الدولة والمجتمع: اتجاهات جديدة في التنمية
في العقدين الأخيرين من القرن العشرين ساد اعتقاد بأن الدولة مصدر الشرور؛ لأنها متجبِّرة سياسياً على مواطنيها، لا تقيم عدالة أو حكم قانون، فاسدة اقتصادياً، لا تقدم خدمات عامة كافية لمواطنيها. نموذج الدولة الفاسدة، المستبدة، العاجزة ظهر في المقام الأول في الدول النامية، التي بات العالم يستحي أن يصفها بالمتخلفة، ولم يعد هناك عالم ثان (بعد تفكك الكتلة الشرقية) حتى توصف هذه الدول بالعالم الثالث، وبالتالي استقر الحال على وصفها بالدول النامية، أو الآخذة في النمو. صدرت أدبيات كثيرة تهاجم الدولة، التي حاصرتها برامج الإصلاح الاقتصادي، والخصخصة اقتصادياً، ودعوات الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان، والحكم الرشيد سياسياً. ولكن لم تستمر هذه النظرة طويلاً، وعادت أدبيات التنمية تتحدث عن "فضائل" الدولة، واستمعنا إلى حديث في أروقة المؤسسات النقدية الكونية مثل البنك الدولي يطالب برد الاعتبار للدولة، بعد أن ظل لسنوات يتخذ سياسات تقليم أظافر الدولة، وتخفيض بيروقراطيتها، وخصخصة المشروعات العامة. الدعوة الآن إلى دولة قوية لا تستقيم بدون مجتمع قوي، ولم تعد في تجارب التنمية تلك النظرة الصفرية: "إما الدولة أو المجتمع"، بل صارت هناك أدبيات وخبرات تتحدث عن "الدولة والمجتمع".
أولا: رد
الاعتبار للدولة
الدولة هي الكيان السيادي الأكبر، تتكون من
جملة من المؤسسات العامة، ويدير شؤونها نظام سياسي. هناك من يرى أن العلاقة بين
الدولة والمجتمع "صفرية". تمدد الدولة يحرم المجتمع من بناء قيم الثقة
والتضامن والعمل المشترك، أي يعرقل بناء المجتمع المدني.
وعلى العكس، هناك باحثون آخرون مثل "ناجت" يرون أن وجود الدولة – وما
تطلقه من برامج ومشروعات، وما تؤسسه من مؤسسات يمكن أن تقوِّي وتزيد من فعالية
المنظمات المحلية التي تسهم في إثراء الروابط الاجتماعية بين الأفراد علي أساس من
العمل الجماعي والتضامن.
اقترب من هذا الجدل "بيتر إيفان"، وهو أحد أهم الباحثين الذين تصدوا لقضية تعزيز دور الدولة في المجتمع، والبحث عن عوامل تعزز الشراكة بين الحكومة والمجتمع المدني في مجال التنمية. ويذهب "إيفان" إلى أن هناك من كان يروِّج لاستبعاد أي دور للدولة انطلاقًا من الإيمان المطلق بسحر السوق في تحقيق التنمية، ذلك الخطاب الذي راج منذ السبعينيات في حقل التنمية. ولكن هناك اثنين من التحولات الكبري أفقدت هذا الخطاب بريقه؛ الأول: كثرة الأصوات التي صدرت من قلب الدول الصناعية الرأسمالية، وليست الدول النامية الفقيرة، التي تنتقد غياب العلاقات الاجتماعية الراسخة في هذه المجتمعات، وشيوع مظاهر الثقافة الاستهلاكية الترفيهية، ثم لاحقاً الأزمات المالية. أما التحول الثاني فهو: النجاح الذي حققته تجارب التنمية في جنوب شرق آسيا، والتي شهدت دوراً متنامياً للدولة، واستطاعت دول مثل تايوان وكوريا الجنوبية أن تحقق معدلات تنمية مرتفعة. وبالتالي لم يعد مقبولاً أن تستمر النظرة السلبية تجاه دور الدولة في المجتمع باعتبارها خِصماً مباشراً للأفراد والمجتمعات المحلية .
