المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

صعود وسقوط المشروع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين (1-2)

الأربعاء 28/مايو/2014 - 11:47 ص
المركز العربي للبحوث والدراسات
أحمد بان

لم تحظ جماعة من جماعات الإسلام السياسي في مصر أو العالم بما حظيت به جماعة "الإخوان المسلمين" من اهتمام، خصوصًا بعد نجاحها في الوصول للحكم في أهم بلد عربي في الشرق، مصر كنانة اللـه في أرضه، تلكم الجماعة التي خاضت مشوارًا طويلًا في رحلة الوصول إلى هذا الغاية التي لم تصمد لاختباراتها وتحدياتها لأكثر من عام واحد، فما المنطلقات الفكرية لهذا المشروع السياسي ووسائله في بلوغ أهدافه؟ ومتى وكيف كانت لحظة الصعود ومتى وكيف حدث السقوط ؟ هذا ما تحاول تلك الورقة الإجابة عنه.

امتلك حسن البنا نفوس أتباعه وقذف في قلوبهم أنهم مبعوثو العناية الإلهية وأنهم من يجسدون حقيقة الدين

أولا: النشأة .. الأفكار والمنطلقات

تنطلق الرؤية الفكرية لتيار الإسلام السياسي، من أن أمتنا واجهت في أعقاب الغزوة الاستعمارية مع مطلع القرن العشرين، صراعًا بين تيارين تجاذبا حركتها واجتهدا في استقطابها "الأول تيار التغريب الذى أراد به الاستعمار ومن انبهروا بالحضارة الغربية القضاء على التواصل الحضاري للأمة، وفك الارتباط بين حاضرها ومستقبلها، وبين القسمات الحضارية العربية الإسلامية، التي ميّزت حضارتها عبر التاريخ، ومن ثم تحويلها إلى تابع وهامش لحضارة الغرب، لا يهدف أن نتحضر حقيقة بالحضارة الغربية ونستفيد بإيجابياتها وهى كثيرة، وإنما لتتأبّد تبعيتنا له في الفكر والقيم ونمط العيش وأسلوب الحياة، لقد أراد هذا التيار التغريبي لأمتنا أن تستقل لكن عن عروبتها وإسلامها، وذلك ضمانا لتبعيتها الأبدية لعدوها التاريخي الحضاري الغرب الاستعماري؟

أما التيار الثاني الذي جاهد لاستقطاب الأمة، فهو تيار الجمود، ذلك الذي تحصن أعلامه وتحصنت فكريته بالمؤسسات التعليمية الموروثة، والذي أثقلت كواهل مقولاته وتصوراته بالركاكة والخرافة والنصوصية الجامدة، التي ميزت عصور تراجعنا عن الإبداع وانحطاطنا الحضاري في ظل تسلط المماليك وسلطان آل عثمان أمام هذا الاستقطاب الحاد بين تياري الوافد الضار والتخلف الموروث، برز طوق النجاة للأمة في  صورة مدرسة التجديد، التي جسدت من خلال ثلاثة رجال، عقدت لهم أعمالهم الفكرية وجهودهم العملية لواء القيادة لمسيرة النهضة والبعث والإحياء، التي بدأتها شعوب الشرق في القرن التاسع عشر فكانوا نقطة البدء الحقيقية والعملاقة، في ظل  حكم المماليك والأتراك العثمانيين، هم رفاعة رافع الطهطاوي، وجمال الدين الأفغاني، والأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده(1).

ويرى الدكتور محمد عمارة، أن تأسيس جماعة الإخوان المسلمين كان بمثابة المنعطف الجديد في مسيرة الإحياء والتجديد الإسلامي، الذي بدأ بالأفغاني ومحمد عبده ثم رشيد رضا، وأمام تصاعد التحديات وعموم البلوى، جاءت اللحظة التاريخية التي استدعت إشراك الأمة، وليس فقط الصفوة في هذا الصراع الحضاري، الذي أخذ يهدد هوية الأمة بالمسخ والنسخ والتشويه، وعند هذه اللحظة التاريخية التي أثمرت قيام جماعة الإخوان المسلمين، تجاوزت الدعوة إطار الصفوة والنخبة والعلماء والقادة، إلى حيث استدعت الصفوة والأمة من خلال التنظيمات الإسلامية الجماهيرية، لتبنِّي الدعوة إلى الإسلام منهاجا شاملا لكل ميادين النهضة والتقدم والتجديد والتغيير(2)

