في ضوء انتخاب رئيس جديد: مستقبل عملية التحول الديمقراطي
على الرغم من
أن مصر ما زالت في مرحلة مخاض صعب لعملية التحول الديمقراطي، فإن كل المؤشرات
تؤكد أن الشعب الذي خرج في ثورتين لن يسمح لأحد بأن يحيد مرة ثانية عن الشعارات
التي رفعتها كلتا الثورتين بغض النظر عن اسم أو شخص الرئيس الجديد.
وفي هذا الإطار
فإن عملية التحول الديمقراطي ترتبط إلى حد كبير بمجموعة من العوامل والمحددات،
التي تتعلق بالنقاط التالية:
1- الدستور الجديد ومدى الالتزام بما جاء فيه: تعتبر عملية وضع الدساتير في البلدان التي تمر بعملية تحول ديمقراطي عملية صعبة للغاية، وذلك نظرا لأن عملية "الانتقال الديمقراطي" عملية معقدة بطبيعتها، تتداخل في مساراتها ونتائجها عوامل عديدة، داخلية وخارجية، فقد تكون مصحوبة بمرحلة جديدة تتمثل في ترسيخ النظام الديمقراطي، وقد لا يترتب عليها قيام نظام ديمقراطي في مرحلة ما بعد الانتقال، وذلك في حال حدوث ردة أو انتكاسة تقود إلى نشوب صراع داخلي أو حرب أهلية أو ظهور نظام تسلطي جديد.
وخلال عامي 2012/2013، أي خلال العام
الذي تولى فيه الإخوان المسلمين السلطة في مصر. اعتبر الكثيرون أن الجماعة ضربت بالوعود
التي قطعتها على نفسها عرض الحائط، وعملت على الانفراد بعملية صنع القرار، وإصدار
قوانين وإعلانات دستورية جديدة مكبلة للحريات، وقمع المتظاهرين، وتهديد
الإعلاميين، وحصار القضاء معنويًا بالتهديد بقوانين تحد من سلطاتهم، وماديًا بحصار
المحكمة الدستورية. وبالمقابل تلك النظرة، اعتبر الإخوان أنهم لم يأخذوا الفرصة
الكاملة في الحكم، وأن القوى المناوئة لهم تعمّدت حصارهم وإفشالهم وشيطنتهم.
في هذا المناخ الاستقطابي وضعت السلطة
الحاكمة دستورًا عام 2012، أدعت أنه دستور توافقي، رغم أن اللجنة التي وضعته ظل
سيف بطلان القضاء لها مسلطًا على رقبتها كسابقتها، وعمليًا اتهمت الجمعية بوضع
دستور يتماشى مع رغبات الإخوان والسلفيين، ويتجاهل حقوق الطفل والمرأة وفئات
عديدة. مقابل هذا وضعت لجنة الخمسين دستورًا جديدًا حصل على نسبة مشاركة أكبر ووفق
عليه بنسبة أكبر، وقد عبر الدستور عن تجمع 3 يوليو 2013 الذي ضم جميع القوى التي
وقفت بالمرصاد لحكم الإخوان المسلمين، فيما اعتبر تصحيحًا لمسار ثورة 25 يناير
2011 التي سرقها الإخوان من وجهه نظر مناوئيهم، الذين وقفوا حائرين (ثم مقاومين)
هم وبعض الدول المجاورة من أعمال العنف والإرهاب التي ضربت ربوع مصر بعد خلع
الرئيس محمد مرسي.
2- النجاح في محاربة
الإرهاب والعنف: الذي يتم
ممارسته الآن على الأراضي المصرية، خاصة بعد تحالف جماعة الإخوان مع الجماعات
الأكثر تشددًا التي حملت السلاح من قبل. بالإضافة تحالف الجماعة مع القاعدة وخلق
تنظيمات إرهابية وهمية لإشغال الأجهزة الأمنية عن أعمال العنف والمظاهرات التي تتم
من الحين إلى الآخر للبحث عن الشرعية المفقودة في وسط القاهرة أو غيرها من المدن.
وما زاد الطين بلة، الإرهاب والعنف المتزايد فى بعض
الدول المجاورة، ليبيا والسودان على وجه التحديد. حيث أصبحت ليبيا ساحة مفتوحة لكل الجماعات
الإرهابية والجهادية في العالم، وهي تشترك مع مصر فى الحدود الغربية (وهي عبارة عن
خط حدود يمتد لمسافة 1049 كم ويمتد باستقامه كاملة جنوبا حتى نقطة الحدود الثلاثية
لمسافة 804 كم ويبدو متعرجا من واحة سيوة إلى الشمال لمسافة 290 كم، وهذا الحد يجمع
بين الحد الهندسي والحد الفلكي)، وهي تكبد الجيش المصري الآن تكلفة مرتفعة في
مراقبة هذه الحدود.