وقدم باحثون آخرون شواهد أخرى على أهمية دور
الدولة؛ فقد ذهب "تونج فو" إلى أن الاعتقاد الذي ساد في العقدين الأخيرين
للألفية الثانية من تراجع دور الدولة لم يعد له ما يعززه أو يسنده. فقد هيمنت على
كتابات الباحثين المبشرين بالعولمة فرضية أساسية عقب انتهاء الحرب الباردة، وانهيار
الاتحاد السوفيتي، واجتياح موجات التغيير الديمقراطي والتحول صوب اقتصاديات السوق
في أوروبا الشرقية -مفادها أن سيادة الدولة إلى زوال، ودورها إلى تراجع، خاصة مع
تصاعد دور الكيانات الكونية الكبري مثل صندوق النقد والبنك الدوليين، وبروز دور
الشركات العالمية متخطية الحواجز الثقافية والحدود الجغرافية مثل
"مكدونالدز"، "محطة سي إن إن الإخبارية"،
و"ميكروسوفت" في مجال الحاسب الآلي. ولكن لم تكد تمر سوى سنوات قليلة
حتي عاد التفكير بقوة في دور الدولة في أعتى الدول الصناعية الرأسمالية نتيجة تكرر
الأزمات الاقتصادية والمالية، حيث تدخلت الدولة لتنظيم حركة السوق. وتلعب
البيروقراطية الحكومية دوراً أساسياً في حماية المجتمعات الصناعية من مغبة الأزمات
الاقتصادية. من هنا، فإن مفهوم "دولة التنمية" Development State يعود إلى دائرة الاهتمام مرة أخرى، ليس
بالمعني الاشتراكي السابق، ولكن وفق مفهوم جديد يقوم علي محورية دور الدولة في
المجتمع، ليس بالمعني القمعي، ولكن وفق آليات ديمقراطية تقوم علي المشاركة
والمساءلة والشفافية واحترام حقوق الإنسان، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى تطوير نوعية
الحياة التي يعيشها الأفراد.
ويطرح الحديث عن دور مؤسسات الدولة في التنمية
قضية أساسية هي عدم وجود اتفاق حول "القدر" الذي يمكن أن يكون تدخل
الدولة فيه مفيداً.
هنا يصبح طرح سؤال الديمقراطية أساسياً، حيث
يظل دور الدولة حاضراً في تطوير بيئة ديمقراطية. في هذا الخصوص لاحظ كثير من
الباحثين أن الحكومات التسلطية تقوِّض دعائم المجتمع من خلال فرض قيود على حق
المواطنين في التنظيم، وبث ثقافة الارتياب والشك بين القوي السياسية والتيارات
الثقافية والفكرية في المجتمع، وأحياناً بين المواطنين أنفسهم، وأخيراً تعبئة قطاع
عريض موال لها من قوي المجتمع المدني، سواء كانت أحزاب أو نقابات أو منظمات غير
حكومية، على نحو يضمن هيمنتها، ويسهل توظيفه في مواجهة تنظيمات المجتمع المدني المستقلة.
الملفت أنه في سياق البحث في هذه المسألة، خاصة في الدول النامية، عادة ما تلعب الدولة دوراً سلبياً من خلال إعاقة بناء المجتمع المدني من خلال الركون إلي ترسانة من القوانين واللوائح التي تُكبِّل المبادرة الحرة الشخصية للأفراد. هذه حالة كثير من الدول النامية، وهو أمر يتصل بطبيعة تدخل الدولة غير القانوني في شئون المجتمع، أكثر ما يتصل بحجم تغلغلها القانوني الفعلي لتنظيم العلاقات داخل المجتمع كما هو الحال في الدول المتقدمة. مثال على ذلك، هناك مجتمعات- كما هو الحال في الدول الإسكندنافية- تلعب فيها الدولة دوراً رئيساً في مساعدة التنظيمات التطوعية علي العمل جنباً إلي جنب مع الحكومة في توفير "الرعاية الاجتماعية".
يُعد ذلك تأكيداً على أن الحكومات
"الكبيرة" ليست سيئة في ذاتها مثلما يذهب البعض، ولكن يتوقف الأمر علي
مدى التزامها بمبادئ الحكم الرشيد مثل المساءلة، والمسئولية، وحكم القانون،
والشفافية، وحسب تقرير البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة عام 2002م،
فإن الدول الاسكندنافية هي الأقل فساداً، والأكثر اهتماماً وصوناً لحقوق الإنسان،
وتبدي احتراماً وتوقيراً لحكم القانون، مما جعلها مصدراً أساسياً لرفع معدلات ثقة
المواطنين في الدولة.
