ليس من المنطق أن تؤمن المجتمعات المستقلة بلادها التي
تصل إلى القرن تقريبًا بدعوى مصاحبة النهوض بالواقع الإعلامي والفكري بالاحتلال
العسكري الأجنبي. ومن هنا يطرح التساؤل الوارد ألم يأتِ غزو العراق واستهداف
مؤسساته بالتدمير كمسوغ حقيقي لتكريس الاحتلال بحجة القضاء على الدكتاتورية، ومن
ثم منح الشعب العراقي هامش الحرية المفقود في الصحافة، وحرية الرأي والعيش في كنف
فضاء الديمقراطية الذي تتكفل الولايات المتحدة بمنحه للعراقيين؟
إن أهم مظاهر أي توجه لتنظيم قطاعي الاتصال والإعلام تكمن في توفير
المناخ الفكري والثقافي والسياسي الملائم عبر دعم وتشجيع سياسة اتصالية تأخذ بعين
الاعتبار طبيعة المجتمع، وخصوصيات النظام السياسي، وأخلاقيات المهنة، فأداء
الإعلام في أي دولة يتحدد بمستوى التقاء مجموعة من العوامل والضوابط والأهداف
المترابطة من الأرضية الفكرية والسياسية إلى الإطار التنظيمي والتشريعي الذي فيه
يترعرع الإعلام ويؤدي رسالته المنشودة. من هنا يمكن اعتبار الديباجة والقسم الأول
من القانون التأسيسي لهيئة الإعلام العراقي للاتصالات والإعلام جوابًا يفسر سبب
إنشائها في هذا الوقت.
وهناك جملة من العوامل التي يبتغي من ورائها الاحتلال والحكومة
العراقية تحقيق المكاسب التي تبرز ديمقراطية الوضع الراهن، ولكن السؤال يتكرر: هل
إصدار القوانين المتعلقة بتنظيم الإعلام ووسائل الاتصال يكفي للحكم بنجاح التجربة
الشمولية من عدمها؟ صحيح أن الإعلام يمثل جانبًا مهمًا من حياة المجتمع، ولكنه
يبقى تابعًا لخطوات النظام السياسي وتطبيقاته العملية على الأصعدة الاقتصادية
والإعلامية والاجتماعية والسياسية كافة. لقد عمدت الولايات المتحدة إلى إلغاء
معالم الإعلام العراقي السابق، عندما أصدر الحاكم المدني بول بريمر القرار رقم (6)
في بداية يونيو عام2003، القاضي بتأسيس شبكة الإعلام العراقي كهيئة وقتية انتقالية
بدلًا عن وزارة الإعلام المنحلة، وفي الوقت نفسه تقريبًا عقد مؤتمر فينا الخاص
بمستقبل الإعلام العراقي الذي توصل إلى صياغة لائحة لتنظيم الإعلام العراقي وعنه
انبثقت فكرة الهيكلية الجديدة للإعلام من خلال صياغة مشروعي القانونين رقمي (65 و
66) الصادرين في شهر مارس2004، لتوفير الأرضية القانونية المناسبة لتنظيم الإعلام
العراقي. وجاء في ديباجة القانون رقم (65) الخاص بتأسيس الهيئة العراقية للاتصالات
والإعلام أنه يمثل:
أ. تحقيق
التنمية الديمقراطية الحديثة عبر توفير المناخ الإعلامي الحر بين مكونات الشعب
العراقي، والعمل على إنجاح تجربة الانتخابات التي تشهد جدلًا ومراهنات سياسية بين
أن تنجح أو تفشل، وبالتالي فإن الإعلام سيلعب دورًا مهمًا في إنجاز المهمة
المطلوبة منه.
ب. أهمية الإعلام
ووسائل الاتصال في حماية السلامة العامة ومصلحة المستهلك، وهذا بدوره سيشكل دعامة
أساسية لحماية الحريات العامة.
ت. الحفاظ على
المبادئ العامة المتعلقة بحرية التعبير والصحافة كما جرى التأكيد عليها في الميثاق
الدولي للحقوق المدنية والسياسية والوثائق الأخرى. أن من بين أهم دوافع تأسيس
الهيئة هو إيجاد سلطة تشريعية تستطيع سن النظم التي تشجع على تأمين التقنيات
والخدمات الحديثة للمستهلك، وهي حاجة ضرورية للحصول على بنية تحتية حديثة
للاتصالات، ذلك أنه من الأهداف الرئيسية لنظام الاتصالات الوطني إتاحة الخدمات لجميع
المواطنين وبأسعار مقبولة.