وبناء عليه، تحتاج الأوضاع فى ليبيا إلى
جهد كبير من الرئيس القادم والدولة المصرية للمساعدة في بناء نظام سياسي أكثر
استقرارًا وتدريب ورفع كفاءة الأجهزة الشرطية والأمنية. وفي حال نجاح الدولة
المصرية في محاربة الإرهاب ومساعدة ليبيا أعتقد بأن عملية التحول نحو الديمقراطية
سوف تكون لها الأولوية ليس فقط لدى المواطنين ولكن أيضًا لدى أجهزة الدولة
المختلفة.
3- المصالحة الوطنية: وهي
من أهم الملفات المطروحة على أجندة الرئيس الجديد. وحينما نقول المصالحة لا نعني
بأنها المصالحة السياسية مع جماعة الإخوان المسلمين فقط ولكن مصالحة الشعب مع ذاته،
وضبط السلوك المجتمعي الذي مال نحو العنف في التعامل الشخصية والسياسية، كنتيجة
طبيعية لحالة الاستقطاب السياسي التي شهدها المجتمع بعد الثورة، والتي تجسدت في
سلوكيات غريبة تمامًا على الشعب المصري، والذي قدم نموذجًا يحتذى به خلال الثمانية
عشر يومًا الأولى من عمر ثورة 25 يناير. وبناء عليه، فإن عودة السلوك الحضاري
الإنساني للمصريين من خلال استدعاء المخزون الحضاري الإستراتيجي هو إحدى الركائز
الأساسية لعملية التنمية وتنفيذ مشروع الرئيس الجديد.
وأعتقد بأن كل المرشحين ترك الباب
مفتوحًا أمام هذه المصالحة، ولكن بشروط تتعلق بوقف جماعة الإخوان العنف الذي
تمارسه، مع ضرورة الاعتذار للشعب المصري، وتقبّل الشعب أيضًا لفكرة المصالحة، وذلك
لأنه هو الذي عانى كثيرًا من عنف الجماعة.
4- التنمية والعدالة الاجتماعية، قامت ثورة 25 يناير من أجل المطالبة بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وربما تجسد تلك المطالب مجموعة من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي يجب تحقيقها من النظام السياسي في مرحلة ما بعد مبارك، والتي نطلق عليها مرحلة التحول الديمقراطي التي أعقبت ثورة 25 يناير وتحتاج إلى ما يُطلق عليه "العدالة الانتقالية" التي تتمثل في مجموعة من الآليات ومنها رفع دعاوى قضائية وإجراء محاكمات قانونية، وإنشاء لجان لجمع المعلومات وتقصي الحقائق حول مظاهر وعوامل انتهاكات حقوق الإنسان في مرحلة ما قبل الثورة، والإصلاح المؤسسي، وكذلك دفع التعويضات للمتضررين.
إن إغفال البعد التنموي، من خلال تجاهل
مظاهر انتهاكات حقوق الإنسان الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، داخل آليات
العدالة الانتقالية طرح مشكلات وتحديات أسهمت في إعادة النظر في العلاقة بين العدالة
الانتقالية والتنمية وتحديدًا العلاقة بين العدالة الانتقالية والجودة الاجتماعية
باعتبارها غاية تنموية، من خلال مكوناتها المختلفة التي تمثلت في الأمن الاجتماعي
والاقتصادي، والاندماج الاجتماعي، والتماسك الاجتماعي، والتمكين الاجتماعي. فإذا
كانت العدالة الانتقالية تسعى إلى النظر في الماضى للتعرف على إساءة حقوق الإنسان،
فإن التنمية تسعى إلى ذلك من خلال رؤية للمستقبل تهدف إلى بناء مجتمع الجودة.
5- إصلاح الجهاز البيروقراطي للدولة المصرية: إن الرئاسة الجديدة لن تكون فاعلة إلا إذا
كانت لديها الشجاعة لاتخاذ القرارات اللازمة لجعل الجهاز البيروقراطي للدولة إضافة
للجهد الوطني وليس خصمًا منه. أما القطاع العام وهو لا يزال الأغلبية في الاقتصاد القومي،
فإنه يشمل ما لا يحسب عادة مثل المرافق الحيوية كافة من موانئ ومطارات وطرق وسكك حديدية
وشركات مواصلات واتصالات برية وجوية وقصور ثقافة. هذه كلها ثروة هائلة ولكنها عاجزة
عن النمو، وبالتالي لا بد من إدخال تحسينات إدارية قوية على هذه المؤسسات حتى تكون
أكثر قدرة على المنافسة المحلية والعالمية.