مما يلفت النظر أن بعض المفكرين الذين كانوا
يضمرون شكوكاً تجاه الدولة، ويُحمِّلونها مسئولية الاخفاق السياسي والاقتصادي،
عادوا يتحدثون بإيجابية عن الدولة، ويعددون فوائدها. في هذا الخصوص يرى "فرنسيس
فوكوياما" أن هناك ضرورة أساسية في القرن الحادي والعشرين تتمثل في إعادة
بناء الدولة، لأن فشل أو ضعف الدولة أدى إلى تفاقم مشكلات إنسانية كبري من الفقر
إلي انتشار مرض الإيدز وأخيراً تفشي الإرهاب. وفي رأيه أن إعادة بناء الدولة
أولوية كبري يتعين أن تتصدر الأدبيات السياسية بدلاً من الترويج للأفكار الداعية
إلي تقزيم دورها. وإذا كانت هناك كوابح تعوق عملية إعادة بناء الدولة مثل الموارد
المالية، إلا أن ذلك لا يجب أن يصرفنا عن مشكلات بنيوية أساسية في الدول النامية
يتعين الالتفات إليها مثل نقص الابتكار في صنع السياسات العامة، وعدم توفر القدرات
البشرية القادرة علي التطبيق الكفء لهذه السياسات. وهناك أربعة مجالات أساسية
لبناء الدولة هي؛ البناء التنظيمي، الشرعية السياسية، الحكم الرشيد، وأخيراً ما
سماه "فوكوياما" العوامل الثقافية والهيكلية.
في هذا السياق يأتي الحديث عن أهمية دور الدولة في التنمية، حيث يرى أن إعادة بناء اليابان بعد الحرب العالمية الثانية لم يأت فقط نتيجة الكفاءة المؤسسية من خلال الأخذ بقواعد تقنية أو فنية فقط، ولكن أيضاً نتيجة الثقافة الناهضة التي قامت النخب السياسية والإدارية التي تولت مقاليد الأمور ببثها في المؤسسات العامة. ومن ناحية ثانية، فإن مؤسسات الدولة الكفء تسهم في الوقت نفسه في إثراء قيم رأس المال الاجتماعي، والدليل علي ذلك أن إخضاع المؤسسات العامة للمساءلة، والحرص علي الشفافية في العمل العام يساعد علي نشر قيم إيجابية في كافة مؤسسات المجتمع، الحكومية وغير الحكومية.
من
الأمثلة علي المؤسسات المدنية: الأحزاب السياسية (ينضم إليها الفرد بناء علي
الموقف السياسي)، والجمعيات الأهلية (ينخرط في عضويتها الأعضاء تعبيراً عن التزام
اجتماعي)، والنقابات المهنية والعمالية (ينتمي إليها الأفراد شعوراً بالتضامن
المهني، وبحثاً عن كرامة أفضل للمهنة، والمشتغلين بها)، والأندية (يلتحق بها
الأفراد لممارسة نشاط مشترك)، وهكذا.
ينضم
الأفراد، وهم من خلفيات أسرية ودينية وعائلية مختلفة، إلى المؤسسات المدنية، ولكن
يجمعهم جميعاً هدف واحد هو العمل معاً من أجل تحقيق أهداف مشترك. هنا ينشأ الحوار،
ويحدث الاختلاف، ويصبح سمة من سمات المجتمع.
ويُعَد "إليكس دي توكفيل" أحد الذين روجوا للمنظمات المدنية باعتبارها "مدارس لتعليم الثقافة الديمقراطية"، حيث يتعلم الشخص في أروقتها النقاش الحر، والتفكير النقدي، والتداول السلمي للسلطة، وهكذا. هذه النظرية سيطرت علي عقول المبشِرين بالمجتمع المدني مثل روبرت بوتنام وفرنسيس فوكوياما، باعتبار أن وجود هذه المؤسسات المدنية، ورفع أية قيود قانونية أو سياسية علي حركتها كفيل بأن يجعل منها واحة للممارسة الديمقراطية، وهو ما يٌعد ضرورة لاستكمال التحول الديمقراطي الشامل.