هكذا يرى د عمارة، أن إنشاء جماعة الإخوان المسلمين، كان التحول التاريخي الذي استدعى إشراك الجماهير في الصراع الحضاري الضاري بين الإسلام والتغريب، وهو لا يضع جماعة الإخوان في معسكر الجمود، الذي أكدت الانحياز له بالكلمة والسلوك، بل جعلها الامتداد الطبيعي لمسيرة التجديد التي جسدها من وجهة نظره الطهطاوي والأفغاني وعبده، على ما بينهما من فروق في التصور والتفكير والتدبير، إذن الجماعة وفقا لرأيه، كانت استجابة جماهيرية لهذا الصراع، الذي يبدو أنه صراع إلى يوم القيامة تستدعي مقولاته في كل معركة واجهتها الجماعة عبر تاريخها، إذن أول المنطلقات الفكرية لجماعة الإخوان، أنها هي من يقود معركة الإسلام الخالدة ضد معسكر الكفر والإلحاد، يقول حسن البنا للإخوان " أحب أن تتبينوا جيدا من أنتم في أهل هذا العصر؟ وما دعوتكم بين الدعوات وأية جماعة جماعتكم، ولأي معنى جمع اللـه بينكم ووحد قلوبكم ووجهتكم وأظهر فكرتكم، في هذا الوقت العصيب الذي تتلهف فيه الدنيا إلى دعوة السلام والإنقاذ، فاذكروا جيدا أيها الإخوة أنكم الغرباء الذين يصلحون عند فساد الناس، وأنكم العقل الجديد الذي يريد اللـه أن يفرق به للإنسانية بين الحق والباطل، في وقت التبس عليها فيه الحق بالباطل، وأنكم دعاة الإسلام وحملة القرآن، وصلة الأرض بالسماء، وورثة محمد صلى اللـه عليه وسلم وخلفاء صحابته من بعده وبهذا فضلت دعوتكم الدعوات، وسمت غايتكم على الغايات واستندتم إلى ركن شديد، واستمسكتم بعروة وُثقَى لا انفصام لها، وأخذتم بنور مبين وقد التبست على الناس المسالك، فضلوا سواء السبيل (والله غالب على أمره )"(3).

الرجل إذن امتلك نفوس أتباعه وقذف في قلوبهم أنهم مبعوثو العناية الإلهية، وأنهم من يجسدون حقيقة الدين، وأنهم الأعرف بمراميه وأهدافه، شوفينية لا تخطئها العين، والرجل لا يخفي إعجابه بهتلر في إطار دراسته لما سماه تاريخ حركات النهضة والتغيير، حيث عدد تجارب النجاح من وجهة نظره وضرب المثل بالدولة العباسية، والدولة الأيوبية، بل والدولة السعودية حيث يقول "فمن كان يظن أن الملك عبد العزيز آل سعود، وقد نُفِيَت أسرته وشرد أهله وسلب ملكه، يسترد هذا الملك ببضعة وعشرين رجلًا، ومن كان يصدق أن ذلك العامل الألماني هتلر، يصل إلى ما وصل إليه من قوة النفوذ ونجاح الغاية"(4).

ويبدو أن روح هتلر وموسوليني التي مثلت خلفية نفسية لما يعتقده البنا أنه تجارب النجاح، انعكست على منطلقاته أيضًا إضافة إلى ما تقدم، فكان إحياء الخلافة هدفًا ومنطلقًا فكريًا للجماعة، تنطلق لدى الجماعة من تشكيل كيانات حركية في كل دولة من دول العالم، تسعى للوصول للحكم عبر سيناريوهات متدرجة وفقا لما حدده حسن البنا من أهداف لدعوته التي تبدأ بإعداد الفرد المسلم، الأسرة، المجتمع، الحكومة الإسلامية، الدولة الإسلامية الخلافة الإسلامية، ثم أستاذية العالم.