6- علاقات خارجية متوازنة: إن بداية
الجمهورية الثالثة تستلزم الحرص في التعامل مع العالم الخارجي، فكما نحشد الموارد الداخلية،
فإن حشد الموارد الخارجية ضروري ولازم. وبناء عليه فإن الرئيس الجديد عليه ألا يستبعد
أحدًا من دوائر السياسة الخارجية، وإحداث نوع من الاشتباك الدائم الذي يتيح له تعريف
الأصدقاء والحلفاء والمنافسين والأعداء. وذلك لأن حجم التدخلات والتفاعلات الدولية
والإقليمية على الساحة المصرية أصبح لافتًا للنظر، في الوقت الذي قامت فيه الثورة
المصرية من أجل استقلال القرار الوطني، كما كان الدور الخارجي معطلاً لعملية
التنمية والإصلاح في بعض فترات السابقة (تجربة محمد علي وعبد الناصر على سبيل
المثال).
كما أن حجم التحديات الخارجية،
والمتعلقة بالأمن القومي المصري، كبيرة للغاية وبحاجة إلى سياسات خارجية بديلة عن
تلك القائمة الآن، وبالتأكيد فإن هذه السياسات سوف تحتاج إلى تكلفة مادية باهظة في
ظل محاولات مصر للقيام بدور أكثر فاعلية فى أفريقيا والدول العربية، وفي ظل تناطح بعض
الدول الأفريقية للدور المصري المتوقع في القارة السمراء. وهو ما يتطلب من الرئيس
الجديد البحث عن مصادر خلاقة للقيام ببعض المشروعات التنموية في بعض دول القارة، أو
مساهمة بعض الشركات المصرية في المساعدة إقامة بنية أساسية لبعض دول حوض النيل.
7- مستقبل جماعة الإخوان
المسلمين: هناك
مجموعة من العوامل يتوقف عليها مستقبل جماعة الإخوان خلال المرحلة المقبلة، من بين
هذه العوامل: أولا، نبذ العنف والاعتراف بالشرعية النظام السياسي الجديد المنتخب.
ثانيا، الفصل بين السياسي والدعوى من جانب وقوة التماسك داخل التنظيمي للجماعة من
جانب آخر. خاصة وأن البنية التنظيمية المركبة والمغلقة للجماعة والتي تقوم على
أساس الولاء والثقة المطلقة في القيادة، وهو ما اعتبره الراحل سيد قطب "مظهر
العبقرية الضخمة في بناء الجماعات"، ويجعل نظام الجماعة عقيدة تعمل في داخل
النفس قبل أن تكون تعليمات وأوامر ونظمًا. ثالثا، شباب الجماعة والدمج المشروط في
المجتمع، أزمة الجماعة مركبة ومزدوجة، فالتفكك ليس قاصرًا على قمة الهرم التنظيمي
للجماعة، ولكن بدأت بوادر الانشقاق تتسرب إلى القاع، خاصة مع اتساع الهوة بين شباب
الجماعة وقياداتها. فلا شك في أنه بداخل شباب الإخوان تيار شبابي جديد يرفض التقيد
بمواقف الجماعة ويريد مساحة من الحرية، ويرغب في دور قوي في اتخاذ القرار، خاصة
بعد فشل القيادات الكبرى في إدارة الجماعة خلال فترة ما قبل وبعد الثورة، وقيام مجموعة
من شباب الجماعة بالانشقاق عليها وتأسيس حزب سياسي جديد، ينبذ العنف ويعبر عن
أفكارها السلمية. رابعا، القدرة على تجديد الخطاب الديني من قبل مؤسسات
الدولة الرسمية، لمواجهة الأفكار المتشددة التي ذرعتها الجماعة والتيارات المتحالف
معها، خاصة أن الجميع يعلم بأن البعد الفكري والثقافي بات ضروريًا وملحًا لمواجهة
ليس الإخوان فقط، ولكن كل التيارات الإسلامية الراديكالية والمتشددة، التي ظهرت
على السطح في أعقاب ثورات الربيع العربي في كل من مصر وليبيا وسوريا وتونس واليمن.
وبناء على
المحددات، سالفة الذكر، هناك ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبل الجماعة، تقع جميعها
على خط مستقيم واحد، ولكنها على طرفي نقيض. وقد يستغرق تحقيق أي من هذه
السيناريوهات وقتًا لا يعلم أحد سوى اللـه عز وجل.
السيناريو الأول:
الصدام والمواجهة، وهو من شأنه
استمرار هيمنة التيار المحافظ على التنظيم على حساب أية أصوات إصلاحية، وربما
تتعرض الجماعة لبعض الانقسامات الداخلية. وهنا سوف تظل الجماعة ضمن الحالة
"الأربكانية" التي تعتمد على الأيديولوجيا والتعبئة والحشد الجماهيري.