وتتصف المؤسسات
المدنية بعدد من السمات أهمها:
1- شبكات
أمان اجتماعي حقيقية Safety Networks علي أساس من الثقة والاحترام المتبادل
والاعتماد المتبادل، وهو ما يؤدي إلي تعظيم قدرة المنظمات غير الحكومية علي الوفاء
بالمهام التنموية الملقاة علي عاتقها ولاسيما في المجتمعات النامية التي يتزايد
فيها انسحاب الدولة عن مجالات كثيرة- خدمية وإنتاجية- اعتادت الوفاء بها على مدى
عدة عقود. في حالات كثيرة لم تعد الحكومة تستطيع أن تقدم خدمات صحية وتعليمية
وتثقيفية علي النحو الذي كانت تقدمه في الماضي، وبالتالي لم يعد أمام المواطن رقيق
الحال سوي اللجوء إلي هذه التكوينات الاجتماعية التي تمثل شبكة أمان له، يلجأ
إليها في حالات الضرورة.
2- تكوينات اجتماعية علي أساس من الثقة والاعتماد
والاحترام المتبادل بين الأفراد المشاركين
يساعد علي إنجاز العمل بكفاءة ويقلل إلي حد بعيد مما يعرف باسم Transaction Cost وهي تمثل تكاليف الاتصال
والإدارة التي تمثل عبئاً- اقتصادياً وتنظيمياً- علي العمل في حالة فقدان الثقة
وسعي كل طرف إلي توفير الأمان الشخصي علي حساب العمل. فمثلاً إذا سادت الثقة
العلاقات بين العاملين، فإن ذلك سوف ينعكس حتما علي مناخ العمل، وهو ما يقلل من
أعباء الاتصال، والتكاليف العديدة التي تترتب علي سعي كل طرف لتأمين حقوقه تجاه
الطرف الآخر. فمن الملاحظات المهمة التي أوردها جيمس كولمن- عالم الاجتماع
الأمريكي الشهير- أن التجار في حي خان الخليلي في قلب القاهرة يستندون إلى الثقة
في معاملاتهم، حيث يعتمدون فقط علي "وعد الكلمة"، سواء في الشراء
والتسويق للمنتجات التي يحصلون عليها في
علاقاتهم بعضهم بعضاً، وهو ما يجعل الاتصال بينهم يسير في تدفق وانسيابية لا
تعترضه أية أعباء في الاتصال.
1- بيئة
مجتمعية بصفة عامة وبيئة تنظيمية بصفة خاصة أكثر ملاءمةً لإنجاز العمل بكفاءة
وفاعلية. بالتأكيد، فإن ارتباط العاملين -في أي عمل- بعضهم بعضاً بعلاقات على أساس
من الثقة والاحترام المتبادل، والحوار الداخلي النشط، يساعد على الإنجاز أكثر من
حالة أخري يكون العاملون فيها في مناخ يغلب عليه الترصد تجاه بعضهم بعضاً.
وذهب روبرت بوتنام، عالم
الاجتماع الأمريكي الشهير، إلى أن التكوينات التطوعية تساعد الأفراد الأعضاء بها
علي تشكيل قيمهم الاجتماعية، وتحديد مطالبهم السياسية. جاء ذلك في معرض المقارنة
التي قام بها بين شمال إيطاليا الذي عرف هذه الروح التطوعية المؤسسية، وجنوب
إيطاليا الذي غلب عليه الإقطاع السياسي، والتراجع الاقتصادي مقارنة بالشمال.
ومن ناحية أخرى، يرتبط مفهوم المجتمع المدني
بمفهوم آخر هو المشاركة، وهناك اجتهادات كثيرة حول الدور الذي تلعبه المنظمات غير
الحكومية في إحياء انخراط الأفراد في المجال العام، وهو ما يعرف باسمAssociational Life، وهو تعبير قديم ظهر في
كتابات "أليكس دي توكفيل"، واليوم هناك مجموعات جديدة من الباحثين تسير
على خطاه يٌطلق عليها "توكفيليون جدد" Neo-Tocquveillians يركزون علي دور الروابط والتكوينات المؤسسية في دعم التعددية،
وتكوين شبكات الأمان الاجتماعي، وتمثيل قطاعات متنوعة من المجتمع، إلخ. وقد طرح
بعض الباحثين في الفترة الأخيرة مصطلح المجتمع الجيد Good Society
مرادفاً للمجتمع المدني، حيث يرون أن المجتمع الجيد له اشتراطات معينة تظهر في
نطاق المجتمع المدني أبرزها التعبير المتوازن عن المصالح المتنوعة، فتح المجال
العام أمام العقول والأفكار التي تسهم في تحقيق التقدم الاجتماعي، تعميق مشاركة
الأفراد في الحياة العامة، خلق مجالات للتعاون بين الأفراد متنوعي الهويات
الفرعية، الحيلولة دون استئثار نخب محدودة العدد بصناعة القرار في مختلف مؤسسات
المجتمع، هذا فضلاً عن نشر فضائل التسامح، وقبول الاختلاف، والتأكيد علي أن المجال
العام مفتوح أمام كل شخص، وليس حِكراً على مجموعة ضيقة مغلقة علي ذاتها .