حدد حسن البنا شقين لمهمة الجماعة: الغاية القريبة وتشمل: (إصلاح الفرد، بناء الأسرة، إرشاد المجتمع). أما الغاية البعيدة وتشمل ( إصلاح الحكومة، إعادة الخلافة، تحقيق السيادة، الأستاذية

حدد البنا مراحل الدعوة بثلاث مراحل، التعريف ثم التكوين ثم التنفيذ

"في الذكرى العاشرة لتأسيس الجماعة، عقد المؤتمر الخامس يناير 1939، وكان عقده بمثابة إعلان بانتقال الجماعة إلى المرحلة الثانية نبعد إتمام مرحلة التعريف، وهي مرحلة التشكيل والاختيار، والإعداد للمرحلة الثالثة وهي مرحلة التنفيذ، وتم في هذا المؤتمر وضع الأسس التنظيمية للجماعة وإعلان دخولها في الحياة السياسية، وحدد المؤتمر الفكر الذي التزمت به الجماعة وعملت من خلال نشأتها، والذي كان أساس عملها للفترة اللاحقة وتركز في نقاط ثلاث هي:

1-    أن الإسلام نظام شامل متكامل بذاته، وهو السبيل النهائي للحياة بكافة نواحيها.

2-    الإسلام نابع من مصدرين أساسين هما القرآن وسنة الرسول عليه السلام وقائم عليهما.

3-    أن الإسلام قابل للتطبيق في كل زمان ومكان.

وعلى الرغم من أن البنا قد عبر عن حذره من هذه الخطوة من خلال تحذيره لمجموعة من أنصاره من الشباب المتحمس والمتعجل للنتائج، فإنه في تحذيره لهم كان لا يقل عنهم حماسة، ويتضح ذلك في قوله "في الوقت الذي يكون فيه منكم معشر الإخوان المسلمين ثلاثمائة كتيبة، قد جهزت كل منها نفسها روحيًا بالإيمان والعقيدة، وفكريًا بالعلم والثقافة، وجسميا بالتدريب والرياضة، في هذا الوقت طالبوني أن أخوض بكم لجج البحار وأقتحم بكم عنان السماء، وأغزو بكم كل عنيد جبار فإني فاعل إن شاء اللـه"(5).

يبدو من خلال هذا النص، أن المسألة تتجاوز الحماس لتكشف عن إيمان حسن البنا بضرورة تأسيس جيش إسلامي، يعتبره أحد أهم أدوات تنفيذ مشروعه وقتال أعدائه وسنعود لظروف تأسيس هذا الجيش تحت مسمى النظام الخاص في فقرة قادمة، لكن ما يهمنا هنا أن أهداف الإخوان حددها حسن البنا منذ هذه اللحظة، وقسمها إلى أهداف عامة وأهداف خاصة. وقد تركزت الأهداف العامة التي اتضح منها منهج الجماعة السياسي في نقطتين هما:

1-    أن يتحرر الوطن الإسلامي من كل سلطان أجنبي.

2-    أن تقوم في هذا الوطن الحر دولة إسلامية حرة تعمل بأحكام الإسلام، وتطبق نظامه. الاجتماعي وتعلن مبادئه القويمة وتبلغ دعوته الحكيمة للناس، وما لم تقم هذه الدولة  فإن المسلمين جميعا آثمون بين يدي اللـه(6)

وقد حدد حسن البنا شقين لمهمة الجماعة

الشق الأول للمهمة العبادة وفعل الخير، أو ما يطلق عليه الغاية القريبة وتشمل: (إصلاح الفرد، بناء الأسرة، إرشاد المجتمع).

 الشق الثاني للمهمة: الجهاد لإعزاز الشريعة، أو الغاية البعيدة وتشمل ( إصلاح الحكومة، إعادة الخلافة، تحقيق السيادة، الأستاذية)(7).