وقد جاء إنشاء الهيئة أيضًا كضرورة ملحة لتوسيع وإيجاد كفاءات مهنية
في صنع الأخبار والإعلام، وذلك من أجل تأمين حوار عام في العراق. وفيما يتعلق
بالقسم الأول من القرار رقم (65) ضمن أهداف الهيئة الوطنية للاتصالات والإعلام،
ورد سعي الهيئة إلى تشجيع التعددية والتنافس بين موفري خدمات الاتصال والإعلام في
العراق، وهو ما سيساعد على تأسيس مجتمع مطلع ومتنوع الثقافات مستفيدًا من تنوع
الأسعار والفائدة.
رابعا: آفاق التعددية
الإعلامية وحرية الصحافة في العراق
على الرغم من التراث الصحفي العراقي العريق وما ميزه بارتباطه
بالحركة المجتمعية وحرية من الأحداث ومتغيراتها ومطالبة بالحقوق والحريات العامة
والخاصة كراصد ومعبر عن طموحات الشعب العراقي عبر تاريخها، وعلى مدى المتغير
النسبي للتعددية الإعلامية والحرية الصحفية. أما بالنسبة للتنوع القومي والإثني والديني
والمذهبي المكون لنسيج المجتمع العراقي والتي من شأنه أن يغني الحركة التطورية
المجتمعية في ظل التحديث كعنصر أساسي لتقبل الأفكار الحديثة في حركته التطورية
وتفاعله مع المجتمع العالمي للإسهام في بناء الحضارة الإنسانية، وعلى الرغم من حجم
المتغير السياسي الذي استمر خلال حقبة (35) سنة الماضية وبداية تأسيس العراق
الجديد بالمفاهيم الجديدة المتمثلة بالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان وهي مفاهيم
معاصرة جديرة بالاحترام والتقدير والتبني، ولكن ليس كما حصل في العراق واستوردت
هذه القيم حيث حاول الاحتلال زرعها في أرض لم تهيئ لمثل هذه المفاهيم والأعراف
كسياسة دولة تنظم العلاقات بين المكونات الأساسية المتناقضة أصلًا (فكريًا
وعقائديًا) سيما وأن تاريخ هذه القوى كمعارضة للسلطة السابقة اعتادت ثقافة رفض
الآخر (فإن لم تكن معي فأنت عدوي) وهو يتناقض قطعًا مع المفهوم الجديد الذي يعتمد
أصلًا على قبول الآخر أيًا كان خلافي الفكري والعقائدي معه، سيما وأنها مرحلة
التأسيس لمثل هذه المبادئ إلا أنها تبقى الخطوة الأولى، وعلى الرغم من أنها يجب أن
تجني ثمارها سواء على مستوى تأسيس دولة المؤسسات الديمقراطية أو على مستوى الحرية
الشخصية وتبني الآراء وما ينتج عنه من منتج ثقافي أو إعلامي معبر عن طبيعة علاقات
اجتماعية خاصة وموروث تشكل في جملتها طبيعة الهوية الثانوية للمكون القومي أو
الأثني أو المذهبي.
بالإضافة إلى هشاشة طبيعة النظام السياسي القائم أولا في ظل الاحتلال
الجاثم على القرار والسيادة الصورية الممنوحة على القرار السياسي والاقتصادي
والإمساك بزمام الملف الأمني المتعثر أصلا بالعمليات الإرهابية باختلاف أسبابها
وعدم القدرة على التنسيق مع قوى المعارضة للاحتلال سواء داخل العملية السياسية أو
خارجها .