في هذا السياق يمثل التشبيك، التنظيمات التطوعية، المجتمع المدني، الروابط غير الرسمية، مسميات عديدة راجت في كتابات مُنظِّري مفهوم رأس المال الاجتماعي. في هذا يُلاحظ أن هناك اتجاهاً رائجاً في أدبيات رأس المال الاجتماعي، يعود في المقام الأولي إلى كتابات "إليكس دي توكفيل"، التي رأت أن المنظمات التطوعية بمثابة "مدارس تعليم الديمقراطية"، وسار علي هذا النهج كتابات عديدة، أبرزها ما طرحه "روبرت بوتنام"، بشأن وجود طبيعتين لرأس المال الاجتماعي؛ الأولى مؤسسية، تتمثل في التشبيك، والروابط بين الأفراد، والثانية ثقافية تتعلق بقيم الاعتماد المتبادل، والثقة، والاحترام المتبادل، والتعاون التي تنشأ من جراء عضوية الأفراد في المنظمات التطوعية. هذه الفرضية الأساسية في كتابات عديدة قلما أخضعت للبحث الإمبيريقي الجاد، حيث لا نعرف علي وجه التحديد العلاقة بين حجم عضوية منظمة مدنية ما وطبيعة الثقافة التي تترتب علي هذه العضوية. يتصل هذا الموضوع مباشرة بالأبحاث التي تجري في الثقافة السياسية. فقد لاحظ "ألموند" و"فيربا" في الستينيات من القرن الماضي - أي قبل أطروحات بوتنام بثلاثة عقود- إن الأعضاء في المؤسسات المدنية أكثر فعالية سياسياً، ولديهم وعي سياسي مقارنة بغيرهم، وأكثر تفاؤلاً في قدرتهم على التأثير في السياسات العامة، وأكثر دعماً للقيم الديمقراطية. وفي بحث حديث ذهب "الموند" والفريق البحثي المعاون له، إلى أن عضوية المنظمات التطوعية تعلم الأشخاص احترام الذات، والمهارات العامة، والهوية الجماعية .
ثالثا: الشراكة التنموية
الدولة والمجتمع المدني في الدول الاستبدادية
في حالة خصومة، ولكن في الخبرات التنموية الحديثة في حالة تكامل، والأمثلة على ذلك
كثيرة من أمريكا اللاتينية إلى آسيا، الدولة تتلاقى مع المجتمع لتحقيق التنمية في
شراكة، وتكامل أدوار.
هناك تجربة المجالس المجتمعية في البرازيل في
منتصف التسعينيات من القرن العشرين، والتي تُعرف في اللغة البرتغالية باسم Comunidade
Solidaria وهي
مجالس تنشئها الحكومة، ولكن صناعة القرار فيها تجري من خلال شراكة خاصة بين
الحكومة والمجتمع المدني. تتكون هذه المجالس من عضوية أربعة وزراء وثمانية
وعشرين ممثلاً للمجتمع المدني متضمنين ممثلين لمنظمات غير حكومية، وأصحاب مبادرات
اجتماعية، ودارسين، وفنانين، ورجال أعمال. وتمثل- بحكم تكوينها- إطاراً مؤسسياً
للحوار بين الحكومة والمجتمع المدني بهدف وضع الخطط والبرامج الاجتماعية التي تسعي
إلي مساعدة الفقراء. في هذا السياق ترصد الحكومة الموارد، وتستفيد من خبرة المجتمع
المدني في تقديم المعلومات، وتتعرف علي نماذج للمبادرات الاجتماعية، والقدرة علي
الالتحام مع الواقع، والتواصل البناء مع المستفيدين في كافة شرائح المجتمع، وبخاصة
الفقراء والمهمشين. وكشفت الدراسات التي أُجريت بعد خمس سنوات من العمل أن هذه
المجالس استطاعت أن تطور بنية معلوماتية، وقنوات للاتصال بين المواطن ومجتمعه
المحلي، وقدرة على خلق شبكات اجتماعية من التضامن والثقة المتبادلة بين الأفراد.