الوسائل التي اعتمدها حسن البنا في تحقيق الأهداف

اعتمد حسن البنا في تنفيذ مراحل خطته على وسائل تتغير بحسب المرحلة، ففي مرحلة التعريف والدعاية لفكرته حرص على وسيلة الوعظ والإرشاد في المساجد والنوادي والمقاهي، التي أفرد لها اهتمامًا خاصًا، ربما لأن جمهورها يتسم بالعاطفة الحارة ويسهل استلابه وتوجيهه تحت وطأة الحماسة، كذلك أقام المنشآت النافعة كالمدارس والملاجئ، وحرص على ضبط اللوائح والإداريات في هذه المرحلة، أما في مرحلة الإعداد والتكوين، فقد حرص على تخير الأنصار المناسبين للمهمة وتعبئتهم، وفي هذه المرحلة بدأت تظهر نزعته العسكرية حيث أسس ما يسمى الكتائب، وهي فرق من أربعين عضوًا يربط بينها رباط خاص، ويتم إعدادها على نحو خاص ولها كتب رسالة التعاليم، كما دشن فرق الكشافة والجوالة والألعاب الرياضية تحت هدفين، معلن وخفي، أما المعلن فهو تقوية الصحة العامة للأعضاء، والخفي ستار للتدريب العسكري الذي صادف تشكيل النظام الخاص، الذي تتضارب الروايات حول تاريخ نشأته، وهو ما يعود بنا إلى ما سماه حسن البنا "أهداف خاصة" لا يصير المجتمع إسلاميًا إلا بها "أما الوسائل  الخاصة، وهي ما أطلق عليها الشيخ الوسائل الإضافية، والتي كان لا بد من الأخذ بها وسلوك سبيلها، فمنها السلبي ومنها الإيجابي، ومنها ما يتفق مع عرف الناس ومنها ما يخرج على هذا العرف ويخالفه ويناقضه ومنها ما فيه لين، ومنها ما فيه شدة، ولا بد أن نروض أنفسنا على تحمل ذلك كله والإعداد لهذا كله، حتى نضمن النجاح، قد يطلب إلينا أن نخالف عادات ومألوفات، وأن نخرج على نظم وأوضاع ألفها الناس وتعارفوا عليها، وليست الدعوة في حقيقة أمرها إلا خروجا على المألوفات، وتغييرا للعادات والأوضاع، فهل أنتم مستعدون لذلك أيها الإخوان"(8)

كان هذا الحديث مقدمة لإنشاء النظام الخاص الذي أُنشئ في الغالب في العام 1940، بعد قرار سلوك المسار السياسي كذراع لحماية هذا المنحى الجديد في حركة الجماعة.

 

اعتمد حسن البنا في تنفيذ مراحل خطته على وسائل تتغير بحسب المرحلة، ففي مرحلة التعريف والدعاية لفكرته حرص على وسيلة الوعظ والإرشاد في المساجد والنوادي والمقاهي، التي أفرد لها اهتمامً