وعلى الرغم من الكم الكبير من الصحف الذي تصدر يوميًا وأسبوعيًا
وشهريًا وعلى اختلاف أنواعها رسمية وحزبية وخاصة حسب مملوكيتها وطبيعتها عامة
ومتخصصة والسؤال المهم هنا: مدى مشاركتها وفاعليتها كوسيلة اتصال ضمن ثنائيتي
الإعلام والتنمية والإعلام وديمقراطية الاتصال كأطر عامة لتحديد فعالية الصحافة
كمنتج إعلامي ثقافي. ذات تأثير خاص وفاعل في أحداث التأثير المطلوب لدى الجمهور في
إلغاء أو تعديل سلوك ما أو تأصيل آخر حسب ما تقتضيه منظومة القيم المعتمدة في
المجتمع، وإمكانياتها المهنية في تشكيل الصورة والنهضة لرسم ملامح الصورة المشرقة
للعراق والعراقيين ضمن أولويات خطابها دوليًا وللحديث عن دور الصحافة العراقية
والتي هيئت لها كل هذه المساحة من الحرية في الامتلاك والتعبير، برغم الظروف
السياسية غير المستقرة لطبيعة النظام –
ديمقراطية المحاصصة – وما يشوبها من تردي في الوضع الأمني والخدمي بالإضافة إلى
طبيعة الأحزاب المشكّلة للطبقة الحاكمة. فأنحسر دور الصحافة تحت هذه الظروف على
كثرة عددها بضيق خطابها ومحدوديته وعلى اختلاف توجهاتها, فالحكومية ملتزمة بخطاب
الحكومة في تبرير عجزها عن توفير الخدمات وانجاز مشاريع التنمية متشبثة بالأعمال
الإرهابية وتركة النظام السابق الثقيلة، وذلك لأن هذه الصحف مثل (الصباح) ممولة من
الدولة فحتمًا يتحدد خطابها ضمن سياسة الحكومة لهذه المرحلة، وذلك لعدم وجود قانون
مشرع من مجلس النواب لتنظيم العملية الإعلامية. فارتبطت إداريًا بمجلس الوزراء.
مستفيدة من ذلك مما تبقى من البنى التحتية الإعلامية والتي لم تُدمّر كالمطابع
وبعض أبنية الصحف السابقة بالإضافة إلى الإعلانات الخاصة بالوزارات ومؤسساتها
الحكومية واحتكارها، كما أن التطور الحاصل في وسائل الإعلام الأخرى كالإنترنت
ودخول البث الفضائي، والذي كان ممنوعًا في العراق لغاية 2003 وتنوع مصادر
المعلومات فقد فضح أحادية وجهة النظر لهذه الصحف ومحاولة إخفائها للحقائق الكارثية
التي تعصف بالمجتمع العراقي مما حد من درجة مصداقيتها لدى القارئ.
أما الصحف الحزبية والتي انشغلت منذ نشأتها وعلى اختلاف توجهات
أحزابها دينية أو علمانية أو قومية. انشغلت بالترويج لأيديولوجيات وأفكار أحزابها
في محاولة للتأكيد على طبيعة الهويات الثانوية الفرعية متناسية ً هوية المواطنة
والانتماء للوطن الواحد وهي بذلك تدعو إلى تفتيت هوية الوحدة الوطنية للمجتمع
العراقي متناسية بذلك دورها والتزاماتها المهنية والأخلاقية كسلطات حرة وأدوات
فاعلة في إحداث التنمية المطلوبة لمجتمع تعصف به الأزمات.
وفي
ضوء ما سبق أعلاه يرى الباحث أنه على الرغم من التحولات الكبيرة التي عصفت
بالمجتمع العراقي عبر تاريخه الإعلامي وما ميز الصحافة بالعراق بالتعددية الإعلامية
وحرية الصحافة التي مرت بفترات مختلفة فمن حرية نسبية إلى تقيد لتلك الحرية ليصل
إلى التعطيل أو الإلغاء. وعلى الرغم من التحول الجذري بعد 2003 للنظام السياسي في
العراق من الديكتاتوري إلى الديمقراطي وفتح الحريات الإعلامية على مصراعيها فكانت
هناك أكثر 150صحيفة ومجلة تصدر في بغداد وحدها ومثل هذا العدد في المحافظات
الأخرى. فإنها تواجه من المعضلات والمشاكل ما يعطل فاعليتها كأداة ووسيلة إعلامية
مؤثرة، فحجم المشكل الأمني والتهديد الفعلي الذي يهدد حياة العاملين بالصحافة على
اختلاف توجهاتهم مازال الأخطر في العالم حسب بيانات المراكز والمراصد الصحفية
العالمية.