وانطلاقا من هذه الخبرة، وخبرات أخري مماثلة، يمكن القول بأن تنامي مشاركة المواطنين، والمنظمات التي ينتمون إليها في الحياة العامة لم تعد ظاهرة محلية، بل صارت ظاهرة كونية. ولا يرجع ذلك إلى اكتشاف مفاجئ في قدرة المواطنين، على حد تعبير "ميجل دارسي"، ولكن لأن هؤلاء المواطنين في كل بقعة من العالم صاروا في موضع من يتخذ قرارات تتعلق بشئون حياتهم، بعد أن ظلوا لعقود طويلة مهمشين، يخضعون إلى قوالب جاهزة معدة سلفا لهم.
قدم الباحث "باتريك هيلر" في دراسة
مهمة دور كل من الدولة والتعبئة الطبقية Class Mobilization في إنتاج رأس المال الاجتماعي في إقليم
"كارلا" بالهند، حيث خلصت الدراسة إلي أنه في منتصف السبعينيات من القرن
العشرين كان الإقليم موضع اهتمام من جانب الدارسين في مجال التنمية، حيث نجحت
الحكومات المتعاقبة في "كارلا"، الذي يصل تعداد سكانه إلى ما يزيد علي
ثلاثين مليون نسمة في وضع استراتيجيات تنموية أسهمت في إثراء قيم التضامن والعمل
المشترك والثقة بين المواطنين. فقد استطاعت الدولة، علي وجه الخصوص، أن تمد شبكة
مكثفة من المجتمعات التعاونية Cooperative
Societies، والمنظمات غير الحكومية مما أدى إلى تطورين
أساسيين؛ الأول: التوزيع الجيد للسلع والخدمات العامة على المواطنين، والثاني:
تسهيل الحراك الاجتماعي بين طبقات المجتمع، من خلال بث روح العمل الجماعي،
والاهتمام بالمشروعات المشتركة، وبناء مؤسسات اجتماعية تقوم علي المشاركة، وهو ما
ساعد على إشراك قطاعات واسعة من المجتمع في صناعة القرار علي مستويات مختلفة، وعزز
من تمثيل مختلف الفئات الاجتماعية في المؤسسات التمثيلية، السياسية والنقابية
وغيرها. هذه الحالة أطلق عليها "الشرعنة العامة" Public Legality،
وذلك من خلال تقديم نموذج فعال للتعاون بين الدولة والمجتمع .
ويُعد نظام الري في تايوان تطبيقاً ناجحاً لعلاقات التكامل بين الدولة والمجتمع المدني، حيث تضع الحكومة القواعد العامة الملزمة لتنظيم عملية الري، ويقوم موظفو الري بمتابعة تطبيق هذه القواعد (النزاهة التنظيمية). وتأخذ جمعيات الري Irrigation Associations علي عاتقها مهمة الإدارة اليومية للنظام في القطاعات الجغرافية المختلفة (تكامل العلاقات بين الدولة والمجتمع). تدير هذه الجمعيات مجالس إدارة منتخبة تتولي في الأساس رقابة ومتابعة موظفي الجمعيات في عملية توزيع المياه. وتنقسم القطاعات الجغرافية إلي مناطق تدير شئونها ما يسمى بمجموعات الري Irrigation Groups. وتقسم هذه المناطق بدورها إلى أحياء تديرها فرق الري.
إذا
نظرنا إلي عملية توزيع المياه في تايوان نجد أنها تتضمن حالة من الثقة والتضامن، يتمثل
ذلك في لا مركزية نظام الري الذي يقوم علي وجود قواعد حكومية تنظم توزيع المياه،
ولكن يُعهَد إلى جمعيات الري، وهي تنظيم غير حكومي، بتطبيق هذه القواعد. ويقوم
العاملون بهذه الجمعيات بتحصيل الرسوم المقرَرة من المزارعين نظير استخدام حصة
المياه المقررة. وتشكل هذه الموارد مصدراً مهماً للدعم المادي للجمعيات وهو ما يمكِّنها
من توفير دخل ثابت للهيئة الإدارية العاملة بها. ويمتلك المزارعون آليات مدنية
لمواجهة أي تجاوز سواء من جانب الموظفين في وزارة الري أو من جانب العاملين
بجمعيات الري يتمثل في الامتناع الاحتجاجي عن سداد الرسوم المقررة، وتغيير أعضاء
مجالس إدارات جمعيات الري من خلال الانتخابات الدورية، واللجوء إلى ما يمكن تسميته
بالنبذ الاجتماعي Social
Ostracism
عقاباً للعاملين الذين يخلون بوجبات وظيفتهم. ويتيح الاعتماد على قيادات
محلية لشغل الوظائف في كل من الحكومة وجمعيات الري توظيف هذه الآليات بكفاءة، حيث
يصعب على أي قيادة محلية أن تظهر بمظهر سلبي في مجتمعها.