ثانيا: الخطأ الإستراتيجي الثاني في تاريخ الجماعة

كان سلوك مسار العمل السياسي وهو ما أعلنه البنا في رسالة المؤتمر الخامس، الخطأ الإستراتيجي الأول، حيث بدا أن الرجل  وجماعته يريدون امتطاء جوادين في وقت واحد، الدعوة والسياسة عبر صيغة ملتبسة لم تفارقهم، بين أدوار الدعوة وأدوار السياسة، بينما كان تأسيس النظام الخاص كأول ميليشيا عسكرية بتنظيم موازى للتنظيم الأكبر الذي أنشأه حسن البنا، الخطأ الإستراتيجي الثاني الذي كانت أولى نتائجه، خروج السلاح عن يد حسن البنا ليتحرك في الداخل ويوجه رصاصاته للمصريين وحتى أعضائه (قتل سيد فايز أحد قيادات النظام الخاص لخلاف على رئاسة الجهاز بطرد مفخخ) هذا على حد ما يذهب إليه البعض، بأن النظام خرج عن سيطرة حسن البنا، وانحرف عن أهدافه مما جعله يندم على تأسيسه ويقول  للشيخ محمد الغزالي لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لعدت بالإخوان إلى زمن المأثورات، ومن يذهب إلى أن ما جرى كان توزيعًا للأدوار، وأنه كان حريصًا على إبقاء العلاقة بين التنظيمين في قبضته فقط لخطورة الأعمال الموكلة للتنظيم الخاص، في كل الأحوال تسيَّدت مجموعة النظام الخاص قيادة المشهد حتى قبل قتل حسن البنا، وكانت هي من وجه بوصلة الجماعة عندما بدأت في تنفيذ عمليات غلبت منطقها في العنف مع الخصوم السياسيين، وليس غريبا أن تبدأ باستهداف قضاة عندما قتلت القاضي أحمد الخازندار، ثم رأس السلطة التنفيذية النقراشي الذي أقدموا على قتله على خلفية حل الجماعة، بعد اكتشاف أمر التنظيم الخاص، الذي ظل غير معروف حتى تم القبض على سيارة جيب للتنظيم، أثناء نقل ذخائر ومستندات وأسلحة للتنظيم وما كشف  عن خطط اغتيالات وتدمير منشآت وغيره من الأعمال التخريبية.

ظلت عقيدة العنف هي المسيطرة على عقل الجماعة منذ قتل البنا في 12 فبراير 1949، بما أكد صدام الحركة مع كل الأنظمة، بدء من العهد الملكي الذي نفذت فيه كل عمليات العنف المعروفة من قتل قضاة ورئيس وزراء وحكمدار العاصمة ومحاولة نسف محكمة الاستئناف وحرف المحلات العامة ودور السينما والمسرح، حتى قامت ثورة يوليو التي حاولت الجماعة من خلال بعض أعضائها ممارسة الوصاية عليها وقيادتها بفعل العقلية المتصلبة للنظام الخاص وأعضائه، التي سعت للصدام مع مجلس قيادة الثورة إلى حد تورط خلية في محاولة اغتيال جمال عبد الناصر في المنشية في العام 1954، الحادثة التي دشنت لصراع مفتوح بدأ في هذا العام، ووصل إلى الحكم بإعدام ستة من قيادات الجماعة وأودع الآلاف منهم السجون، حتى أكتشف تنظيم جديد في العام 1965 بقيادة سيد قطب، الذي أُعدم هو الآخر وأربعة من قيادات هذا التنظيم الذى سُمّي تاريخيًا بتنظيم 65، والذي مثل الامتداد الطبيعي لنفس العقلية المغلقة التي جسدتها مجموعة النظام الخاص مع تطور بدا جديدًا على المستوى الفكري، وهو التكفير والعنف الذي حاول الإخوان التملص منه وتحسين الصورة الذهنية التي علقت بهم عبر الخمسينيات والستينيات، عندما لاحت فرصة جديدة للظهور بعد الانحسار، الذي واجههم بفعل الضربات الموجعة التي وجهها لهم جمال عبد الناصر، الذي نجح في بناء شعبيته من خلال إنجازات اجتماعية وانحيازات واضحة، حفرت له مكانة في قلوب المصريين والعرب، بما عزز مكانة مصر، حاول الإخوان مع ولاية السادات، الذي أعطاهم قبلة الحياة، بإتاحة الفرصة لهم في الظهور من جديد أن يعيدوا التطبيع مع المجتمع المصري، فصدر تنظيم 65 الذي سُمي لدى بعض المعتدلين في الجماعة بتنظيم العشرات نسبة لمدة العقوبة التي قضوها في السجون عشر سنوات في 1965 صدروا بعض الوجوه المقبولة كالتلمساني ومحمد فريد عبد الخالق والشيخ الغزالي، بينما انشغلوا هم باستعادة التنظيم الحديدي، الذي كان يدين فكريًا لسيد قطب الذي مثلت أفكاره التطور الجديد في أفكار الإخوان، وسيطرت هذه المجموعات على لجان التربية في الجماعة، وأعدت مشروع التمكين الذي اعتمد تقسيم جسد الجماعة إلى جزأين؛ الأول سري يؤمن بالعنف ويعتقده وسيلة للتغيير، ويتغذى على أفكار سيد قطب في العزلة الشعورية والانفصال عن المجتمع الكافر والجاهلي، والآخر مدني يجسده التلمساني ورفاقه، تمامًا كما عبر المستشار الدمرداش العقالي أحد أعضاء النظام الخاص بقوله: كان هناك دومًا في الجماعة رجال الورشة، ورجال المعرض، الورشة هي النظام الخاص، والمعرض هو هذا الكيان السياسي الذي ينشط في الجامعات والنقابات والبرلمان ثم الحكم بعد ذلك، لكن الورشة في كل الأحوال هي من يحكم في النهاية.