وبما
أن أغلب الصحف مملوكة لأحزاب وقوميات واتجاهات سياسية اغلبها طائفية وعنصرية لذلك
يشكل محدودية خطابها الإعلامي الخطوة الأهم في فشلها على مستوى الأداء المهني
المؤثر والانتشار, بالإضافة إلى فشلها في المساهمة في عملية التنمية البشرية
الشاملة للعراق والتي لم يخطط لها أصلاً على اعتبار أهم أولويات السلطة الحاكمة هو
توفير الأمن الغائب أصلاً منذ عشرة أعوام في ظل الاحتلال الأمريكي وتنافر الأحزاب
الحاكمة، ومع أن أعداد الكوادر الإعلامية العاملين الآن قد ازداد إلى أكثر من مائة
ضعف عن السابق إلا أن نقصاً كبيراً في جملة المهارات الفنية والتقنية التي تؤهل
الإعلامي في تشكيل الصورة الذهنية ما زالت قاصرة، بالإضافة إلى أنها لا تستطيع أن
تغض النظر عن الإشكاليات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تنهش في جسد
المجتمع العراقي المنهك أصلاً في ظل هشاشة النظام السياسي الحاكم وفق نظام
المحاصصة الطائفية، تحت مسمى الديمقراطية التي لم تستطع الأحزاب المكونة للسلطة
استيعابها والعمل بها كسياق سياسي لأنها أول ما تفترض قبول الآخر وهو ما لا تستطيع
العمل به لطبيعتها الدينية المتعصبة أو القومية الشوفينية مشكلة لطبقة سياسية
حاكمة للدولة. فالديمقراطية يجب أن تنبع كمتغير من حركة تفاعلية للمجتمع ذاته حيث
المناخات الفكرية السياسية والاجتماعية، لا أن تفرض بتأثير خارجي واحتلال عسكري
لدولة مهدمة البنى التحتية ويعصف بها الإرهاب والاحتلال والميليشيات. وعاجزة عن
توفير أبسط الخدمات الأساسية للمواطن كالكهرباء والماء الصالح للشرب وتأمين الغذاء
عبر بطاقة الحصة التموينية المتعثرة في التجهيز نظرًا لحجم الفساد المالي والإداري
للتجارة بكل مؤسساتها. وكذلك تفاقم البطالة حيث تصل إلى 60% ومشكلة المهجرين داخل
وخارج العراق والعجز عن حل إشكالية عودتهم إلى مواطن سكناهم، وتزايد أعدادهم إلى
ما يزيد على 4 ملايين، وهناك قضية هجرة العقول العلمية، وكذلك تزايد أعداد النساء
الأرامل إلى ما فوق المليونين حسب إحصاءات وزارة العمل والشئون الاجتماعية وما
يزيد على مليوني طفل يتيم. وهكذا التعليم وكوارثه بكل بناه التحتية المهدمة
وكوادره المهاجرة ومناهجه والذي لم تكتشف بعد المشكلات النفسية التي يعاني منها
الطلاب على اختلاف المراحل الدراسية جراء الوجود العسكري المباشر سواء في الشارع
أو المؤسسة العلمية أو من وجود عبث المليشيات التي حلت في أغلب المناطق في غياب
القانون وسلطة الدولة.
ويمكن
أن نستنتج مما تقدم بأن الصحف العراقية بعد 2003 وإن كثر عددها إلى ما يربو المائة
صحيفة ومجلة في بغداد ومثلها في المحافظات الأخرى. وعلى اختلاف أنواعها رسمية
وحزبية وخاصة وبمختلف توجهاتها عامة ومتخصصة، فشلت في لعب دورها المفترض كوسيلة
إعلامية مؤثرة في المشاركة في التنمية البشرية والمفترضة، لطبيعة النظام السياسي
والمشكلات المترتبة على طبيعته (المحاصصة) وتردي الوضع الأمني بوجود الاحتلال، ولا
نغفل طبيعة توجه الصحف وسياساتها التي تخدم أجندات خاصة حكومية كانت أم حزبية ضيقة
طائفية أو قومية، والتي استفادت هي وحدها من الديمقراطية في حرية التملك والتعددية
وحرية الصحافة دون أن تشارك أو تسهم في تأصيل المفهوم الحديث على مجتمع حديث العهد
بها ومكونات سياسية لم تألف التعامل به كإحدى أبجديات العمل السياسي المعاصر.
كما
أنها عجزت على الرغم من تضاعف عدد العاملين في المجال الإعلامي من أن توفر الكوادر
الصحفية المدربة مهنيًا والمهيأة لسبل الخطاب الإعلامي دوليًا.
خامسا:
احتكار الإعلام في العراق
مع دخول العراق مرحلة التحول
الديمقراطي، وبعد فترة من الإعلام المركزي الموجه والخاضع لسيطرة وسطوة الدولة
والحزب الواحد، أدركت الأحزاب والشخصيات السياسية والمثقفين وحتى التجار. أهمية
الإعلام في أجواء الانفتاح والتعددية السياسية والديمقراطية، فلجأت إلى إنشاء
وسائل إعلامية متعددة للتأثير في الجمهور العراقي المتلقي والمتعطش للحرية
والتنوع، فطالعتنا في بغداد وحدها أكثر من 150 صحيفة دفعة واحدة بين عامي 2003 و
2004، تراوحت بين شبه حكومية وغير حكومية وخاصة، وأكثر من عشر فضائيات، في حينها،
إضافة لعدد كبير من الإذاعات المحلية.