يتضح من ذلك أن نظام توزيع المياه في تايوان يعتمد
على شراكة بين مؤسسات حكومية قادرة علي فرض النظام، ومنظمات مجتمع مدني نشطة قادرة
على التعبئة والتنظيم، وأن المواطن/ المشارك يمتلك قدرة علي الدفاع عن مصالحة سواء
في مواجهة أي تعسف محتمل من موظفي الحكومة أو من العاملين في جمعيات الري.
من
ضمن صور التعاون المهمة بين الدولة والمجتمع المدني، والتي تجسد مساحة واسعة من
مشاركة المواطنين المباشرة في صناعة القرار ما يُعرف بمبادرات الميزانية العامة التي تقوم علي
المشاركة Participatory
Budgeting Initiatives، في سياق هذه المبادرات تشارك قطاعات من
الأفراد في تحديد الاحتياجات، وتخصيص الموارد. هنا يحدث التمازج بين مفهومي
"المشاركة مع" و"المشاركة لأجل"، حيث إن المواطنين المشاركين
في صنع الميزانية، يشاركون معاً، من أجل مصلحة مشتركة. وقد لاحظ أحد الباحثين أن
الأخذ بهذه التجربة في إطار ما عرف بمبادرة ميزانية المرأة في جنوب أفريقيا أسهم
في تعميق مشاركة الأفراد في رصد الاحتياجات، وتحديد الأولويات، وتخصيص الموارد،
مما فتح المجال أمام مزيد من الوعي المتبادل بين الحكومة والمواطنين بضرورة تلبية
الاحتياجات الأساسية .
وفي تجربة مماثلة في البرازيل خلص أحد الباحثين إلي أن مشاركة المواطنين في صناعة الميزانية العامة أسهم في توسيع نطاق الشفافية والمساءلة في المجتمع، جنباً إلى جنب مع اللامركزية، حيث أدى ارتفاع وعي المواطنين بحقوقهم ووجباتهم إلى مشاركتهم على نطاق واسع في الشئون المحلية.
هذه
التجارب تمثل نموذجا لمشاركة المواطنين في السياسات العامة، وهناك تجارب أخرى تجسد
مشاركة مباشرة للمواطنين في المساءلة والرقابة في المجال العام، تعبيرا عن شعورهم
بحقوق المواطنة، والرغبة الذاتية في المشاركة في الشأن العام. مثال على ذلك ما
طرحه أحد الباحثين حول تجارب "السماع العام"
في الهند، حيث يٌحاط المواطنين علما بصناعة قانون، أو بتطور
الأحداث في مجال معين، ومن خلال ذلك تتسع مساحة الشفافية، وتداول المعلومات،
وتتعظم قدرة المواطنين على مساءلة المسئولين الحكوميين.
مما سبق يتضح أن الدولة والمجتمع المدني لا
ينبغي أن يكونا في حالة خصومة، وهذه الخصومة هي سمة البيئات التي تتسم بالاستبداد،
أما المجتمعات المتقدمة فإن العلاقة بين الدولة والمجتمع تكاملية. وإذا كانت الدول
النامية تسعى إلى تحقيق التنمية، فلا مجال سوى التقاء الطرفين معاً في منتصف
الطريق.
هذا المقال جزء من مقال نشر فى مجلة أفاق سياسية
-James Coleman, Foundations of Social Theory,
Cambridge: Harvard University Press, 1990, p. 321. - Jeffery
Nugent, Between State, Market and House Holds: A Neo Institutional Analysis of
Local Organizations and
Institutions, World Development, Vol. 21, No. 4, 1993, p. 629.
-
Peter Evans, Introduction: Development Strategies across the Public-Private
Divide, World Development, Vol. 24, No. 6, 1996,
pp. 1033-1037.