ويمكن القول: إن تحقيق هذا السيناريو صعب للغاية لأن الشعب المصري سيقف بكل
قوة بجانب قواته المسلحة والأجهزة الشرطية لإحباط هذا السيناريو، ولن يتركوا إلى
هذه الجماعة فرصة مرة ثانية للعبث بأمن الوطن والمواطن، خاصة أنهم تعلموا الدرس
جيدًا من ثورة 25 يناير ودفعوا فاتورة كبيرة.
السيناريو الثاني:
الدمج المشروط للجماعة، بحيث يتم حل الجماعة والإبقاء على حزب
"الحرية والعدالة" باعتباره ممثلا سياسيًّا للإخوان، وهو ما قد يدفع
بظهور وجوه وشخصيات أقل محافظية وأكثر براجماتية وإصلاحية من الجيل الحالي. ويتطلب
من الجماعة القدرة على التعاطي بواقعية مع مرحلة ما بعد خسارة السلطة وقبولها
الدمج المشروط، وأن ذلك يعني أولا اعتراف الجماعة بأخطائها الإستراتيجية والتي
ارتكبتها خلال الفترة الماضية. ثانيا، أن تعيد الجماعة النظر في خطابها
الأيديولوجي والسياسي. حيث تمثلت إحدى مشاكل الجماعة طيلة العام الماضي، في نزوع
خطابها نحو المحافظة الدينية والثقافية، وذلك من أجل إرضاء قاعدتها الاجتماعية
والدينية، وكذلك الحصول على التأييد والدعم المطلق من التيارات السلفية
المختلفة.
السيناريو الثالث:
الهزيمة الكامل وحل الجماعة وتفكيك هياكلها التنظيمية بما فيها حزب الحرية
والعدالة، ويعنى هذا السيناريو أن تتلقى
الجماعة هزيمة كاملة تجعلها والعدم سواء، فيختفي تنظيم الجماعة وينقطع عنه امتداده
الإقليمي والدولي، ويدخل معظم قيادات الجماعة السجون، وتنتهي الجماعة فكريًا
وتنظيميًا إلى الأبد. وهذا السيناريو له تكلفة كبيرة على الجميع، لأنه يعنى تطبيق
ما عرف في نظريات العلوم السياسية "سياسات الأرض المحروقة"، وهي التي
تقوم على قاعدة أساسية مفادها بأن أطراف الصراع لا تخضع للمفاوضات والمساومات،
ولكن كل طرف يريد أن يكسب كل شيء أو يخسر كل شيء.
8- شكل
المعارضة في ظل وجود الرئيس الجديد: ففي ظل حالة
السيولة التي تمر بها مصر الآن، والتقلب والتغيير السريع، لا توجد معارضة حقيقية،
حيث تنقسم الأحزاب اليسارية والليبرالية وحتى ذات المرجعية الإسلامية على مناصرة
كلا المرشحين. وبالتأكيد فهذه هى طبيعة المراحل الانتقالية والتغير والإصلاح، لكن
يظل دور المعارضة لأى نظام سياسى في مصر يتوقف على عدة اعتبارات: الأول، شكل
البرلمان القادم، وعدد المقاعد التى ستحصل عليها الأحزاب السياسية، وهل سيستطيع
حزب واحد تحقيق الأغلبية، وبالتالي يشكل الحكومة الجديدة منفردًا، أم ستكون هناك
ضرورة حتمية لتحالفات بين بعض الأحزاب حتى تسطيع تشكيل الحكومة، وهل سيفوز
المستقلون بالأغلبية وبالتالي يشكلون فيما بينهما تحالفًا برلمانيًا.
ثانيا: مدى تقبل الرئيس للمعارضة ودورها
في الحياة السياسية خاصة إذ فاز عبد الفتاح السيسي، الذي أعلن بأنه لن يقوم بتشكيل
حزب سياسي، وأنه يستند إلى الجماهير، وهل سيظل هكذا مستندًا إلى الجماهير في حال
وجود معارضة قوية داخل البرلمان. ثالثا: وهل ستكون المعارضة السياسية من داخل
البرلمان أم من خارجه، وهل هي معارضة لسياسات الرئيس أم لسياسات حزب الأغلبية أو
تحالف الأغلبية.
وفي جميع الأحوال، تظل عملية التحول
الديمقراطي مرتبطة بحجم التفاعلات بين العوامل السابقة، بالإضافة إلى قدرة الشباب
على التواصل مع الرئيس الجديد أو معارضته في حال خروج عن الخط المستقيم الذي رسمته
الثورة المصرية في تحقيق وتطبيق شعار "عيش حرية عدالة اجتماعية".