إن اعتماد الكيانات السياسية على
الإعلام بأشكاله كافة لتسويق مرشحيها وصناعة توجهات جمهورها وناخبيها، يصبح وفقا
لهذا المعنى (الوسيلة) التي تتوسط ما بين الجماعات والأحزاب السياسية من جهة
والمواطنين/ الناخبين من جهة أخرى. وهنا يتميز الدور الذي تؤديه وسائله في الحياة
السياسية والعامة، وفي الانتخابات والذي ينبع من طبيعة ووظيفة هذه الوسائل. في
الإخبار والشرح المفصل والتحليل المنطقي والتفسير الواقعي والمبادرة الجادة
والرقابة الفاعلة دون انحياز.
ولا شك أن سبب الاهتمام السياسي يعود
إلى أن وسائل الإعلام مؤثرة بشكل مباشر وسريع في الجماهير سلبًا أو إيجابًا حسب
دورها، حيث يقوم الإعلام بخمس وظائف رئيسية هي:
1. الوظيفة الإخبارية.
2. التوجيه وتكوين المواقف والاتجاهات.
3. زيادة الثقافة والمعلومات.
4. تنمية العلاقات الإنسانية وزيادة
التماسك الاجتماعي.
5. الترفيه والدعاية والإعلان.
لكن، التوظيف السياسي للوسائل الإعلامية
في الآونة الأخيرة بصورة أبعدها عن الواقعية، وطبعها بشكل فاضح ومكشوف بالانحياز
وأفقدها الحيادية، وأدى إلى تراجع دورها ووظيفتها الأساسية، جعل سمة العزوف عنها
وعن قراءتها أو مشاهدتها الصفة الغالبة على معظم جمهورها ومتابعيها، وبالتالي قد
تنقطع (الوسيلة) التي تتوسط بين المواطن والكيانات السياسية وهو الاتجاه الأكثر
ترشيحًا في توصيف الواقع الإعلامي الحالي، ما قد يعيدنا إلى حلقة الإعلام المركزي
بشكل يفقد العملية الديمقراطية السلسلة الأهم التي تمد جسور التواصل المتينة والاهتمام
المتزايد والجذاب وآليات وبوصلة التغيير التي يقودها المواطن في مرحلة الانتخابات
عبر صناديق الاقتراع أو ينشدها من خلال الانعكاسات التي تترجم مطالبه وتطلعاته في
المراحل الأخرى، أو حتى الرقابة التي قد تشكلها الوسائل الإعلامية ذاتها عبر
تغطيتها المباشرة وغير المباشرة، والتي تغني مجاله وتخرجه من دائرة المركزي الموحد
إلى الثري المتنوع.
إن غياب المعارضة البرلمانية الجادة وانكفاء وضعف القوى السياسية غير المشاركة في البرلمان وعزوف الوسائل الإعلامية الموجودة عن تغطية نشاطاتها وفاعلياتها، قد يكون السبب الحقيقي وراء تردي الأداء الإعلامي في تغطية الأحداث ومعاناة المواطن بموضوعية، وانحيازه الواضح لتجميل صورة الأوضاع والقفز فوق الحقائق والتغاضي عن تلك المعاناة في مجال غياب الخدمات وتعثرها، وملفات الفساد وأخطاء الوزارات وتقصيرها الواضح في أداء مهامها، أو اتجاه وسائل إعلامية أخرى إلى خلق المبررات غير الموضوعية وتناول القضايا بصورة بعيدة عن العلمية والخلق والمهنية في التعاطي مع القضايا السياسية والعامة ما يخفي وراءه معاداة حقيقية للعملية السياسية وللمصلحة الوطنية العليا، وبالتالي سقوط هذه الوسائل أمام جمهورها وابتعادها عن أهدافها في مقابل بقاء وسيادة اتجاه إعلامي، يجامل السياسة الرسمية ويتقرب إليها ويتجنب مقاطعتها بحثاً عن المزايا والمغريات، ووسط احتكار واضح لا تخطاه عين المتتبع أو المتلقي على حد سواء.