-Tuong
Vu, Paths to Development in Asia; South Korea, Vietnam, China and
Indonesia, Cambridge: Cambridge
University Press, 2010, pp. 249-251.
- Dietlind Sotlle, the Sources of Social
Capital, in: M. Holloghe & D. Stolle (eds.) Generating Social
Capital. Civil Society and Institutions in Comparative Perspective, New
York: Palgrave Macmillan, 2003, p30 – 34.
-
Francis
Fukuyama, State Building, Governance and World Order in the Twenty First
Century, London: Cornell University
Press, 2004, pp. 39-41.
-
Elizabeth Dunn, Money, Morality and Models of Civil Society among Americans
Mormons, in:
-Chris
Hann and Elizabeth Dunn (eds.), Civil Society, Challenging Western Models,
London:
Rutledge,
1996, p.27
- هناك عدد
من الباحثين يرون أن المجتمع المدني، أو المنظمات المدنية التي تقوم علي أساس
الثقة المتبادلة، هي التي يمكن أن تشكل مجالا حيويا للأفراد يتعلمون في أروقتها
الديمقراطية، والمشاركة، والفعل السياسي الرشيد. راجع
-Robert
Putnam, Making Democracy Work, Civic Traditions in Modern Italy,
Princeton: Princeton University Press, 1993, p. 167.
-وهناك مدرسة
مبكرة في العلوم السياسية تري أن الحياة المؤسسية Associational Life كفيلة
بالتعبير عن آراء ومطالب الأفراد، وتحمي المجتمع من مغبة التعبير العشوائي عن
المطالب، ومن هنا فإنها أحد الأدوات الأساسية في تحقيق المواطنية التي تقوم علي
المشاركة واحترام القانون. راجع
-David
Truman, the Governmental Process, New York, Alfred Knopf, 1951.
-Robert
Dahl, Who Governs? New Haven: Yale University Press, 1961.
- وأشار في الاتجاه ذاته فرنسيس فوكوياما إلي أهمية أن يتنظم الأفراد معا في
روابط مؤسسية من أجل تحقيق أهداف مشتركة، وكيف أن مثل هذه الروابط تصب مباشرة في
تحقيق الديمقراطية.
-Francis Fukuyama,
Social Capital and Development: The Coming Agenda, SAIS Review, Vol. XXII, No.1, (Winter-Spring
2002), p. 29.
-Michael
Edwards, Civil Society. London: Polity Press, Second Edition, 2009, pp. 48-62.
Dietlind
Sotlle, the Sources of Social Capital, Op. cit. p 23.
- Ibid., p 24 .
-Miguel
Darcy, Citizen Participation and Social Capital Formation: Resource Mobilization
for Social Development; the Experience of Comunidade Solidaria in Brazil in: Social
Capital and Poverty Reduction which role for the Civil Society Organizations
the Sate? Paris: UNESCO, 2003, pp 15-18.
-Ibid.,
p 17 .
- Patrick Heller, Social Capital as a Product
of Class Mobilization and State Intervention: Industrial Workers in Kerala, India, World
Development, Vol. 24, No. 6, 1996, pp. 1055-1076.
-Wailfung
lam, Institutional Design of Public Agencies
and Co-Production: A Study of Irrigation Associations in Taiwan, World
Development, Vol. 24, No 6, June 1996, PP 1039-1040.
-سامح
فوزي، البيروقراطية العضوية: نحو علاقة شراكة بين الدولة والمجتمع، بين الإدارة
والمواطن، ورقة مقدمة إلي مؤتمر "الإدارة العامة والمواطن في القرن
الحادي والعشرين، القاهرة 13-15 يناير 2002.
-Debbie
Budlender, “The South African Women’s budget Initiative”, paper presented in a
workshop on Pro-poor, gender and
environment sensitive budgets, sponsored by UNDP & UNIFEM, New York, 28-30
June 1999.
-Boaventura
De Souza Santos, “Participative budgeting in Porto Alegre: towards a
redistributive democracy”, Politics and Society,
Vol.26, No.4, 1998, pp. 461-510.
Rob
-Jenkins
& Anne-Marie Goetz, “Accounts and Accountability: theoretical implications
of the Right-to- Information Movement in India”, paper presented in
the workshop on “Strengthening Participation in Local
Governance”, Brighton, Institute of Development Studies, 21-24 June, 1999.
*مدير مركز دراسات التنمية بمكتبة الإسكندرية