في مرحلة الإعداد والتكوين حرص البنا على تخير الأنصار المناسبين للمهمة وتعبئتهم، وفي هذه المرحلة بدأت تظهر نزعته العسكرية حيث أسس ما يسمى الكتائب، وهى فرق من أربعين عضوًا يربط بينها

ظل هناك اعتقاد سائد لدى بعض المراقبين والباحثين، أن الجماعة طلقت العنف منذ العام 1966 عندما اكتشف تنظيم 1965 وأعدمت قياداته، وأدركت الجماعة أن مسار العنف مع الدولة مغلق، لكن الجماعة كان لها تدبير خاص، حيث نشط التنظيم السري من جديد تحت عناوين جديدة لا علاقة لها بالجماعة تدعي غياب الصلة بها فظهرت جماعة التكفير والهجرة، الذي أعلنت الجماعة أنها لا صلة لها بها وأصدرت كتاب "دعاة لا قضاة" في تأكيد على ابتعادها عن التكفير والعنف، كما أنها ادعت أنه لا صلة لها بمتهمي حادث الفنية العسكرية صالح سرية ورفاقه، ورغم ما قيل على لسان طلال الأنصاري، أحد المتهمين في هذه القضية وغيره عن وجود صلة بالجماعة، فلم يؤكد تلك الصلة لديّ سوى نص في كتاب لمراقب الإخوان في سوريا منير الغضبان، الذي يقول في معرض ذكر ما واجهته حركة الإخوان من الأنظمة بدءًا من العهد الملكي حتى عهد السادات "ولهذا نرى المحاولات اليائسة التي يقوم بها أعداء الإسلام، لإنهاء الحركة الإسلامية عن طريق قتل قياداتها إعدامًا أو اغتيالًا. وبعد أن يعدد ما فعله فاروق وناصر يقول وجاء خلفه يدعي الديمقراطية وإعادة الحرية (يقصد السادات) وعامل كل زعماء المعارضة بالسجن عنده، حين رأى خطرهم، أما المعارضة الإسلامية فلم يكن من حل لها عنده، إلا الإعدام، وقد أقدم على مجزرتين في عهده (تأمل وصف مجزرتين):

الأولى: إعدام خمسة ممن اتهموا بحادثة الكلية الفنية.

الثانية: إعدام مجموعة شكري مصطفى وإخوانه ولم يشهد عهد الحكام المتعاقبين إعداما إلا لقادة الاتجاه الإسلامي(9).

يكشف النص السابق أننا أمام جسد واحد تتعدد أعضاؤه، وهو ما حافظت عليه جماعة الإخوان منذ بداية عهد السادات وحتى قيام ثورة 25 يناير، حيث حرصت على أن تخفي كل علاقة لها مع مجموعات العنف التي ظلت على صلة بها عبر بعض القيادات القطبية، سواء عبر محطة الجهاد الأفغاني أو الجهاد في البوسنة والهرسك أو غيرها من النقاط الساخنة في العالم التي شهدت وجود تلك المجموعات، لذلك لم يكن غريبًا أن يكون عام وجودهم في الحكم هادئًا من حيث وتيرة العمليات في سيناء، أو في داخل مصر وتنطلق فور خروجهم من الحكم كل موجات العنف التي ضربت مصر على غرار موجات الثمانينات والتسعينات بوتيرة أكثر كثافة.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